فتح الله كولن.. حكيم الفكر الإسلامي المعاصر

يمتلك الإسلام قوة ذاتية، بحسبانه الدين العالمي الخالد، مكنته من التمدد والانتشار حتى في أحلك الظروف، فلم يشهد تاريخ الأديان والثقافات أن تقوم أمة غالبة بإتباع دين وثقافة الأمة المغلوبة إلا في تاريخ هذا الإسلام العظيم، كما وقع للمغول الذين غزوا بلاد المسلمين وهزموهم، لكن الإسلام تمكن من قلوبهم، فعادوا مسلمين.

هذه القوة الذاتية آتية من طبيعة هذا الدين العظيم التي تلبي حاجات الإنسان المادية وتستوعب أشواقه الروحية، وتنفتح له كل أبواب العقل للولوج إلى مملكته بسلاسة ويسر.

ومنح الله هذا الدين عدداً من المنح الربانية، ومنها منحة التجديد الدوري التي يتولاها رجال ربانيون، اعتصموا بحبل الله المتين، وارتفعوا بإيمانهم في سماوات المجد والفاعلية، حتى صاروا نُجُماً تطاول الشمس، وتبدد ظلمات الحيرة وحوالك الليالي السود.

نجمان في وطن واحد:

تركيا بلد إسلامي لعب دوراً محورياً في تاريخ العالم عامة وتاريخ الإسلام خاصة، تعرض منذ نهاية القرن التاسع عشر لرياح الخماسين وأعاصير السموم، وإذا كان العرب قد قالوا: إن بيت الأسد لا يخلو من العظام!، فإن الوطن التركي رغم السنوات العجاف التي عاشها، إلا أن أرضه شهدت خلال هذا العصر ولادة نجمين من نجوم الفكر الإسلامي الوسطي العظيم.

الأول: ولد عام 1293هـ/ 1873م في قرية نورس في شرق تركيا، وهو سعيد النورسي الذي أصبح أعجوبة زمانه، حتى تظافر الناس على تلقيبه بـ«بديع الزمان» ليطغي هذا اللقب على اسمه الحقيقي.

وكانت حركة هذا النجم النورسي عظيمة على كل الصعد، وإنجازاته لا يكاد يأتي عليها الحصر، لكن أجل الخدمات التي قدمها لأمته كانت رسائل النور (1) التي مثلت قراءة عصرية للقرآن الكريم، حيث تعامل مع القرآن كأنه يتنزل الآن، مما أدى إلى إشاعة النور في كل زوايا تركيا، وليساعدها ذلك على الخروج من النفق المظلم وثقب التقليد الحضاري المقيت.

الآخر: فتح الله كولن ـ موضوع هذه المقالة ـ الذي ولد في 11نوفمبر 1938م في شمال شرق هضبة الأناضول التركية، ليصبح وارث التيار النورسي وحكيم الفكر الإسلامي المعاصر.

البيئة والمكونات

ولد محمد فتح الله كولن لأسرة محافظة، فقد كانت أمه “رفيعة هانم” من أصلح النساء في تركيا المعاصرة، إذ عُرفت بالأخلاق الحسنة، واشتهرت بإيمانها العميق وتدينها المتعدي بالخير إلى نساء قريتها، سواء كان الخير المادي ام المعنوي.

وعلى يد هذه الأم الصالحة، بدأ وعي “فتح الله” في التشكل، حيث بدأت بصياغته عبر تدريسه القرآن وهو ما زال في الرابعة من عمره.

أما والده فلا أدل على صلاحه من أن بيته كان محط رحال العلماء في محافظة أرضروم، مما ساعد الطفل على أن يصبح شيخاً قبل أن يشب، عبر مجالسته للعلماء، وعبر ارتباطه بقضايا دينه وأمته، وإحساسه بالمسؤولية.

اشتهرت قرية “كوروجك” وهي مسقط رأس فتح الله بالتدين، فهي تنتمي إلى أكثر محافظات الأناضول تديناً وهي أرضروم، وخاصة أنها تشرفت بالانتماء إلى الإسلام منذ عصر الراشدين، حيث اعتنق أهله الإسلام في زمن خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

الطريق إلى الحكمة:

كان فتح الله صاحب همة كبيرة، فقد حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية واللغة الفارسية على يد والده رامز أفندي منذ وقت مبكر، فقد بدأت صلته الروحية بهذا الدين حتى قبل وصوله إلى مرحلة البلوغ، إذ ما تعلم العربية إلا لأنها لغة القرآن الكريم والتراث الإسلامي، وما تعلم الفارسية إلا لأنها واحدة من أهم أوعية العلوم الإسلامية طيلة قرون من العطاء المعرفي المبارك.

وكعادة المميزين والنوابغ، فإن فتح الله اتصل بعلماء المنطقة ليساعدوه على ايجاد البنية المعرفية المتكاملة في ذاته التائقة إلى العطاء والخدمة والتجديد، فأخذ علوم الفقه والتفسير والحديث والأصول والنحو والبلاغة، وكذا مقارنة الأديان.

وتبدو الذاتية بادية للعيان في تكوين هذا المفكر الحكيم، فقد درس “رسائل النور” للإمام النورسي، ورغم إعجابه الشديد به، إلا أنه لم يحاول أن يكون نسخة أخرى منه، ولم ينغلق على أفكاره، بل انفتح على كل تيارات التجديد والإصلاح في العالم الإسلامي، قارئاً لها، أخذاً منها كل ما يرى أنه مفيد لبناء مشروع النهوض الجديد في ظل الظروف التركية الخاصة والمتغيرات العالمية المتسارعة.

ولم يكتف بأن يعب من كل التيارات الإسلامية، فقد انفتح على الثقافة الغربية بعقله المنهجي الممتلك باقتدار لغربال الحكمة، حيث اقتبس كل ما بدا له مفيداً، وفقاً لمعرفته الواسعة بمقاصد الإسلام وحقائق الواقع، فكان فقيهاً وحكيماً حتى وهو ينهل، لأنه جميع بين فقه الواجب وفقه الواقع.

لم يتحوصل فتح الله ولم يتقوقع، بل انفتح، وغربل، فرد واقتبس، ولا شك أنه كان ممن أحسنوا تمثل قوله تعالى: “الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه”، ومن المؤكد أنه جسد مقولة المصطفى محمد “ص”: “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها”.

الحكيم الرباني:

  • في عام 1960م ترجل بديع الزمان النورسي عن فرسه الدنيوية ليلتحق بالرفيق
  • الأعلى، ومثل كثير من الدعوات التي كان روادها أصحاب شخصيات “كاريزمية”
  • آسرة، فقد بدا بأن التيار النورسي إنكفأ على ذاته، منشغلاً لشخصيه المؤسس وأفكاره،

أكثر من انشغاله بمنهج هذا المصلح وأهدافه ، مما أظهر للعيان مساحات فارغة في جُدُر هذه الدعوة العظيمة، لاعتقاد مجاميع من هذا التيار أن الوفاء للشيخ يقتضي مثل هذا الأمر، وربما أعتقد البعض أن ليس في الإمكان أحسن مما كان.

في هذه الأثناء كان فتح الله قد دلف إلى العقد الثالث من عمره، حيث عمل إماماً لأحد المساجد في مدينة أدرنة، سابحاً في أجواء من الزهد والتعالي، وأنشطة من رياضة النفس وترويضها، مع استغراق عميق وواسع في القراءة الواسعة، في كل حقول المعرفة.

وبعد عامين ونصف من الإمامة في أحد مساجد أدرنة، انتقل إلى مدينة أزمير في الغرب التركي، وهي من أهم معاقل العلمانية والتغريب في البلد، وعمل فيها مدرساً في مدرسة لتحفيظ القرآن، ثم عمل واعظاً متجولاً، بدأت شمسه بالشروق من (غرب) تركيا، لكنه زار كل أنحاء هذا القطر المترامي الأطراف.

ويبدو لي أن إقامة فتح الله في هذه المدينة، وتنقله بين القرى والمدن، أشعره بفقدان المجتمع التركي لبديع الزمان النورسي، فنهض بقوة ليقوم بالواجب، ولكن من خلال عقله الذي تعبده الله به ،مع استيعاب كافة المتغيرات التي كانت تتسارع في هذا البلد العظيم بأهله، العبقري بجغرافيته، العريق بتاريخه.

حكمة كولن في الموازنة بين العقل والروح:

نتيجة الجزر الحضاري والتخلف الثقافي الذي كانت تركيا وبلدان المسلمين تقع تحت وطأتهما، حدث شرخ في ذات الأمة بين العقل والروح، مما أوجد انفصاماً بين عالم الغيب وعالم الشهادة،وأظهر تناقضاً بين الأفكار والمشاعر، حتى بدا الإسلام في شعور كثير من المسلمين وسلوكياتهم كأنه دين لاهوتي لا علاقة له بعمارة الحياة.

نجح كولن في إعادة الروح إلى العقل الإسلامي، وفي عقلنة الروح، بحيث أعاد طاقتيهما إلى دائرة (التكامل) بعد أن انزلقت إلى دائرة (التآكل).

ولأن مشاريعنا هي انعكاس لشخصياتنا، فأول ما ظهر هذا الدمج في شخصية كولن نفسه، فقد امتلك عدداً من “الموازين” (2) الدقيقة بين مكوني الفاعلية الفردية والاجتماعية ، حيث جمع بين (استنارة) المفكر و(حرارة) الداعية، وجمع بين ( بصر) العقل و(بصيرة) القلب.

وبهذه المساوقة، امتلك هذا الرجل ( فكر الإرادة) و(فعل الإدارة) فكان في كليهما سديداً ورشيداً، وكلما ضاقت المسافة بين العقل والقلب ازداد ( ولوجاً) إلى عالم الإنسان ، حيث حقوق الناس، ليزداد (عروجاً) في سماوات الله، لأن الله يوجد حيث البطون الجائعة والأكباد الظامئة والأجسام العليلة والأبدان العارية!

إنه مفكر عملاق وداعية عظيم، في إهاب شخص واحد متوسط الحجم، لكنه بهذا الدمج الدقيق أشاع أجواءً من المشاعر الروحية، وصنع مساحات من الأفكار، وهو في كل الأحوال لا يمل من استثارة الأفكار واستجاشة العواطف، في سياق استفزاز الأمة للحركة والنهوض، من أجل العودة إلى متن الأيام.

إن شفافية روحه جعلته بكّاءً، حتى لقبه بعض محبيه بـ”الناي” لكثرة معزوفاته البكائية، لكن ليس البكاء على الأطلال، بل البكاء الذي يحيل الانفعال إلى فاعلية، بفضل (الأفكار) الرشيدة التي صارت(أفعالاً) سديدة، وصلت به إلى منتهى الفاعلية.

كولن في سدرة الفاعلية:

منذ السبعينيات أصبح كولن مشعلاً في عموم تركيا، لكنه يشرق ولا يحرق، ينير، ولا يُقير، يضيء ولا يسيء، يوحّد ولا يبدد، يجمع ولا يقطع.

في عام 2008م أجرت مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية الشهيرة في الأوساط الأكاديمية، بالتعاون مع مجلة “بروسبيكت” البريطانية المشهورة، استطلاعاً على مستوى العالم حول أهم مائة عالم في الأرض، وكانت المفاجأة أن يحتل كولن المركز الأول!

المفاجأة أن تأتي من مجلتين غربيتين،أما الرجل، فقد ظل طيلة ثلاثة عقود وهو في حركة لا تعرف الراحة، حيث ألقى آلاف المحاضرات في شتى صنوف المعرفة، وعقد آلاف اللقاءات وحلقات الدرس العامة والخاصة، داخل المساجد وفي المنتديات العامة، وألقى آلاف الخطب والمواعظ في مدن وقرى تركيا شرقاً وغرباً.

وألّف ـ مع ذلك ـ عشرات الكتب ( حوالي 56كتاباً) في فنون وموضوعات شتى،لكنها تدور مع الإسلام حيث دار في اتجاهه الوسطي الذي كان منهجاً للرشد والراشدين في الزمن الذهبي الجميل.

تيار الخدمة العريض:

لم يعد كولن مفكراً فرداً كحال معظم المفكرين، ولم يعد داعية محاطاً بعدد من المعجبين والمنفعلين ، بل صار تياراً عظيماً داخل تركيا وخارجها، عُرف بأنه تيار «الخدمة» صار هذا التيار الخارج من تحت عباءة كولن، ملء السمع والبصر، إذ يملك في تركيا أربعمائة مدرسة نموذجية وعشر جامعات، وعشرات المدن الجامعية، وعشرات المستوصفات والمستشفيات الطبية، وعشرات الجمعيات والمنتديات.

وفي مجال الإعلام والثقافة، يمتلك تيار الخدمة عشرات المؤسسات، ومنها ثلاثون دار نشر تصدر سنوياً مائة كتاب جديد في المتوسط، وخمس عشرة مجلة ثقافية، وسبع قنوات تلفزيونية، مع وجود أقسام للترجمة في دور النشر، أنجزت مئات الكتب المترجمة إلى خمسة وثلاثين لغة في العالم، إضافة إلى عشرات المواقع الإليكترونية بعدد من اللغات!!

فهل ندرك بعد ذلك: لماذا حوكم مرات عدة؟ ولماذا هاجر إلى أمريكا منذ عشر سنوات؟

وهل أدركنا سبب اختياره من قبل مجلتين غربيتين كأكبر مفكر في العالم؟!

ومما يزيد في معرفة عظمة هذا الرجل أن ندرك أن تيار الخدمة الآن يعمل لنقل تجربته داخل تركيا إلى كثير من بلدان المسلمين، وخاصة البلدان التي تنتمي إلى القومية التركية في وسط آسيا ،وقد بدأ الأمر بالتعليم، حيث تتبع هذا التيار ألف مدرسة في العالم منثورة في مائة وأربعين بلداً.

عولمة الخدمة وأنسنة العولمة:

إن دوائر التميز في فكر كولن ومدارات التفوق في فعله لا تكتفي بهذا القدر من التفوق والتألق، فالكبار لا يتوقفون عن التعملق.

وفي هذا الزمان الذي تعولم، ونادى بعض مفكريه بـ(صدام الحضارات) كالمفكر الأمريكي صموئيل هنتجتون، وبشر آخرون بـ «نهاية التاريخ» كالأمريكي الآخر فرانسيس فوكو باما، مما دفع أصحاب التعصب الديني والعرقي...إلى دق طبول الحرب الدينية والصدامات الثقافية، في هذه الأثناء يرفع كولن صوته مدوياً في الآفاق، داعياً إلى الحب والتسامح والأخوة الإنسانية، بادئاً بالدعوة إلى الحوار، الباحث عن المشتركات الدينية والإنسانية، والذي يراعي الاختلافات ويرعاها.

وكعادته لم يكتف بمجرد الدعوة أو الكتابة، بل عزز ذلك بالعمل، حيث أوجد مع العاملين معه عدداً من المؤسسات المنحازة إلى الحوار، لتفتح له مقراتها وقلوب أبنائها، وتسخر له إمكاناتها.

وبعد أن رعى عدداً من الحوارات بين مختلف التكوينات داخل تركيا، وأشاع ثقافة اللقاء والحوار، وأصل لفكر التسامح والرحمة ، مد جسور اللقاء مع أكبر الأمم في الأرض وهي الأمة المسيحية، ووصل الأمر إلى أعلى المستويات، حيث زار فتح الله كولن عاصمة المسيحيين في العالم «الفاتيكان» وقابل البابا محاوراً إياه في عدد من القضايا التي تهم العالمين الإسلامي والمسيحي.

لا شك إن ما وصل إليه فتح الله كولن وأتباعه، يشعر كل مسلم بالفخر والاعتزاز،وفي ذات الوقت فإنه يقدم له نموذجاً عملياً في النهوض، الذي بدأ بالتقييم الصحيح لواقع الأمة وعللها ومعضلاتها، مع التركيز في الابتداء على بناء الإنسان، وصناعة الحياة من خلاله، وهي تجربة ثرية تحتاج إلى مقالة أخرى في مناسبة ثانية إن شاء الله.

  1. عددها 153 رسالة وكلها مطبوعة بعدد من اللغات بما فيها اللغة العربية
  2. عنوان كتاب لكولن

الأستاذ المشارك للفكر الإسلامي السياسي

بجامعة تعز

http://www.algomhoriah.net/atach.php?id=30324