سـورة إبراهيم

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾(إِبْرَاهِيم:5)

هناك أربعة مواضع تنتهي بمثل هذه الآية، وهي الآية الخامسة من سورة إبراهيم والآية الواحدة والثلاثون من سورة لقمان والآية التاسعة عشرة من سورة سبأ والآية الثالثة والثلاثون من سورة الشورى. ولو تم تدقيق سياق هذه الآيات سيلاحظ بأنـها تأتي في أعقاب النعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان ثم يقال بأن هناك آيات حول وجود الله ووحدانيته لكل صبّار شكور، وهما صيغة مبالغة للصابر وللشاكر. وكما يقول القرآن فإن نعم الله على الإنسان كثيرة بحيث لو قمنا بعدها لا نستطيع أن نحصيها ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ (إبراهيم: 34)، ولكن الألفة والعادة التي يعيش في ظلها الإنسان المرتبط بجسده تجعله لا يحس بقدر هـذه النعم وقيمتها إلا عندما تزول عنه. ولكن الأصل هو معرفة الإنسان بقيمة هذه النعم وهي بعد موجودة وقريبة، والتوجه إلى الله بكل جوارحه. وعندما تسلب هذه النعم منّا -بناء على حكم عديدة- تفرض عبوديتنا علينا الألتزام بالصبر الجميل في جميع الأحوال، وعلينا أن نقول على الدوام: "إن لطفك وقهرك يا ربنا سـواء" وألا نتصرف أي تصرف سلبي ينافي عبوديتنا لله، وذلك تاييدا للحديث النبوي الشريف: "عَجباً لأمر المؤمن إنّ أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابَتهُ سرّاء شكرَ فكان خيراً له، وإن أصابَتهُ ضرّاء صبَر فكان خيراً له".[1]

صحيح أن القرآن ذكر صيغة المبالغة للصابر والشاكر، ولكن لماذا؟

ذلك لأنه لا توجد هناك نعمة صغيرة من بين النعم التي أنعمها الله تعالى على الإنسان… فأي نعمة تعد صغيرة؟ آلأصابع الخمسة نعمة صغيرة؟ أم الغدد اللعابية الموجودة في أفواهنا وعملها؟ أم النعم المذكورة في هذه الآيات من تسيير السفن في البحار؟ أم الهواء؟... أم الماء... أم الحياة... أم الإيمان؟... أي منها؟... كلا... لا توجد هناك نعمة نستطيع أن نقول عليها إنـها نعمة صغيرة. إذن يجب أن يكون هناك شكر كثير لهذه النعم. وعندما تذهب هذه النعم -لحكمة من حكم الابتلاء- يستوجب هذا الذهابُ صبرًا جميلاً. والنبي أيوب عليه السلام مثال أنموذجي للصبر الجميل. والأستاذ بديع الزمان النورسي يقول عنه إنه كان "بطل الصبر". فبعد أخذ جميع النعم الدنيوية منه لم تتغير حاله أو طوره أو توجهه نحو الله تعالى. ثم إن بطل الصبر والعرفان هذا الذي كان صبره نتيجة لإيمانه لم ينحرف إلى اليأس امام جميع المحن والشدائد التي تذهب بالصبر لأنه كان يدرك المعنى الحقيقي لأسباب المشقات والمحن، وكان يدرك جيدا أن للشرور جوانب خيّرة. لذا كان قلبه مفعما بالإيمان ولم ينـزلق إلى القلق بل إلى الشكر والحمد في أوقات صبره على المحن.

ثم إنه يجب أداء الصبر والشكر باحساس وعاطفة، وهذا يتناسب مع قوة إيمان وعرفان الإنسان وضمن اطار وظيفته ومسؤوليته. فالنبي الذي خوطب بـ ﴿أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّـورِ﴾ (إبراهيم: 5) كان مأموراً بإخراج قومه فقط من الظلمات إلى النـور. بينما خوطب نبينا صلى الله عليه وسلم بـ ﴿لتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّـورِ﴾ (إبراهيم: 1) أي كلف بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وعاش صلى الله عليه وسلم جو هذه المُهمّة.

الهوامش

[1] مسلم، الزهد 64؛ المسند للإمام أحمد، 5/24؛ سنن الدارمي الرقائق 61.