الفكر البطولي

كنت قبل أن ألْتقي "فتح الله كُولَن" في كتبه، أشعر بحزن وقلق من خلوّ ساحة الثقافة الدينية من بطولة فكرية، تلْفت الأنظار بقوّة، وتقتحم الأذهان، وتبرق في سماء الأرواح، وتستثير هواجع الإرادات، وتحفّز القوى والطاقات...

وإذا كانت "البطولة" -أيّ بطولة- تعني الاستثناء والتميّز والتفرد، وخرقًا للاعتيادي والتقليدي والمكرور المملول، فإنَّ فكر "كُولَن" يمكن أن نطلق عليه صفة "الفكر البطولي" لاحتوائه على العناصر البطولية التي أشَرنا إليها آنفًا...

ففكْر "كولن" استثنائي بكل المقاييس، وانطلاقي آفاقي يسعى إلى إطلاق النفوس من حبوس الزمان والمكان. وهو مهتمّ بالتمهيد إلى إنشاء معرفة كونية قرآنية الأصول بلا حدود، تكون قاعدة انطلاق للأفكار الدينية والعلمية. وهو فكر لا يريد تغيير الإنسان من الأدنى إلى الأعلى فحسب، بل تغيير زمان الإنسان وتحويل مساراته. وهو يكافح ويبلو البلاء الحسن في كفاحه ضدَّ الخمود العقلي، والبرود الروحي، والشلل النفسي، والنكوص الورائي، والهبوط اليأسي، والتردّي الأخلاقي، والفراغ الثقافي والمعرفي... هذه الآفات التي تنهك الشعوب، وتقضي على حيويتها، وتعطّل طاقاتها، وتبدّد آمالها...

إنه يصوغ عقولنا، وينشئ فيها نزوعًا علميًّا، وفضولاً معرفيًّا، وشوقًا "ماورائيًّا"، وبحثًا عن المعنى والمغزى والجدوى فيما نرى ونسمع ونحس ونشعر.

فمدرسة "كولن التربوية" تدرّب الإنسان على استمرارية التطلّع الوثَّاب الذي لا يقف عند حد، وإشعال فتائل الانفعالات الذهنية والنفسية لكي لا تميل للكسل والراحة والدَّعة التي هي قُبور للفكر ولُحود للرّوح.. فبطولة المربّي الكبير تسري إلى المتلقّين عنه، فإذا بنفحات من بطولته تمسّهم، فينزع بهم نازع بطولي يقلب حياتهم رأسًا على عقب، فيغدون أبطالاً فيما يمارسون من أعمال، فلا يرضون من أعمالهم إلا ما كان قد بلغ مرتبة الإتقان العالي غير العادي، وبذلك ترتفع -حتى أبسط أعمالهم- إلى المستوى البطولي المقصود.. كما أنه يشحذ بصائرنا لنتحسَّس بها خفايا ذواتنا، وأعماق أرواحنا، لنرى الجوهر الإنساني على حقيقته وطهره ونقائه، وننظر الكينونة البشرية بفطرتها الخالصة الصفاء قبل أن تتلوّث بأوساخ الدنيا، وقبل أن يعتريها الفساد، فنتّخذ من هذه اللباب الأعماقية أسس بناء كياناتنا الإيمانية والبطولية...

فالبطولة بالمفهوم الذي عرفناه، مِن لوازم الشخصيات الدينية العظيمة.. وإلاّ فقدتْ هذه الشخصيات قوى التأثير في الجماهير، هذه الجماهير الجائعة إلى نماذج بطولية تتخذ منها أمثلة تحتذيها في صحة الإدراك وفي السبيل إلى الفهم الجوهري للدين، لأن الدين بطبيعته يتعامل مع جوهريات الحياة، ومع جوهريات العقل، وجوهريات الحس والشعور؛ فمِن غير تفاعل الدين مع هذه الجوهريات يغدو الدين معتقدًا جافًّا ينحصر في بعض الطقوس التي تؤدَّى بشكل بارد لا حرارة فيه...

فالعبادات -التي هي جوهر الدين- هي طاقات نفسية انْدفاعية تفجّرها حرارة المعتقد، وتطلقها من أسارها رغبة القربى من المعبود... فما لم تؤدَّ بهذه الروحية العالية، تفقد الكثير من عظمة معانيها، وتغدو عملاً آليًّا يؤدّيه المتعبِّد من دون استشعار جلال الألوهية وعظمتها، فيجر ذلك إلا الكسل الروحي الذي كثيرًا ما يمنعنا من التركيز الذهني الذي به يصبح التعبّد عملية تجديد للنفس وللعقل.

ففضْل فكر "كولن" يتمثل في قدرته على تحريك قوى البطولة غير المرئية عند الإنسان، وجعله يفكّر جدّيًّا بتغْيير نفسه إلى الأعلى دائمًا، لأنه يَمُتُّ بصِلة ما إلى الجوهر الصافي والعنصر الأصيل للإنسان المفطور -في أصل خلقته- على الانجذاب إلى نور الحقيقة أينما أبصر شيئًا من أقباسها، فضلاً عن أنه شغوف بمعرفة سر العظمة الإنسانية وعوامل سموّها وتفوّقها أينما الْتقاها.. كما أنَّ هذا الفكر يعيد إلى "عالَم الروح" الأذهان الشاردة في أبعادها الضلالية، ويحوش إليه ما تفلّت من عقاله من أجزاء النفس، وينقذها من دوامة التفاهات الخانقة للفكر والروح...

إنَّ أيَّ فكر يغوص إلى مثل هذه الأعماق الامتدادية في النفس البشرية، فهو بالضرورة "فكر بطولي" تحتاجه حقبتنا الزمانية الحاضرة، وربما حقب زمانية أخرى.. فهذه البغتة العظيمة التي تبدو على أوجه قرّاء "كولن" وعلامات الاستفهام التي ترتسم على محيّاهم، إنما هي دليل آخر على أنهم يواجهون "بطولة معرفية" مثيرة، تملك معاقد الفكر من أذهانهم، وتستولي على أرهف مشاعر أرواحهم، حتّى لكأن روح الوجود يستأذن لكي يزور أرواحنا ونحن منهمكون في قراءة كتابات هذا الرجل...