نظرة عامة على مهمة "رسالة" فتح الله كولن.. الظلال التاريخية والاجتماعية

  • مَن هو فتح الله كولن؟
  • التراث الخطابي
  • التجارب الأولى في طريق الحوار والتفاهم
  • وقْف (جمعية) الصحفيين والكتّاب
  • نحو حوار بين الأديان والحضارات
  • حركة فتح الله كولن والإسلام
  • هل حركة "فتح الله كولن" طريقة صوفية؟
  • تجربة الحوار وقبول الآخر عند كولن

نظرة عامة على مهمة "رسالة" فتح الله كولن: الظلال التاريخية والاجتماعية

منذ أن أنشئت الدول الحديثة مدعومةً بالجماهير المقيمة في المدن العصرية، زادت المشاكل المتعلقة بالإنسان والمجتمع والقيم الديمقراطية وتشابكت؛ فالمجتمع الحديث نتاج عقلاني، تسيطر المنفعةُ على كل جزء وعلى كل عنصر من عناصره. فمرض "النـزعة النفعية" قد نفذ إلى نخاع الإنسان المعاصر. فكل نشاط أو حركة، سياسيةً كانت أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية، تريد أن تنال حصتها من المنفعة. ولا يَتصور الإنسانُ المعاصر أن يكون هناك أيُّ عطاء دون مقابل. فقد مال النموذج السابق للإنسان الذي نذر نفسه للمجتمع ولخدمته إلى الانقراض، وانقلبت الدنيا إلى دنيا آلية تعمل بالأزرار.

أما الإنسان بمعناه الحقيقي وبملكاته المتعددة فقد اتجه نحو الزوال. ويُعد هذا الأمر هبوطًا للإنسانية. فالإنسان انقلب من كائن -هو هدف الكون- إلى مجرد آلة بسيطة وإلى متاع بسيط. والمشكلة الرئيسة للدولة المعاصرة هي هذا النوع من الإنسان. لذا فقد توجّهت جميع النشاطات الروحية والمعنوية والثقافية لإنقاذه. أجل، إن الإنسانية متوجهة الآن في كل مكان نحو القيم المعنوية التي تهب الإنسان قيمته الحقيقية. ولا يهدف هذا التوجّه إلى إنشاء أي مجتمع ذي طابع سياسي.

كان بعض المفكرين والسياسيين الغربيين يعتقدون في البداية، أنّ ترسُّخ الديمقراطية التي تحتضن جميع الأطياف الثقافية، واستقرارَها سيؤدي إلى زوال جميع المشاكل الاجتماعية، لأنهم كانوا يعتقدون أن جميع المشاكل الاجتماعية نابعة من النواقص الموجودة في الديمقراطية وفي القوانين، وأن الصراعات القومية والعنصرية والثقافية والسياسية والأيدولوجية...إلخ نابعة من وجود هذه النواقص. فإذا ما نجحنا في ترسيخ الحقوق الديمقراطية بجميع مؤسساتها، ويسَّرنا لكل المواطنين استعمالها والتمتعَ بها، انتفت الصراعات العنصرية بين الجماعات واختفت الصراعات الثقافية والاجتماعية.

واعتقد بعضهم أن هذه المشاكل ليست إلا ظواهر هامشية وضريبة لازمة لعملية الحداثة وزيادة الرفاهية الاقتصادية، وأنها نابعة من شعورِ بعضهم بأنهم تأخروا في اللحاق بركب الحداثة، وبالتالي فما إن تشملهم الرفاهية الاقتصادية ويغنَوا حتى يلتحقوا بركب المجتمع ويصبحوا جزءًا منه.

منذ عصرين كان هناك مثل هذا التوقع من قِبَل المهتمين بالمشاكل الاجتماعية والسياسية، وكانوا يأملون أنه عندما يتبنى المجتمع فكرة المسامحة وتقبّلِ الآخر، ويَهضم هذه الفكرة تمامًا ويستوعبها، وعندما يتبع كل فرد هذه المبادئَ في علاقاته الشخصية والاجتماعية، لن تظهر هناك مشاكل كبيرة. بينما لوحظ أنه على الرغم من إتمام هذه المراحل فإن الخلافات الدينية والعِرقية والثقافية استمرت في كونها مصدرًا للصراعات.

لقد قَدَّمت الديمقراطيات الغربية نماذجَ جيدة من مجتمعاتٍ ذاتِ مشاركة جماعية وغنية اقتصاديًا. ولكن الصراع الاجتماعي لم ينته عندها، وديمقراطياتُها الجماعية تتعرض لهجومٍِ متعدد الجهات من قِبل جماعات الضغط والمؤسسات المدنية التي لها طلبات اجتماعية مختلفة مثل حقوق الأقليات، والنازحين.... إذن فإن الديمقراطية وحدها لا تستطيع القضاء على المشاكل التي تتحين الفرصة للظهور. لذا فإن هناك محاولات للوصول إلى تعريف جديد للدول الديمقراطية المستندة إلى المشاركة الجماعية.

هناك اليوم حوالي (180) دولة و(600) مجموعة لغوية و(5) آلاف مجموعة عرقية في العالم. ويوجد القليل جدًا من البلدان التي يتكلم فيها المواطنون بلغة واحدة ويرجعون إلى المجموعة العرقية نفسها. وهذا التنوع السياسي والاجتماعي والثقافي والديني يحمل بذور الخلاف والصراع. وهذه الخلافات الكامنة المستعدة للانقلاب إلى صراعات وَضعت في الكثير من البلدان أسئلةً وشكوكا كثيرة أمام الديمقراطية التي توجِّه الحياة السياسية. وقد أصبحت الصراعات العرقية والثقافية -ولا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة- أهم مصدر للعنف السياسي وأكثرَها انتشارًا.

كل هذه المشاكل تهدد مستقبل المجتمعات البشرية، لذا فقد أصبح من الضروري إنشاء أسس ثقافة "التسامح وتقبّل الآخر" بشكل عاجل، بحيث تكون أوسع وأشمل من التعامل الديمقراطي الموجود حاليًا. ولا توجد -طبعًا- طريقةٌ بسيطة ولا صيغة سحرية تقوم بحل كل هذه المشاكل وتتغلب عليها. فلا يطمحن أحد لهذا.

قد يفيد العديد من الاقتراحات في ظروف خاصة، ولكنها لا تفيد على المستوى العالمي. فإن أخذنا تجارب مختلفِ الناس بعين الاعتبار واستطعنا التخلص من الأحكام المسبقة، فسنرى أن العديد من الحركات المحلية لها اقتراحات وحلول للعديد من المشاكل العالمية.

هناك كثير من المفكرين الذين يرون أن لفت الأنظار إلى المواضيع العالمية بخصوص الديمقراطية وحقوق الإنسان والدين والأخلاق...إلخ، هو الأمل في حل النـزاعات التي مبعثها الفروق الثقافية والدينية واللغوية.. ونحوُها من أوجه التعدد والاختلاف.

ويشارك العديد من المفكرين من الأوساط الدينية في هذه القناعة. وهناك في أنحاء كثير من مجتمعات العالم أشكال من الحياة الدينية، وأنواع من وجهات النظر حولها سلطت التطورات الاجتماعية والتاريخية الأضواء عليها.

إن الديمقراطيات الغربية التي وَعدت الإنسان بـ"نظرة عالمية" متكاملة وشاملة، انقلبت في وقت قصير وأقل من عمر إنسان إلى مبدأ تثور حول أسسه الفكرية والفلسفية والسياسية الشكوكُ والريب. وقد ظهر أن عمر "العصرنة" أو "الحداثة" وأيدولوجية التقدم قصير. ولم يكن هناك مفر من قصر هذا العمر، لأن النموذج الذي أقامته هذه الأيدولوجية للإنسان وللمجتمع كان يحمل طابعا سياسيا وماديا مفرطًا.

لقد حاول المفكرون والفلاسفة منذ القرن الثامن عشر، إنشاء مجتمع سياسي يكون من سماته أنه مجتمع مرتبط بالعقلانية قد دفع جميع القيم المقدسة خارج الساحة الاجتماعية وأبعدها عنها، وأن تكون علاقاته الاقتصادية عقلانية وتتحرك ضمن دائرة المصلحة والمنفعة، وأن يكون عقلانيا في علاقاته السياسية القائمة على استعمال القوة والتحكم، وعقلانيًا في الساحة الاجتماعية والثقافية لأنه يقيم جميع علاقاته على أساس مادي.

كان هدف "العصرنة" أو "الحداثة" هو إزالة أنموذج "الإنسان الاعتيادي المرتبط بالتقاليد". ولكي توفَّق في هذا اختَرَعت وسائلَ سياسية واجتماعية وثقافية معينة. كان الإنسان التقليدي أنموذجا شعبيًا، أي لم يكن يعيش لنفسه فقط، بل كان إنسانا مستعدًا للتضحية في سبيل المجتمع والأمة والدين والإنسانية. ولم يكن يعمل بغريزة المنفعة الشخصية، بل كان يقوم بأعمال التعاون والتساند والمشاركة في ظل شوق ديني. كان يرعى الفقير والجار والمحتاج، بل يهتم بالمشاكل الإنسانية والأخلاقية في أرجاء العالم ويستنكرها.

ولكن الأيدولوجية العصرانية لم تكن تملك ولا تستوعب مثل هذا الأنموذج الإنساني المفرد الواسع القلب. لأنها كانت مادية صرفة، وأنموذجها الإنساني لم يكن هو "الإنسان" كإنسان، بل كـ"فرد" يعيش مع مصالحه ومنافعه دون الاهتمام بالآخرين. وأيدولوجيتها هي التقدم على الدوام، أي الكسب والربح ثم المزيد من الربح وزيادة رفاهه وغناه.. لقد نجح هذا الأنموذج في أماكن قليلة في العالم، ولكن الناس سرعان ما لاحظوا -مع كونهم وصلوا إلى الغنى والرفاهية- أن المشاكل والصراعات الاجتماعية والثقافيةلم تنته؛ فكلما زاد رفاههم المادي زاد فقرهم الروحي، والمحطةُ الأخيرة التي وصلوا إليها في النهاية هي جو من عدم الإشباع الروحي. لذا بدأ الناس والجماهير والقطاعات الواسعة من الشعب وجماعات الضغط، تحاكِم وتحاسب النظامَ الذي يعيشون فيه في شكل منظمات مدنية واسعة كبيرة.

أجل، لقد انتظمت الحركات الاجتماعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كردود فعل للتوتر النابع من النظام السائد، وللأزمات الاقتصادية ولحركة العصرنة.. وقد حاول علماء الاجتماع إيضاح هذا الأمر، ووضعوا نظرياتهم الأولى حول حركات ردود الفعل هذه. وكما ذكرنا أعلاه، فإن حركات ردود الفعل ضد العصرنة كانت حركات هامشية، وعندما وصلت نِعَمُ العصرنة ونظام الحياة إلى مستويات عليا، زالت واختفت ردود الفعل هذه. وإن ثقافة "المدينة" و"المجتمع السياسي" كان هو الأنموذج الذي أنشأته العصرنة بعد أن أذابت كل شيء في قِدرها. إلا أن الحركات الاجتماعية التي ظهرت بسرعة في الربع الأخير من القرن العشرين، كانت تختلف تماما عن الحركات الكلاسيكية التي ظهرت في القرن التاسع عشر، وكانت لها أشكال وأهداف أخرى. وعلاوة على هذا فمعظم هذه الحركات ظهرت في أواخر مرحلة العصرنة، وفي مجتمعاتٍ وصلت إلى الرفاه الاقتصادي. وهذه الظاهرة كانت تعني إفلاس النماذج التي أسستها تحاليل علم الاجتماع الكلاسيكي حول الإنسان وعلاقته مع المجتمع. ولا شك أن الحركات الاجتماعية الجديدة تختلف في أدواتها وفي أهدافها عن سابقاتها.

وهكذا تظهر أهمية طراز الحياة الدينية التي بدأت بالظهور والانتشار في معظم بلدان العالم ضمن هذه المسيرة التاريخية والمادية والثقافية والاجتماعية. ونرى أن العنصر البشري هو أهم عنصر في أساس الأزمات الاجتماعية والسياسية الحديثة. فقد بدأ الإنسان يتساءل عن سبب وجوده في هذه الدنيا، ويبحث من جديد عن سبل لتحقيق ذاته. وهذه المشكلة هي مشكلة حاول الفكرُ الفلسفي حلها منذ العهود الأولى للفلسفة وحتى الآن. ولكن الجواب الشافي حول هدف وجود الإنسان على هذه الأرض جاء من الأديان السماوية. وبعد أن دفع الإنسانُ كل هذه الضريبة كبدل لوقوعه في كل هذه الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لم يجد مفرًا من الرجوع إلى قيمه المقدسة وإلى القيم الإلهية السماوية التي تجعل الإنسان هدف الكون.

إن أنموذج "الإنسان الفاضل" الذي أكّدت عليه الأديان السماوية، أصبح هو الأنموذج الذي تسعى وراءه المجتمعات الحديثة. ولا شك أن ترقية الإنسان كان يحتاج إلى جهد جديد، وهذا الجهد عبارة عن محاولة إقامة "الإنسان المجتمعي" بكل أعماقه.. أي إنشاء الإنسان المضحّي الوفيّ والمجهّز بالقوى المعنوية من جديد. الإنسان الذي يعبّر عنه المَثَل القديم ويصفه بأنه الناذر نفسه للمجتمع في "درب الحق"، وإنشاء جيل جديد بهذا النمط. ولا يستطيع منطقُ العصر الحديث فهمَ روح هذا النذر، لأنه طراز من العيش بعيد عن ذهنه وتفكيره. بينما أُنشئت- جميع المدنيات السابقة والدول والإمبراطوريات وجميع القيم، من قِبل أشخاص يملكون مثل هذا الروح.

ويبذل علماء الاجتماع ومهندسو المجتمع، جهودًا كبيرة لإنشاء هذا النموذج الإنساني وتكوينه من جديد، ويحاولون تطوير خطط ونماذج جديدة في هذا الصدد. وهم يخشون خشية كبيرة لأنهم على علم بالمخاطر الكبيرة التي ستتعرض لها المدنية المعاصرة إن لم ينجحوا في هذا المضمار،. أجل، فالمدنية المعاصرة في حاجة ملحّة إلى أشخاص يحملون روح التضحية، وينذرون أنفسهم للمجتمع من جهة، وتحتاج من جهة أخرى إلى حوار جدي بين القيم الجماعية التي تنتجها الأمم التي تنتمي إلى ثقافات وحضارات مختلفة في هذا العالم.

وفي هذا الجو أصبح الأستاذ فتح الله كولن يحظى هو وأهداف حركته بأهمية كبيرة. ولما كنا سنتناول هذا الموضوع في هذا الكتاب بصورة مفصلة، فإننا نقتصر هنا على نظرة عجلى ووجيزة.

إن الباعث وراء حصول حركة فتح الله كولن ورسالته على مثل هذا الاهتمام، هو هذه الخلفية التاريخية والاجتماعية من جهة، وشخصيته القيادية الفذّة من جهة أخرى. لذا فعلى الرغم من عدم قيامنا هنا بتحليل شخصيته، فلابد من أن نلقي نظرة قصيرة على قصّة حياته.