الإيمان والهمّ

الإيمان والهمّ

ما من مصيبة تحيق بالإنسان أكبر من البلادة وانعدام الهمّ، ولا أعلم أرَضَةً لعينة تتسلّط على ابن آدم أكبر من عدم القلق والاكتراث.. نسأل الله عز وجل أن يلقي في صدورنا جمرةً من الهمّ تجعلنا نستشعر ونغتمّ لتعاسة وبؤسِ غير المؤمنين، والضالين عن الصراط المستقيم، والقساة الغلاظ والعاصين منهم، ونحسّ بها وكأنها هموم أنفسنا.

وليس المقصود هنا -حتى لا يُساء الفهم- أن يذهب الإنسان ويعرّض نفسه بشكل مصطَنَعٍ للمواقف التي من شأنها أن تسبب له الهمّ والغمّ.. على العكس من ذلك، إنني أتحدّث عن همٍّ وغمٍّ ينشأ في النفس المنفتحة على الإنسانية جمعاء انطلاقًا من قوة الإيمان، ورحابة الروح، وسعة الوجدان.. فلا أقصد الهمّ الحاصل عن الخسارة والحرمان والألم الدنيوي؛ وإنما أقصد الهمّ الحاصل عن العيش في ظلال القلب ورحابة الروح.

أجل، لا يمكن أن يصير الإنسان صاحبَ همٍّ بمجرد أن يقول: “لأصبحنَّ صاحب همّ”، فهذا ليس بالأمر ولا المسألة التي تُطلب أو تُستهدف.. بل إنها مسألة مرتبطة بالإيمان، وهي نتيجة طبيعيّة له، وهي متعلّقة بإدراك أهمية المعنى الذي يعبر عنه العالم الآخر بالنسبة لنا.. إن الإنسان الذي تربطه صلةٌ قويّة بالله ويصل إلى اليقين في الإيمان يتعاطف مع جميع المخلوقات حتى إن قلبَه يرتجف كمدًا على نملة سقطت في الماء تتخبط فيه، ويشعر بالألم -وكأنه يُسحَق هو- عندما يرى حشرة هلكت تحت قدميه.. لكم أن تتخيلوا وتقدروا مدى الهم والقلق الذي سيسيطر على مؤمن قد سما شعور الرحمة لديه لهذه الدرجة حتى تجاه الحيوان عندما يرى إخوانه من بني البشر يتدحرجون إلى نار جهنم.

من الصعب جدًّا أن يدرك هذا ضعافُ الإيمان، الذين لا يربطهم بربهم سوى خيط رقيق، ومن يعيشون إسلامًا مستعارًا غير حقيقي.. أيمكن لمثل هؤلاء أن ينجوا؟ لا شكّ أنه بإمكانهم النجاة، قد يُنعِمُ الله عز وجل على كثير من أمثالنا ممن لا يحملون همًّا ولا حزنًا ولم يتحرّروا من مخالب الإيمان التقليدي بإدخالهم الجنة، فهذه مسألة أخرى.. إننا نتحدث عن وصول الإنسان إلى الكمال، وبلوغه مرتبة اليقين في الإيمان، وأن يكون هذا مسلكَه في الهمّ والقلق.. ومن ثم فإن الهم من هذه الناحية هو مظهَرٌ للإيمان القلبي بالله تعالى، وتعبيرٌ عن حالٍ نفسيٍّ صادق.

وأحيانًا ما يصبح الهمّ هو عين اللذة والمتعة بالنسبة لأشخاص وصلوا إلى مستوى معين، فتحصل لدى الفرد متعةٌ روحيّة ومعنوية مما يعانيه من همٍّ وألم.. ولكن مع ذلك لا ينبغي للمؤمن أن يربط حياته بهذه المتعة، فقد أشار الأستاذ بديع الزمان إلى مراتب القرب بدءًا من الإيمان بالله، ومعرفة الله، ومحبة الله وانتهاءً بالذوق الروحاني.. فإذا نُظر في ظاهر الأمر فقد يُفهم أن الذوق الروحاني هو أعلى المراتب التي يجب الوصول إليها كما أشار الأستاذ النورسي.. غير أن الإنسان إذا بلغ الذوق الروحاني في الحواس الظاهرة والباطنة بعد مستوى معين فلا ينبغي له أن يقيد عبوديته ولا همه بهذا الذوق.. فإن الإيمان والعبودية والمعرفة والمحبة حق للمولى عز وجل، ويجب علينا أن نتحرّك بشعور أنها واجبات علينا، وألا نقيدها بحال من الأحوال بأي مقابل مادي أو معنوي؛ لأن هذا قد يعني رفع دعوى على الله تعالى، ومن ثم فإنها مسألة يجب تناولها بدقة وحذر.

لقد كانت هذه الهموم والأكدار هي التي تدفع الصحابة الكرام للركض في سبيل الله دون توقّف أو راحة، فقد أتى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه إلى أسوار إسطنبول دون أن يأبه لنفسه أو لعمره لأنه علم أن عدم الهم والقلق نوعٌ من الموت.. وهناك آخرون قيدوا أنفسهم على ظهور دوابهم وخرجوا للجهاد؛ لأنهم علموا أنه لا شيء أهم من إعلاء كلمة الله للإنسانية جمعاء، فقد رأوا هذا وتعلّموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يريدون أن يحافظوا على المفهوم والفلسفة اللتين توارثوهما منه صلى الله عليه وسلم حتى نهاية حياتهم، فهم يوقنون بأن المشقة والألم والهم الذي يعانونه في هذا الدرب سيعود عليهم بأشكال مختلفة.. لقد آمنوا بهذا جيدًا، واستوعبوا حقيقة الأمر بسرعة بالغة، وانفتحوا على فحوى ومضمون رسائل القرآن الكريم والسنة النبوية، وعاشوا حياةً مفعَمةً بالعشق والاشتياق إلى الله، ومنفتحةً على الماوراء.

نحن أيضًا نقرأ القرآن الكريم، ونطالع الكتب، ونسمع المشايخ، ولكننا لا نستطيع الوصول إلى قوامهم بحال من الأحوال.. ربما يضحك الصحابة لو رأوا مكتباتنا، وربما يقولون: “هل هناك حاجة إلى كل هذا القيل والقال لمعرفة الله تعالى؟!” لقد كان إيمانُهم راسخًا متينًا.. لقد حلّوا بإيمانهم هذا من المسائل ما ستعجز الكتب التي تفوق قامتكم عن حلّه، فلم تظهر طائفة مثل هذه في العالم انتقلت من الأميَّة إلى العلم والمعرفة في أي حقبة من الزمن، إنهم أناس نشؤوا في الجاهلية، ثم التزموا مواقعهم خلف مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم، فبلغوا ذاتيّتهم، وشعروا بكيانهم، وقرؤوا أنفسهم قراءةً صحيحةً، وعاشوا ارتقاءً عموديًّا في المعرفة والمحبة، ورأوا العوالم الأخرى بوضوح، ووصلوا إلى هذه الجماليات في أسرع وقت، وبذلوا ما في وسعهم على الفور لتعريف الآخرين بهذه الجماليات.. وبما أننا لا نستطيع أن نعيش في يومنا ولو عُشر حياتهم التي عاشوها، فلا يمكننا أن نقدر مدى الهمّ والكدر الذي حملوه ولا الذوق الروحاني الذي أحسّوه.

لقد وقعنا في براثن الثرثرة والغرور، حتى إذا ما قمنا بالخطابة والتحدّث فإننا نمارس اللغو والثرثرة معتقدين ندرَةَ حديثنا، وأنه لا يوجَدُ من يُشبهنا أو يشاكلنا، وأنه ما من إنسانٍ إلا ونستطيع أن نقنعه بديماغوجيتنا.. إننا نتحدث كثيرًا عن أنفسنا، وإذا ما رأى الصحابة حالنا هذا تعجّبوا قائلين: “يا الله، كم يتحدّث هؤلاء الناس هكذا! فما الداعي إلى كثرة الحديث في هذه المسائل! فاللهُ حسبُنا وما سواه عبثٌ وهوًى!”.. فإذا كان من اللازم مقارنة أنفسنا بهم، فيمكننا أن نقول: ثمة أناس بائسون في القاع، وثمة نفوس في الجانب الآخر سامقةٌ في الارتفاع.

إن رجائي كبيرٌ في رحمة الله تعالى، ولذلك أعيش على أمل أن أدخل أنا أيضًا الجنة، وبما أنني أحمل هذا الأمل في نفسي، فإن الآخرين أحسن وأفضل مني بكثير، وأقول: “إن الجنة لها ثمانية أبواب مفتوحة بحسب ماهية الأعمال المنجزة، فإن لم ندخل من أحدها ربما دخلْنا من الآخر”، لكنني لا أعلم، هل سيقبلوننا هناك بحالنا هذا أم لا؟!

لا يحق لنا الطعن والتشنيع بأي شخص.. ولكن على الجميع أن ينظروا في أحوال أنفسهم، فيسأل كلُّ فرد نفسه؛ كم مرة في حياتي وضعتُ رأسي على السجادة باكيًا ساعة من الليل من أجل هم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟! ما هو نوع الجهد والحرص اللذين أبذلهما من أجل توصيل الناس إلى الإيمان؟! يمكن للجميع أن يسألوا أنفسهم مثل هذه الأسئلة وأن يزنوا إنسانيتهم بها، أنا لا أبالغ في الأمر.. فإن كمال إيمان الفرد يكون بقدر رحمته بالمخلوقات، فكلما تعمّق همُّ وشغلُ وقلَقُ وجهدُ ومثابرةُ وعزمُ الفرد على إيصال الناس إلى الله تعالى، وتعريفهم برسوله صلى الله عليه وسلم كانت إنسانيَّتُه عميقةً بنفس القدر.. وعندما ينظر إليك أهل البصيرة يقدرونك قدرك من هذه الزاوية، فلتعبروا عن أنفسكم كيفما تشاؤون، ولتنجزوا النجاحات بقدر ما تريدون، ولتفتحوا من المدارس بقدر ما تستطيعون؛ ولكن قيمتكم الحقيقية تكمن في الإيمان، وصلتكم بربكم، وما يترتب على ذلك من انفعالكم وهمكم ومكابدتكم وشفقتكم بخلق الله تعالى.

وقد بينت الآيات القرآنية مدى اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانشغاله بأمته في العديد من الآيات، يقول تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6)، والأمر نفسه في قوله: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ (سورة هُودٍ: 11/112) وفي إشارة إلى هذه السورة يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “شَيَّبَتْنِي هُودٌ“[1].. فإذا كان هناك انفتاحٌ حقيقي في عصر السعادة النبوي؛ فإن وراءه في المقدمة همُّ ومكابدةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن خلفه الصحابة الكرام الذين يقتفون أثره خطوة بخطوة ويُعايشون الإسلام معايشةً صحيحةً.

لهذا السبب فإنه بقدر ارتباط الإنسان بالله ومعرفته به، وحرصِه وهمِّه وقلقه واضطرابه من أجل إيصال الحقائق السامية للإنسانية؛ يكون انفتاحه وتأثيره فيمن حوله.. وتعتمد المسألة في النهاية على الإيمان الكامل، والإخلاص الأتم، واليقين التام، وعمق المعرفة والمحبة، وصدق العشق والاشتياق.. وإنكم إن تعمّقتم في هذه الجوانب، فستكون الأمواج التي تحرّكونها في هذا الجانب كبيرة وواسعة وتشمل العالم بأسره.


[1] سنن الترمذي، تفسير سورة الواقعة، 56 (6)، 3297.