Muhterem Fethullah Gülen Hocaefendi'nin 24 Şubat 2019 tarihli ve 'İmanın Tadı, İnsana Sevgi ve Ümit' başlıklı Bamteli sohbeti

المنهج النبوي

سؤال: ما هو أثر اتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم على حياة المؤمن؟

الجواب: كما هو معلوم فقد وضع علماءُ الكلام ثلاثةَ أسباب تُفضي إلى العلم هي: الحواس السليمة، والعقل السليم، والخبر المتواتر، فكما أن للعقل السليم مجالَ إدراكٍ خاص به فكذلك أعضاء الحسّ السليمة تتمتع بنوعٍ من الحدس والإدراك والتقويم، وباستعمال الإنسان لهذه الأعضاء في مكانها المناسب يستطيع أن يصل إلى الحقائق التي ينشدها، وباعتماده على وجدانه ينفتح على عوالم مختلفة، ويدرك حقائق أخرى، ويُسمِّي “برغسون (Bergson)” مسألةَ حدس الوجدان بـ”intuition”، أما نحن فنسمّيها “الحدس”.

الوحي كمصدر للمعرفة

ولكن توجد حقائق لا يستوعبها العقل ولا يدركها الوجدان ولا تحدسها الحواس، بل توجد أشياء وحوادث قد تُدرَك بالعقل والحواس إلا أنه يتعذر في أكثر الأحيان اكتشافها والوقوف على مكنونها وماهيتها الحقيقية؛ فكما أنها تحتوي على جوانب متعددة يتيسر معرفتها واكتشافها فهي كذلك تنطوي على أبعاد مختلفة لا يقدر العقل والحواس على استيعابها، لا سيما الموضوعات المتعلقة بالذات الإلهية والعوالم الأخروية والميتافيزيقية فإنها تظل جميعها خارج دائرة استيعاب العقل والحواس، وبما أن الإنسان لا يقدر بعقله وحواسه أن يتعرف على الذات الإلهية بماهيتها الحقيقية فكذلك يعجز عن إدراك كيفية إقامة العبودية لهذه الذات المقدسة.

فالله تعالى وحده هو المحيط بكل هذه الموضوعات التي يتعذّر على العقل والحواس إدراكها أو استيعابها، ونصيب العباد من العلم الإلهي بقدر إخبار الله لهم كما يُفهم من قول الله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/255)؛ ولذا فإننا كثيرًا ما نكرِّر في أدعيتنا: “اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مِنْ لَدُنْكَ عِلْمًا”، وكما خرج سيدنا موسى في رحلة طويلة مع الخضر عليهما السلام لإدراك الحوادث بماهيتها الحقيقية فقد سعى أولياء الله إلى الاطلاع على ما وراء الأشياء بالسير والسلوك الروحاني ووسائل أخرى، بل هناك أناس في زماننا ينتسبون إلى بعض الأديان التي عجزت عن الحفاظ على وضعها الأصلي القديم أو ينتمون إلى بعض الأديان التي من صنع البشر قد حاولوا الوصول إلى معرفة الحقيقة عن طريق اليوغا والتأمل وغير ذلك من الوسائل.

غير أن المعرفة التي ينبغي الوثوق بها في هذا الشأن هي المعرفة القائمة على الوحي الذي أبلغه الله للناس عن طريق أنبيائه، ومن ذلك أيضًا الخبر المتواتر الذي اعتبره العلماء المسلمون مصدرًا للمعرفة، فلقد نُقِل القرآن الكريم إلينا متواترًا من أوّله إلى آخره؛ أي من خلال جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وعلى الشاكلة نفسها نُقل إلينا جزء مهم من السنة النبوية سواء باللفظ أو بالمعنى.. وهذا يعني أن القرآن الكريم وحيٌ ألقاه الله عز وجل على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم لفظًا ومعنى، وكذلك السنة الصحيحة أوحى الله تعالى بها لنبيه صلى الله عليه وسلم معنًى وصاغها النبي لفظًا، ولذلك سُمِّي القرآن الكريم بالوحي المتلو، والسنة بالوحي غير المتلو.

فضلًا عن ذلك بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الكمال في تطبيقه للدين الإسلامي الذي أكمله الله وأتمه بصريح قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ (سورة الْمَائِدَةِ: 5/3). والواقع أنه لا يقدر على تمثيل هذا الدين بأكمليته وأتميته هذه دون نقص أو قصور إلا “الإنسان الكامل” الذي عنون به الصوفي الشهير عبد الكريم الجيلي كتابه، وقد أدّى صلوات ربي وسلامه عليه ذلك، علاوة على أن فهمَ القرآن الكريم بشكلٍ صحيح وتطبيقَه على الوجه الأمثل لا يتأتى إلا بهذا التمثيل الكامل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا فإننا عندما نقول “نهج النبي” فإننا نقصد الوحي المنزل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطبيقه الكامل لهذا الوحي.

 الفهم الخاطئ للذات الإلهية

والواقع أن كلا المرجعين مصدر معرفي لا يضلّ ولا يزلّ، إذ لا يتحقق اهتداء الإنسان إلى الصواب لا سيما في القضايا الإيمانية والتعبدية إلا بالتمسك بهذين المصدرين، أما إذا لم يعرض الإنسان القضايا التي يتناولها على مشكاة النبوة فسيقع في الخطإ حتى ولو افترضنا محالًا أنه تقابل بالذات الإلهية مباشرة؛ كأن لا يقدر على إدراك ضرورة أخذ الحيطة والحذر في حضرته، ومراعاة الآداب بين يديه، بل لا يستطيع الوقوف على كيفية إقامة العلاقة بين العبد والمعبود، بل قد يدخل الفخر والعجب إلى نفسه من أجل أنه نال هذه الحظوة، فيتردى من هذه القمة إلى أسفل سافلين.

وقد يحمل الإنسان بين جوانحه محبةً وعشقًا عميقًا للذات الإلهية، ومن ثمّ يتحرّق شوقًا للقاء ربه سبحانه وتعالى، ويعتبر أن التواني والتراخي في هذا الشأن قلة احترام للذات الإلهية التي يحبها بجنون، فلو لم يسِرْ مثل هذا الإنسان على نهج النبي فلن يقدر على الحفاظ على توازنه، وربما يرفع أكفَّ الضراعة إلى الله بالدعاء قائلًا: “اللهم اسلبني روحي على الفور لألقاك”.

فمثل هذا الدعاء وإن بدا جميلًا إلا أنه مخالفٌ لمنهج السنة، حيث يعتريه شيءٌ من عدم التوازن؛ ففي الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تمني الموت، فقال: “لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ مِنْ ضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي[1]، لأن هذه الدنيا ساحة تعليم وتدريب، وقد أرسل الإنسان إليها ليكتسب لياقة وجاهزية تؤهله للعالم الآخر، وما عليه إلا أن يكون مثل الجندي يصبر حتى يحين تسليمه شهادة تسريحه من قِبل الله الذي أرسله إلى هذه الدنيا؛ فهذا هو ما يتطلبه النهج النبويّ، فمن الصعوبة بمكان الاهتداء إلى الصواب حتى في مثل هذه المسألة البسيطة دون السير على “نهج النبي”.

وحتى يتسنى لنا فهم المسألة بشكل أفضل نوضّحها بمثال: قد يهتدي الإنسان بعقله إلى وجود خالق الكون مثل العديد من الأشخاص الذين عاشوا في عهد الفترة ولم تُسعفهم الفرصة للتعرف على رسالة أيّ نبي من الأنبياء عليهم السلام، ولكنهم انطلاقًا من الآثار الرائعة في الكون خلصوا إلى القول بوجود خالق لهذا الكون، ولكن ليس بالإمكان أن يتعرف الإنسان وحده على خالقه، وعلى الأسماء والصفات التي يتصف بها، وكيف يجب أن يكون التفكير نحوه؛ لأن ذلك الشخص إن لم يفكر في مثل هذه الأمور على النحو الذي وضعه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلربما يسيء الفهم للذات الإلهية، وينزلِقُ إلى درَكةِ فكرةِ التجسيم كما فعل بنو إسرائيل في وقت ما، أو يقول -حاشا لله- بحلول الله واتحاده بالبشر كما قال بعض النصارى وغلاة الشيعة، أو يتفوّه بما لا يليق كما قال المعتزلة الذين وقعوا تحت تأثير الثقافة الإغريقية؛ فيقول بأنّ الله مضطرٌّ إلى خلقِ كلّ شيء وفقًا للمصلحة.. والحق أن جميع إجراءات الله تعالى تكتنفها الحكمة، فهو سبحانه لا يفعل شيئًا عبثًا، لكنه غير مكلف بأي شيء، ولا مضطر إلى فعل أي شيء، فكل هذه الأقوال لا تتوافق مع مفهوم الألوهية.

وأيًّا كان الدافعُ وراء هذه الأفكار فهي مخالِفةٌ لنهج النبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن كان صاحبها يحمل عشقًا واشتياقًا كبيرين لله تعالى، وما دام التفكير في هذه الموضوعات لا يستند إلى وحي سماوي فلربما يفضي إلى ادعاءات لا تليق بالذات الإلهية حفظنا الله، ويسوق إلى الضلالة والانحراف.

 السبيل إلى تجنب الشرك والضلالة

والواقع أن السبب الرئيس في انحراف بعض الفرق وخطإ تأويلها في المسائل المتعلقة بالذات الإلهية مثل الجبرية والمرجئة والمشبهة والمجسّمة هو عدم اتباعها لنهج النبي صلى الله عليه وسلم بدقة بالغة.. بل إن هناك عالمًا كبيرًا وعبقريًّا فذًّا مثل شيخ الإسلام “مصطفى صبري” رغم أنه عاش في عهدٍ تهاوى فيه المسلمون تباعًا، وشهد انهيارَ أسوارِ حصون الإسلام رغم كل الجهد والمساعي للحيلولة دون ذلك، وله دفاعات كثيرة عن أهل السنة والجماعة؛ فإنه انخدع بمسألة الجبر في كتابه “موقف البشر تحت سلطان القدر” عند تأويله لبعض الحقائق متأثرًا بالأحداث القاسية التي مرّ بها، وكما تقول الحِكمة العربية “تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ”؛ فكذلك مثل تلك الأحداث القاسية لا تجري وفقًا لأمزجة الناس وطبائعهم.

وفي ذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/26)، ويقول في موضع آخر: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/140)، فيوم يكون عيدًا لبعض الناس، ويوم آخر يكون عيدًا للبعض الآخر، فالله تعالى هو صاحب الملك والملكوت، وفاعل مختار في إجراءاته، ومن ثمّ فلا حقّ لأحدٍ في الشكوى والاعتراض، وهذا هو نهج النبي.

وعلى ذلك فإذا لم ينتهج الناسُ الهديَ النبويَّ فلن يتأتى لهم التفكير بتوازن فيما يقع من أحداث، ولن يستطيعوا أن يتجنّبوا التفكير الخاطئ حول الذات الإلهية، لا سيما إذا كانوا يعيشون فترات تشتدّ فيها الخطوب ويتعاقب فيها الظلم، وغير ذلك سيقعون في مشكلة انتقاد القدر، وينخرطون في فكرة الجبر؛ بسبب ما يعيشونه من آلام وأحزان.

وقد يحدث خلاف ذلك، فقد يحرز البعض الكثير من النجاحات ويحالفهم الحظُّ والنصر دائمًا وتجري الأمور كما يشتهون، وبعد فترة يزعمون كما يفعل بعض الغافلين والجاهلين أنهم هم الذين فعلوا وانتصروا وأحرزوا وغنموا، فيتردّون في الشرك بمعنًى ما، كما وقع من سبقهم في الضلالة.

أما السائرون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم فينسبون كل نجاحاتهم إلى الله عز وجل، ويعتبرون أنفسهم مستخدَمين فيما يقومون به من خدمات، فيملأَهم شعور بالحمد والشكر لله تعالى المالك الحقيقي لكل الجماليات.. إنهم لا ينكرون الإرادة الجزئية، ويعتبرونها على مستوى الشرط العادي سببًا للأفعال الإنسانية، ولكن لا ينسبون التأثير الحقيقي إليها، ولا ينسون مطلقًا حقيقة أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء، ولذلك فهم لا ينكرون الإرادة الجزئية كلّية، ويقدّرونها بقدرها، ولكن يعتبرون إرادة الله فوق كلّ شيء.

إن هؤلاء السعداء المحظوظين السائرين تحت المشعلة التي أوقدها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبالون بعدم التواؤم بين السبب والنتيجة، غير أنهم لا يقيّمون الأحداث بأسبابها الظاهرية فقط، بل يتحرون خلفية الأمر؛ وعليه يقطعون بالحكم السديد فيه، فهم يرون أن انبثاق النتائج العظيمة من أسباب صغيرة أمارة كبيرة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، حتى إن ربنا سبحانه وتعالى يعدّ رفع الأيدي بالدعاء له سببًا، ويبني عليه أشياء عظيمة.

فمثلًا قد تدعون الله قائلين: “اللهم اجعلنا من أهل القبول في السماء والأرض”، ثم تنظرون حولكم فإذا بإخوانكم الذين انتشروا في سبيل الخدمة في كل بقاع العالم قد وضِع لهم حسن القبول حيث ذهبوا، رغم أنهم لم يتعرفوا جيّدًا على البلاد التي رحلوا إليها ولا على لغتها وثقافتها، فإنهم يجدون أهالي هذه البلاد يرعونهم ويحتضنونهم.. وهكذا لا يمكن تفسير هذه النتيجة بالجهود التي بذلتموها؛ وإنما تُفَسَّرُ بأن الله تبارك وتعالى لم يردّ دعاءكم، واستجاب لكم.

ولكم أن تفكروا في كل هذا بالنسبة للأسس الإيمانية الأخرى؛ فمثلًا ليس بالإمكان أن يحمل الإنسانُ أفكارًا مستقيمة متوازنة دون أن يتبع النهج النبوي. ففي حالة عدم اتباع الضوابط التي وضعها الأنبياء عليهم السلام فيما يتعلق بحقيقة النبوة فستظهر بعض الادعاءات التي تشي بالغلو والمبالغة في هذا الشأن، بل قد يهمّ البعض وهم أهل التفريط ويصف الأنبياء -حاشا لله- بسعاة البريد، وأن مهمتهم تنحصر في توصيل الكتاب المنزّل عليهم إلى الناس، وألا مكان لسنتهم القولية والفعلية في التشريع، ويدّعي الآخرون وهم أهل الإفراط أن الذات الإلهية -حاشاه- كانت في حاجة للأنبياء حتى تعبّر عن نفسها.

ولا جرم أنه طالما لم تعتمد مثل هذه المسائل على الخبر المتواتر، وهُجر طريق أهل السنة العام وسُلكت المنعطفات فستظهر انحرافات أخرى.

فبدون تعاليم الأنبياء عليهم السلام يتعذر على الإنسان أن يبين موقفه الصحيح في بعض القضايا مثل: كيفية العبودية لله، ونوع الأعمال التي جعلها الله عبادةً وطاعةً وقربًا منه، وعلى ذلك فالإنسان في حاجة ماسة إلى أطياف الوحي النورانية للتعرف على كلّ هذه المسائل، فلا يكون الإنسان مؤدّيًا للعبادة على وجهها الأمثل إلا بهذه الأشكال التوقيفية التي أمر الله بها، إذ لا مجال للعقل في تأويلها أو تبديلها، والإنسان لا يستطيع بمفرده أن يبتدع أشكال العبادة الجديدة، بل لو افترضنا أنه ابتدع أشكالًا أقسى وأشدّ من أشكال العبادة التي أرشد إليها الأنبياء حتى يتقرب إلى الله أكثر ويعبده كما يعتقد بشكلٍ أفضل فلن يجدي كل هذا نفعًا ألبتة، بل سيدخل في زمرة “المغضوب عليهم والضالين” الذين ورد ذكرهم في سورة الفاتحة، ومن ثم لا سبيل للاهتداء إلى الحقيقة والثبات على الطريق المستقيم في القضايا المتعلقة بالإيمان والإسلام سوى اتباع نهج النبي صلى الله عليه وسلم.

هل بنهج الأنبياء أم بسبيل الطغاة والمستبدين؟!

ولنضرب مثالًا على ذلك من المسائل المتعلقة بالحياة الاجتماعية أو الإدارية: فمثلًا عندما يتولى أحدُهم منصبًا يعتقد ثقة بعقلِه وخبرته أو سلطته أنه يستطيع القيام بالعمل وحده دون حاجة إلى استشارة أحد، ولا يقبل إلا ما يراه هو، معتقدًا أنه مصيبٌ في قراراته، وتمنعه أنانيته وكبره من استشارة غيره؛ فمثل هذا الإنسان -وإن كان مؤمنًا- فقد فضّل سبيل المستبدين على نهج الأنبياء.

فنبينا صلى الله عليه وسلم؛ رغم أنه مؤيَّدٌ بالوحي، ومرتبطٌ بالرسالة التي جاءه بها جبريل الأمين، ويرى ما وراء السماوات، فإنه يستشيرُ أصحابه ولا يُجبِرُ أحدًا على شيءٍ دون أن يأخذ برأي أهل الحل والعقد من أصحابه رضوان الله عليهم، بل كان أحيانًا ما يُعرض عن رأيه تقديرًا لرأي أصحابه وتقعيدًا لضوابط الاستشارة، وخيرُ مثالٍ على ذلك ما حدث يوم أُحُد، إذ إنه تنازل عن رأيه بالتحصن في المدينة والدفاع عنها لصالح رأيِ أصحابه القاضي بالخروج إلى أُحُدٍ وملاقاة الأعداء هناك.

وقد وقع الأمر نفسه في شيء بسيط مثل تأبيرِ النخلِ، ففي هذه الحادثة ترك النبي صلى الله عليه وسلم تطبيق الأمر إلى الصحابة قائلًا: “أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ[2]، والحقّ أنه صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيفية التصرف في مثل هذه الأمور؛ ولذا لو قال أحد أصحاب المقامات الرفيعة بعد أن استشار من حوله: لقد فكرت في هذا الأمر مرارًا وتكرارًا، ورأيت فيه هكذا، ولكن أنتم بلا شك أعلم”؛ فقد انتهج سلوكًا يتوافق مع نهج النبي صلى الله عليه وسلم. أجل، إن هذا النهج يتطلب التخلي عن النرجسية والأنانية، واحترام الإنسان لآراء الآخرين ومشاعرهم أكثر من احترامه لمشاعره وآرائه نفسه.

فيجب على الإنسان أن يحدِّد منذ البداية أيَّ الطرق يتبع، ويراجع نفسه وينظر هل هو بأفكاره ومشاعره وأحواله وحركاته يتبع سبيل الفراعنة والمستبدين أم يتبع نهج الأنبياء؟! وفي اعتقادنا أن النهج الوحيد الذي يجب سلوكه والتمسك به هو نهج الأنبياء العظام، ثم نهج الصحابة رضوان الله عليهم الذين تحرّوا الدقة البالغة في اتباعهم، وبلغوا الدرجة المثلى في تمثيلهم.

 الممثلون المباركون لنهج النبي صلى الله عليه وسلم

لا جرم أن أكثر مَن فهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم ومثّله على الوجه الأكمل هم الخلفاء الراشدون رضوان الله تعالى عليهم، فقد طبقوا الإسلام بأبهى صُوَرِهِ وأنقاها، ولذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى الأخذ بسنته والسير على خطى الخلفاء الراشدين من بعده، فيقول: “فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[3]، بل إنه يدعونا بقوله “عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ” إلى التمسك بسنته صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، وألّا نحيد عنها أبدًا.

وفي حديث آخر يشير النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم إلى قدر سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم بقوله: “خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ[4]، فمن لم ير الذين يعيشون في خير القرون ولم يسِرْ على هديهم فلن يقدر على فهم نهج النبي صلى الله عليه وسلم فهمًا صحيحًا، وسبيلُ فهمِ الإسلام حقًّا وتفسيره صدقًا هو الرجوع إلى فهم هؤلاء العظام في هذا الشأن، والالتزام بتطبيقهم له دون خلل، ولذا يقع على المؤمنين ومرشدي هذا العصر أن يُحبِّبوا إلى الناس الخلفاءَ الراشدين وآلَ البيت وسائرَ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم دون تمييز.

أما أفضل ممثلين للنهج النبوي بعد الصحابة رضوان الله عليهم فهم علماء السلف، وعلى رأسهم الأئمة أصحاب المذاهب الفقهية الذين لم يكن لهم هَمٌّ سوى الفهم الصحيح للدين، فبينوا أيَّ الأشياءِ التي يمكن تفسيرها وكيف يمكن، ووضعوا العديدَ من الضوابط التي يمكن من خلالها فهم النصوص، وكما بُعث مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم بجاهزية خارقة لإنارة الإنسانية، فكذلك كان الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، فقد اختصّهم الله تعالى بمؤهلات خاصة، وبفضلهم لم يعد هناك أيُّ أمرٍ مغلقٍ في القضايا الدينية، وانتقل الدين إلينا غضًّا طريًّا كما فهمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وعلى ذلك فلا بدّ من التعرف على الجهود العظيمة التي بذلها هؤلاء المجتهدون العظام لفهم نهج النبي ومعايشته، وعلى ما قدّموه من خدمات في هذا الميدان، وألّا نقصّر في احترامهم وتوقيرهم والاقتداء بهديهم.

ولكن هذا كلّه لا يعني تجاهلَ ظروف العصر الذي نعيش فيه، أو الفصل بين أحكام الدين والمسائل التي تقع في العصر الراهن، بل يجب الاستفادة مما يأتي به الزمان من مستجدات وتكييفها وتهيئتها عند اللزوم؛ بشرط التمسك بالضوابط الأساسية في الدين، فضلًا عن السعي إلى استنباط المبادئ المهمة من الأحدث الواقعة في زمانهم، وتطبيقها بما يتواءم مع ظروف عصرنا الراهن.


[1] صحيح البخاري، المرضى، 19؛ صحيح مسلم، الذكر، 10.

[2] صحيح مسلم، الفضائل، 141.

[3] سنن الترمذي، العلم، 16؛ سنن أبي داود، السنة 5؛ سنن ابن ماجة، المقدمة، 6.

[4] صحيح البخاري، الشهادات، 9؛ صحيح مسلم، فضائل الصحابة، 210.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.