بيان الأستاذ فتح الله كولن بمناسبة مرور عام على محاولة الانقلاب في تركيا

إن يوم 15 من يوليو/تموز سيظل يومًا مأساويًا حزينا في ذاكرة التاريخ التركي الحديث، ولن يُمحَى من هذه الذاكرة بسهولة. ففي هذا اليوم فقد مئاتٌ من مواطنينا الأتراك أرواحهم البريئة، وجُرِح آلاف آخرون نتيجة تلك المحاولة الانقلابية المشؤومة. وأغتنم هذه الذكرى لأعبّر عن تعازيّ لكافة من فقدوا أقرباءهم وذويهم في تلك الفاجعة الأليمة، كما أكرر إدانتي الشديدة لتلك المحاولة اللعينة ولكل من شارك فيها تخطيطًا وتنفيذًا وتسهيلاً ودعمًا.

وفي المقابل، لقد دُمِّرتْ –للأسف الشديد-حياة عشرات الآلاف من المواطنين الأبرياء في تركيا وبقرارات حكومية على خلفية تلك الجريمة النكراء. فقد طُرِد عشرات الآلاف من أعمالهم بدون سند قانوني بتعليمات مجحفة من الحكومة، وتم احتجاز أمثالهم واعتقالهم ظلما وزورا، وتعرّضوا لشتى أصناف القمع والإهانة والتعذيب.

لقد استغلت الحكومة التركية هذه الأحداث، فشنّت ضد مواطنيها حملات منظمة تحت مسمى “مطاردة الساحرات”، تستهدف القضاء على غير الموالين للرئيس أردوغان ونظامه، وتعمل على تصفية المعارضة بكافة أشكالها، تزجّ بهم في السجون والمعتقلات، وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية، وتغتال سمعتهم المعنوية في مجتمعهم وبين ذويهم، عبر آلتهم الإعلامية الضخمة، غير مبالية بكافة الحقوق الإنسانية في كافة الشرائع والأعراف.

لقد آلمني كثيرا معاقبة الحكومة التركية –خلال سنة خَلَتْ- عشرات الآلاف من المواطنين الأتراك بذريعة انتمائهم لحركة الخدمة أو ارتباطهم بي دون أي ذنب اقترفوه سوى هذه الصلة واعتبارها جريمة نكراء.

لقد مر عام كامل منذ وقوع هذه الأحداث المؤسفة ولم تستطع هذه الحكومة أن تثبت ادعاءاتها المرتبطة بي بأدنى دليل. ورغم ذلك ظلت تستغل هذه الافتراءات في دعاياتها السياسية وتروّج لها على أنها حقائق قطعيّة، وواصلت حملاتها القمعية ضد مواطنيها الأبرياء في صورة عادت بالبلاد إلى خانة الدول الأكثر تخلفا في قضايا الديمقراطية واحترام القانون والحريات الأساسية.

لقد طالبتُ عقب فاجعة ١٥ يوليو/ تموز الفائت مباشرة بتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تحقق في موضوع الانقلاب بصورة معمقة وتسلّم المتورطين فيه إلى العدالة، وأكّدتُ على مسارعتي إلى العودة إلى وطني بإرادتي الشخصية، في حال أثبتت تلك اللجنة تورّطي في تلك الجريمة، وسأقبل راضيا كل عقوبة ينزلونها عليّ، وإنني – في هذه الذكرى- أكرر العرض نفسه اليوم، وأؤكد أنني ملتزم بالعهد الذي قطعته على نفسي حينئذ، إذا ما ثبت ضدي أي شيء.

إن أعضاء الحكومة التركية بدلا من أن يفسروا للشعب التركي أسباب فشلهم الذريع في إقناع زعماء دول العالم بحقيقة الاتهامات التي نسبوها إليّ، يستمرون في خداع هذا الشعب بترويج أفكار نظريات المؤامرة، عبر وسائل إعلامهم التي حوّلوها إلى أدوات تعبر عن صوت واحد فقط هو صوتهم أنفسهم.

إنهم يواصلون تعبئة الشعب التركي بمشاعر العداء والكراهية في الوقت الذي لا يملك فيه –هذا الشعب-إمكانية سماع تفسيرات مختلفة حول تلك الجريمة المروّعة. ومن المؤسف القول: إنه لم يتنبّه حتى اليوم إلا قلة قليلة من الناس إلى مدى التشابه بين الحملة التي شنّها أردوغان وأنصاره لتحويل متطوعي الخدمة إلى كبش فداء والحملات التي شنتها سابقا الأنظمة الفاشية والشيوعية الشاملة لتحويل شرائح مجتمعية معارضة لها إلى كبش فداء.

لا يمكن تحقيق الديمقراطية بالعنف، ولا يمكن الحفاظ عليها باستخدام وسائل العنف. كما لا يمكن تأييد أي عملية تهدف إلى إسقاط سلطة سياسية بطرق مناقضة للديمقراطية حتى لو انتهكت السلطة السياسية حقوق مواطنيها الإنسانية الأساسية ومارست عليهم أصنافًا شتى من الظلم. لقد تعرّض متطوعو الخدمة إلى ألوان من الضغط والقمع لا نظير لها في تاريخ تركيا سواء من حيث الأساليب التي استُخدِمت ضدهم أو الأعداد الهائلة التي مورست عليها تلك المظالم. ورغم تلك التجاوزات الشنيعة لم يُلوِّح واحد من متطوعي الخدمة بقبضته ضد هؤلاء الظَّلَمة بقصد تهديدهم. فهم مستمرون- مهما كان الثمن الذي تكبدوه باهظا- في الالتزام بالطرق السلمية والالتجاء إلى الوسائل القانونية لاسترداد حقوقهم التي سلبت منهم قهرا. هذه هي الصورة وتلك هي الحقيقة؛ فإن شكَّك أحد –بعد ذلك- بولاء هؤلاء الأبرياء لسيادة القانون وأمن البلد وسكينته وسلامه، فلا يمكن تفسير ذلك التشكيك إلا بالعَمَى الراجع إلى قناعات مسبقة.

أملي الوحيد، أن يرفع المثقفون في تركيا أصواتهم إزاء هذه الممارسات المجحفة ويتضامنوا مع جميع من تعرّضوا لمظالم وانتهاكات؛ كما آمل من رجال القانون ألا يلتفتوا إلى الضغوط السياسية التي يتعرضون لها ولا يتنازلوا عن المبادئ العالمية للحقوق والقانون. أسأل الله الرحمن الرحيم أن يخرجنا من هذه المرحلة المظلمة في أقرب وقت، وأن يوصل هذا الوطن المبارك إلى أيام يتنفس فيها الأمنَ والطمأنينةَ والسلام.