ما رأيته... لم يكن حلما

بعدما هجمت المسلسلات التركية على تلفزتنا، وعلى الفضائيات العربية، بدعم كبير من الدبلجة السورية التي نجحت في تقريب هذه المسلسلات إلى المشاهد العربي، بدون إحداث شرخ في التلقي، أصبحت إسطنبول واجهة لكثير من السيّاح المغاربة، غير أن الملاحظ أن المكتشفين -سياحيا- لتركيا، عند عودتهم، يتحدثون -في أغلبهم- عن بيت "نور ومهنّد" الذي تحوّل إلى قبلة للسياح، وعن "الشوبينغ" والأسعار المنخفضة في السوق المصري، ليتم اختزال تركيا في "مهند"، و"الشوبينغ".

زرتُ مؤخرا إسطنبول في إطار مهمّة علمية إلى أكاديمية العلوم والبحوث والإنترنت بإسطنبول. ومن خلال زيارات لجامعات ومؤسسات تعليمية وفكرية وإعلامية، وبيوت الطلبة، اتّضح أن تركيا ليست تلك التي يسوّقها نموذج "مهنّد"، وإنما تركيا التي تعرف تحولات ملفتة للتأمل.

 منذ العقد الأخير من القرن الحادي والعشرين، تعرف تركيا تحولا، لم يكن سياسيا، وإنما  اجتماعيا، كما عبّر عن ذلك أستاذ للعلوم السياسية بـ"جامعة الفاتح" بإسطنبول. تحوّل اشتغل على التنمية الاجتماعية، كمعبر حقيقي للنهضة العلمية والاقتصادية. ولعل أهم مشروع حقق هذه المعادلة، هو مشروع "الخدمة الإيمانية" الذي يعتمد في طروحاته الفكرية على فلسفة الكاتب التركي "محمد فتح الله كولن"، الذي يحقّق -حاليا- في تركيا وخارجها، نموذجًا نهضويّا لخدمة الفرد، وجعله منتجا لوطنه وللإنسانية جمعاء.

وإذا لَخّصنا مكونات نجاح التجربة، سنحددها في عنصرين:

من جهة، التفكير يتم بموجب مقتضيات حاجيات المجتمع التركي، مما يجعل منظومة التعليم مثلا تخضع في فلسفتها إلى متطلبات المجتمع، مما يساهم في ربط التعليم بالمحيط الاقتصادي والاجتماعي، ويؤدي ذلك إلى التحرر من وهم منظومات الإصلاح "النموذجية" في الغرب، والتي نعيش تبعاتها السلبية، لكونها لا تتماشى ومطالب محيطنا. فمنظومة الإصلاح التعليمي منظومة غير مستوردة من الخارج، ولكنها حاجة سياقية تركية. ولهذا، فنموذج المدارس والجامعات التي تنتمي إلى هذا المفهوم، تهتم بالشرط الاجتماعي للتلميذ/الطالب، من حيث تمكينه من إقامة سكنية جد محترمة، يتكفل بها أصحاب الأموال والتجار الذين انخرطوا في سياسة التنمية، بدون لونٍ حزبيّ، أو رغبة في موقع برلماني، مع متابعة يومية لحياة الطالب، ووضعه التعليمي، والحرص الشديد على غرس القيم الإيجابية في سلوكه. ثم الشرط العلمي الذي يجعل الجامعة مكانا للإبداع والخلق والبحث من خلال شروط قد لا نجدها في أحسن جامعات العالم، وعبر ترسيخ فكرة "الخدمة الإيمانية" في سلوك المعلمين والأساتذة والإعلاميين وغيرهم.

 ومن جهة ثانية، إنزال الأفكار والنظريات إلى أرض الواقع، والتركيز على تفعيل الأفكار، وجعلها مطبّقة في الواقع. من يعش تجربة نموذج "الخدمة" في المدارس التركية، يلاحظ هذه القدرة على تفعيل الأفكار، وجعلها ممارسة حقيقية، تطوّر النظريات. وهو مظهر يتجلى في مختلف ميادين الحياة، حين ترى الفرد يمشي بنهج الأفكار، وحين ترى القيم سلوكا تؤمّن الإنسان من الانحراف والاختراق والاستلاب.

 عنصران جوهريان يحققان التوازن الاجتماعي، ويدفعان بقوة نحو تحولات سياسية، تجعل من تركيا قوة اجتماعية واقتصادية وفكرية في المنطقة، تضمن لها استقلالها الذاتي.

 إذا كانت المسلسلات التركية التي تركز على طبيعة تركيا، وعلى أجواء الرومانسية، تساهم في السياحة نحو تركيا، فإن تأمّل تجربة تركيا في التعليم وميادين أخرى تطور فكرة الإيمان بمقومات الذات لتحقيق المشروع النهضوي.

المصدر: مجلة المشهد المغربي، عدد 59، 13 يناير 2011.

زهور كرام / المغرب

زهور كرام / المغربالدكتورة زهور كرام، أكاديمية وروائية وقاصة وناقدة مغربية. أستاذة التعليم العالي بجامعة ابن طفيل بالمغرب (تحليل الخطاب-السرديات- منهجية البحث العلمي). عضو اتحاد كتاب المغرب، واتحاد أدباء الإنترنت العرب. رئيسة مختبر اللغة والإبداع والوسائط الجديدة، ورئيسة مشاريع علمية ووحدات بحث ودكتوراه بجامعة ابن طفيل. عضو لجن تحكيم في جوائز أدبية وفكرية مغربية وعربية. صدر لها: "جسد ومدينة" (رواية/1996)، وسفر في الإنسان (نصوص سردية/1998) و"في ضيافة الرقابة" (نقد/2001)، و"قلادة قرنفل" (رواية/2004)، و"السرد النسائي العربي مقاربة في المفهوم والخطاب" (نقد/2004)، و"مولد الروح" (مجموعة قصصية/2007)، و"الأدب الرقمي أسئلة ثقافية وتأملات مفاهيمية/2009)، و"طبقات ربات الخدور مقاربة في القول النسائي العربي والمغربي/ 2009). إضافة إلى كتب نقدية مشتركة حول الخطاب الروائي وأدب الطفل. لها عمود أسبوعي في مجلة المشهد المغربي.