سـورة الطلاق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾(الطَّلاَق:2)

التقوى حسب رأينا هي اتباع مبادئ الشريعة الغراء بجانب اتباع قوانين الشريعة الفطرية. الأول هو التقوى النفسية "أو الأنفسية" والثاني هو التقوى "الآفاقية". ولا يصح الفصل بينهما أبداً. ولكن ليـس من السـهل أيضاً الوصول إلى مثل هذه التقوى.

لنتناول الآية أعلاه: فالقرآن يبدأ بشرح الموضوع بـ﴿وَمَنْ يَتَّقِ الله﴾ أي يستعمل فعل "الاتقاء". وهذا الفعل من باب "افتعال". ومن اهم ميزات هذا الباب "المطاوعة". أي قبول الفعل وطبيعة المنفعل، أي يصبح هذا الفعل جزءً من طبيعته وعمقاً من أعماق خلقه.

أجل!... إن ما يـراد شرحه هنا هو أن التقوى بُعدٌ من أبعاد الفطرة، وعمق من أعماق الطبيعة الإنسانية. أي تكون التقوى هاجسها في القيام والقعود، وفي كل حال من الأحوال، يعيشها الإنسان في أعماقه ويتنفس به. ويقول القرآن في حق من استطاع تحقيق هذا الأمر الصعب والوصول إلى مثل هذا الأفق ﴿وَمَنْ يَتّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾ وكلمة "المخرج" هنا ترسم الصورة النفسية للإنسان المحصور في مكان ضيق وفي حالة صعبة، ومحاولته الخروج والخلاص منها، ويبذل في هذا قصارى جهده.

وهذا الإنسان المحصور في ذلك الوضع الصعب يستخدم كل شي في عالم الأسباب. ولا يبقى هناك باب لا يطرقه، ولكنه مع كل هذا لا يجد سبيل الخلاص. وفي هذه الأثناء يلتجئ إلى الله تعالى مسبب الأسباب فينجده في الحال. وعندما يسند الله تعالى في هذه الآية "الخروج والمخرج" إليه إنما يشير إلى مثل هذه العناية المفاجئة. لأن "المخرج" هنا مصدر ميمي، ويعني الإخراج. وهو في الوقت نفسه اسم مكان ويعني مكان الخروج أو مكان الإخراج. إذن فهذا الإخراج ليس من الأمور العادية، بل هو من الخوارق، وعمل يسند إلى الله تعالى فقط. والحقيقة أن كل أمر من الأمور في الكون يعد من الخوارق، ولكن لكون الألفة والتكرار يعمي عيوننا لا نستطيع التطلع إلى الحوادث الجارية حولنا بنظرة صحيحة قائمة على ربط الأسباب بالنتائج ولا نستطيع تقييمها التقييم الصحيح. هناك على الدوام ارتباط دقيق بين السبب وبين النتيجة، ولكن لا يمكن لذلك السبب توليد تلك النتيجة.

وحسب نظرة الأستاذ سعيد النورسي رحمه الله وتقييمه فإنه ليس من الممكن إعطاء الإنسان إلا جزء صغير من الحوادث الجارية لأفعاله الاختيارية كالأكل والشرب. مثلاً لقمة الخبز التي يضعها الإنسان في فمه.... فلو فكر الإنسان في حصته في المراحل التي يصنع فيها الخبز لظهرت الحقيقة من نفسها. صحيح أن الإنسان هـو الذي زرع الحنطة وهو الذي حصدها وطحنها وخبزها ولكن لو لم يخلق الله الأرض والتراب ولو لم يخلق الشمس ولم يرسل المطر..... الخ أكان بمقدور الإنسان أكل الخبز؟. لنفرض انه تم صنع الخبز؟ ولكن لو لم يُعطِ الله اليد والفم والأسنان أكان بمقدور الإنسان أن يأكله؟ يجب أن ينظر إلى كل حادثة في الكون بهذا المنظار، لكي لا تقوم الألفة والعادة بوضع حجاب أمام عيوننا، ولكي نستطيع أن نرى يد الله وبصمته وختمه في كل حادثة جارية ونتذوق طعم الإيمان في هذه الرؤية والمشاهدة.

والخلاصة أن من يترك الحرام ويؤدي الفرائض، ويتجنب الشبهات ولا يتبعها ويحترز حتى في المباحات ويراعي سـنة الله والشريعة الفطرية، أي يراعي دساتير صاحب القدرة والمشيئة، فإن الله تعالى يفرج كل ضيق يقع فيه على اختلاف أنواعه وأبعاده، ويحيطه بألطافه السبحانية التي لا تعد ولا تحصى ويكافئه بها، وينقذه من عيش حياة قذرة، وعند الوفاة يصونه من آلام الموت ووحشته وضيقه، كما يصونه من شدة يوم القيامة.

اللهم اجعل لنا خرجاً ومخرجاً من حيث لا نحتسب. آمين با معين.