"الأستاذ كُولن شخْص محافظ أَنْجز انقلاباً"

نجحت حركة كولن في التلاؤم مع القيم الحديثة دون التنازل عن أي مبدأ من مبادئ العقيدة. وهذه الحركة تعد بالنسبة للغرب مصدر إلهام من جهة أخرى.

كان المؤتمر الذي عقد في جامعة بوتسدام بتاريخ 26-27 مايو 2009 حول حركة كولن الأول من نوعه من عدة زوايا. فلأول مرة تكون حركة كولن موضوعاً لمؤتمر بهذا الحجم في قارة أوروبا. وتعد جامعة بوتسدام التي استضافت المؤتمر ولاسيما معهدها معهد "أبراهام جيجر=Abraham Geiger" من أهم المؤسسات التعليمية اليهودية في أوروبا، وكان الحاخام البروفيسور الدكتور وولتر هومولكا= Prof. Dr. Walter Homolka وهو أحد مدراء المعهد وأحد الأشخاص الذين اشتركوا في تنظيم هذا المؤتمر. وهذا الحاخام اليهودي يستطيع التكلم باسم جميع يهود أوروبا. وبدرجة أهمية "هومولك" بين اليهود، كان هناك البروفيسور الدكتور كريستيان ترول Prof. =Dr. Christian Trol الذي يشغل أهمية مشابهة بين المسيحيين الألمان وهو المشرف على هذا المؤتمر.

وماذا سنقول عن اشتراك والدة السيد ميخائيل شاكاشفيل= Mikheil Saakashvili' رئيس دولة جورجيا، والبروفسورة الدكتورة كولي آلاساني Prof. Dr. Guili =Alasania التي حضرت إلى المؤتمر كمستمعة؟! وماذا نقول عن "بول لاماريا= Paul Lemarie " من مركز حوار الحضارات الذي حضر المؤتمر أيضاً؟

والخلاصة أن هذا المؤتمر بمستواه الرفيع من الحضور والمشاركين وبمشاركة كوادر أعلنت عن نيتها في تنظيم مؤتمرات مماثلة في بلدانهم كان يمثل اجتماع ذروة لهذه الشخصيات المهمة.

ولم يكتف المؤتمر برفع مستوى وأهداف المؤتمرات التي ستعقد في المستقبل بل قدم عناوين عدة لهذه المؤتمرات المستقبلية، لأن العديد من المحاضرات كان ينتهي بهذه العبارة: "ونَدَع بحث هذا الأمر وهذا الموضوع إلى المؤتمرات القادمة".

ومع أن العديد من المساهمين في هذا المؤتمر ذكروا بأنه لا داعي للخوف والقلق من حركة فتح الله كولن، إلا أنهم ذكروا وجود الحاجة إلى تحليل هذه الشبهات وهذا الخوف. وذكر البروفيسور الدكتور كارل ستانبرنك= Prof. Dr. Karel Steenbrink الذي حضر المؤتمر من هُولندا بأن صديقين من أصدقائه حاولا إقناعه بعدم حضور هذا المؤتمر قائلين له بأن حضوره هذا سيُعَدّ "إسناداً معنوياً من الخارج". ومع هذا فإن نصف الحضور في الصالة كانوا فعلاً من الأكاديميين والسياسيين والبيروقراطيين ورجال الدين والطلاب الذي جاءوا من الخارج". ولكن بقي بحث وتدقيق أسباب شبهات وقلق صديقَي هذا البروفيسور كسؤال يجب البحث عن جوابه في المؤتمر القادم.

من الصعب أن يبقى الإنسان دون اتخاذ موقف من قيام حركة يقوم بالثناء عليها وعلى إيجابياتها ولا يجد أي نقد موجه إليها. نعم، اشترك البروفيسور الدكتور "توماس ميشيل =Prof. Dr. Thomas Michel" الذي قضى أكثر من عشر سنوات في دراسة حركة كولن في المؤتمر بمحاضرة عنوانها "الإخلاص"، وفي الكلمة التي ألقاها في ختام المؤتمر مُخْلصًا ذكر بأنه أحد المشاركين والمنخرطين في حركة "كولن". أما الدكتور السويدي "كلاس كرينل=Dr. Klas Grinell" وهو أكاديمي شاب فقد أشار إلى التوافق الموجود بين الصورة التي يقدمها الأستاذ كولن في كتبه ونصوصه وبين فعاليات ونشاطات هذه الحركة، ومع ذلك فهو يعتقد بوجود بعض التناقضات الداخلية اليسيرة في هذه الحركة، لذا يرى أن كلمته هذه لا تساعد الحركة بل ستساعد معارضيها.

ولكن الكلمة التي ألقاها السيد "كرينل=Grinell" هذا كنقد للحركة، هي في الحقيقة نوع من الإيضاح؛ فقد ذكر بأن من الخطأ تقديم حركة كولن كحركة غير سياسية، وزعم بأن مقولة الأستاذ كُولن "إقامة مدنية تحتوي على محبةٍ أكثر، وجمالٍ أكثر" هي مقولة سياسية. وقال بأن كُولن وإن لم يشكل حزباً ولا يحمل رغبة في الوصول إلى كرسي الحكم إلا أن حركته مع هذا تحمل طابعاً سياسياً. وهذا الإيضاح إيضاح يخدم الحركة في الحقيقة، لذا نجد أنه في الإجابة على سؤالي قال: "إن ذكرتم بأنكم حركة غير سياسية، فسيقوم بعض أصحاب النيات السيئة في أوروبا باتهامكم بالوقوع في تناقض داخلي، لذا عليكم أن تقولوا: إن حركتنا لا تتورط بالسياسات الحزبية، ولكن لها موقف سياسي معيَّن". فكان إيضاحه هذا ايضاحاً إيجابياً ونافعاً.

وقال كرينل بأنه يعترف بأنه جاء إلى هذا المؤتمر بنظرتين متضادتين: فهو من جهة يرى أن كولن شخص محافظ كلاسيكي، ولكن له جانب انقلابي أو ثوري لكونه يتناول فلسفة المعرفة ونظرية السياسة. ثم أشار إلى نظرته الأخرى وهي أن الأستاذ كولن يحاول وضع نظرية سياسية وفلسفة معرفية غير صادرة عن الغرب. وهذه النظرة تقوض وجهة نظره في أن الأستاذ كولن شخص محافظ. فالأستاذ كولن يأخذ مصادره ونقاط استناده من نفسه ويطور فلسفة معرفية ذاتية، ويحاول بناء أنموذج علمي وفلسفي قائم على هذه الفلسفة الجديدة. وهذا يضع علامات استفهام كبيرة حول صحة مقولته بأنه شخص محافظ فقط.

ولم يزعم أحد أن حركة كولن حركة انقلابية بالمعنى السياسي، ولكن العديد من المحاضرين ذكروا بأن هذه الحركة ستكون سبباً ووسيلة لتغييرات بمستوى الانقلاب داخل تركيا وفي العالم أجمع.

وقال الدكتور "رينير هارمن=Dr. Reiner Hermann" بأن فهم الإسلام الذي يقدمه الأستاذ فتح الله انقلب إلى قوة اجتماعية كبيرة تدفع تركيا إلى الديمقراطية والحداثة.

وقال الدكتور "بكيم آغائي=Dr. Bekim Agai" بأن حركة كولن لا تقوم فقط بحل مشاكل المهاجرين الأتراك في ألمانيا، وهي مشاكل شغلت في السابق أوروبا، بل انقلبت هذه الحركة إلى كتلة جماهيرية تقدم الحلول لمشاكل أوروبا.

وقال القسّ الانكليزي البروفيسور الدكتور "سيمون روبنسون= Prof. Dr. Simon Robinson" بأن الأستاذ فتح الله قام بتوسيع حدود نظرية "المسؤولية الاجتماعية المؤسسية" إلى آفاق عالمية، وذكر بأن هذه المساهمة من العمق بحيث تستطيع تغيير مسار الأبحاث الأكاديمية حول موضوع "المسؤولية الاجتماعية المؤسسية".

وقالت البروفيسورة الدكتورة "ريتا سوسموث=Prof. Dr. Rita Süssmuth" البرلمانية الألمانية السابقة التي كانت ضمن المدعوين الفخريين بأنهم مضطرون لتأسيس أمر "أربح – أربح" في السياسات ولاسيما فيما يتعلق بالمهاجرين، وأن على الدولة التي ترسل المهاجرين وكذلك على الدولة التي تستقبل هؤلاء المهاجرين اتباع السياسات التي تخدم مصالح هؤلاء وأضافت: "إنني مقتنعة بأن تركيا وحركة كُولن تستطيعان إلهامنا بأفكار جديدة في هذا الصدد".

الدكتور "رينر هرمان=Dr. Reiner Hermann" : "كولن مصدر إلهام"

ليست جمهورية تركيا دولة "دُنْيوية=secular" يفترق فيها الدين عن الدولة، بل هي دولة علمانية حاولت فيها النخبة مدة طويلة إخراج الدين من الحياة الاجتماعية. والحقيقة أن النخبة "الكَمالية" التي تحكم البلد تعتقد حتى الآن بأن الدين ما أن يخرج من ساحته الخاصة حتى يؤثر في السياسة ويفرض على المجتمع نظاماً ثيوقراطيّاً. وقد قام كولن بقلب هذا الحكم المسبق رأساً على عقب، فقد حول الأستاذ كولن الإسلام إلى قوة اجتماعية تدفع تركيا في طريق الحداثة والديمقراطية. فالإنسان هو المحور الرئيسي في مواعظه وأفكاره، وليست السياسة. ويرى أنصاره وتلاميذه بأن العمل من أكبر القربات إلى الله. ومقابل هذا نراه يحثّ الإنسان على حب جاره وعلى نذر الإنسان نفسه في سبيل الله وأن يكون شخصاً زاهداً في هذه الدنيا. وهذه القيم تُكسب الإنسان سلاماً داخلياً، وتكسب المجتمع حيوية وقوة. وما أذكره هنا هو شيء جديد تماماً في تركيا. ذلك لأن التصريحات الرسمية كانت حتى الآن غير موجهة إلى الفرد بل للمحافظة على الأمن الوطني في الداخل والخارج والمستند إلى ضرورة محاربة الأعداء. وكلما اندمجت تركيا في النظام العالمي فقدت هذه الأيدولوجية قوّتها. وشكلت أفكار كولن ومواعظه الأساس في النهضة الاقتصادية للأناضول التي كانت مهملة طوال عهود طويلة كل الإهمال. وهناك وفي بيئة ومحيط الأناضول ظهر وعي جديد ضد النخبة القديمة. والكماليون يتهمون حركة كولن بأنها حركة سرّية ولها أهداف سرّية. وأنت إذا أردت ألا تشاهد شيئاً وتراه فإن من المستحيل أن تراه. صحيح إن الحركة لم تنتظم وتتأسس تماماً، ولكنها تملك بنية واضحة في المجتمع، وهي تؤكّد وجودها في ساحات الصحافة والتعليم والحوار. وقد أثمرت جهود كولن في ظهور إسلام يستطيع العيش في تركيا مع الأفكار الغربية والحديثة في تلاؤم، ولكنها عندما تفعل هذا لا تعطي أي تعويض عن عقائده وقيمه. وتبرهن فعالية أنصار كولن وأتباعه على أن الإسلام ليس دين صراع ونزاع بل هو دين الحوار وقبول الآخر، وهم لا يرون الوصول إلى قوة سياسية، بل إلى مجتمع أفضل وأكمل. ومثل هذا الإسلام يشكل مصدر إلهام للمسلمين وللغرب.

"نحن في جاجة لأناس يحملون مشعل السلام"

أرسل الأستاذ فتح الله كولن هذه الرسالة إلى المؤتمر:

انني عندما أشاهد هذا الجمع الفريد من الذين يأملون في عالم يقوم على قيم عالمية ويسْعون لإنشاء دنيا يسُودها السلام، فإن آمالي في إقبال أناس أكثر من مختلف الثقافات والحضارات للسير نحو أفق التفاهم تقوى وتزداد.

إن الفهم المتبادل والحوار المتقابل والاتفاق على قيم إنسانية وعالمية واحترام الأفكار والأديان والنظرات المختلفة، يشكل قلعة حصينة ضد الحرب التي ستظهر لا محالة إن لم نستطع حلّ مشاكلنا بشكل سلمي ونحن نخطو إلى المستقبل.

إن كل جهد حقيقي وبنّاء للوصول إلى هذا الهدف جهد يستحق كل تقدير. إن الناس في ألمانيا وفي تركيا بل في العالم أجمع من أي عرْق كانوا سيقدرون ويثمنون جهودكم واجتماعكم في هذا المؤتمر من أجل تحقيق وحدة يسودها السلام.

وأنا أعتقد بأن الخير والجمال الكامنان في فطرة الإنسان سيظهران إن عاجلاً أو آجلاً، وسيتجاوز هذا الخير والجمال جميع الحدود في يوم من الأيام، وسيسود السلام في جميع أرجاء العالم. وواجبنا نحن هو البدء بالخطوة الأولى في هذه السبيل للوصول إلى هذه الغاية التي نتمنّاها. فكل خطوة في هذه السبيل مهمةٌ وتستحق كل تقدير وثناء.

ويجب أن تستند كل خطوة في هذا الطريق إلى الاحترام والفهم المتقابل، وهذا ليس صحيحاً بين الدول والأمم فقط، بل بين كل واحد منا. ورِيَادَة هذا الحوار ليست وظيفة الحكومات أو المنظمات الحكومية، لأن دور المنظمات المدنية ودور جهود الأفراد المبذولة بشكل تطوّعي دور مهمّ في إشعال فتيل شعلة السلام، فالإنسانية في حاجة إلى مَن يحمل شعلة السلام هذه.

فتح الله كولن

المصدر: مجلة "أَكْسِيُون" التركية، 1 يونيو 2009 (العدد:756).