سـورة يونس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾(يُونُس:11)

من لطف الله تعالى بنا أنه لا يستجيب بسرعة لأدعية الشر، مع أن ألسنتنا تعودت على أدعية الشر في كل آن على أنفسنا أو على غيرنا أمثال "قاتله الله" أو "ليصبّه الله بالبلاء". ولكن الله تعالى وهو الرب الكريم والحليم لا يتعجل -مثلنا- في قبول هذه الأدعية. ولو تعجل في إستجابة كل دعاء وقبوله لانتهى أمر الجميع في لحظة واحدة. ولكن هناك فترات وأزمنة معينة يستجاب فيها للأدعية فيمكن أن يقول الله تعالى "سأستجيب لكل دعاء في هذه الساعة". أي تكون تلك الساعة ساعة إستجابة لكل دعاء يدعوه العبد آنذاك.

ولا ينحصر هذا في الدعاء القولي فقط، بـل يشمل أحيانـا الدعاء الفعلي[1] أيضا. أي تدخل الأفعال والأعمال المنفذة في ساعة الإستجابة هذه ضمن إطار الدعاء. لذا يجب الإنتباه إلى هذا على الدوام. والرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا ويحذرنا على الدوام عندما يقول: "لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم لا توافقوا من الله ساعةً يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم"[2] ومع هذا فإن بعض المعارضين للأنبياء ولخلفائهم وورثتهم قالو لهم في مجال التحدي والإنكار:

﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الأنفال: 32). أو يرددون عبارات من أمثال: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس: 48؛ الأنبياء: 38؛ النمل: 71)

وقد يدعو بعضهم في لحظة مؤقتة من لحظات ضيقهم وغضبهم، وبعد نفاد صبرهم على أعدائهم المعتدين عليهم والظالمين لهم. بينما يشرع الله تعالى بمعاقبة هؤلاء المعتدين الظالمين عندما يحين الوقت المناسب. لذا كان على المؤمنين أن يصبروا ويصروا على أسنانهم أمام المصائب والبلايا المؤقتة. وعندما يدعون، عليهم أن يدعوا لرفع البلاء، وأن يفوضوا أمر عقاب أعداء الدين والإيمان إلى علام الغيوب، وألا يستعجلوا ولا ينفد صبرهم في أمر إيقاع هذا العقاب والجزاء بـهؤلاء. لأن الله تعالى لو شاء لعجل لهم العقاب، أو يؤجله حسب عظم الجرم الواقع وحجمه، أو يؤخر عذابه الأليم إلى يوم القيامة، أو ييسر لهم سبل الهداية فيهتدوا ويصبحوا إخوانا لك.

لذا يجب على المؤمن ألا يدعو بالشر على أحد، بل يكون شخصا محتاطا ويقف باحترام وتوقير أمام حكم الله وقضائه حتى يطفح به الكيل ولا يبقى مجال للصبر عليه. وعليه أن يدعو على الدوام:

يا قاضي الحاجات، يا دافع البليات إقض حوائجنا وادفع عنا البلايا

يقول هذا ويشكو حاله وعدم قدرته على مزيد من التحمل إلى ربه ومولاه.

﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(يُونُس:87)

نستطيع فهم ما يأتي من آية ﴿واجعلوا بيوتكم قبلة﴾:

جعل البيوت متجهة نحو القبلة، أي نحو الجنوب، وبذلك تحل مشكلة أشعة الشمس وحرارتـها أيضا.

جعل البيوت ملائمة لمهمة المساجد، فمن جهة تم التأكيد على:

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ (النور: 36). ومن جهة أخرى تمت الإشارة إلى بيوت تقوم بأداء مهمات ووظائف هامة.

إذا تناولنا موضوع صدور الأمر بإتخاذ كل بيت قبلة ومسجدا نفهم وجوب إتخاذ كل إنسان البيت الذي يسكنه معبدا، ويجعل نفسه عابدا دائما فيه ويحيي بيته بالعبادة، ولا يجعله كالقبور الخالية من الحياة.

صحيح أن الآية تبدو وكأنـها توصية خاصة بموسى وأخيه هارون عليهما السلام ولكن الآية تقوم بعد ذلك بتوصية عامة ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ أي إن كانت الظروف والشروط غير ملائمة ولا تسمح بالعبادة العلنية فاجعلوا بيوتكم معابد سرية. أو عليكم أن تقيموا معابد لذكر الله تعالى في كل حال من الأحوال.

﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾(يُونُس:88)

قام بعضهم بتفسير ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ كما يأتي:

يارب أأعطيت فرعون وملأه زينة وثروات وأموالا لكي يضلوا عن سبيلك؟ ولكن هذا المعنى ليس تاماً.

اللام في ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ هو "لام العاقبة" وموسى عليه السلام أفضل من يعرف أن الله تعالى أعطاهم هذه الأموال الطائلة لغاية سبحانية وأن العاقبة التي سينتهي إليها أعطاء هذه الأموال عاقبة معلومة. لذا يتساءل موسى عليه السلام: أأعطيت لهم هذه الأموال لكي يضلوا الناس عن سبيلك؟ صحيح أن الله تعالى لا يحب الكفر والضلال والمعصية ولا يريدها، ولو فرضنا العكس لكان معنى هذا أن هؤلاء عندما يقترفون هذه الأمور يكونون قد أطاعوا الله. بل يبدو وكأن إرسال الأنبياء قد تم من أجل هذا الغرض. ولكن الأمر ليس كذلك أبدا فهناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم فيها "لام العاقبة" مثل: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً﴾ (القصص: 8)

ولو لم نفهم الآيات بـهذا الشكل لكان معنى الآية أعلاه أن فرعون التقط موسى عليه السلام لكي يكون لهم عدوا ومصدر حزن. وهذا تفسير غير مقبول.

ثانيا: لكون القدر متعلقا بكل من السبب والنتيجة، تمت الإشارة هنا فقط إلى النتيجة المتعلقة بإرادة الله دون الأخذ بنظر الإعتبار هنا رغباتـهم وإرادتـهم. بينما أصل المسألة هو أنهم وجهوا إرادتـهم النسبية المكتسبة وجعلوا أموالهم وأولادهم وسيلة إضلال وإفساد وكفر. أي أن ماملكوه من أموال أصبحت وسيلة لسوء عاقبتهم. ولكن كان من الممكن اعطاء الإرادة الإنسانية حقها. أي أنـهم بدلا من طلب الهداية قاموا بطلب الضلالة قولا وعملا، فخلق الله تعالى مايريدون وما يطلبون. أو أن المال والولد يمكن أن يكونا طريقين إما إلى الجنة أو إلى جهنم. أما هؤلاء فلم يفكروا في الإحتمال الأول "أي إحتمال الجنة" فانقلبت النعمة إلى نقمة. وعندما يقف شخص فقير مثل موسى عليه السلام أمام فرعون صاحب الأموال والأولاد والأتباع، وتعمل كل عوامل الكبر والغرور والطغيان والإنحراف عملها فالنتيجة معلومة، وطريق الضلال يبقى هو الطريق الوحيد أمامهم. والنبي موسى عليه السلام يدرك هذا لذا فهو يعلم النتيجة المحتومة لوجود المال والولد والعاقبة التي لا مفر منها إن لم تسعف الإنسان رحمة الله ورحمانيته.

أما هلاك الأموال وطمسها: يجوز أن جميع الأموال التي كانوا يملكونـها قد هلكت، أو أن الله تعالى أعطاهم الأموال وزينة الدنيا، ولكن لم يعطهم إمكانية الإستفادة منها. لنفرض مثلا أن غنيا مصاب بالداء السكري فهو لا يستطيع أكل وشرب مايشتهي. وفي مثل هذه الحالات يكون وجود النعمة أو عدم وجودها سيان. وبـهذا المعنى لا يكون هلاك الأموال هلاكا حقيقيا بل مجازيا.

﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(يُونُس:90)

ورد في بعض الأحاديث بأن كل إنسان سيدرك الحقيقية واضحة جلية لا محالة قبل موته. أي يمكن القول بأنه لن ينتقل إلى دار الآخرة شخص لم يؤمن. ولكن الإيمان بعد مرحلة معينة لن يكون مفيداً. وهكذا كان إيمان فرعون من هذا النوع الذي جـاء بعد فوات الأوان. أجل!.. لقد قال فرعون: "آمنت.." ولكنه قال هـذا في وقت لم يعد هناك فيه أي فائدة عملية. لذلك نرى في دوام الآية سؤال: "آلئن؟" وهو أوجز تعبير لإيضاح هذا الأمر أي: آآمنت الآن؟ أتبادر هذا إلى عقلك الآن بينما: "وقد عصيت من قبل"؟ ونفهم من الإسـتفهام: "آلآن؟" إنه كان عاصيا حتى اللحظة السابقة لقوله هذا... لقد كنت عاصيا عندما هيأت حصانك وجيشك لتعقب موسى عليه السلام. ولو قلت آنذاك بأنك آمنت ورجعت وارجعت جيشك لوجدت فرصة العيش كعبد صالح. ولكن فات الآوان.

والخلاصة إن الله تعالى لم يمنع إيمان عبد توجه نحوه، ولم يمتنع عن قبول هذا الإيمان. كل ما في الأمر هو أن آوان التوبة كان قد فات وانقضى. وهذا من أسلم طرق تقييم الآية وفهمها.

هل قال فرعون بلسانه وهو يغرق بانه آمن؟ أم خطر ذلك على قلبه آنذاك؟ حسب عقيدة أهل السنة والجماعة فإن مجرد ورود خاطر التوبة بشكل صحيح وفي الوقت الصحيح يعد تلفظا. بـل إن التلفظ يعد ظرفا للمعنى المظروف داخل قلب الإنسان. غير أن فرعون حسب آية أخرى كان قد فاتته الفرصة: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ (المؤمن: 85) أو أنه قال هذا ليخلص نفسه من ذلك الوضع الحرج. لذا نجاه الله ببدنه ليكون عبرة للعالمين. وعدا هذا فإن فرعون وهو في تلك اللحظة الحرجة الرهيبة لم يلتجئ إلى الله تعالى وإلى الذات الجليلة الموصوفة له من قبل موسى وهارون عليهما السلام، بل قال بتعبير فج بأنه آمن بما آمنت به بنو اسرائيل. أي توجه نحو فهم لا يزال ضبابيا في إدراكه لمفهوم الإيمان عند بني إسرائيل فهو حتى في إيحائه الذي جاء متأخراً لم يصب حقيقة الإيمان.

وإذا نظرنا إلى التاريخ رأينا أن فرعون كان دهريا ويجوز إن نقول أنه كان "مادي النظرة". والإيمان السريع الفجائي يكون صعبا عند أمثال هؤلاء. هذا علما بأن شرط الإيمان الصحيح إن كان الإيمان بنبوة موسى عليه السلام والتصديق به إلى جانب الإيمان بالله الواحد الأحد الذي لا شريك له، فإن إيمان فرعون في تلك اللحظة الحرجة لم يكن إيمانا كاملا خالصا بل كان يرتكب كفراً وهو يقول بأنه آمن.

﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾(يُونُس:98)

كشف العذاب عن قوم يونس:

1- قد تكون معاملة خاصة من قبل الله لهذا القوم لم يعامل الله بـها قوما غيرهم من قبل ولا من بعد.

2- قد تبدو أمارات قدوم البلايا ووقوعها بظهور أسبابـها، ولكن عمل خير وبر ومعروف ما في تلك الأثناء يكون سببا وعاملا في رفع غضب الله وعذابه. وعندما رأى قوم يونس أمارات العذاب، رجعوا إلى أنفسهم وتوجهوا إلى الله وأعلنوا توبتهم وإنابتهم إلى الله. وفي رواية ضعيفة أنـهم بدأوا بقول وتكرار "سبحانك لا إله إلا أنت إنا كنا من الظالمين". وحسب بيان أحد المتقين -بطريق الكشف وليس بطريق الرواية- فقد كان تسبيحهم وتحميدهم وتكبيرهم وحوقلتهم هي: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" فدفع الله تعالى عذابه عنهم ومتعهم حتى حين ووهبهم حياة فيها مكان ونصيب للإستعداد للآخرة.

3- وحسب العادة السبحانية لله تعالى فالله تعالى يأمر نبي أي قوم كتب عليهم العذاب مغادرة بلدته. ولكن يونس عليه السلام ترك بلدته بإجتهاده الخاص قبل أن يأتيه أمر المغادرة. لذا فكأن العتاب الموجه من الله تعالى لهذا النبي الكريم -بشكل مناسب وملائم لمقام نبوته- كان هو السبب الكامن وراء كشف العذاب عن قومه تماماً مثلما تمتص مانعة الصواعق خطر الصواعق، ثم تتابعت الحوادث التي جابهها والتي يعلم الجميع تفاصيلها.

وكلمة "هلاّ" الواردة في القرآن مرادفة لكلمة "فلولا" وتأتي بمعنى: "يا ليت" وتكون خلاصة معنى الآية "ياليت كانت هناك قرية آمنت قبل رؤية العذاب ونفعها ايمانها من بين القرى التي أهلكناها" وفيها معنى ضمني لتشويق التوبة والرجوع إلى الله والإنابة إليه قبل وقوع العذاب، أو حالما تظهر علامات وقوع العذاب أو إقبال البلايا.

وكون هذا القوم قرب مدينة الموصل وفي قرية نينوى، ليس مهماً ولا يغير من جوهر الحقيقة أو نتيجتها. فالمهم هنا التقييم الصحيح للتقديرات الإلهية والنبوية، وتفسير الأمارات والإشارات التي ينير طريقها "تأويل الأحاديث"، والعيش في يقظة وإنتباه ضد جميع الأخطار المحتملة والتوجه نحو الله في جميع الأحوال: ربنا أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه. وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا إجتنابه.

الهوامش

[1] الدعاء الفعلي، هو اتباع العبد للقوانين والسنن الإلهية السارية في المجتمع وفي الكون. مثلا، مَن يبذر الحب يحصد الزرعَ. (المترجم)

[2] مسلم، الزهد 74؛ سنن الدارمي، الوتر 27.