ندوة "حراء" بالجزائر: سياحة معرفية في عالم الأستاذ فتح الله كولن

ندوة حراء بالجزائر: سياحة معرفية في عالم الأستاذ فتح الله كولن

إن أصعب صناعة في الحياة هي صناعة الفكر، إذ لا يمكن لأمة أن تحيا أو تتقدم بدون فكر، الإنتاج الفكري النّيّر هو ثمرة مكابدة ومعاناة طويلة يعيشها المفكر، من أجل هذا أقيم حفل علمي رفيع لثلة من المفكرين الذين أنتجوا كتبًا هامة قبل أيام قليلة حول تجربة شخصية كان لها -ولا يزال- دور كبير في تركيا وفي أنحاء العالم، اتخذت مشروع بناء الإنسان محورا لها، وهي شخصية المفكر الإسلامي الأستاذ فتح الله كولن، إن إشكالية الإنسانية اليوم هي إشكالية انحطاط الإنسان.. فكيف نعيد بناء الإنسان ليقوم بدوره المنوط في الحياة؟ كيف كانت رحلة هؤلاء المفكرين أثناء الكتابة لهذه الشخصية المتميزة؟ هي الأسئلة التي أقامت "حراء" ندوتها من أجل الإجابة عنها، والباكورة الجديدة من الكتب هي كالآتي:

1- الانبعاث الحضاري في فكر فتح الله كولن / د. سليمان عشراتي (أستاذ بجامعة وهران).

2- هندسة الحضارة.. تجليات العمران في فكر فتح الله كولن / د. سليمان عشراتي.

3- أرباب المستوى.. الأكاديميا باعتبارها جماعة علمية. / د. محمد باباعمي (مدير معهد المناهج-الجزائر).

4- البرادايم كولن: فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد / د. محمد باباعمي.

5- عبقرية فتح الله كولن: بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة / د. فؤاد البنّا (أستاذ بجامعة تعز-اليمن).

المحاضرة الأولى: د. سليمان عشراتي (جامعة وهران-الجزائر)

افتتح الدكتور مداخلته بتعبيره عن ابتهاجه وهو يرى تعانق الجزائر مع تركيا لإبراز هذا الفكر النّير في زمن يُروّج فيه للمادة، وتتساقط فيه التكتلات الاقتصادية الكبرى، حيث ذكر أن الدافع الذي حفزه للكتابة عن كولن هو أنه [د. عشراتي] من الجيل الذي فتح عينيه في الستينيات من القرن الماضي فأخذ يسمع عن تركيا العلمانية، تركيا المافيا، تركيا البزنسة... لكنه في التسعينيات اكتشف وجها آخر لتركيا هو وجه الأصالة واحتضان الذات بكل قوة... تركيا حين قيّض الله لها سعيد النورسي وفتح الله كولن بُعثت من الرّماد.

ثم أضاف د. عشراتي قائلا: "أردت أن أرسل رسالة من مثقف جزائري إلى إخواننا في تركيا تقول: إن النخبة الإسلامية تترصّد خطاكم وتشدّ على أيديكم".

أما السبب الأساس للكتابة عن كولن فهو أنه يجسّد تجربة صالحة لأن نقتدي بها في الجزائر كما يقول المؤلف. ومن أبرز ما اهتم به كولن في مشروعه: التربية والتعليم، فالمدارس والجامعات التي أسسها كولن تنافس المدارس الرسمية، حيث كان الفتى أو الفتاة تدخل الثانوية والجامعة بأفكار لائكية وتخرج منها بأفكار إسلامية أصيلة، بفضل ما يُغرس فيهم من حب العلم وتزكيته بعلم الروح والقلب، وبفقه القرآن.

وخلاصة تجربة كولن تتمثل في مبدأ أساس وهو "تحويل الأفكار إلى ثمار مجسدة ومشاريع في واقع الحياة".

المحاضرة الثانية: د. فؤاد البنّا (جامعة تعز-اليمن)

الدكتور فؤاد البنّا أستاذ وباحث متخصص في الفكر السياسي الإسلامي، ومهتم بدراسة الحركات الإسلامية منذ أعوام، ذكر أنه لم يهتد إلى فكر كولن ومشروع الخدمة إلا منذ خمس أو ست سنوات خلت، وقد دُهش بفكر هذا الرجل الذي وُلد من رحم العلمانية المتطرفة بتركيا.

والسبب الدافع لتأليف كتاب "عبقرية فتح الله كولن: بين قوارب الحكمة وشواطئ الخدمة" هو قدرة كولن على تحويل التديّن من دائرة المظاهر والشعارات إلى دائرة السلوكيات والأعمال.

والدافع الثاني الذي دفع بالمؤلف إلى الكتابة عن كولن هو أنه بعد أحداث الربيع العربي انبعثت عواطف جياشة في الجماهير تظن بأن مجرد وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم في بلدانهم سيقلب الأمور إلى الأحسن 180 درجة، والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى ثورة فكرية ثقافية عميقة، قبل أن تكون ثورة سياسية، ولا شك أن بناء الإنسان هو البداية.

المحاضرة الثالثة: د. محمد باباعمي (معهد المناهج-الجزائر)

افتتح د. باباعمي مداخلته ببيان أن ركيزة فكر كولن هو المدرسة التي تجمع بين العلم والمعرفة من جهة، والسلوك والقيم من جهة أخرى، وقد ربّى تلاميذه على الانتشار في كل أنحاء العالم مؤسّسين لمدارس تجمع بين العلم والتربية والانفتاح على الآخر، وقد حقّق الله ما كان يصبو إليه فمدارسه الآن تتوزع على أكثر من 160 دولة في العالم، هذه المدارس هي "جزر السلام" كما يسمّيها كولن، يلتقي فيها المسلم مع المسلم في الأخوة الإسلامية، كما يلتقي مع الآخر في الأخوة الإنسانية.

بعد هذه المقدمة ذكر د. بابا عمي قصة كتابته عن التجربة الكولنية وهو أنه سافر إلى العديد من البلدان باحثا عن سؤال الأزمة الذي طالما أرّقه، وهو كيف أنني أعرف الحق والصواب؛ ولا آتيه؟ وأعرف الباطل؛ ورغم ذلك آتيه؟

لماذا نملك أصولا قوية وتراثا زاخما لكنه لا يتحول إلى واقع؟ أو لماذا واقعنا لا يضرب جذوره في الفكر وفي ذات الأمة؟

أخيرا وبعد مكابدة طويلة اهتدى د. بابا عمي بفضل الله -كما يذكر هو- إلى فكر الأستاذ فتح الله كولن، فبدأ الاشتغال في فكره ومشروعه باحثا متفرغا لأزيد من عام، وهو يحاول تجميع كل ما كتبه الأستاذ من كتب ومقالات لدراستها والتعمق فيها.

"الخدمة" هو المصطلح الذي يعرّف به مشروع كولن.. وهو مفهوم يضرب بجذوره في فكر أستاذه "بديع الزمان سعيد النورسي"، الذي يعني خدمة الإيمان وخدمة القرآن، وكذلك خدمة الآخر ونفعه دون قيود ولا حدود.

من المعاني الأصيلة التي وجدها د. بابا عمي في فكر كولن معنى "تصفير الذات" إذ أنه يؤمن بأن كل ثورة ليس فيها تزكية للنفس وتطهير لها من أمراضها، سيُكتب لها الفشل، وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيـِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىا يُغَيـِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11]، يقول كولن في هذا الشأن ما معناه: "صفّرْ شهوتك وحبَّك للظهور حتى تكثر الأصفار، فإذا كثرت فإن الواحد سينزل ليعلي من قيمتها، فتكون رقمًا كبيرًا" وهو معنى الإخلاص وتجريد القصد لله تعالى وحده.

ما ميّز مشروع كولن هو جمعه بين الأسباب الثلاثة للرشد وهي:

- الذاتية في اتباع الأسباب

- الحركية بين الفكر والفعل

- سداد المسلك

بعد هذه السياحة الممتعة في رحاب فكر الأستاذ كولن، فسح المجال لمداخلات الحضور المكثف والمتنوع، الذي أبدى إعجابه وتعطشه لمعرفة المزيد من هذا الفكر الأصيل.. لعل تفعيله وتعميمه في الأمة يكون سببا في نهوضها من كبوتها، والتمكين لدين الله في أرضه، آمين يا رب العالمين.

أقيم هذا الحفل العلمي برعاية مؤسسة حراء / تركيا، وذلك بقاعة "كوسموس آلفا" رياض الفتح، الجزائر، أمسية الأحد 18 نوفمبر 2012م.

المصدر: صالح حمدي، موقع "فيكوس" الجزائري، 19 نوفمبر 2012.