شعور العبودية

شعور العبودية

سؤال: يقول الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي: “إن وظائف العبودية وتكاليفَها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجةٌ لنعمة سالفة”[1]، فإلى أيّ نوع أشار الأستاذ النورسي بهذا القول من شعور العبودية؟

الجواب: إننا نستخدم مصطلحات “العبادة والعبودية والعبودة”؛ تعبيرًا عن مراحل ومراتب أداء العبودية إلى الله تعالى، فالعبودة هي أداء العبادات والطاعات بأعماقها وأبعادها، مع مراعاة شروطها الظاهرية والباطنية؛ وبتعبيرٍ آخر: هي أداء العبودية على مستوى القلب والروح، وهي بذلك تعبّر عن ذروة الأمر.

ربما لا يستطيع بعضُنا الوصولَ إلى شعور العبودية من هذا النوع؛ لأن مثل هذا الشعور منوطٌ باستشعار العبادات كلية؛ فمثلًا الصلاة، قد يستطيع أيُّ مؤمنٍ أن يؤديها مراعيًا شروطَها وأركانها؛ ولكن لا يتسنّى للجميع تحقيقُ هذا الأمر مع استشعار نشوة المعراج وكأنه يحلّق في السماوات العلى؛ حيث إن ذلك مرتبط باستشعار روح الصلاة بحقٍّ من البداية إلى النهاية؛ وهذه هي العبودة.. أما العبودية فتُطلق على ما يأتي في الترتيب السابق للعبودة، والعبادة تُطلق على أعمال معينة نؤديها لله تعالى اقتضاءً لعبوديّتنا له.

وأيًّا كان الاسم عبادةً أم عبوديةً أم عبودةً؛ فلا ينبغي للإنسان أن يقنع بعبوديته لله حيث يراها كافيةً وينتظر من ورائها مقابلًا عظيمًا. أجل، قد يُحرز الإنسان في الحقيقة الشيء الكثير بعبوديته؛ ولكن ليس من الصواب أبدًا أن يقايض العبدُ ربه بما يؤدي من عبادات له تعالى، بل يجدر به أن يقيّد كلَّ الأعمال التي يؤديها باسم العبودية بشعور الحمد والشكر العميق، وهذا ما يعبّر عنه بديع الزمان سعيد النورسي بقوله: “إن وظائفَ العبودية وتكاليفها ليست مقدمةً لثوابٍ لاحق، بل هي نتيجةٌ لنعمةٍ سالفة”؛ بمعنى أن الصواب في أن نعدَّ العبودية شكرًا لله على النعم التي أنعمَها الله سلفًا، وليس عملًا سنؤجَر عليه لاحقًا.

عدم تقييد العبادات بالأجر

ولمزيد من التوضيح نقول: إننا نحاول الإيفاء بتكاليف عبوديتنا لله تعالى من خلال صلاتنا وزكاتنا وصومنا وحجنا، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.. ولكننا في الوقت ذاته نرغب مقابل عبوديتنا لربنا أن تُعمَّر دُنيانا، وأن نمتلك سكنًا دافئًا كركنٍ من أركان الجنة، وأن نوهب أولادًا يُحيطون بنا ويغمروننا بالحيوية والمرح، وأن تُوسَّع أرزاقُنا، وتُيسّر أمورُنا، إلا أن التشوُّفَ لمثلِ هذه الأمور مقابل العبودية يجانبه الصواب.

دع عنك أداء العبادة من أجل إحراز النعم الدنيوية، فإن مجرد الاعتقاد بأن العبادات التي نقوم بها هي مقابل نعيم الجنة، والتشوّف إلى اكتساب هذا النعيم عن طريق العبودية إنما هو مخالفٌ من ناحيةٍ ما لشعور العبودية؛ لأنه ليس بالإمكان إحراز مثل هذه النعم الأبدية بعمرٍ قصيرٍ أنفقْنا ثلثَه في النوم، وثلثَه مع الأهل والعيال، والبعضَ الآخر في الاشتغال بالأمور الدنيوية، فمحالٌ أن نقابلَ نعيمَ الجنة بما نقوم به من أعمال، ولا يظنّنَّ أحدٌ أن نعيمَ الجنةِ حقُّ مكتَسَبٌ بما يقوم به من أعمال صالحة.

فقد جاء في الأثر عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: “خَرَجَ مِنْ عِنْدِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ آنِفًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنَّ لِلَّهِ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ عَبَدَ اللَّهَ تَعَالَى خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ فِي الْبَحْرِ عَرْضُهُ وَطُولُهُ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا فِي ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا وَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهِ أَرْبَعَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَأَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عَيْنًا عَذْبَةً بِعَرْضِ الْأُصْبَعِ تَبَضُّ بِمَاءٍ عَذْبٍ فَتَسْتَنْقِعُ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَشَجَرَةَ رُمَّانٍ تُخْرِجُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً فَتُغَذِّيهِ يَوْمَهُ، فَإِذَا أَمْسَى نَزَلَ فَأَصَابَ مِنَ الْوضُوءِ وَأَخَذَ تِلْكَ الرُّمَّانَةَ فَأَكَلَهَا ثُمَّ قَامَ لِصَلَاتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ وَقْتِ الْأَجَلِ أَنْ يَقْبِضَهُ سَاجِدًا وَأَنْ لَا يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ وَلَا لِشَيْءٍ يُفْسِدُهُ عَلَيْهِ سَبِيلًا حَتَّى بَعَثَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ.

قَالَ: فَفَعَلَ فَنَحْنُ نَمُرُّ عَلَيْهِ إِذَا هَبَطْنَا وَإِذَا عَرَجْنَا فَنَجِدُ لَهُ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

فَيَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.

فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي.

فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.

فَيَقُولُ: يَا رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي.

فَيَقُولُ الرَّبُّ: أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي.

فَيَقُولُ: رَبِّ بَلْ بِعَمَلِي.

فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ: قَايِسُوا عَبْدِي بِنِعْمَتِي عَلَيْهِ وَبِعَمَلِهِ، فَتُوجَدُ نِعْمَةُ الْبَصَرِ قَدْ أَحَاطَتْ بِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَقِيَتْ نِعْمَةُ الْجَسَدِ فَضْلًا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَدْخِلُوا عَبْدِي النَّارَ.

قَالَ: فَيُجَرُّ إِلَى النَّارِ فَيُنَادِي: رَبِّ بِرَحْمَتِكَ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ.

فَيَقُولُ: رُدُّوهُ فَيُوقَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَيَقُولُ: يَا عَبْدِي مَنْ خَلَقَكَ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا؟

فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ.

فَيَقُولُ: كَانَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِكَ أَوْ بِرَحْمَتِي؟

فَيَقُولُ: بَلْ بِرَحْمَتِكَ.

فَيَقُولُ: مَنْ قَوَّاكَ لِعِبَادَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ؟

فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ.

فَيَقُولُ: مَنْ أَنْزَلَكَ فِي جَبَلٍ وَسَطَ اللُّجَّةِ، وَأَخْرَجَ لَكَ الْمَاءَ الْعَذْبَ مِنَ الْمَاءِ الْمَالِحِ، وَأَخْرَجَ لَكَ كُلَّ لَيْلَةٍ رُمَّانَةً وَإِنَّمَا تَخْرُجُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَقْبِضَكَ سَاجِدًا، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ؟

فَيَقُولُ: أَنْتَ يَا رَبِّ.

فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَذَلِكَ بِرَحْمَتِي وَبِرَحْمَتِي أُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ، أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ، فَنِعْمَ الْعَبْدُ كُنْتَ يَا عَبْدِي فَيُدْخِلُهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.

قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّمَا الْأَشْيَاءُ بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَا مُحَمَّدُ“[2].

ويقوّي هذا الأثر قوله صلى الله عليه وسلم: “لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ“.

قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ: “لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ“[3].

والواقع أن هذه الحقيقة التي عبّر عنها الأستاذ النورسي في بداية الحديث تستند على مثل هذه الأحاديث، لذا فعلينا ألا نستهدف من العبادات والطاعات التي نقوم بها إحرازَ سعادةٍ دنيوية أو أخروية، فنحن لا نؤدي عبادتنا لله كي يرزقَنا بالأولاد أو الأموال، بل وحتى لا ينبغي أن يكون الغرضُ من وراء هذه العبادات الوصولَ إلى نعيم الجنة والفوزَ بالسعادة الأبدية، ولا يحدونا أملُ الحصولِ على جزاءٍ دنيوي أو أخروي عند أداء العبودية.

بل إنه من الوقاحة وسوء الأدب مع الله عز وجل النظرُ إلى المسألة على أنها حقٌّ مكتسب؛ لأن عدم القدرة على رؤية نِعَمِ الله وما وراءها من يد الرحمة؛ يُعتبر نوعًا من العمى واختلال النظر، ولو نظرنا إلى المسألة من حيث المنطق الرياضي فسيظهر أنه من المستحيل الفوز بالنعيم الأبدي بعبادة قليلة تؤدَّى خلال عمر قصير، فما يليق بالمؤمن هو أن يعتبر عبادته شكرًا لله تعالى على النعم التي أسبغها عليه في الماضي، أما التشوف إلى المكتسبات الدنيوية والأخروية فهو أملٌ ورجاء من رحمة الله تعالى.

زخات النعم

وإننا إذا ما نظرنا حولنا واستغرقنا في التأمل الأنفسي والآفاقي فسنجد أن هناك كثيرًا من النعم التي أسبغها الله تعالى علينا، حتى إنه يستحيل مقابلة هذه النعم بالعبادات التي نؤديها، والقرآن الكريم يلفت الانتباه إلى هذا بقوله: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (سورة إِبْرَاهِيمَ: 14/34).

فقد خلقَنا الله ولم نكُ شيئًا، وأخرَجَنا إلى عالم الوجود، وهذا شرفٌ بحدِّ ذاته، ولو تعمَّقْتُم قليلًا بخيالكم فسترون كم أن العدم بئرٌ من الظلام، والوجودَ نعمةٌ من الرحمن، وبعد ذلك لم نُترَك في الوجود هكذا، بل أصبحنا من ذوي الحياة، ثم لم نقف عند مستوى النبات والحيوان، بل ارتقينا درجة، وصرنا بشرًا ذوي عقل وشعور، وعليه شكَّلْنا الكونَ وتدخلْنا في الأشياء بعقولنا وإراداتنا ومعارفنا التي وهبها الله لنا من علمه الإلهي المحيط، ولم يقف الأمر عند ذلك بل اختصّنا سبحانه وتعالى بفضله وأسبغ علينا نعمة الإيمان.

وإذا فكرنا في النعم المتداخلة التي أكرمنا الله بها فسنفهم بشكل أفضل مقدار الدَّينِ المعلّق في رقبتنا حمدًا وشكرًا لله سبحانه وتعالى.

وهكذا يجب أن نستشعر كلَّ هذا بعمقٍ عند أداء عبوديتنا لربنا سبحانه وتعالى، وعندما نستدير وننظر إلى الوراء نفكر في المراحل التي تخطيناها حتى وصلنا إلى الحالة التي نحن فيها، ونضع في اعتبارنا ونُصْبَ أعيننا ما حظينا به من النعم، ونؤدي وظيفة العبودية بهذا الشعور، وينبغي لنا أن نفكر في أن العبادات التي نقوم بها أو التي سنقوم بها إنما هي شكر على النعم التي وُهِبَتْ لنا سابقًا، فضلًا عن ذلك فليس بالإمكان أداء وظيفة الشكر بحق، ولكن من الضروري أن نحمل هذا الشعور على الأقل.

استعظام العمل هو السبيل للسقوط والتردي

إن الإنسان إذا قدَر على أن يقول: “إنني مكلفٌ بأداء العبودية شكرًا لله على ما أسبغه عليَّ من نعمٍ لا تحصى، ولو استطعتُ لَصلّيتُ مائةَ ركعة كلَّ ليلة كما كان يفعل بعضُ السلف الصالح”؛ فإنه بذلك يكون قد وصل إلى أفق مهمٍّ للغاية، وعليه بعد ذلك أن يرفع أكف الضراعة إلى الله عز وجل كما كان في قصّة “الجرة المشروخة” ويقول: “اللّهم إن السلطنة تليق بالسلطان، والفقر يليق بالفقير”.. أملُنا في الله تعالى أن يتفضّل علينا بالثواب الجزيل على هذا القدر القليل من العبادة.

ولا يُقصد بكلامي هذا ألا نسأل الله الجنة ولا نستعيذ به من النار، فإننا ندعو الله دائمًا وبعد كل صلاة نسأله الجنة ونستعيذ به من النار، ونعتبر ذلك من مقتضيات عبوديتنا لله سبحانه، ونسأله تعالى ذلك اعتمادًا على لطفه ورحمته بنا.

وإن الإنسان الذي يسير على نهج النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به هو الذي يسأل الله أن يدخله الجنة ويبعده عن النار، فهذا شيء كامنٌ في طبيعة الإنسان، لكن لا ينبغي له أن يجعل العبادات التي يؤديها علةً غائيةً لدخول الجنة أو النجاة من النار، ولا أن يربط العبادات بذلك؛ لأن غايتنا الأهم هي نيل رضا الله تعالى، وما عدا ذلك يتضاءل إزاءه، ولهذا فإن أسباب العبودية ترجع إلى أمر الله، والنتيجةُ التي تُرجى منها هي رضا الله، والثمرةُ التي تُجنى من ورائها هي الفوز في الآخرة، غير أنه يجب ألا يغيب عن بالنا أن هذه الثمرة تتحقق بلطف الله وفضله لا بِعَملِنا نحن.

وعندما ينظر الإنسانُ إلى المسألة على هذا النحو يتخلص من الغرور والأنانية، وينسلخ من كل سلوك مشِين كأن يدخل -حاشا لله- في مساومةٍ مع الله جل جلاله، وعندها يستصغر العبادات التي يقوم بها، ويطمح أن يصل دائمًا إلى عبودية أسمى وأعلى وأجلّ، ولو حتى أمضى لياليه كلها في العبادة، وصام نهارها، وأنفق ثروته كلها في سبيل الله؛ فلا يظنَّنَّ أبدًا في أنه أعطى عبادته حقّها، إذ إنّ استعظام العبادة سبيلٌ إلى السقوط والتردي، ويجب أن نعلم أن ما أديناه من عبادة أم عبودية أم عبودة -مهما كانت عظيمة- فهي صغيرةٌ في واقع الأمر، والله تعالى هو الذي يعظّم هذه الصغائر بفضله وكرمه ويمنّ علينا بالنعيم الأبدي، إنه عز وجل واسع الرحمة والمغفرة.


[1] بديع الزمان سعيد النورسي: الكلمات، الكلمة الرابعة والعشرون، ص 408.

[2] الحاكم: المستدرك على الصحيحين، 4/278.

[3] صحيح البخاري، المرضى، 19؛ صحيح مسلم، صفات المنافقين، 71-78.