الوقتُ وقتُ الهَمّ والحزن
سؤال: إننا في عالمنا المعاصر دائمًا ما نتعرَّضُ ونواجِهُ حوادث تكوي القلوب، ومع ذلك فلا نرى أنفسنا نتأثَّر بها كما ينبغي، فما هي أسبابُ عجزِنا عن التأثُّرِ هذا؟ وكيف ينبغي لنا أن نتصرَّف حتى نكون عبادًا مؤمنين حسَّاسين؟
الجواب: ثمة دوائر مختلفة يرتبط بها الإنسان بدءًا من أقربها منه وصولًا إلى أبعدها عنه؛ بحيث يُشكِّل الفردُ النقطة المركز في تلك الدوائر، وبتعبير آخر: فإنَّ من الطبيعةِ والفطرةِ أنَّ أوَّلَ ما ينشَغِلُ به الإنسانُ نفسُهُ، وما ذُكِرَ في القرآن الكريم من التعبير عن بدءِ الإنسانِ بنفسِهِ في طلبِ المغفرةِ: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 41/14)، و﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ (سُورَةُ نُوحٍ: 28/71) يُشِيرُ في أحدِ معانيهِ إلى هذا الموقفِ الإنسانيِّ الطبيعيِّ الفطريِّ.
ومع هذا كلِّه فإنَّه يستحيل للمؤمن الحقيقي أن لا تؤثِّر فيه الحوادث والوقائع التي تقع حولَه، بل الحقيقة أنَّ كلَّ من نالَ نصيبَهُ من الإنسانية -بما في ذلك المؤمن- يشعرُ بالقَلَقِ والانزعاجِ من الأزمات والآلام التي يعيشها الآخرون، فيتألَّـمُ مثلًا مِنْ تعرُّض الأبرياء للظُّلم والعنف، ومن تَقاتُلِ الناس وتناحرِهم فيما بينهم؛ وذلك لأن جميعَ الناس بالنظر إلى الأصل هم أغصانُ شجرةٍ واحدةٍ أو أوراقُها أو أزهارُها أو ثمارُها، يخاطبنا القرآن الكريم قائلًا: ﴿يَا بَنِي آدَمَ﴾، ولذلك فإنَّ كلَّ إنسان لم يفقدْ ضميرَه يهتَمُّ بآلامِ وهمومِ أخيه الإنسان باعتبارهما أبناء أبٍ واحدٍ هو آدم عليه السلام، حتى إنَّ نفسه تتلوَّى ألـمًا وقلبُهُ ينزفُ دمًا بقدرِ عمقِ حسِّ وشعورِ الشفقة عنده، أما المؤمن الحقيقي ذو مشاعر الرحمة والشفقة الواسعة فإنَّه يحسّ من أعماقه بالقلقِ والوجعِ متأثِّرًا بما يعيشه الناسُ أجمعون من مظالم وأزمات ومضايقات؛ وفي مقدِّمتهم بنو دينِهِ ووَطَنِهِ وأمّتِه الذين يتَّجهون معه إلى نفسِ القبلة، ويشاركونه ذاتَ القيم، ويعيشون معه على أرضٍ واحدة؛ فيشعرُ بأن النارَ أينما تسقط وتشتعل بسبب المظالم والأزمات إنما تسقطُ في داخله هو فتحرقه وتأكله.
“القلق كناقوسٍ يدقُّ في منتصفِ الليل”
يستحيل ألَّا ينزعج وألَّا يأرقَ من يعونَ وضعَ العالم الإسلاميِّ ويدركون الحيلَ والمؤامرات التي تحاكُ ضدَّ المسلمين في يومنا هذا بصفةٍ خاصّة وهم يواجهون كلَّ هذه الحوادث الجارية، كما يستحيل ألَّا يتلوَّوا ألمًا وقلقًا، وألَّا ينشغلوا بذلك ليلَ نهار؛ فممَّا يؤسَف له سعيُ الآخرين في الماضي والحاضرِ إلى إذكاءِ نارِ الخلافِ والفرقةِ بين شتّى المجتمعات الواقعة في الجغرافية الإسلامية، والتي تعايشت في وحدة وتعاون مرَّ العصورِ وكرَّ الدهورِ، وأقامت علاقات جيدة مع بعضها البعض دون خِلافاتٍ ولا صِدامات قط على قرون عدة، نأسَفُ عندما نرى الأغيارَ اليوم ينثرون بذور الخلاف والنزاع فيما بينها، ويلعبون بها شرَّ الألاعيب، ويُدبِّرون المؤامرات للإيقاعِ بتلكَ الطوائفِ المجتمعية بعضها في بعض.. وإنَّ مَنْ يستبيحون كل السبل والطرق ويستحلُّونها كي يتمكنوا من الحفاظ على وضعهم القوي في التوازنات الدولية يواصلون تنفيذ حيل التفريق هذه دون تباطؤ حتى يتسنى لهم الحكم والإدارة بسهولة ويسر؛ إعمالًا للمقولةِ الشهيرة “فَـرِّقْ تَسُدْ”.
وبينما يتناحَرُ المسلمون يتدخَّلُ الأغيارُ بينهم لاعبين دورَ الحَكَم والفيصَلِ فَيُسَيطِرون على مصادِرِ ثرواتهم، وكما أن هؤلاء الأغيار أثاروا العداءَ بين مختلف العناصرِ في دولةٍ عالميةٍ ضخمةٍ؛ فمزَّقوها شرَّ ممزَّقٍ وانقضُّوا على ثرواتها الطبيعية؛ فإنّهم اليوم أيضًا يلعبون نفس الألاعيب تحدوهم عينُ الرغبات والآمال. أجل، إنَّ من أشعَلوا نيران الاختلافِ والفُرقةِ بين الطوائفِ المسلمةِ في وقتٍ ما يواصلون اليوم أيضًا تنفيذَ نفس الشرور والخبائث بمكرٍ وخبثٍ أكثر من ذي قبل.
علاوة على أن مناعةَ المسلمين الذين يتناوشون مع بعضهم البعض ضَعُفت ضعفًا شديدًا فيما يتعلَّقُ بحماية القِيَمِ والمعايير الإسلامية؛ وذلك نتيجةً لنخر الدُّودِ في جسدِ الأمة، ومن ثمَّ فإنَّ طرحَ الناس المتنازعين فكرةً متوازنة ومحاكمةً عقليّة سليمةً أمرٌ في غايةِ الصعوبةِ بل يمكن القولُ باستحالتِهِ؛ لأن الكتلَ والأفراد المتصارعة فيما بينها تبتعد عن المنطقية وتنزلق في هوّة العاطفيّة، بل إن بعضًا منها يتحرَّك وفقًا لغرائزِهِ وشهواتِهِ كالبهائم كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 179/7)، وهم لا يفكِّرون ولو للحظةٍ واحدة: “لماذا كلُّ هذه النزاعات والصراعات؟ وما الذي تُكسبه للعالم الإسلامي؟ وكيف نسمح لأحدٍ أن يُسوِّد نفسَه علينا متقمِّصًا دورَ الحَكَمِ بحجة أننا نتصارع فيما بيننا؟”، فإنَّ مَنْ لم يشعُرْ بالحزن والأسى إزاءَ كلِّ هذه الحوادث ولم يستطع تحليلَها ورؤيةَ ما وراءها من خلفيّات وما لها من أبعادٍ؛ فإنَّه فَقَدَ بعضَ المشاعرِ الإنسانيّة.
“إن لم تبكِ فاستحيِ من الضَّحِكِ على الأقلّ!”
من يستطيعُ الحفاظَ حقًّا على صحوةِ ضميرِهِ يتأثَّرُ بما يراه في عوالم أخرى حتى غير عالم الإنسان كعالم الحيوان وعالم النبات بل وحتى عالم الجماد، واحتواءُ كلِّ شيء في تلك العوالم بَرْهَنَةً على رب العالمين سبحانه وتعالى؛ واهتمامُ كلِّ ذي وجدانٍ بكلِّ ما في الكون باعتباره خليفة الله في الأرض؛ وتألمُه بألم الجميع؛ كلُّ ذلك يُـمثِّلُ ضرورةً إنسانيّة.
ولقد تأثرتُ تأثُّرًا بالغًا أمام مجموعةٍ من المناظِرِ شاهدتُها قبل سنوات في أفلامٍ وثائقيّة، من بينها على سبيل المثال أنَّ بضعة أسود أحاطت بثور من فصيلة “البَيسون”؛ فقفز أحدها على ظهره، وأمسك الآخرُ بقدمهِ، بينما قَبَضَ الثالثُ على رقبتِهِ وأكلُوه، وهذا المنظرُ لا يُفارِقُ عينيَّ أبدًا، ومع أنه كان لهذا الحيوان المسكين قرنان إلا أنّه لم يكن لديه ما يستطيعُ فعلَه في مواجهة مخالب الأسودِ القويّة وأسنانها القاطعة، وحين أرقدُ في فراشي وألتفُّ بِلِحافي أنصب في خيالي أحيانًا الفخاخ والشِّباكَ لتلكَ الأسودِ التي مزَّقَتْ ذلك الثورَ فيما شاهدته من مناظر قبل ربما عشرين سنة، وأجهز سهمي، وأرميها به قائلًا: “لماذا مزقتم حيوانًا مسكينًا كهذا؟ هذا ما تستحقونه”.
فضلًا عن أنَّ عالم الحيوان فيه سلسلةٌ غذائية؛ فالحيوان الذي خلقه الله تعالى آكلًا للّحوم يواصل حياته بأكلِ غيره من الحيوانات، وكما أنَّ الحيوانات آكلةَ النباتِ تتَّجِهُ إلى تناوُلِ الأعشابِ بمجرَّدِ أن تضعَها أمهاتُها؛ فإنَّ الحيوانات آكلةَ اللحومِ تتَّجِهُ إلى البحث عن لحمٍ لها؛ لأن فطرةَ كلٍّ منهما تقتضي ذلك، كما أننا أيضًا نَسْتَلُّ السكِّين حينًا فنذبحُ باسم الله ما نريدُ أكلَ لحمِهِ من الحيوانات المحلَّلَةِ، ولكنه وبالرغم من تقبُّلِنا هذا الوضع الطبيعيّ عقليًّا إلا أننا نتأثَّرُ حِسِيًّا ونتألم لتمزيقِ بضعة حيوانات مفترِسَةٍ أحدَ الحيوانات البريئة، ونشعرُ بالضيق لذلك، ونتأذى منه، وأظنُّ أن كلَّ من يُصْغِي إلى صوتِ ضميرِهِ سَيَشْعُرُ بنفسِ المشاعِرِ في هذا الموضوعِ.
والآن فإنه يستحيلُ بالنسبةِ للإنسانِ الذي يتأذَّى من هذا النوعِ من المشاهِدِ -حتى وإن كانت متعلِّقة بالحيوان- ألَّا ينزعجَ حين يشاهد أناسًا يُقتَلُون وألَّا يتلوى ألمًا وحزنًا لهذا، ومِنْ ثَمَّ فإن عدمَ التأثُّرِ والانفعالِ تجاهَ الحرائق الموجودة سواء في بلدنا نحن أو في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى؛ إنما يدل على تجرُّدِ الإنسان من الإنسانيّة، أما من لم يفقد إنسانيَّتَهُ فإنه سيتأثَّرُ يقينًا أمام هذه السلبيّات الحاليّة.
ويقول الشاعر “محمد عاكف” وهو يتحدث عما يتعرض له المسلمون:
ما يُنْتَهَكُ اليومَ هو عِرْضُنا، ومَنْ يُذبَّحُ هم أولادُنا؛ فانتَبِه يا ذا الغرورِ
إن لم تبكِ أيُّها الصفيقُ فاستحيِ على الأقلِّ من الضحكِ والسرورِ
كما أنَّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحدِ أحاديثِهِ الشريفة: “مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ“[1]، أي إن كان لِأَيِّ إنسانٍ نصيبٌ من الإيمان فعليه -على الأقلّ- أن يشعر بألم لما يتعرّض له المسلمون من مزعِجات ومنغِّصات، فمن لا يؤلمه هذا لا يفكِّر في تطويرِ مجموعةٍ من الحلول البديلةِ من شأنها أن تقضي على تلك المشكلات المشارِ إليها.
غير أنه ينبغي لكلِّ فردٍ في هذا الصَّدَدِ أن يَنْظُرَ إلى نَفْسِهِ أوَّلًا، وأن يتجنَّبَ إساءةَ الظنِّ بالآخرين، ومَنْ يدري.. فربما يكونُ ظهورُ مَن حولنا وكأنّهم متبلِّدو الحِسِّ غير متأثِّرين بالأمرِ ينبعُ من كونهم أناسًا صبورين وجَلِدين للغاية، كما أنهم ربما يشعرون من أعماقِهم بما نشعرُ نحن به من أَلَـمٍ ومرارةٍ، وربما تنزِفُ قلوبُهم حزنًا منهم على ما يتعرَّضُ له المسلمون من مشكلات وأزماتٍ، غير أنهم لقوَّةِ أنظمتِهم المناعيّة والمقاوِمَةِ لا يتأوَّهون من ألَـمِ البلاء، ولا يَئِنُّون حتى لا يُعلِموا الأغيار شيئًا عن حالهم.
نعرةُ الحربِ من شأنِها أن تقضي على الإنسانيّة
هناك جانبٌ مهمٌّ من المسألةِ فيما يتعلَّقُ بالشعور بالهمّ والحزن أمام تلك الابتلاءات والمصائب التي يعيشُها الناس، ألا وهو: أنه كما لا يصحّ عدمُ الشُّعُورِ بالأمرِ وعدمُ الاهتمامِ به؛ فلا تصحّ أيضًا إجراءاتٌ كالصراخ والصياح والضجيجِ والتدميرِ والحَرْقِ أو اللجوءِ إلى العنف؛ لأن ردَّ فعلٍ كهذا يُطرَحُ كَحَلٍّ للمسألةِ يخالف الإسلام والإنسانيّة، وبالتالي فإنَّه يجبُ ألا يُسمح بتاتًا بمثل هذه النوعية من التصرفات؛ بل ينبغي السعي إلى الحيلولة دون أنواع الوحشية عن طريق إعلاء القيم الإنسانية وإرسائها.
ومن أجل هذا فإنَّه إن كان لا بدَّ من ردِّ فعلٍ على المظالِمِ والتعدِّيات المرتَكَبَةِ فلا بدَّ من التأكيدِ في كلِّ فرصةٍ على أنَّ دينَنَا بريءٌ تمامًا من أحداثِ الإرهابِ والعنفِ التي تؤدِّي إلى قتلِ الأبرياء دون أن تُفَرِّقَ بين صغيرٍ أو كبير ولا رضيعٍ ولا طفلٍ ولا رَجُلٍ ولا امرأةٍ ولا شابٍّ ولا شيخٍ عجوز، ولا بدّ من أن يُلام صراحةً ويُندَّدَ بمن يقومون بمثل هذه الأعمال، وأن يُحالَ دون انتشار فكرة استخدام العنف والقوّة الغاشمة، وينبغي السعيُ بقدر الإمكان إلى تصحيح مسارِ من يعيشون انحرافًا فكريًّا في هذا الشأن، وإنقاذُهم من طريق الضلالة، وبينما نفعل هذا من جانب؛ يجب من جانب آخر على عقلاء السياسيين وعلماء الاجتماع والفلاسفة والتربويين أن يجتمعوا ويسعوا إلى إحلالِ لغةِ السلام والحوار محلَّ لغةِ العُنْفِ والحربِ، كما يجبُ بواسطة العقل المشترك تكوينُ مناخٍ سلميٍّ ولغةٍ سلميّة في مواجهة نعرات ودعوات الحرب التي ستشعلُها بعضُ الدول من أجلِ مصالحها وأطماعها الشخصية، ولا بدَّ من تطوير المشاريع وإعداد الخططِ البديلة لمواجهةِ كلِّ أنواع الإثارات والمحاولات الساعيةِ لإشعالِ فتيل الحرب العالمية الثالثة، التي لو اندلَعَت فمن المحتمَلِ أن تُحرِقَ بِلَهِيبِها العالم بأسره من أقصاهُ إلى أقصاهُ، ويجب أيضًا التنفيذ المباشِرُ لما يمكن تحقيقُهُ من تلك المشاريع والخُطَطِ، وإلا فإن الأسلحةَ الحديثةَ الفتَّاكةَ وحربًا عالميةً سَتُسْتَخْدَمُ فيها تلك الأسلحةُ ستقضي على الإنسانية جمعاء.
[1] الطبراني: المعجم الأوسط، 151/1، 270/7؛ الحاكم: المستدرك، 356/4.
- تم الإنشاء في