الفطرة المتحمّسة والحركة المتّزنة

الفطرة المتحمّسة والحركة المتّزنة

هناك بعض الناس يتمتّعون بفطرةٍ متحمّسة، ويرى الأستاذ بديع الزمان نفسه واحدًا منهم، ويذكر أن راحة هؤلاء تكمن في السعي والجدال، إذ يتعامل أصحاب الطبائع المتقدة مع الحوادث بشكل أكثر اختلافًا عن غيرهم، ويشعرون بانفعالٍ كبيرٍ تجاه الأحداث، فلا تتشابه تحرّكاتُ وتصرّفات ومواقف وإيماءاتُ هؤلاء مع الآخرين في الغالب، وعلى سبيل المثال يحسّون بالأزمات والمصاعب والنوازل والبلايا التي يتعرّض لها المجتمع من صميم أرواحهم، ويتأثّرون بها وتخفق قلوبهم إزاءها؛ لأنهم حساسون ومنتبهون للغاية مقارنة بالآخرين.

ومع ذلك فهذه الطبيعة ليست فضيلةً بالمعنى المطلق؛ لأن هذه مسألة تتعلّق بالطبيعة البشرية، وليس من الصواب توقّعُ مثل هذه الحساسية من الجميع، فهناك أشخاص تكون صدورهم رحبة جدًّا، بينما لم يتطوّر عالمهم الشعوري بشكل كافٍ، بل إن هناك من لا يبالون حتى لو احترق العالم من حولهم، ولا يؤرّق نومَهم احتراقُ العالم الإسلامي بأسره، لا يبالون لدرجة أنك لو ألقيتَ بهم في البحر لما ابتلَّوا، ولكن في مقابل هؤلاء هناك أناس يمتصون حتى الرطوبة من الهواء، وإذا خرجوا في جفاف آب/أغسطس فسوف يعودون مبتلّين من فرط حماسهم، كلّ هذه أمور تتعلق بالفطرة والطبيعة البشرية إلى حدٍّ ما.

الحركة مع الحذر والتأني

من الممكن أن تُوفق الأرواح المتحمسة إلى أداء خدمات مفيدة للإنسانية إذا تمّ تدريبها وتهذيبها على أيدي مرشدين ماهرين؛ لأن لديهم حماسًا لا يفتر ولا يهدأ، فلا يحتاجون إلى دينامو أو قاطرة لتحريكهم؛ لأن الحماس المتأصل في طبيعتهم سيقودهم إلى الأهداف التي حلموا بها وجعلوها هدفًا ساميًا مثاليًّا لهم بالفعل، بينما من الصعب للغاية إثارة وتحريك أولئك الذين لا يحملون همًّا ولا كربًا، فهذا يتطلّب مجهودًا إضافيًّا، يقول الأستاذ بديع الزمان لهؤلاء الذين يقضون حياتهم كسالى خاملين: “يا أيتها القبور المتحركة برِجلين اثنتين، أيّتها الجنائز الشاخصة! ويا أيّها التعساء التاركون لروح الحياتين كلتيهما -وهو الإسلام- انصرفوا من أمام الجيل المقبل، لا تقِفُوا أمامَه حجر عثرة، فالقبور تنتظركم.. تنحّوا عن الطريق، ليأتي الجيل الجديد الذي سيرفع أعلام الحقائق الإسلامية عاليًا، ويهزّها خفّاقةً تتماوجُ على وجوه الكون”[1].

لقد كان الأستاذ النورسي يعيش دائمًا على أملِ بزوغِ نورِ جيلٍ غضٍّ جديد؛ جيلٍ يسمع القرآن وكأنه ينزل للتوّ من السماء، وينظر فيه كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ويتوجه إلى الله تعالى كلّيةً، ويتبنى القضايا التي يؤمن بها بروح التضحية والتفاني، أما الكلمات المذكورة أعلاه فقد وجّهها لهؤلاء الأشخاص الجامدين ومتبلّدي الحس والشعور والخاملين الذين لا يمكنكم تحريكهم حتى لو وصلتموهم بعشر قاطرات.

لذا فإنه من المهم جدًّا أن يتمتع الإنسان بطبيعة متهيّجة وثّابة ومشاعر متحمّسة، ولكن هذا أيضًا له مخاطره الخاصة؛ لأنه إذا لم يتمكّن هؤلاء الأشخاص من التحكّم في عواطفهم بعقولهم ومنطقهم، ولم يتمكّنوا من وضعها في إطار من ضوابط الشريعة، فإنهم يرتكبون الكثير من الأخطاء، فيتصرّفون على عجل ويفسدون الأمر؛ حيث يستسلمون لمشاعرهم ويخرجون عن دائرة الشرع، لذلك فالأساس هو أن يتمتع الإنسان بالحذر واليقظة إلى جانب المشاعر المتحمسة والطبيعة المتهيّجة كالإمام الغزالي والإمام الرباني والأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي رحمهم الله تعالى..  علينا من ناحية أن نفتح صدورنا للجميع، ونجعل وجداننا رحبًا بقدر ما يستوعب ويحتضن الجميع بالحب، ومن ناحية أخرى علينا أن ندرك أن كلَّ شيءٍ مرهونٌ بوقت، وأن نخضع لحكم الزمن، ولا نتخلّى عن التصرّف برباطة جأش ولا عن التحرك بشكل ممنهج ومخطّط.

فمهما بلغ ارتباطُ الشخص بالمثل العليا التي ينطلق منها والقضية التي يركض في إثرها، فمن الممكن أن يتسبّب في مشاكل كبيرة للأمة إذا لم يتحرك بحذرٍ وتأنٍّ، فإذا لم يقف الهمُّ والمعاناة جنبًا إلى جنب مع البصيرة والفراسة؛ فقد يؤدي هذا إلى ارتكاب أخطاء جسيمة.. فمن الممكن أن يتحرك أصحاب الطبائع المتحمسة باندفاعٍ من أجل تصحيح الأخطاء التي يرونها في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، دون أن يأخذوا في الاعتبار التدابير التي تسبق أو تلحق الخطوات التي يخطونها، فقد تصدر عنهم أفعال معادية للديمقراطية وبالتالي يتسبّبون في دمارٍ كبيرٍ باسم التعمير والإصلاح، وهناك العديد من الأمثلة على ذلك في التاريخ.

نعم، الكسل والخمول والركود والجمود لا يفيد الإنسان ولا المجتمع بأي شيء، إنها صفات يجب استئصالها وإلقاؤها في سلة المهملات، ويجب على المرء أن يسعى بقصارى جهده كي يتخلّص من مثل هذه الصفات السلبية، بينما الإخلاص والحماس والهم والمعاناة هي صفات تستحق الثناء.. ومع ذلك، فهذه الصفات وحدها لا تكفي لأن يخطو الإنسان الخطوات الصحيحة.. فبالإضافة إلى ذلك، يجب على الإنسان بالتأكيد أن يجعل الصبرَ النَّشِطَ الفعال مبدأً له، وأن يعرف كيف يستوعب الأحداث غير السارة عندما تقتضي الضرورة، وأن يجعل صدره رحبًا، وأن يتصرف ويتحرك بصورة مخطّطة وممنهجة، وألا يتسرّع في القيام بالأعمال التي تتطلّب وقتًا معيّنًا.

المسألة بإيجاز، هي أن يكون المؤمن متّزنًا ويتصرف دائمًا باعتدال.. وإلا فإن الأخطاء التي ستُرتكب في القضايا الكبيرة المتعلقة بمصير الإسلام والإنسانية ستكون بمثابة تعد وانتهاك لحقوق الله تعالى؛ وهو تعد وانتهاك لا يوجد ميزان يقابله في الآخرة.

أبطالُ الصبرِ ورحابةِ الصدر

إذا كنت مهتمًّا بأمور الناس، وتريد أن تزدهر الأخلاق والفضيلة في المجتمع، وتسير في إثر الحق والعدالة، وتجعل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفةً لك؛ فعليك أن تضع في الحسبان منذ البداية أن هذا كله ليس بالأمر الهين، وأنه يتطلّب وقتًا محدّدًا وصبرًا على الوقت.. فحتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي، وصاحب الفطنة العظمى، قد استغرق ثلاثًا وعشرين سنة ليأخذ بيد إنسان الجاهلية ويوصله إلى أوج الكمالات الإنسانية، كما أنه كان دليلًا لأمته في هذا الصدد، وأشار إلى أهمية التحرّك وفق الأوامر التكوينية.. ولو أنه خرقَ العادةَ ومارس المعجزات في حياته دومًا؛ فبمن كنّا سنقتدي إذًا؟ فقد أوضح لنا من خلال أفعاله وتصرفاته الطرقَ التي يمكن أن يصل بها الإنسان العادي إلى الإنسانية الحقَّة، ونوعَ العقبات والصعوبات التي يجب تحملها في هذا السبيل، وكيف سيتحقّق ذلك خطوة بخطوة.

فلو أن سيّد الأنبياء صلى الله عليه وسلم الذي شق القمر إلى شطرين بإشارة من إصبعه، ونبعَ الماءُ زخًّا زخًّا من بين أصابعه، وأطعم ثلاثمائة شخص بحفنة من الطعام من يده المباركة، سأل الله تعالى أن يجعل له -كما قال البوصيري في بردته- الجبال الشمّ كلها ذهبًا[2] لكانت.. لكنّ ذلك ليس من مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما مهمته هي التبليغُ بِعُمْقِ التمثيل، فقد عاش صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عامًا دونما أي إخفاق، وواجه مشاكل كبيرة وتغلّب عليها جميعًا بإذن الله تعالى وعنايته، وتحوّل بالمجتمع البدوي المتوحّش إلى مجتمع صانعٍ ومعلِّمٍ ومصدِّرٍ للحضارات.

إننا أيضًا نواجه العديد من المشكلات التي لا تزال تحافظ على وجودها إلى يومنا هذا، إنها في الحقيقة مشكلات معقدة للغاية ومستعصية على الحل.. إن أصحاب الطبائع المتهورة والمتسرّعة لا يستطيعون حلَّ هذه المشكلات؛ لأن كلّ محاولة يقومون بها في سبيل الحلِّ تتسبَّبُ في مشاكل جديدة، وحتى الـمَواطن التي يتوقع الناس فيها النصر، فإنهم يتسببون فيها بإخفاقات متوالية، إن المشكلات الحالية تحتاج إلى أناس يتمتعون بصدر رحب للغاية، ووجدان واسع، مع قدر من الحذر واليقظة؛ وذلك حتى لا يغلبهم الحماس، ولا يتصرّفون بطريقة غير متزنة، ولا يثيرون الآخرين ضدهم، ولا يوسّعون الهوة أمامهم، فيتسببوا في هزيمتهم وإخفاقاتهم، إنما يتغلبون على المشاكل بطريقة ممنهجة من خلال استغلال الفرص والإمكانات المتاحة بشكل جيد ومثمِر.


[1]  بديع الزمان سعيد النورسي: صيقل الإسلام، المناظرات، ص 379-380.

[2]  وَرَاوَدَتْهُ الجبال الشـمّ مـن ذَهَـبٍ * عَنْ نَفْـسهِ فأراها أيّمـا شَمَم وَأَكَّـدَتْ زُهْـدَهُ فـيهـا ضَرُورَتُهُ * إِنَّ الضَّرُورَةَ لا تَعْدُو على العِصَمِ