الصوت والصدى

[1]

في "تركيا" اليوم صوتٌ متفرد بين الأصوات، ليس كمثله صوت؛ قوي من غير شِدّة، نافذٌ من غير حِدَّة، عالٍ من غير صخَب، هامِسٌ من غير ضعف. في كلماته جمال وجلال، وفي نبراته لهفةٌ واشتياق، وفي ثناياه ذهن يتوقد ذكاءً، وفكر يتلهّب سناءً.

إنه ذلك الصوت المضيء الآتي من قبل الظلمة اليائسة، والطّالعُ من سُويداء العَتَمَات الهالكات. أفكاره مضيئة وإنْ لم تَمْسَسْهَا نار، وسانحاته مغدقات بالمعاني المبتكرات. إنه يدعونا لننفض عن أنفسنا سواد الليالي الحالكات، ونغسل عن أرواحنا وهَن السنين اليائسات، ويهتف بنا لنؤمن بأننا طاقة من طاقات القدر، وجند من جنده، ابتعثنا لتغيير الإنسان وتشكيله من جديد.

[2]

لقد نفخ "فتح الله كولن" في صور القيام، فقامت الشبيبة من غفلات نومها، وفاضتْ ودْيان قلوبها بصدى النفير، ولم يعد أحد منهم يحس بالرغبة في العودة إلى النوم، وقيل "هلمّوا يا شباب..! هنا يُصنع الإنسان من جديد، وتتخلَّق طاقاته، وتبعث آماله...".

لقد أثبت "كولن" بالملموس ومن خلال الأعمال التي تكاد تبلغ حَدّ الإعجاز عند هؤلاء الفتيان، أنّ العمل الإبداعي لا يعرف هذا الفاصل الموهوم بين المادة والروح؛ فالمادة عنده خامة روحانية يشكلها الروحانيون كما يشاؤون، وأما الروح فهي القوة التي تعطي مَوات المادة التشكّل والحياة والإعجاز.

لقد بقي فتْياننا جاثين على عتَبات الأغراب ضعافا هزالا... وعندما سمعوا النداء، وبلَغهم الهتاف، قاموا أبطالا خارقين يسابقون الأيام، ويتقحمون الأزمان دون خوف أو وَجَل، ولم تعد حياتهم سؤالا مؤلما لا يجدون جوابا عنه، بل وجدوا الجواب، ورفعوا النقاب، ومضوا مع طاقاتهم الدافعة يشقُّون الطريق، ويقطعون المسافات ليرمموا المتصدّعَ ويقيموا المتهدّم.

[3]

لقد وجد هؤلاء الفتْية الظامئون في ينابيع الإدراك التي فجّرها "كولن" في نفوسهم ما يروي ظمأ أرواحهم، ويسقي جفاف عقولهم، بعد عقود من السنين كانت فيها أرضهم تعاني أوجاع مخاضات عسيرة، ثم لا تلد في كل مرة إلاّ مسوخا فكرية غير قادرة على إيقاف نزيفهم الروحي. فمضى "كولن" يمسح جراحاتهم، ثم يشحذ قواهم الفكرية والروحية، ويستنفرهم للنـزول إلى ميدان الفكر متيني البنْيان لا يُخرَقون، ومنارات هدى لا يُطَالون، وذوي ثقل في موازين الرجال لا يُجارَون.

وقد أتْقن "كولن" فنّ خطاب الروح الإنساني وراهن عليه، وظلّتْ آماله معقودة على صحْوته مهما طال زمن غفلته؛ فنجاح الدعوات مناط باستكشاف أسراره، وعلى قدر معرفتنا به يكون نجاحنا في التعامل معه.

[4]

إن أصداء أفكاره في عقول الآلاف من الفتيان ردّ حاسم على أولئك الذين كانوا يرون أنّ مجتمعاتنا الشبابية قد تفسّخت ودبّ فيها الفساد، ولم يعد ينفع معها لا الأدواء ولا الدعوات. وقد خلُصَ الأستاذ من خلال تجاربه الدعوية إلى أنّ افتقار هؤلاء الفتيان إلى العاطفة الصادقة التي تتفهم أوجاعهم ومشاكلهم وما يعانونه من إحباطات، هو الذي يحول دون إصغائهم لمخاطبيهم مهما أوتوا من بيان وقوّة إقناع. وقد دفعه ذلك إلى الإنصات إليهم، ومشاركتهم آلامهم وآمالهم، والانكباب على دراسة مشاكلهم. فلمّا أحسّوا منه صدق التّوجه إليهم، آثروه بالإصغاء، واختاروه معلّما ومرشدا.

[5]

لقد أطلق "الأستاذ" الشبابَ من حبوسهم النفسية والفكرية، وشرّع لهم سبل تصريف طاقاتهم المتفجرة في البناء والتعمير، وتشييد سماوات فكرية وروحية يتّخذونها سقوفا يستظلون بها، ويسطعون نجوما متلألئة في آفاقها، ويحاورون منها الزمن، ويصارعون أباطيله بالكلمة المضيئة، والفكرة المستنيرة، من غير أن يحتاجوا إلى فتيل عضل أو بسطة جسم.

لقد عرفوا الحقيقة وأمسكوا بها وعاشوا لها، ومضوا يبشرون بها مستلهمين روحها العظيم، وذاكرتها الماورائية الخالدة. ولم يَعُد أحد من هؤلاء الشباب يرغب بالعودة كرّة أخرى إلى حبوسه الأولى، حتى إنّ فكرة العودة لأيّ منهم تبدو من المستحيلات، فيستطيع أحدنا أن يُسْلِمَ قياده إلى واحد منهم وهو آمنٌ مطمئنّ.

إنهم تعلّموا من "الأستاذ" كيف يخلعون عن أنفسهم بأنفسهم نير أنفسهم، فإذا بهم يتسابقون إلى المعالي وكأن في أرجلهم أجنحة صقورية قوية يطيرون بها طيرانا، وفي دمائهم نشوة مغتبطة بالحياة. وإن بساطا جذلا يمضي معهم حيث يمضون، وينشرونه حيث ينتشرون، ولغبطة الحياة بهم فإنها منحَتهم مفتاح قلبها ليلجوا إليها، ويفهموا عنها الومضات والإيماءات والآيات الدالات على خالق الحياة (جل جلاله).

[6]

إن أصداء الأفكار العميقة والواسعة قد تكون أقوى أثرا وأعظم نفاذا في النفوس من صوت الأفكار نفسها... فكل صوت وصداه يُسجّل على صفحات الهواء في الفضاء العريض. حتى إن الجبال الصمّاء نفسها كانت تهتزّ طربا متجاوبةً مع أصداء تضرعات داود (عليه السلام) كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾(سبأ:10)، وكأنها تريد أن تظهر مبلغ حدَبِها على أصداء صوت داود (عليه السلام) الشجي، وأن هذه الأصداء ستكون في رعايتها وكنفها حتى تلقى الله تعالى بها يوم القيامة.

وإننا لنعجب كيف استطاع هؤلاء الفتية أن يصونوا قلوبهم من التلوث بلوثات العصر، ويحتفظوا بها طاهرة نقية وكأنها قلوب ملائكية لا تقرب الدنس ولا يقرب الدنس منها. وإننا لنقرأ ذلك الطهر في وجوههم الصريحة المشرقة، وابتساماتهم العامرة بالإيمان. هذه الابتسامات التي فيها الشيء الكثير من براءة الطفولة وشفافية الإخلاص.

إنهم مخلصون، ولا يستطيعون أن يكونوا غير مخلصين؛ لأنهم يدركون أن هذا الإخلاص هو من لوازم الإيمان الذي لا يصحّ إيمان امرئ منهم من دونه.

ومع هذه اللطافة التي تكاد تبلغ حد الرقّة، فإنهم ينطوون على قوة روحية خزينة في نفوسهم، يبدو بعضها ويختفي معظمها. حتى إذا جدّ الجِدّ وناداهم الواجب، تواثبوا إليه وتقحموه وتنافسوه وتزاحموه حتى ينجزوه، فإذا أنجزوه اختفوا ونسب كلّ واحد منهم فضل ذلك الإنجاز لأخيه، ثم توارى عن الأنظار فلا يكاد يعرف له مكان في هذا الواجب المنجز، ولم تعد تعرف أيهم المتقدم منهم والمتأخر. فيصدق عليهم ما كان يصدق على الرعيل الأول من المسلمين: "يقلّون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع".[1]

[7]

وصدى الصوت الذي كان مجرّد موجات يحملها الهواء إلى الآذان، فإنها سرعان ما تتشكل عقلا بشريا يمكن أن نقرأه ونحاوره ونأخذ عنه أو نردّ عليه. فإذا كان منبع هذا الصدى فكرا جوهريا أصيلا استطاع أن يحرك الوجدان على بعد آلاف الأميال، لأنه ذاتي المصدر، نقي المعدن، غير مشوب بما في واقع الحياة من شوائب طامسة للأصالة والذاتية. وبذلك وحده يغنى الفكر ويخصب الروح ويرهف الحِسُّ والشعور، ويصبح المؤمن مؤهلا لاستقبال المدركات الروحية والعقلية العالية. وهذا هو ما يصبو إليه صاحب كل صوت فكري بين الأصوات...!

[1] كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا أشْرَفَ على بني عَبْدِ الأَشْهَل قال: «والله ما علمتُ، إِنّكم لتَكثرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطمع»(الفائق في غريب الحديث والأثر)؛ وأنه (صلى الله عليه وسلم) قال للأنْصار: «إنَّكم لتَكْثُرون عند الفَزَع وتَقِلُّون عند الطَّمَع» (النهاية في غريب الأثر).