وجهة نظر لقراءة أحداث عهد الصحابة قراءة صحيحة

وجهة نظر لقراءة أحداث عهد الصحابة قراءة صحيحة

سؤال: كيف كانت عَلاقة سيدنا عليٍّ (رضي الله عنه) بالخلفاء الثلاثة الآخرين؟ لا سِيَّما أن هناك بعض الدوائر تزعم أن اختلافات خطيرة كانت بينه وبين الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين، فما حقيقة الأمر؟

الجواب: لكي يمكن تقييم الوضع تقييمًا صحيحًا لا بد أوَّلا من معرفة سيدنا عليٍّ والخلفاء الثلاثة الآخرين (رضي الله عنهم أجمعين) معرفةً جيدةً؛ لأن الأقاويل والكلمات التي تُثار على الساحة تتسبب في تفسيرات متباينة ما لم يُعرف هؤلاء الأشخاصُ العظام بعظمتهم ودقائقهم، ومن تلك التفسيرات يُتوصل إلى نتائجَ خاطئةٍ. ولْنحاولِ الآن أن نستعرض بشكل عامٍّ بعض الملامح من حياة الخلفاء الراشدين الباهرة حتى نعرفهم من قرب.

دُرّة تاج السلسلة الذهبية

إن سيدنا عليًّا واحد من أكثر الذين أقاموا فترة طويلة في تربية سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سواء قبل البَعثة النبوية أو بعدها، وقد تزوج بالسيدة فاطمة التي قال عنها والدها رسول الله: “فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَهَا أَغْضَبَنِي” (البخاري، فضائل الصحابة، 12)، وبهذا الزواج تأسست بينه وبين سيدنا رسول الله (عليه الصلاة والسلام) قرابة أخرى متميزة، وقد اختلف سيدنا الرسول الأكرم إلى بيتهما كثيرًا، وزارهما ليلًا حتى جلس مرة بينهما على فراشهما، واحتضن أحفاده وداعبهم، وكل هذا يعني أن سيدنا عليًّا وجد الفرصة السانحة له دائمًا ليتنفس حِسِّيَّاتِ ومشاعرَ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أضف إلى ذلك أن أحفاد رسول الله (عليه صلوات الله وسلامه) المباركِين وُلِدُوا في هذا البيت السعيد، ومنهم استمر نسله (صلى الله عليه وسلم)، فصار سيدنا الحسن أبا الأشراف، بينما صار سيدنا الحسين أبا السادات، ولذلك كانت لسيدنا عليٍّ مكانةٌ متميزةٌ تمامًا باعتباره جد كثير من الأقطاب العظام، مثل: أبي الحسن الشاذِلي، وأحمد الرفاعي، وعبد القادر الجيلاني، ومحمد بهاء الدين النقشبندي.

“لولا أبو بكر لذهب الإسلام”

إلا أن لكل من الخلفاء الراشدين الآخرين أيضًا خصائصَ تخُصُّهُ، فمثلًا حمايةُ سيدنا أبي بكر سيدَنا رسولَ الله وذَودُه عنه في مواضعَ معينةٍ أمرٌ مهم للغاية؛ فكونه (رضي الله عنه) أولَ من صدّق برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومواجهتُه المخاطرَ في الطُّرُق الخطرة الوعرة التي سار فيها برُفقة سيدنا رسول الله في أثناء الهجرة، وتصدِّيهِ للخطر عدة مرات عندما هُوجم رسول الله وقولُه مثلما قال مؤمنُ آل فرعون: “أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ” (سورة غافر، الآية 28)… كلُّ هذه حوادثُ ووقائعُ مهمةٌ للغاية؛ ولا يعلم قدر الجواهر وقيمتَها إلا الصائغُ الخبيرُ بها، ولذلك كان سيدنا عليٌّ في مقدمة مَنْ قَدَّرَ سيدنا أبا بكر إذ قال: “لولا أبو بكر الصديق لذهب الإسلام” (الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 358/3) كما عبر عن عظمته هذه في وقت آخرَ بقوله: “خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر” (أحمد بن حنبل: فضائل الصحابة، 76/1).

سورٌ منيع يَفْرُق الحقَّ من الباطل: الفاروق

إن لسيدنا عمر أيضًا خصوصياتٍ تفوَّقَ فيها على غيره، فقد كان (رضي الله عنه) كالسور المنيع في مواجهة كل أنواع حركات النفاق والشِّقاقِ التي هددت وَحدة الإسلامِ في فترة خلافته، بالإضافة إلى أنه كسر شوكة القوتين العُظمَيَيْن عالميًّا في عصره: الرُّوم والساسان، وكان وسيلة لأن يعتنق كثيرٌ من الناس الإسلامَ؛ ولمَّا استسلمت إيران جَرَّاءَ هزيمتها في معركة القادسية بدأت تُضْمِر حِقدًا وضغينة لسيدنا عمر، وقد عبر الأستاذ بديع الزمان عن قصدهم من مسلكهم بقوله: “لا لِحبّ عليٍّ بل لِبغض عمرَ”.

ونظرًا لأن سيدنا عليًّا عرَف فضائلَ هذين الخليفتين العظيمين، فقد اضطلع مدة خلافتهما بالمهمة التي أطلقنا على من قام بها لاحقًا اسم “شيخ الإسلام”، أي إن هذين الخليفتين كثيرًا ما استشاراه فيما احتاجا إلى الإفتاء فيه، لا سيّما أن هناك الكثيرَ من المسائل سأله سيدُنا عمر عنها وتعلم حكمها منه، وتلك الحادثة المنقولة في كتب الحديث جديرة بالنظر، لأنها تُظهر العلاقة بين سيدنا عليٍّ وسيدنا عمر (رضي الله عنهما): حين قال سيدنا عمر وهو يقبّل الحجر الأسود: “إني أعلم أنك حجر، لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتُك” (البخاري: الحج، 50؛ مسلم: الحج، 250) قال له سيدُنا عليٌّ ببساطة شديدة: “إني أشهد لسمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: “يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَلَهُ لِسَانٌ ذَلْقٌ، يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ بِالتَّوْحِيدِ.” فهو يا أمير المؤمنين يضرّ وينفع”، فقال عمر: “أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم يا أبا حسن” (الحاكم: المستدرك، 628/1). إنهم أناس يعرف بعضهم بعضًا أحسن المعرفة ويُقدِّر كل منهم الآخرَ أفضل التقدير كما هو واضح من تلك الحادثة.

“لَو كَانَ لِي ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهُ“

لسيدنا عثمان (رضي الله عنه) أيضًا عمق ورقة متميزة، فقد زوَّجه رسول الله بإحدى بناته، فلما ماتت زوَّجه بثانية وقال (عليه الصلاة والسلام): “لَو كَانَ لِي ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُهُ، وَمَا زَوَّجْتُهُ إِلَّا بِالْوَحْيِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ” (الطبراني: المعجم الكبير، 184/17) وحكمُ سيدنا عثمان وتدبيرُه شؤون الدولة في جَوٍّ من السلم والأمن مهم جدًّا لنفهم عظمته رضي الله عنه، لا سيّما في فترة دخل فيها الفكرُ الخارجيُّ عالمَ الإسلام.

أعماق متميزة وفضائل متميزة

يمكننا القول إذن: إن لكل واحد منهم جوانبَ يفوق فيها الآخرين، لِأنه (كما هو معلوم)  قد يترجح المرجوح على الراجح في بعض الأمور، فالصحيح إذن تناولُ كل واحد منهم بشخصيته ووضعه وقيمته الذاتية ومكانته عند الله، والاعتقادُ بأن كل واحد منهم يمثل خصوصية مختلفة من خصوصيات سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا السبب فقد لُقِّبَ سيدنا أبو بكر بـــ”الصديق”، وسيدنا عمر بـــ”الفاروق”، ولقب سيدنا عثمان بـــ”ذي النورين”، ولُقّب سيدنا عليٌّ بعدة ألقاب مثل: “الأسد الغالب، باب مدينة العلم، سلطان الأولياء” وكل واحد من هؤلاء فريدٌ لا يمكن الوصول إلى مرتبته بالنظر إلى الخصوصيات التي يختص بها، ومع أن استخدام كلمة “متعال” للبشر ليس صحيحًا، إلا أنه يمكن القول إنهم يمتلكون تجهيزًا مختلفًا من حيث جوانِبُهم التي لا تدرك ولا تُجتاز؛ فمثلًا إنهم متفردون متميزون في خلافتهم الراشدة، لا أحد يشبههم فيها، إن كل واحد منهم يزن العالم أجمع من حيث القيمةُ، وذلك باعتبار الكثير والكثير من خصائصهم التي لن نستطيعَ إحصاءها هنا، يكفينا أن نذكر أن رسولنا الأكرم (عليه الصلاة والسلام) ذكر هؤلاء الخلفاءَ الأربعة العظام على رأس العشرة المبشرين بالجنة.

ادعاءات متناقضة وافتراءات واهية

حينما ننظر إلى كل هذه الأمور بنظرة كلية شاملة نجد أن إظهار سيدنا عليٍّ وكأنه كان مخالفا ومعارضا لسيدنا أبي بكرٍ وعمرَ على وجه الخصوص، وادعاءَ تمثيله (رضي الله عنه) الحقَّ وغيرِه الباطلَ إهانةٌ لسيدنا عليٍّ قبل أي أحد، لأن بطل الشجاعة والجسارة هذا الذي لا يَهاب المخاطر لا يمكن أن يخضع لسيدنا أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) في مسألة لا يراها من الحق في شيء، إنه مغوار يمضي إلى الموت بطيب نفس وراحة قلب كما حدث في خيبرَ، يُعزى إلى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن جبريل أخبره بأن “لَا سَيْفَ إِلَّا ذُو الْفِقَارِ وَلَا فَتَى إِلَّا عَلِيٌّ” (ابن عساكر: تاريخ دمشق، 201/39، 71/42)؛ إذن فادعاءُ أن إنسانًا كهذا جامَل كلًّا من سيدنا أبي بكر وعمر وداراهما احتقارٌ وإهانةٌ لرُوح سيدنا عليٍّ (رضي الله عنه)، ولذلك تنبغي الإشارة إلى تناقض هذه الادعاءات.

ومن جهة أخرى، إذا دُرست المسألة من حيث إن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) اختص ساداتنا أبا بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم أجمعين) بالقرب منه ظهر أن الآراء السلبية المزعومة فيما يتعلق بهؤلاء الذوات تمثل إهانةً لسيدنا رسول الله في الوقت ذاته، لأنه سينتُج عن مثل هذا الادعاء أن سيد السادات (عليه ألف ألف صلاة وسلام) لم يَخْبُر -حاشا وكلَّا- هؤلاء الناسَ على الإطلاق، وأنه لم يعلم شيئا قط أيضا مما حاكوه من ألاعيب -حاشاهم من ذلك- وهو ما يعتبر سوء أدب عظيم بحقه عليه أفضل السلام؛ في حين أن معرفته مَنْ حوله معرفةً جيدةً، وتوظيفه إياهم وفقا لذلك يمثل بعدًا مهمًّا من أبعاد فطانته العظيمة، لقد كان (عليه أكمل التحية) إذا ما نظر إلى وجه إنسان نظرة واحدة حدد على الفور وبفطنة تفوق كل أنواع الدهاء أين وفي أي عمل يصلح هذا الإنسان، ويكلفه بالمهمة وَفقًا لذلك.

أجل، إن ادعاء أن الرسول الأكرم (عليه الصلاة والسلام) المؤيد بالوحي لم يتمكن من معرفة من عاشرهم ونادمهم منذ بداية أمره حتى اللحظة التي سينتقل فيها إلى الآخرة وأنه عجَزَ عن أن يستنبط المعاني الصحيحة من أحوالهم وسلوكياتهم، إنما يأتي نتيجة خطأ منطقي فادح جدا؛ أما ما يقتضيه المنطق والفكر المستقيم في هذا الموضوع فإنه يتمثل في قَبول من رضي عنهم سيدُنا رسول الله واحترامِهم؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثُ كثيرةٌ في فضائل الصحابة الكرام، وفي كتب الحديث فصولٌ مستقلة خاصة بها، فلَفَتَ مفخرة الإنسانية (عليه الصلاة والسلام) الأنظار إلى مكانة الصحابة الكرام التي لا تُدرك بقوله: “إن أَصْحَابِي بمنزلة النُّجُومِ في السماء، فأي ما أخذتم به اهتديتم” (البيهقي: المدخل، 162/1؛ الديلمي: الفردوس بمأثور الخطاب، 160/4).

وخاصة أن سرد أفكار سلبية بحق شخصين أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهما فقال: “هكذا نُبعث يوم القيامة” (الترمذي: المناقب، 38)، كما قال في وقت آخر: “مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ” (الترمذي: المناقب، 47) إنما ينبع من عجز المعترض عن معرفة هؤلاء ومعرفة رسول الله، هذا بالإضافة إلى أن سيدنا رسول الله (عليه الصلاة والسلام) بشّرهم بالجنة، كما أنه تزوج بنت سيدنا أبي بكر وبنت سيدنا عمر، وزوّج اثنتين من بناته (صلى الله عليه وسلم) من عثمان وبنتًا من عليٍّ، وبهذه الطريقة أسَّس بينه وبينهم قرابة أخرى متميزة؛ وإنْ نُظر إلى المسألة من زاوية كتاب “فصوص الحكم” لمحيي الدين بن عربي تبين أن كلًا من التزوّج والتزويج يدل على معنى مختلف من جهة تأويل الأحاديث، غير أنني لن أدخل في هذه الأمور، وسأحاول التعبير ببساطة عن المسألة نظرًا لكوننا أناسًا عاديِّين لا نفطن إلى المعنويات كثيرًا.

انعكاسُ انحرافٍ صغير في المركز على الخط المحيط

على الرغم من كل هذا انحرف بعض الناس في تقييمهم للخلفاء الراشدين في فترة معينة، ونظرا لأن مثل هذه الأمور لا تَلفِت النظر كثيرًا في المركز فإنها لم تُدرك في أول الأمر، إلا أن انحرافًا صغيرا في المركز مثل هذا كبر في الخط المحيط، حتى وصل مع مرور الزمان مرحلة عارضَ فيها بعضُهم سيدَنا عليا واتهموه -حاشاه- بالكفر، بينما البعض الآخر أفنوا حَيَوَاتهم بمعاداة أبي بكر وعمر بدعوى حبهم عليًّا (رضي الله عنهم أجمعين)، وكي يقيموا عداواتهم هذه على أساس وسند فقد استغلوا اسم سيدنا عليٍّ، بل إنهم تجاوزوا وأفرطوا في الأمر حيث وصفوا هذا الشخص العظيم بأوصاف لا يقبلها هو أبدًا، ونتيجة لهذا ظهرت مجموعة من المذاهب الباطنية التي بلغت بالمسألة إلى الحلول والاتحاد، وكان هذا النوع من الادعاءات الباطلة الملفقة بحق سيدنا عليٍّ (رضي الله عنه) يقف وراء ادعاءات “المهدية” التي ظهرت في أماكن مختلفة من العالم، والكثيرِ جدا من المذاهب الباطلة التي ظهرت منذ المرحلة الأولى مثل حسن الصبَّاح والقرامطة والإسماعيلية والنُّصيرية.

وهناك حديث شريف[1] فيما يتعلق بالموضوع –وإن كان ينتقد من ناحية معايير الحديث- يُخبر فيه رسول الله (عليه الصلاة والسلام) أن فرقتين ستهلِكان في عليٍّ رضي الله عنه، إحداهما سوف تُؤلِّهه -حاشاه-، أما الثانية فستكفّره -حاشاه- من أجل مسألة بسيطة جدا فتُعاديه وتحاول قتله؛ وقد جاء اليومُ الذي ازدرى فيه الفُرْسُ كلًّا من سيدنا أبي بكر وعمر لإدخال الفتنة في الإسلام، بل إنهم بالغوا في العداوة لدرجة أنهم أطلقوا عليهما: “الجِبت والطاغوت”  كما افتروا على أُمّنا عائشة رضي الله عنها أيضا.

الرموز الثقافية التي تنمي الحقد والكره

إن الذين يعيشون هذا الانحراف في يومنا الحاضر لا يتحدثون عن تلك الأشياء القبيحة في كل مكان وعلى مرأى ومسمع من الجميع، لعلهم يقتربون إلى المسألة من زاوية الأحوال الراهنة والعلاقات بين الدول، وربما الوضع العام للعالم الإسلامي، إلا أنه حين يُنظر إلى عبارات الحقد والكره التي عجزوا عن كتمها في أنفسهم فتَفلَّتَتْ من ألسنتهم جرَّاء بعض الحوادث يتضح أنهم لم يستطيعوا أن يطرحوا من أنفسهم هذه القذارات، وأنه سيشق عليهم أن يفعلوا هذا باعتبار المُنَاخ الثقافي الذي نشؤوا فيه والمصادر التي نهلوا منها، وذلك لأنهم طوّروا مجموعة من المنهجيات وألفوا كتبًا في هذا الموضوع، فتشكلت عقيدتهم وقناعاتهم العامة في هذا الاتجاه؛ إذا ما نُظر إلى كتبهم يتبين أنهم جعلوا الإمامة واحدا من أسس الإيمان الخمسة، وعلى هذا ينبغي أن يكون الإمام من نسل عليٍّ رضي الله عنه، ولا يمكن أبدا أن يكون شخص آخر إمامًا؛ واعتبروا مثل هذه المسائل الفرعية مسائلَ متعلقة بأركان الإيمان فتسببوا في اختلافات مرعبة جدا.

إن كانت حقيقة العلوية حبَّ عليّ رضي الله عنه والارتباطَ بأهل البيت فإننا جميعا علويون، وكتبُنا في التصوف وعالمُنا الأدبي شاهد على هذا، وعند تناول هذه الآثار ودراستها يظهر أن كلا منها يمتلئ من أوله إلى آخره بمحبة أهل البيت؛ ليس من الصحيح أن تُتجاهل المسائلُ المتعلقة بالأصول بينما تطرح المسألة بجهتها الخاصة بالفروع.

قد ذكرت من قبل مرارًا أني تربيت بحب عليٍّ (رضي الله عنه) باعتبار المناخ العائلي الذي نشأت فيه، وكان هو يتبادرُ (رضي الله عنه) إلى ذهني مباشرة ما إن يُقال “البطل”، وكان يتجسد في ذهني إنسانا يقطف في مرة واحدة خمسين رأسا إذا ما سلَّ سيفه في ساحة الحرب؛ فإن كان هذا هو ما يحكم على مشاعري فمن الطبيعي أن أكون مجنونا بسيدنا عليّ، لقد تربع حب عليٍّ في روحي وفي خلايا عقلي لدرجة أنني عانيتُ محاولا أن أضع عليّا مع الخلفاء الثلاثة في الصف نفسه فأحقق التوازن في هذا الموضوع.

مفاتيح الحب تفتح أصدأ الأقفال

أما ما يجب فعله اليوم على الرغم من كل ما وقع في الماضي فهو مَدُّ أيدينا للجميع دون تفريق بين علويّ ونسطوريّ وسريانيّ، والإحسانُ إليهم، وبهذا يمكننا إبطال تأثير الأمور السلبية التي يمكن أن تستغلها بؤر الظلام الداخلية والخارجية؛ وقد قلت فيما مضى بشأن المشكلة المتعلقة بشرق تركيا: لا بد أن تُوفر الإمكانيات لأن تُبرَز من جديد تلك المروءةُ المكنونة في روح أمتنا وطبيعتها، وأن تُجعل هذه الأنشطة دائمة بإحداث تغيير صيغي مستمر؛ فيمكن مثلًا تنظيمُ فعاليات مختلفة في تلك المِنطقة استفادة من الليالي المباركة، فإن كنتم بإحيائكم ليلة في أحد الجوامع تنثرون النور على ليلهم وتنيرون الظلام، فهذا يعني أنكم تضطلعون بفعالية مهمة في سبيل العثور على نقطة مشتركة لفتح القلوب؛ وإن عُيِّن إلى هذه المنطقة ذوو البصيرة من المحافظين ومديري الأمن والأطباء والدعاة ورجال الدين، واجتهدوا هم لتضميد جراح المجتمع، فستفشل بمرور الزمان كل هذه المؤامرات، ينبغي معالجة المشكلات بمفاتيح الحب التي تفتح كل باب، بأسلوب مولانا جلال الدين الرومي وبنظام يونس أمره وبرحابة ضمير عالمية. أجل، إن كان هناك شيء يقدر على حل المشكلات من جذورها فهو استيعاب الجميع وفتح قلوبنا لهم، وبهذا يمكننا فتح القلوب كلها.

قد تقمعون المشكلات مؤقتا حين تسعون لحلّها بالقوة، إلا أنه لا يمكن الحديث عن مشكلة بشريَّة حُلّتْ تماما بالقوة، ربما تقمعون المشكلة من جهة ما باستخدام القوة إلا أنها تظهر مجددا من مكان آخر وبشكل آخر؛ ويمكن القول إن الفتن تضم في جنباتها نوعًا من “التناسخ”، فستواجه الإنسانيةَ بأشكالٍ وأوصافٍ جديدة إلى أن يُقضى عليها تماما؛ ومن ثم فالقوة تمثل -في جانب منها- واحدا من أعظم الموانع التي تعترض إعمال العقل والمنطق إعمالا تاما، يعني أنكم حين تفكرون في حل مشكلة ما بالجبر والقهر على الآخرين وقمعِهم، تعجزون عن استخدام عقلكم ومنطقكم استخداما كاملا؛ نعم، إن لوجود القوة حكمة، إلا أنه يجب أن تكون دائما تحت توجيه العقل والمنطق والحكمة والفراسة وتخضع لسيطرة الضمير والإنصاف. وأظن أن التصرف والتحرك بهذا الفهم في حل مشكلة انتقلت إليكم عبر التاريخ إنما يعني أنكم دخلتم في طريق حل يُبشّر بالأمل.

[1]  عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيكَ مَثَلٌ مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَبْغَضَتْهُ يَهُودُ حَتَّى بَهَتُوا أُمَّهُ وَأَحَبَّتْهُ النَّصَارَى حَتَّى أَنْزَلُوهُ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَيْسَ بِهِ» ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ مُطْرٍ يُفْرِطُ لِي بِمَا لَيْسَ فِيَّ، وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ يَحْمِلُهُ شَنَآنِي عَلَى أَنْ يَبْهَتَنِي. (مسند أبي يعلى 406/1)