مدخل

يوجه القرآن خطابه للإنس وللجن أجمعين. يأمرهم وينهاهم ويضع بعض المحرمات أمامهم، وينقل كلامهم وكلام الشياطين. وهو في كل هذا معجز على الدوام. ولا يكمن إعجاز القرآن هنا في مجرد النقل، بل في كيفية هذا النقل، والعناصر والصور والنقوش التي يستعملها ويختارها. والناحية الإعجازية الأخرى فيه هي أن هذه الأخبار التي ينقلها غيبية.

أجل! فقبل كل شيء فإن اختيار القرآن للعناصر والأدوات اختيار رائع وخارق للعادة. ثم إن القرآن يستعمل هذه العناصر والأدوات في اسلوب مختلف معجز لا يمكن الوصول إليه ولا حتى مقاربته. اُسلوب يخرج عن طاقة الإنس والجن. ولكن لكي ندرك هذه الناحية علينا النظر إلى آيات القرآن نظرة واسعة وشاملة، ولكي نوضح هذا الإعجاز علينا إعطاء بعض الأمثلة وبعض التفاصيل:

كثيراً ما نحس بأحاسيس ومشاعر في أعماق أرواحنا، ولكننا نعجز عن التعبير عنها، عند ذلك نئن تحت ألم العجز ونقول كما قال الشاعر "محمد عاكف":

أبكي وأنوح... ولكن لا أستطيع إثارة البكاء!
أحس بالألم… ولكن لا أستطيع بث لواعجي
آه من قلبي الأخرس!... كم أشكو منه!

أجل! هناك العديد من الأشخاص الذين لا يستطيعون التعبير بدقة عن أحاسيسهم العميقة عندما يتحدثون أو يكتبون فيطوون قلوبهم على آلام هذا العجز... وهذا العجز قد يكون عجزاً نسبياً أو مطلقاً لمن لا يستطيع التعبير بكل سهولة ويسر عن كل شئ، ويظهر هنا في الجهة الأخرى الإعجاز النسبي أو المطلق كذلك. فإن كان هناك إعجاز مطلق فهو خاص بالقرآن الكريم فقط.

فإن تناولنا القرآن من هذه الزاوية نستطيع أن نقول: "سواء أتكلم القرآن بلسان الشيطان أو الجن أو الملك أو فرعون أو نمرود أو شدّاد فإن الأسلوب المستخدم في البيان والإفصاح يعود للقرآن تماماً. وهذا الأسلوب خارق للعادة إلى درجة أن بابه يظل مفتوحاً لجميع المعاني الإشارية والرمزية، ويكون صالحاً لتفاسير واسعة، ولا يوجد أي بيان آخر يستطيع التعبير عن غايته بهذا الأسلوب ولا استعمال مثل هذه الأدوات والعناصر والصور والأشكال بهذه الروعة المعجزة.

نستطيع -إن أحببتم ذلك- تناول الموضوع من زاوية مختلفة:

لكل كلام توجهات مختلفة نحو اللطائف الربانية في الإنسان كالقلب والسر والخفي والأخفى، حيث يستهدف الوصول إلى هذه اللطائف. فإن كان فيه تناقضات بين هذه المراتب من ناحية المعنى دل ذلك على نقص في هذا الكلام. وهذا النقص موجود -بنسب مختلفة- في البيان البشري بأجمعه. أما القرآن فبريء من مثل هذا النقص ومنـزّه عنه.

وهنا يرد شيء آخر كذلك، وهو إن كانت المعاني الواردة إلى القلب قد نخلت وصفيت من خلال التخيل والتصور والتعقل وحافظت على نفسها ووصلت إلى مرحلة اللفظ والإفصاح عُدّ هذا بياناً ممتازاً. أحياناً لا يستطيع الكلام تجاوز هذه المراتب دون تغيير وتبديل، فيبقى في إطار الحديث للنفس، وتفوته فرصة الوصول إلى مرحلة اللفظ والتعبير الخارجي. أما تعبير علام الغيوب -الذي يعلم السر وأخفى- عن هذا الحديث النفسي الصامت فمسألة أخرى لا نريد الخوض فيها، لأننا نريد هنا الاقتصار فقط على الكلام الملفوظ: إن كان الكلام قد أُسْتُطيعَ التعبير عنه كما تم تخيله، أي إن كانت النية وإرادة التعبير متناغمة مع التعبير فمثل هذا الكلام كلام تام وكامل. فإن كان العكس، أي إن لم يستطع التصور احتضان التخيل بشكل كامل والإحاطة به، عدّ هذا التعبير أقل مرتبة من التعبير السابق. فإن لم تستطع ملكة التعقل التعبير عن المعاني المحملة عليها فهذا يعني أنها فقدت بعض أعماق التصور والخيال. وهكذا فالكلام الذي يفقد الشيء الكثير بالنسبة إلى مستوى الخيال الرفيع عند مروره من هذه المراحل والمراتب يُعد كلاماً ناقصاً. أما الكلام الذي يستطيع التعبير عن معاني صاحبه ومفاهيمه ونيته بعمق فهو الكلام الكامل التام. والمثال الرائع الوحيد لمثل هذا الكمال هو القرآن الكريم. لذا يجب البحث عن هذا الكمال في محافظة القران على عمق الخيال والتصور عند قيامه بنقل الكلام عن أي كائن.

وما من أحد يستطيع الإتيان بهذا بمثل هذا الكمال وبمثل هذه الروعة. أجل فما من أحد -سواء أكان ذلك إنساً أم جناً أم ملكاً- يستطيع اصطياد المعاني وهي في مرحلة التخيل والنية، ثم نقلها إلى مرحلة التعبير بمثل هذا الكمال. أي أننا لا نستطيع أبداً النجاح في تحقيق هذه المقاييس في الكلام والبيان. إذن فالبيان القرآني الذي حقق هذه المقاييس بدرجة الكمال بيان يعجز عنه الآخرون، أي هو بيان معجز وإلهي.