سـورة الحشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾(الْحَشْر:10)

يجب أولاً أن نعلم جيداً بأن الدار الآخرة والجنة هما المكانان الأصليان اللذان يطرح فيهما الغل والشر من القلوب. ولو أخرجت هذه المشاعر -التي هي من أسس الامتحان- من القلوب في الدنيا لانقلب الإنسان فطرة إلى ملك من الملائكة. بينما خلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا بماهية قابلة للخير وللشر أيضا. ولو فرضنا المستحيل وأخرجت هذه المشاعر من قلب الإنسان في الدنيا لنبتت هذه المشاعر في القلب مرة أخرى في يوم من الأيام كما ينبت الشعر أو الأظافر من جديد، لأنها لصيقة بفطرة الإنسان. لهذا السبب فبدلا من صيغة الدعاء "إنـزع" ورد التوجه لله تعالى الفاعل الحقيقي بصيغة ﴿وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلّذِينَ آمَنُوا﴾ (الحشر:10). إذن فالواجب الملقى على عاتق الإنسان هنا هو التوجه بالدعاء القولي والفعلي لله تعالى ومحاولة التخلص من هذه المشاعر التي تعد مثل الأشواك المعنوية المستقرة في القلب. وبهذه الوسيلة يستطيع التطهر من المشاعر السيئة ويكون أهلاً للجنة ويقبله الله تعالى في رضوانه.

ثم كأن هناك رسالة موجهة إلينا في هذه الآية الكريمة تطلب منا أن نعيد نظرتنا بالنسبة للسلف الصالح. أي قبول التابعين للصحابة وقبول تابع التابعين للتابعين. أي تدعونا للتصرف باحترام تجاه أرباب القلم وأرباب الكلام من رجال الحركة والفكر الذين تركوا في حياتنا الدينية وفي مشاعرنا وأفكارنا وعقيدتنا، بل حتى في التفسير وعلم الكلام والفقه أثراً لا يمحى وميراثاً كبيراً لنا.

والأمر الآخر الذي يراد توضيحه هنا على ما أرى هو أن كل إنسان يلتذ ويسعد -وكذلك يتألم- بنسبة ترقي وسمو مشاعره وبنسبة نمو هذه المشاعر وتوسعها وتطورها. فمثلاً إن كانت قابلية الحدس عند إنسان حساس متطورة، استطاع هذا الإنسان استخراج معانٍ عديدة من تصرفات الشخص الموجود أمامه، وهذا يكون مصدر عذاب له أحياناً ومصدر رحمة أحياناً. ويمكن القول انطلاقاً من هذا إن مقدار السعادة واللذة التي يحس بها الإنسان في الجنة يتناسب مع مقدار توسع وتطور مشاعره في الدنيا. ومن يدري فقد يقول من لم تتطور وتتوسع عنده هذه المشاعر عند دخوله الجنة: "ليتني كنت قد تطورت أكثر قبل دخولي الجنة" أو يدعو ويقول: "يا رب! أرجعني إلى الدنيا لكي أكمل سيرتي الروحية وأنميها"... ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن الإنسان لكي ينعم بلذائذ الجنة على وجهها التام فمن المهم أن يتخلص من مشاعر الحقد والغل والحسد وغيرها. لذا يجب النظر إلى هذه الآية من هذه الزاوية أيضاً.

والحقيقة أنه حسب آية ﴿إنّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَة﴾ (الحجرات: 10) وآيـة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُم أوْلِيَاءُ بَعْض﴾ (التوبة: 71) فالذيـن توجد بينهم رابطة الإيمان ورابطة الإسلام عليهم أن يتحابوا ويحترموا أسلافهم، بل ويغضوا النظر عن بعض قصورهم المحتمل، وأن يدعوا بالخير لمن سـبقوهم، وألا يحملوا على الإطلاق أي حقد أو غل أو عداء تجاههم. والذين يدعون انتسابهم إلى الرسـول صلى الله عليه وسلم عليهم ألا يفكروا وألا يتكلموا إلا بخير وألا يتصرفوا إلا بخير تحقيقاً للآيـة الكريمة: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى اْلإثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة:2).

كم نحن في حاجة إلى مثل هذا الأمر ولا سيما في مثل أيامنا هذه.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (الحشر:10)..... آمين.

﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾(الْحَشْر:16)

نفهم من هذه الآية الكريمة أن "الخوف من الله تعالى" موجود حتى في طبيعة الشيطان. وهذا يدل على معرفة الشيطان بالله تعالى وخوفه منه. ولكن مع علمه هذا فهو عاص له. وعندما يذكر القرآن الكريم تمرد الشيطان وعدم إطاعته للأمر يستعمل كلمة "العصيان". والعصيان لا يأتي إلا بعد الطاعة والانقياد أولاً.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا في سورة الكهف عندما يقول:

 ﴿كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ (الكهف:50). إذن فالشيطان باعتبار ماهيته كالجن مخلوق من النـار. وكان بماهيته هذه يعرف الله، بل ويعبده في عهد من العهود لذا صدر إليه الأمر بالسجود. أجل!... كان الشيطان حسب أمره الظاهر من الذيـن يتوقع منهم السجود. ولكنه -بطبيعته- كان مستعداً وذا قابلية للعصيان وللانحراف أيضاً. وظهرت طبيعته هذه للعيان بشكل واضح عندما أمر بالسجود لآدم عليه السلام، وأصبح من الخاسرين.

وقد قمت مرة أو مرتين من قبل بشرح وجهة نظري حول ماهية الشيطان. لذا لو قمنا بشرح مختصر لهذا الرأي لقلنا بأن الشيطان انحرف عن الطريق عندما عصى ولم يرضخ لأمر السجود، وأظهر بذلك ماهيته الحقيقية. والشيء نفسه وارد في كل وقت بالنسبة لبعض الناس. فقد تأتي لحظات ينحرف فيها الإنسان عن الطريق بسبب مشاعر الغضب والحسد والشـهوة المركوزة في طبيعته من أجل الامتحان. ويدخل في دوامة مخالفة لضميره فينحرف عن سواء السبيل. انظروا مثلا إلى مشـاعر الحسد لدى بعض أهل الكتاب ضد خاتم الرسل ومفخرة الإنسانية فقد ساقتهم إلى التمرد وإلى الإنكار فلم يستطيعوا رؤية النور الذي كان يحمله هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. لأنهم كانوا يطمحون أن يكون خاتم الرسل من بينهم، ومن قومهم وقبيلتهم. والشيء نفسه وارد بالنسبة إلينا وإن كان بأبعاد مختلفة. هناك مواقف تتغلب فيها المشاعر على المنطق، والإنسان دون أن يشعر يجد نفسه ضمن هذيان وضمن حركة غير منطقية. والشيطان يعيش على الدوام حالة حقد ونفور وحسد وغيظ من الإنسان. وهو يقول -كما جاء في حديث نبوي- "أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرتُ بالسجود فأبيتُ فلِيَ النار".[1]

ويجوز أنه يطلق صرخات الألم ويهذي كلما رأى إنساناً يسجد. وعندما يؤذن المؤذن في الجامع ويدوي اسم الله الجليل في الأرض ويهرع المسلمون إلى الجامع في خشوع ووجد، لا يدري الشيطان ماذا يعمل ولا كيف يهرب من سماع هذا الأذان.

والخلاصة إنه يزداد حقداً وغيظاً وحسداً من كل عمل يزيد ارتباط الإنسان وعلاقته بربه. فكما إن قيل لإنسان: "إن العصابة الفلانية قتلت ابنك" يكون في غضب دائم وتوتر وانفعال ضد تلك العصابة. ثم إن قيل له: "إن العصابة نفسها خطفت زوجتك" زاد غضبه وانفعاله. إن الإنسان الذي يتقلب ضمن مشاعر الانتقام هذه قريب من اقتراف كل شر، لأن صفة العفو والسماح تكون قد ذابت عنده تماماً.. والشيطان يتقلب في مشاعر الانتقام ضد الإنسان حتى يوم القيامة، ولا يستطيع الخلاص منها.

والنتيجة التي نخلص إليها هي أن الشيطان يعرف الله تعالى إلى درجة الخوف منه ولكنه بطبيعته القابلة للعصيان انحرف عن الطريق، لذا خسر الخسران الأبدي.

والذين انجرفوا في تيار الإلحاد فأصبح الكفر طبيعة راسخة عندهم وكذلك المنافقون هم مثل الشيطان تماماً. ففي ظروف معينة لا يترددون من ذكر الله والدين على لسانهم يريدون بذلك التقية واستغفال الآخرين. ويبدون في صورة المصلحين والصالحين، ولكنهم يحملون على الدوام حقدا لا ينطفئ ضـد المؤمنين، ويبحثون على الدوام عن طرق ينفسون بها عن هذا الحقد والغيظ. وفي الأوقات التي لا يستطيعون فيها تنفيذ ما ينفس عما يعتلج في صدورهم من غل تراهم يخفون حقدهم وراء ابتسـامة صفراء أو بيانـات وأقوال لينة، ويتظاهرون أنهم ديمقراطيون. وعندما يصلون إلى القوة التي تمكنهم من فعل ما يريدون تراهم يقولون: "إن الحق للقوة". أما الديمقراطية فتصبح آنذاك أمراً خيالياً أو "فنطازياً"، ثم يرتكب من المساوئ ما لا يخطر على البال.

إن الثقة بمثل هؤلاء تعد عدم احترام لشعور الثقة. أما الخوف من هؤلاء فيعد عدم ثقة بالله تعالى. وعلى المؤمن أن يكون دائما مفتوح الصدر بالحب للجميع، ولكنه لا يغفل ولا يدير ظهره لأمثال هؤلاء، وعليه في جميع الأحوال أن يلتجئ إلى الله تعالى من شر هؤلاء.

"اللّهم إني أعوذ بك من الهَمِّ والحزَن وأعوذ بك من العَجْز والكسَل، وأعوذ بك من الجُبْن والبُخل، وأعوذ بك من غَلَبة الدَّين وقَهْر الرِّجال".[2]

الهوامش

[1] مسلم، الإيمان 133؛ ابن ماجه، الإقامة 201؛ المسند للإمام أحمد، 2/443.

[2] البخاري، الدعوات 39؛ مسلم، الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 15.