ب- نبينا صلى الله عليه وسلم وجوامع الكلم

البُعْد الآخر لفطنة رسولنا صلى الله عليه وسلم هو أنه أوتي جوامع الكلم.

أجل، لقد كان سيد البلغاء. وكيف لا وقد اختاره الله ترجماناً لكلامه ولكلماته. لقد أبدع الكثيرون حتى الآن الكثير من أروع الكلام وأبلغه وأجمله، كل حسب درجته وموهبته، ولكن هناك عمق آخر ولذة أخرى وحلاوة أخرى في كلام سيد البلغاء صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان بيانه عذبا، وتعابيره ساحرة تدير الرؤوس وتخلب الألباب وتخفق لها القلوب حتى لتكاد تقف، وتستسلم له العقول، وتحيا به المشاعر الإنسانية وتنمو، وتعلو الأرواح به وتسمو وترفرف. لقد وهبه الله تعالى قدرة بيان جعلت مستمعيه المحظوظين يستمعون إلى بيانه الجامع الآسر للقلوب وكأن على رؤوسهم الطير، تغمرهم مهابته فينصتون له وقد انعقدت ألسنتهم وسحرت نفوسهم. عندما يتكلم ويسرد جواهر الحكم لا يملك أرباب العقول إلا الإنصات إليه. وعندما يصف الخير والجمال والصدق يأسر بحديثه العذب الخلاب الأرواح. وعندما يهاجم الشر والفساد بكلماته النارية يُغرِق الكفر والمنكر في مستنقعه ذاته. أما عندما يزأر ببراهين دعوته ورسالته يفرِّق خفافيش الظلام ويخرس أصحابَ الأرواح المظلمة.

كان صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية ما خصه الله من ألطاف ونعم إدراكاً واعياً. فكان لا يرى بأسا من إعلانها تحديثاً بنعم الله عليه لذا، نراه يقول: «أنا محمد النبي الأمي.»

«أُوتيتُ فواتح الكَلِم وجوامعه وخواتمه.»[1]

«إنما بُعثت فاتحاً وخاتماً وأُعطيتُ جوامع الكلم وفواتحه.»[2]

كان ببيانه الذي يشع نوراً وضياء يعلن أنه سيد خطباء الأولين والآخرين.

كان سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم بأنفاسه التي تحيي النفوس بلبلاً يشدو في روضة الحق... كلما شدا عبَّر عما في قلبه فتنساب الألحان الإلهية الساحرة من فمه... كلماته الرقيقة الشبيهة بأكمام الورود النضرة وزهوره المتفتحة على أنداء الصباح لم تكن تشبه زهور الآخرين. كانت كل كلمة له على مائدة أقواله نضرة يانعة وجديدة وطرية طراوة قطرة الندى. ولم تتيسر نعمة تذوق بيانه الساحر الأخاذ وفهم معانيه إلا لمن سعد بحضور مجلسه من المحظوظين الأوائل.

لقد حد سيد الفصحاء من جوهر الكلام سيفاً صقيلاً قام -بمجرد رسمه حلزوناً فوق الرؤوس- بمطاردة كل خفافيش البيان الكاذب والمزخرف، وفرت كل الأكاذيب إلى أقصى بلاد العنقاء.

وأسال من أودية البيان ينابيع وعيوناً حَوَّلت صحارى الجاهلية إلى رياض زاهرة، وشلالات هادرة بحيث وجد كل أصحاب القلوب المنفتحة على الإيمان أنفسهم في بحار هذه العيون المتدفقة نحو محيطات الأبدية والأزلية.

كانت كلماته نابعة من وراء الغيب... ولولا كلماته المضيئة بنور الوحي لبقيت العوالم في فوضى واضطراب وعماء. لقد أزال بسيف بيانه السِتار عن وجه الطبيعة وزيَّن كتاب الشريعة بنقوش أقواله. الكلام عنده كان بمثابة متاع الفارس، والسهم ذي الريش الذهبي في جعبته. ما زار مكاناً إلا وملأ بالجواهر حجر من يفهم الكلام حق الفهم، وشد قوسه وهاجم بفرسه مواضع الظلام. وعندما شاء الله أن يرسي -وللمرة الأخيرة- قواعد دولة بكلامه جاء بسيد البلغاء ليقوم بهذه الوظيفة وأعطاه ختمه وسكته.

كان كل فرسان الكلام منذ فجر التاريخ ممن تطلعوا إلى ماوراء أستار هذا العالم بمثابة أفراد كورس غنائي في تمجيد الله تعالى... أما هو صلى الله عليه وسلم فكان بمثابة قائد هذا الأوركسترا... وبمثابة رئيس الذاكرين في الحلقة القدسية بالأولياء والأصفياء... جاء فدوّى صوته في أرجاء الدنيا وترددت أصداؤه في جنبات العالم فهزته هزاً عنيفاً.

كانت كل ثمرة من الثمار المتزينة بكلماته والتي قدمها للإنسانية من المائدة السماوية مجنية ومهداة له من حديقة حبيبه وخالقه. ومن أكثر جوانب هذه الحديقة خصوصية وسرية وقدسية والتي لم يطلع عليها أحد من قبل، بل قُدِّمتْ له من مولاه كهدية خاصة، إذ لم ير هذه الثمار ولم يقربها ولم يلمسها أحد من قبل.

وعندما كان يجيش قلب هذا العندليب صاحب المكانة السامية ويغمره الوجد والهيام يبدأ بالشدو بأرقّ الألحان وبالغناء بأرق النغمات بأزهار تلك الحديقة الخاصة المقدسة... هنا كانت الألسن الأخرى تصمت... والأرواح تنصت... والقلوب تهيم... والنفوس تذهل أمام قطرات معاني كلماته البليغة الساحرة.

أجل، إن كلماته تشبه البحار التي تنثر اللآلئ على السواحل بأمواجها أو بالشلالات المنهمرة من الآعالي أو بالعيون الفوارة من الأعماق الآخذة بمجامع القلوب... فلا نستطيع قياس غنى أعماق هذه البحار ولا محتوياتها ولا ترجمة هذه الشلالات ولا بلوغ الذُّرَى التي تبلغها هذه العيون الفوارة أو الإحاطة بها.

لقد صرف المئات من الأدباء والمحققين أعمارهم في تدقيق جواهر كلامه والطواف حولها... وتوجه آلاف وآلاف من المفكرين إلى نبع الحياة هذا، وأفنى الكثير من الدهاة حياتهم في الغوص إلى أعماق معاني كلامه... ولكن معاني كلماته بقيت وراء أي نقطة تم الوصول إليها.

أجل، فكما لا تستطيع القطرة الواحدة تمثيل البحر بأكمله، وكما لا تستطيع الذرة الواحدة التعبير الكامل عن خصائص الشمس، لا يستطيع العلماء ولا الأولياء ولا الأصفياء الذين يمثلون جزءاً من الحقيقة المحمدية مهما كانوا كاملي الصفات بالنسبة للناس الآخرين أن يمثلوه التمثيل الكامل، ولا أن يعكسوا صورته بأكملها.

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أميته وعدم دراسته في المدارس مرشد كامل، بسبب متانة بنيته المادية والمعنوية وصفاء أحاسيسه ورصانة تفكيره وقلبه الواسع المنفتح والمتوجه نحو المعالي؛ فاستطاع بذلك تسلم الرسالة الإلهية كما هي، وحافظ عليها كما هي، وأبلغها للناس كما هي... فقد كانت فطرته وخلقته ميسَّرة لتنفيذ هذه المهمة، إذ تمت المحافظة على صفاء روحه وصانه الله من أي تأثير سلبي للتربية أو المعرفة البشرية ثم زينه بالوحي وأرسله للناس... هذا هو معنى النبي الأمي والمرشد الكامل الذي لم ير مدرسة ولم يتعلم من الناس.

لقد كانت طبيعته وسجيته وأحاسيسه الظاهرة والباطنة وعقله ومنطقه مهيئاً وصالحاً للقيام بوظيفة النبوة ومهامّها، حيث قام بنقل الوحي حتى أصغر تفاصيله ودقائقه دون تعريضه لأي تبديل أو تغيير، بل ينقل الوحي الإلهي للناس كما ينقل المنشورُ الضوءَ المارّ من خلاله لكي يكون ملائماً لعقول البشر.

هذه الرسالة الإلهية النابعة من أطهر مكان والمتدفقة إلى أطهر قلب بُلّغت للناس بألطف لسان وأفصحه وأنـزهه حسب قدرة العقل البشري واستيعابه. وكما أنها أمارة من أمارات النبوة وإشارة إليها فإنها في الوقت نفسه دليل من أدلتها، وحجة من الحجج الدامغة وزادُه أثناء قطعه لتلك المفاوز الموحشة والطرق الوعرة وبُراقُه[3] فيها.

وعندما كان يقدم للناس رسائل ربه كان يصرح في الوقت نفسه بنبوته ويعلن رسالته؛ وكذلك عندما كان يستعمل جواهر خزائن الوحي وأسراره الإلهية الساحرة في حل معضلات ومشاكل محدِّثيه وأصحابه، كان يستعمل الوحي الإلهي نفسه كسيف ماسي في إلزام خصومه وإفحامهم وإسكاتهم.

كان القرآن بالنسبة إليه كل شيء... كالهواء والماء... سلاحاً ودرعاً... حصناً وقلعة... وراية ترفرف فوق هذه القلعة... كان يتنفس بالقرآن، ويعلو به كالسحاب إلى الأعالي... يسرع به لنجدة الملهوف المحتاج مثلما تسرع قطرات الرحمة لري عطش المخلوقات وظمئها... ينافح به الظلام ويلوذ به من شرور الأشرار... يصول به ويجول، ويكون نوراً ينتشر في الآفاق.

علماً بأن سيد البلغاء، وسلطان الفصحاء وممثل الحكمة إضافة إلى كنـز العلم الإلهي الذي لا ينفد كان كثيراً ما يوجه إليه العديد من الأسئلة، وكان هناك العديد من المسائل والمشاكل والمعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي كانت تنتظر الحل والأجوبة الشافية من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان صلى الله عليه وسلم يقوم بإيفاء حق وظيفته النبوية هذه لأن القلب المحمدي الصافي كان المرآة المجلوة لعكس العلم اللانهائي، ومركزه ومنـزله ومهبطه وحديقته وبستانه. فكان يقوم بشرح القرآن الكريم فيقيد المطلق، أو يطلق المقيد، أو يخصص العام، أو يعمم الخاص، وذلك باستعمال أسلوبه الخاص وبيانه الفصيح علاوة إلى تبليغ رسالة القرآن. فهذه هي مهمة الرسول المبعوث إلى الناس كافة. وما كان بإمكان أي مصلح ومجدد ومرشد للإنسانية جمعاء ومبلِّغ للناس أجمعين إلا أن يكون هكذا.

في العهد الذي شُرِّف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بشرف النبوة كانت الفصاحة والبلاغة أروج شيء  في سوق الجاهلية. فقد كانت هذه الأمة -التي حكمت فيما بعد العالم بذكائها ودرايتها- أمة أديبة. لذا، فقد سحرها ما سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم من تلاوة للقرآن الكريم أو من حديث أو خطاب، واستمعت إليه مذهولة مفتونة به ومعجبة بما تسمعه منه. أما هو صلى الله عليه وسلم فقد فرض نفسه عليهم في كل فرصة، ولم يجد أعداؤه ما يَصِمونه به أو ما ينتقدونه به. ولو فعلوا هذا أيْ لو قاموا بتقديم أقل اعتراض أو نقد لما تأخر خصومه الموجودون حاليّاً من تناول ذلك الأمر وتضخيمه وتكبيره وإيصال ذلك إلى كل شخص وإلى جميع أنحاء العالم من أجل إزالة محبته من النفوس. وأمثال هؤلاء لا يتورعون عن تلفيق أحقر الاتهامات وأرذل الافتراءات حوله. ولكنهم مع تفتيشهم هذا لا يجدون شيئاً ضده. وأمام بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وفصاحته وقوة تعبيره لم يستطيعوا أن يقولوا له حتى ما قاله فرعون لسيدنا موسى عليه السلام.[4]

إن صوت من قال: «أدَّبني ربي فأحسن تأديبي» يهدر من فوق ذروة سامقة بشكل لا يملك معه الأصدقاء والخصوم سوى الشعور بالاحترام والإعجاب والتوقير له ولبيانه المملوء فصاحة وبلاغة.

كان من بين أصحابه الكرام العديدُ من أصحاب البلاغة أمثال لبيد، والخنساء، وكعب بن مالك وحَسّان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، والكثير من الخطباء أمثال أبي بكر وعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وابن عباس والعديد من الفقهاء وأصحاب الحكم... كل هؤلاء قبلوا به مرشداً وأستاذاً وهادياً لهم في كل مسألة وفي كل موضوع.

أما الذين جاءوا من بعده من كبار حفاظ الحديث وشراحه ومن عباقرة مفسري القرآن ومدققيه، ومن أعلام أئمة الفقه والمجتهدين والمجددين الذين سبقوا عصورهم، وآلاف الأولياء العظام والأصفياء والأبرار والمقربين من الذين كان لهم قصب السبق في عالم الأرواح وعلماء الكلام والمنطق، والعديد من العلماء الآخرين في كل فن وعلم، فقد رأوا في أحاديثه وكلامه مرجعاً أميناً وفياضاً صافياً دفاقاً لا يجف ولا ينتهي ولا ينفد، فراجعوه ولجأوا إليه ليشبعوا ظمأهم منه ويطفئوا جوعهم من هذه المائدة الربانية.

أجل، لقد كانت سُنَّته من الأمس حتى اليوم منبع المجتهدين الذي لا يضل وباب العلم الفسيح، والجناح القوي للسابحين في سماء المعرفة والنبع الصافي الرقراق لإلهامات الأولياء والأصفياء. فخلاصة علوم الشريعة، وكل طرق الصوفية وكل العلوم الكونية وأسرار القلب والوجدان نابعة من النبع الصافي لجواهر كلامه النوراني.

لقد بَيَّن بياناً واضحاً كثيراً من المواضيع اعتباراً من بدء الخليقة وخلق الإنسان وانتهاءً إلى يوم القيامة، يوم يساق المرء إما إلى الجنة أو إلى الجحيم... وتحدث عن القلوب المتفتحة للمعارف الربانية، وعن مشاهدتهم جمال الله في الآخرة... عن الإيمان والعقائد... عن أدق تفاصيل العبادات... تحدث في مواضيع عديدة، واستعمل في كل موضوع اللسان المناسب والبيان المناسب إلى درجة أننا إذا استثنينا القرآن فلن نجد بياناً مثل بيانه ولا فصاحة مثل فصاحته.

تكلم عن الله: ذاته وصفاته وأسمائه الحسنى بما يناسب هذه المواضيع الحساسة من دقة وتوازن، وعن القيامة والحشر والنشر وعن يوم الحساب وعن الجنة والجحيم فأعطى الأمل الممزوج بالخشية والرهبة المنقلبة إلى سعادة، وعن الملائكة والروح والجن والشياطين وعن أسرار الغيب الأخرى فكأنك تنظر إليها من وراء زجاج بلوري مضبب؛ وتحدث عن الإيمان وعن العمل، وعن الإخلاص في العمل وعن قابلية البذرة للنمو وقابلية التربة للإنبات وعن الحياة التي يهديها المطر وعن جمال الربيع الزاهر والزاخر بالألوان والعطور؛ فكأنك ترى أمامك لوحة مرسومة بريشة فنان عظيم... لوحة تعلم عندما تتأملها كيف تسمو بالإيمان فطرة الإنسان النظيف وكيف تتوسع وتنمو هذه الفطرة بالإسلام، وكيف تنقلب بالإخلاص إلى شجرة طوبى تظلل ما حولها.

تَعْلَم من بيانه أن الصلاة صديق مرافق للإنسان في جلوسه وقيامه، تطرد عنه وحدته وتنير دربه... وأن الوضوء شيء  يجري في عروق الإنسان مجرى الروح والدم... نهر أمام بيته يغسله من كل درن. أما الأذان والإقامة فشجرة باسقة... وهدير رعد قاصف يفزع الشياطين ويلقي في قلوبهم الرعب... أما للمؤمنين فروح وريحان يلف أرواح الذاهبين إلى الصلاة.

الزكاة والصدقة كقنطرة توصل بين الجماعات المتشتتة والمتقطعة الروابط، وكمادة تلتحم بها القطع المتكسرة فتصبح قطعة واحدة.

الصيام جنة يحفظ صاحبه فيكون باباً سريّاً في أسوار الجنة يساعده في الولوج إلى الجنة. ويكون لصاحبه ساقياً يقدم له شراب الكوثر.

الحج مثل خَيّاط يرتق الرتوق... ومثل غاسل يزيل البقع والأوساخ... ومثل مجلس كبير للشورى يجمع الناس على صعيد واحد.

الجهاد مثل فدائي منتصب القامة سد الطرق المؤدية إلى جهنم ومثل موظف استقبال يفتح لك أبواب الجنة ويقول لك مرحِّباً: تفضل بالدخول. ومثل أب رحيم يقيِّد أيدي المعاندين ويسوقهم إلى أبواب الفردوس. أما الذِكْر والدعاء عنده فمثل هاتف لاسلكي يقيم رابطة وعلاقة وحواراً بين المخلوق وخالقه. أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمثل موظف ينظم السير... مثل بواب أو حارس واقف على مفترق الطرق وعلى الأبواب ينظم المرور في الطرق أو الدخول من الأبواب.

أما صلة الرحم فمثل أم فتحت حضنها تنتظر، وتتحاسب مع الإنسانية وتتحدث معها وتقف منها موقف المدعي العام، وتبذل لها الوعود، وتمسك بتلابيبها لتحذرها من الانحراف... أي تتشكل هنا لوحة من الموزائيك الحي الرائع تسحر القلوب.

أجل، إن قيامه بشرح كل هذه الأمور وتصويرها تصويراً فنيّاً موضوع يحتاج إيضاحه إلى كتابة مجلدات في كيفية قيامه بذلك، والمواد الأولية التي استعملها في تصويره وفي نقشه وفي زينته، وطراز حركته وأدائه وقوة تصويره وقدرته البلاغية والموسيقية، كل ذلك دون تصنع ولا تكلف.

إذن، فلندع الشرح الدقيق والعميق لمثل هذه المواضيع المختلفة إلى أربابها والمتخصصين فيها، ولنتناول هنا بعض أحاديثه المباركة التي يعلمها الجميع لكي نشير إلى معانيها العميقة وقوة بيانها ورصانتها.

(1) تحليل باقة من الأحاديث

إن أبرز صفة في كلام نبينا صلى الله عليه وسلم هو أنه أوجز كلام قيل في موضوعه، وهناك آلاف الأمثلة الممكن إبرازها في هذا المجال، ولا يسعنا هنا إلا إيراد بعض هذه الأمثلة التي يمكن إيرادها في كل عصر كأنموذج على "جوامع الكلم". ولا ننسى هنا أن نذكر ونكرر بأن كل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة.

أ. بضع كلمات هي ذروة التوحيد

يورد الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم:

«يا غلام! إني أعلِّمك كلمات: اِحْفظ الله يَحْفظْك. اِحْفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. ولو اجتمعوا على أن يَضرّوك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رُفِعَت الأقلام وجَفَّت الصُّحُف.»[5]

إنه بهذه الجمل الموجزة الفياضة بالمعاني استطاع أن يشرح أعقد مواضيع القدر وتسليم الأمور لله في أسلوب سهل وبسيط. كما أوضح بكلماته القليلة معنى العبادة في مجال الدعوة والحركة.

بـ. الإنسان شخص مسافر

يروى عن ابن عمر رضي الله عنهم الحديث التالي:

«كُنْ في الدنيا كأنكَ غريب أو عابرُ سبيل وَعُدّ نفسَك في أهل القبور.»[6]

إن هذه الجمل الثلاث أوجز كلام في موضوع الزهد والتقوى وفي حفظ التوازن بين الدنيا والآخرة وأكثرها ثراء بالمعنى. ولوكانت هناك جملة أوجز من هذه فلا بد أن يكون هو صاحبها أيضاً.

إن الإنسان غريب في هذه الدنيا، فهو -حسب تعبير جلال الدين الرومي- ناي مقطوع من غابة القصب، ولأنه أبعد عن صاحبه الحقيقي، فإنه في أنين دائم طوال الحياة. الإنسان شخص مسافر... بدأ بسفره من عالم الأرواح إلى رحم الأم ثم إلى الدنيا فمرحلة الطفولة ثم الشباب فالشيخوخة فالقبر ومنه إما إلى الجنة أو إلى النار... ولكن يا ترى أيعي الإنسان أنه مسافر..؟

لو كان واعياً ومتذكراً على الدوام أنه مسافر لما تعثر في طريق الحياة ولما تهالك على لذائذ الدنيا التي لا تساوي شروى نقير، بل لسار في طريقه بقدم ثابتة مطمئنة. نعم، إن لم يَعُدّ الإنسان نفسه مَن أصحاب القبور، أي بتعبير القدماء "موتوا قبل أن تموتوا"،[7] ولم يمزج حياته بهذه الحقيقة السامية لا يستطيع أن يتخلص من دسائس الشيطان وحيله أبداً. أجل، يجب على الإنسان أن يموت من ناحية النفس الأمّارة بالسوء ومن ناحية شهوات الجسد حتى يحيا من الجانب الروحي.

أليس الذين يرون الحياة عبارة عن النفس وشهواتها فقط مساكين انسحقوا تحت أثقال الجسد؟

ﺟ. عاقبة الصدق والكذب

يروي البخاري ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن مسعود الحديث التالي:

«عليكم بالصدق، فإنّ الصدق يَهدي إلى البر، وإنّ البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يَصْدُق ويَتَحرَّى الصدق حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقاً. وإياكم والكذبَ، فإن الكذب يَهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار. وما يزال الرجل يَكذِب ويَتَحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً.»[8]

الصدق شعار الأنبياء، والكذب شعار الكفار والمنافقين. الصدق أساس مهم يحتضن الحاضر والمستقبل، والكذب لطخة سوداء على جبين الزمن. ليس هناك فرد واحد عاش سعيداً ووصل إلى السعادة الأبدية في ظل الكذب أبداً. وليس هناك فرد واحد مشى في طريق الصدق المنير وباتجاه السعادة الأبدية فأصابه نكد الحظ وشقي في الدنيا وفي الآخرة.

الكذب من أبرز أسس الكفر ومن أوضح علامات النفاق، وهو ادعاء مخالف لعلم الله تعالى. لقد خرّب الكذب كل شيء في أيامنا الحالية... خرب الناس وجعل الدنيا داراً ومسكناً للكذابين. إنه علة اجتماعية خطيرة ومفزعة إلى درجة أنك لو أعطيته حق الحياة وفتحت له أبواب الوطن والبيت والسوق والبرلمان والمعسكر، وأعطيته حرية التجول فيها لخابت الأمة وما أفلحت أبداً.

وعلى النقيض من هذا فإن الصدق أهم أسس الإسلام وأبرز صفة في الْخُلُق المحمدي وحجره الأساس والصفة المميزة للأنبياء وللأولياء والمحور الأساس للرقي المادي والمعنوي. الصدق صفة الملائكة والكذب صفة الشياطين. الأول صفة العبيد المكرمين عند الله، والآخر صفة الأرواح الخبيثة. الأول صفة فخر الكائنات عليه أكمل الصلوات وأتم التسليمات والآخر صفة الدجالين.

وكلمة "البرّ" تعني جماع الخير، وهي كلمة شاملة تعني صدق التفكير وصدق الحديث وصدق النية وصدق السلوك وصدق العيش... أي يمكن جمع الكثير من صور الخير تحت عنوانه وإرجاعها إليه.

أما كلمة "الفجور" فعلى عكس الكلمة الأولى تعني جماع الشر، ولأنها ضد كل صفات الخير والصلاح فهذا يعني أنها تعني كل الأفكار المنحرفة وكل الكلام المنحرف والسلوك المنحرف، فكأنها بذرة جهنمية.

وفي الحديث مقابلة بين "الصِّدِّيق" و"الكذاب". ففي الأول نرى الصدق وقد أصبح طبيعة وفطرة لديه فأصبح مثالاً للصدق. أما الثاني فقد عجن الكذب في طبيعته فأصبح من الكذابين المحترفين.

وقد استعملت صيغة المبالغة عند وصف كلتا الصفتين، فالذي نذر نفسه للصدق يكون رمزاً لصدق التفكير وصدق الحديث وصدق السلوك في الدنيا وفي الآخرة ورمزاً للقرب من الله، إن لم يكن اليوم فغدا. أما الذي ترك نفسه للكذب، فسيكون رمزاً لكذب التفكير وكذب الحديث وكذب السلوك في الدنيا وفي الآخرة، إن لم يكن الآن فغداً.

وهذان الطريقان أحدهما طويل والآخر قصير، أحدهما نير والآخر مضبب، أحدهما خطير والآخر أمين... هذان الطريقان لابد أن ينتهي أحدهما إلى الجنة والآخر إلى الجحيم. في كل محطة من محطات الطريق الأول هناك مكافآت وجوائز لصاحبه ثم ينتهي الطريق إلى الجنة. وفي الطريق الثاني الخيبة والسوء ثم ينتهي الطريق إلى جهنم وإلى الخسران الأبدي.

كنا قد ذكرنا هذا الحديث في موضوع صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم. غير أننا نريد أن نقف هنا على نتائج الصدق في الدنيا وفي الآخرة، وعلى أضرار الكذب على مستوى الفرد وعلى مستوى الحياة الاجتماعية، وكيف أن الحديث النبوي استطاع أن يغطي كل هذه المعاني في جمل قصيرة ومركزة.

أجل، إن المدقق لهذا الحديث فقط يدرك ويتأكد تماماً بأن جَمْع كل هذه المعاني الطويلة والمفصلة في مثل هذه الجمل القليلة والقصيرة وإظهار هذه المعاني بهذه الطريقة الساحرة للنفوس ليس إلا ميزة خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم. فما من أحد غيره يستطيع ذلك.

د. المرء مع من أحب

يروي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود الحديث التالي: «المرء مع من أحب.»[9]

إن شرح وإيضاح معاني هذا الحديث يتطلب مجلداً كاملاً على الأقل. فالمرء الذي تعثر وظل في منتصف الطريق... الذي لم يستطع السير تماماً وراء مرشده... الذي لم يستطع إنجاز ما كان يحب أن ينجزه... هذا الحديث هو بمثابة قدح كوثر لمثل هؤلاء المنكسرة قلوبهم. هذا الحديث يوضح أن الإنسان -سواء أكان في جانب الخير أم في جانب الشر- سيكون مع من أحب، فالإنسان هنا أو هناك يكون دائماً مع من يحب. فمن كان يريد أن يكون مع الأنبياء والصديقين والشهداء عليه أولاً أن يحبهم وبتعبير آخر فإن الذين يكونون يوم القيامة مع الأنبياء والصديقين والشهداء هم أولئك الأشخاص الذين كانوا يحبونهم في الدنيا. كما يسري معنى الحديث فيشمل الذين يمثلون الشر والفساد أيضاً؛ ومن ثم فإن الحديث المكون من جملة واحدة فقط يشمل كل هذه المعاني ومعاني أخرى كثيرة وبكل هذا الإيجاز الشديد. وليس هذا في وسع أحد إلا من كانت فطنته مفتوحة للإلهام الرباني والوحي الإلهي.

لقد كان نُعَيْمان يشرب الخمر أحيانا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يطبق عليه الحد الشرعي. نعم لقد كان ما يقترفه ذنبا، ولكن لـمّا تلفظ أحد الصحابة بكلمة توبيخ في حقه وسمع هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قطّب حاجبيه وقال: «لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم فوالله ما علمتُ إنه يحب الله ورسوله» [10] أي موصول القلب بحبهما.

فلمّا كان حب الله ورسوله يثمر المعية، فلا يليق أن يساء إلى المحب وإن زل. لأن قلبه يخفق بحب الله ورسوله. وهذا الحب يكفي لكي يحظى بشرف المعية، بشرط أن يؤدي الفرائض ويتجنب الكبائر كحد أدنى. لأن المرء مع من أحب.

ﻫ. التقوى

يروي الإمام أحمد بن حنبل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الحديث التالي:

«اِتّقِ اللهَ حيثما كنتَ وَأَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها وخالِق الناس بخُلق حَسن.»[11]

ليس هناك شيء آخر مثل الخلق الحسن يرفع الإنسان. فالخلق الحسن هو خُلق الله، والخلق الحسن هو التخلق بخلق الله تعالى.

فنحن أمام حديث يشرح التقوى وكيفية المحافظة عليها وهو موضوع يمكن أن يكتب في حقه المجلدات. ونظراً لأن هدفنا هو إعطاء بعض الأمثلة، فإننا لن نشرح هنا هذه الحقائق السامية المتعلقة بالتقوى.

و. كما تكونوا يُوَلَّى عليكم

في حديث آخر يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم.»[12] حسب نوعيتكم يكون نوع رؤسائكم، ومن أي نبع كنتم فرؤساؤكم محصول هذا النبع. هذا كلام يمكن أن تصنف فيه مجلدات وخاصة في موضوع الإدارة. وإذا سمحتم لي فسنتناول هذا الموضوع قليلاً بالشرح طبقا لحديث: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.»[13] فلكل واحد حدود لمسؤوليته... ويستمر هذا حتى نصل إلى رئيس الدولة الذي تشمل مسؤوليته كل البلد الذي هو على رأسه. غير أن حديث «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم» يكسب هذا الموضوع بُعدا آخر من زاوية القانون الاجتماعي.

أولاً: يقول الحديث منذ البداية للمواطنين إنكم في غاية الأهمية، لأن الذين سيحكمونكم لا بد أن يطرقوا بابكم ويكونوا في حاجة إليكم مهما كان الطريق الذي سيسلكونه في هذا، أي أنتم الذين تقومون برسم الطريق أمامهم.

إن لعلم الاجتماع قوانينه التي لا تتغير ولا تتبدل، فكما توجد لعلوم الفيزياء والكيمياء وعلم الفلك قوانينها الفطرية (أو شريعتها الفطرية) ومبادؤها التي لا تتغير، كذلك توجد لعلم الاجتماع قوانينه ومبادئه التي لا تتغير إلى يوم القيامة. فإذا رأينا الناس يسمحون بتواجد الشر ونموه فما ذلك إلا لأنهم سمحوا لهذا الشر أن يستوطن قلوبهم وصدورهم، فكان من الطبيعي أن يداروا ويحكموا بوساطة الأشرار... لأن هذا ناموس إلهي لا يتغير.

أجل، لنتساءل: هل يعيش الشر في نفوس الناس وهل يجد فيها تربة صالحة للنمو والانتشار؟ وهل ينبت الفساد في هذه النفوس؟ إن كان الجواب "نعم" فإن الله تعالى سيأتي لهؤلاء بحكام من نفس طينتهم، ليقوموا بإدارة هؤلاء الناس وحكمهم.

ثانياً: يقول هذا الحديث أيضاً إن القوانين والأنظمة ما هي إلا مدونات في السطور، وليس لها تأثير كبير، فلو اجتمع الناس وتعاونوا ليكتبوا أفضل القوانين فليس هذا مهمّاً، بل المهم هو مدى تطبيق هذه القوانين؛ لأن أخلاق هؤلاء الناس هي المعيار الأول، لأنهم إن كانوا على خلق وحَلُّوا مسائلهم وما يعرض لهم من مشاكل بصيغة أخلاقية فإن الذين سيأتون لإدارتهم لن يكونوا أشخاصاً سيئين. ولأنقل لكم هنا حادثة واقعية تتعلق بهذا الموضوع:

كان "طاهر أفندي" أحد النواب في المجلس النيابي الأول. وكان عالماً فاضلاً. وبينما كان النواب الآخرون منهمكين في إلقاء الخطب الرنانة في الساحات، كان طاهر أفندي يفضل لزوم الصمت. غير أن محبيه وأنصاره ألحوا عليه كثيراً لإلقاء خطبة في أحد الميادين وأقنعوه بذلك. ولكونه شخصاً لا يحب الثرثرة، بل يفضل الكلام الموجز المفيد فقد قال لهم في خطبته تلك:

"أيها الحاضرون! اعلموا أنكم منتخِبون وأننا منتخَبون ومجلسنا هو منتخَب إليه وإن ما قمتم به يدعى عملية الانتخاب. وكلمة الانتخاب مشتقة من كلمة "النخبة". والنخبة تعنى زبدة الشيء فلا تنسوا أن زبدة كل شيء ترجع إلى نوعية ذلك الشيء. ففوق الحليب تتكون زبدة الحليب، وفوق اللبن تتكون زبدة اللبن، وفوق مادة الشب تتكون زبدة الشب."

ويضاهي هذا الجواب الذي أجابه الحَجّاج بن يوسف الثقفي للشخص الذي حدثه عن عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ قال الحجاج:

"لو كنتم أنتم مثل أصحاب عمر رضي الله عنه لكنتُ أنا مثل عمر بن الخطاب."

ثالثاً: إن على كل إنسان أن يبحث عن التقصير في نفسه. فما دام كل إنسان يحامي عن نفسه ويدافع عنها فقط، ويبحث عن التقصير عند غيره، فلن يمكنه إحراز أي تقدم إيجابي. فلو لم يغير الناس أنفسهم فإن الله لا يغير ما بهم.[14] فإذا كان هناك فساد في الداخل فلابد أن يسري ذلك الفساد إلى كل مكان حتى يصل إلى القمة.

ويمكن أن نقول نفس الشيء حول صلاح الناس الداخلي واستقامتهم. إذن، يمكن القول بأن وضع ولاة الأمور مرتبط بوضع المواطنين ارتباط النتيجة بالسبب. ومن يدري ماذا يحتوي هذا القول الموجز من جواهر أخرى، وربما استطاع أهل العلم استنباط معانٍ أخرى أكثر سعة وعمقاً. فليس هناك قول بشري آخر يشير ويحث إلى وجوب بناء المجتمع بناء صالحاً بكلمات في غاية الوجازة مثل هذا القول. ولا عجب فإنه من صاحب الفطنة العظمى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الذي يحلق كل بيان له في سماء الفصاحة والبلاغة.

أجل، إنه يحتل أسمى مكان بين الناس جميعاً في ميدان البيان والفصاحة، فليس هناك من أديب يستطيع أن يبلغ تلك الذروة. صحيح أن أقواله ليست آيات من القرآن، ولكنها بمجملها تحمل صفة الإلهام، ولهذا السبب فإن جميع الأدباء والفصحاء -كما قلنا في بداية الموضوع- لن يصلوا إلى درجة الْخَدَمِ عنده.

لقد كان حَسّان بن ثابت شاعراً كبيراً دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه وأيده جبريل عليه السلام. ومع هذا فقد استطاعت الخنساء أن تجد ثمانية أخطاء في أربع أبيات من شعره... هذه الشاعرة العظيمة التي أسلمت عندما استمعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح كل همها هو الاستماع إلى سلطان البيان الذي سحرها كلامه إلى درجة أنها عندما بلغها استشهاد أربعة من أولادها في معركة القادسية لم تنطق بكلمة شكوى واحدة، وهي نفسها التي أغرقت عهد الجاهلية بأشعار الرثاء لأخيها صَخْر والبكاء عليه. ولكن عندما يبلغها نبأ استشهاد أولادها الأربعة في معركة القادسية لا تشتكي بل تقول: "الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم."[15]

كانت الخنساء من الملهَمات. فكلما سقط ابن لها شهيداً في المعركة تلوَّتْ من الألم وهي تحس كأن السهم أصاب صدرها هي، ولكن ارتباطها بالرسول صلى الله عليه وسلم كان قويا إلى درجة أنها لم تتلفظ بكلمة شكوى واحدة.

ز. الأعمال بالنيات

يروي البخاري ومسلم وأبو داود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الحديث:

«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.»[16]

لما كانت الهجرة هي السبب وراء هذا الحديث فقد كانت الهجرة هي صلب الموضوع فيه، ذلك لأن سبب هذا الحديث كان الحادثة التالية حسب إحدى الروايات:

كان الجميع يهاجرون من مكة إلى المدينة في سبيل الله، ولكن صحابيّاً لا نعرف اسمه هاجر من أجل امرأة اسمها أم قيس.[17] لقد كان هذا الصحابي مؤمنا، غير أن نيته في الهجرة لم تكن مثل الآخرين. كان مهاجراً أيضاً... ولكن في سبيل "أم قيس"، التي عانى كل مشقات الهجرة في سبيلها، لذا أصبح هذا العمل موضوع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذكر أي اسم. فحكم هذا الحديث عام يشمل كل شيء وكل شخص، لأن العبرة بعموم الحكم لا بخصوص السبب.

1. النية

أجل، إن جميع الأعمال حسب النيات، وليست الهجرة وحدها. فإن كانت نية الشخص المهاجر متوجهة إلى الله ورسوله وجد قبالته الله ورسوله. والشيء نفسه نجده في الصلاة وفي الصيام والزكاة. وكما ورد في حديث سابق فمن يحفظ حقوق الله يجده تجاهه «اِحْفَظ اللهَ يَحفظْكَ»؛ وهذا يعني أنه سيجد أمامه عناية الله وكرمه ورحمته. وعندما يجد الإنسان أمامه هذه العناية والكرم تجيش عواطفه ويخر ساجداً لربه فيزداد قرباً منه. وكلما ازداد قرباً من الله كلما صفت نياته في جميع أعماله وأفكاره. وفي ظل إخلاص النية هذه وعندما ينتقل إلى العالم الآخر الذي يتبدل فيه كل شي، أي في القبر وفي البرزخ وفي الحشر وفي الصراط سيجد الله تعالى أمامه، فإن استطاعت أعماله أن توصله إلى درجة "لواء الحمد" فسيجد أمامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيسعد بصحبته فيلقى صحبة وراء كل تصور أو خيال.

أما من كانت نيته لغير الله، بل كانت هجرته وتعبه ومشقته من أجل امرأة، أي أن نيته كانت للذة مادية، فهذا يعني في نهاية الأمر أن جميع جهوده والمشقات التي عاناها تكون هباء منثوراً.

إن من يعيش لجسده، ولملذات بدنه، ولا يستمع لصوت روحه ووجدانه سيقضي حياة فارغة لا معنى لها، ولن يجني أبداً النتائج التي يجنيها من نظم حياته في سبيل مرضاة الله تعالى. وقد ورد في حديث آخر: «نية المؤمن خير من عمله.»[18] ذلك لأن الإنسان مهما جهد فلن يصل إلى الهدف الذي نوى الوصول إليه. فكان من رحمة الله الواسعة أن يعامل المؤمن حسب نيته، لأن نيته ستكسب المؤمن أكثر من عمله. ومن ثم كانت نية المؤمن خيراً من عمله من هذه الجهة.

وأنا أود لفت نظركم إلى حديث آخر له علاقة بهذا الموضوع إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مُضْغَةً إذا صلَحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.»[19]

إذا كنت خالص النية ووجدت تربة صالحة، فإن كل بذرة تبذرها ستنبت نباتاً حسناً. ومع أنها ستكون نبتة ضعيفة في بداية الأمر إلا أنها ستصبح فيما بعد شجرة باسقة نتفيأ ظلالها في الدار الآخرة. وكلما كانت نيتنا صافية كلما بسقت هذه الشجرة ووهبتنا ثمارها في الجنة. بالنية تنقلب عادات الإنسان وحركاته الاعتيادية إلى عبادة خالصة. فالشخص الذي ينام ناوياً قيام الليل تكون أنفاسه وهو يغط في النوم بمثابة ذكر لله. ولولا ذلك كيف كان يمكن للإنسان وهو بهذا العمر القصير وبهذه الأعمال القليلة أن ينال الجنة؟

أجل، إن كانت الحياة الأبدية مهداة إلى المؤمن، فهي لطف ونعمة مهداة لنيته في العبودية الأبدية مما يكسب بها الجنة الخالدة. والشيء نفسه وارد في القطب المقابل أي قطب الكافر الذي يستحق النار الأبدية. أجل، إننا نكسب الجنة بسبب نيتنا في العبودية الأبدية. ويكسب الكافر النار بسبب الجحود الأبدي الموجود في نيته.

إن النية وحدها هي التي تكسب الأعمال قيمتها بلا أي استثناء سواء أكانت هذه الأعمال كبيرة أم صغيرة، وتنفخ فيها الحياة فتحييها. بل إن النية وحدها في أعمال الخير والبر تكسب الإنسان الكثير من الأجر؛ فمثلاً إنْ همّ الإنسان بحسنة مّا ولم يعملها فِعْلاً فإنه يكتسب أجراً من جراء نيته، فإنْ عملها اكتسب أجر عشر حسنات أو مائة أو أكثر كما يشاء الله تعالى. أما إن هم بسيئة ثم لم ينفذها فلا تكتب له سيئة من جراء نيته السيئة تلك، وإن قام بها كُتبت له سيئة واحدة فقط.[20] ولا شك أن كل سيئة لها عقاب من جنسها.

2. الهجرة

ومن الجدير بالملاحظة مدى إشارة الحديث لأهمية الهجرة. صحيح أن الهجرة بمعناها الخاص قد انتهت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا هجرة بعد الفتح»[21] ولكن الهجرة في معناها العام مستمرة حتى يوم القيامة، ذلك لأن الهجرة توأم للجهاد، وُلِدا معاً ويعيشان معاً. والنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن الجهاد مستمر حتى يوم القيامة إذ يقول: «الجهاد مـاضٍ إلى يـوم القيامة.»[22]

أجل، إن الشخص الذي يترك أباه وأمه ودياره ووطنه قاصداً ديار الغربة من أجل إيصال دعوة الله إلى الناس... هذا الرجل الداعية وكل إنسان مؤمن هو في هجرة دائمة وسينال ثوابها.

ومن جهة أخرى لم يعيّن الله ثوابا محدَّداً للهجرة في سبيل الله ورسوله، مما يشير إلى أن ثواب مثل هذه الأعمال تعطى يوم القيامة على شكل مفاجأة سارة. فالملائكة تسجل هذه الأعمال كما هي، والله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر ثوابها.

إن أداة "إنما" الواردة في بداية الحديث تفيد الحصر، وهذا معناه أن العمل لا يكون عملاً إلا بالنية. فأي عبادة دون نية لا تعد عبادة، لذا فإنْ صلَّى أحدهم ركعة دون نية، أو بقي جائعاً لسنوات أو وهب جميع أمواله، أو قام بجميع مناسك الحج دون نية لا يعد هذا الشخص مصلياً أو صائماً أو مزكياً أو حاجاًّ؛ لأن النية هي التي تحول جميع هذه الأعمال إلى عبادة.

أ- الهجرة من الذنوب

وعندما ندقق النظر في الحديث نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرح موضوع النية وهو موضوع واسع بثلاث كلمات، ثم أشار إلى موضوع الهجرة وهو موضوع متشعب بجملتين أو ثلاث مبتدئاً بذكر الهجرة التي تعني ترك المعاصي والذنوب ومتناولاً جميع الهجرات في سبيل الحق حتى يوم القيامة بجملتين أو ثلاث وبأسلوبه "السهل الممتنع"، وهذا لا يتيسر إلا لسيد الفصحاء والبلغاء. ومن المفيد القول بأن أفضل المهاجرين هو من هجر المعاصي والذنوب وأخلى قلبه من جميع أنـواع الحب عـدا حـب الله تعالى.[23]

دعا إبراهيم بن أدهم ربه يوماً فقال:

"يا رب! لقد فَنِيتُ في حبك، هجرتُ كل شيء وجئت إليك، لم تَعُدْ عيوني ترى شيئاً غيرك..." وبينما كان مستغرقاً في جو هذا الدعاء الحار، رأى ابنَه بجوار الكعبة، ورآه ابنُه كذلك، فدَفعتْ لَوعة فراق السنين كلاًّ منهما نحو الآخر. وفي لحظة العناق الحار سمع إبراهيم بن أدهم هاتفاً:

"يا إبراهيم..! لا يجتمع حبان في قلب واحد" فصرخ إبراهيم: "خذ إليك يا رب من كان حائلاً بيني وبين حبك" فهوى ابنه تحت قدميه ميتا.[24]

ب- الهجرة إلى الرحمة الإلهية

من الهجرة الفرار من المعاصي إلى باب الرحمة الإلهية، ولزوم هذا الباب حتى مجيء العفو الإلهي. وما أحسن قول القائل معبراً عن هذا المعنى:

إلهي عبدك الـعاصي أتاك      مُقِراًّ بالذنوب وقـد دعـاك

وإن تـغفر فأنت أهل لذاك      وإن تَطْرُدْ فمن يرحم سواك

إن الإنسان الذي يكره العودة إلى المعاصي والذنوب التي تاب منها، أكثر مما يكره إلقاءه في النار هو الإنسان الذي يسلك طريق الهجرة بحق وصدق.

إن الإنسان الذي ينظر إلى حمى الله في أرضه نظرته إلى ساحة ملغومة بالمتفجرات، والذي يصون يده ورجله وعينه وأذنه وفمه وشفته عن المعاصي يعد مهاجراً في سبيل الله طوال حياته سواء أكان بين الناس. أم كان منـزوياً ومعتكفا. فالهجرة مستقرة في أعماق قلبه وهي رفيقته، غير أن الهجرة في الاعتكاف لها طعم آخر وبعد آخر، إذ يصل الإنسان فيه إلى "الأنس بالله" ويستقبل النفحات الإلهية.

وإذا أردنا تلخيص هذا الموضوع يمكنا أن نقول إن هذا الحديث الشريف يومئ إلى عدة مسائل:

أ. أن النية هي روح العمل، والعمل يعد ميتاً إن كان بغير نية.

ب. أن النية إكسير نوراني حافل بالأسرار يحول الحسنات إلى سيئات والسيئات إلى حسنات.

ج. أن ارتباط العمل بالنية هو الذي يجعله عملا، فالهجرة دون نية تعد سياحة، والجهاد دون نية يعد بغيا، والحج دون نية نـزهة، والصلاة دون نية رياضة، والصوم دون نية حمية لغاية صحية. ولكي تكون كل هذه العبادات أجنحة تطير بالإنسان إلى الجنة فلابد من النية الخالصة.

د. أن الجنة الخالدة الأبدية نتيجة لنية العبودية الأبدية، والنار الأبدية نتيجة لنية الجحود والإنكار الأبدي.

ﻫ. أن الإنسان يستطيع بنيته الحصول على نتائج كبيرة وجوائز ثمينة بجهد صغير وبثمن قليل.

و. إن من يستثمر جوهرة النية بحق يستطيع أن يملك بها الدنيا وما فيها.

ز. أن الدنيا والمرأة رغم كونهما من نعم الله إلا أن سوء استعمال هذه النعم، وعدم مراعاة الموازين الشرعية عند التعامل معهما يعني إقامتهما بديلين لرضا الله ورسوله، وذلك يجر إلى خسارة الإنسان كل شيء في مجال الكسب.

وفي النهاية لقد استطاع هذا الحديث في ثلاث أو خمس جمل أن يضم كل هذه المعاني الكبيرة وغيرها والذي يحتاج كل معنى فيها إلى كتاب كامل لشرحه. أي استطاع سيد البيان صلى الله عليه وسلم أن يرينا الشمس في ذرة، والبحر الزاخر في قطرة.

ح . بلاء اليد واللسان

يروي البخاري من صاحب جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم هذا الحديث:

«المسلم من سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.»[25]

1. المسلم المثالي

والآن لنحلل هذا الحديث باختصار:

للام التعريف في كلمتي "المسلم" و"المسلمون" هنا معنى محدد. فالمسلم المثالي هو الذي دخل إلى جو السلم والسلامة والثقة وأذاب كيانه فيه. وهو المؤمن الذي لا يمد لسانه ولا يده بالأذى للمؤمنين من أمثاله، وليس الذي مكتوب في هويته أو بطاقته الشخصية أنه مسلم أي المسلم بالجنسية، فالموضوع هنا يتعلق بصفات المسلم الحقيقي والمؤمن المثالي.

فلام التعريف هنا للعهد، والقاعدة تقول: إن إطلاق الذكر يصرف نحو كمال الوصف. لذا، فعندما ترد كلمة المؤمن فإن الذهن ينصرف إلى معنى "المؤمن الكامل". والمؤمن أو المسلم المذكور في الحديث الشريف هو من هذا النوع.

والإنسان لا يعلم عادة هذه الأمور اللغوية الدقيقة، فلا يعلمها سوى من تعلم في المدارس أو في حلقات التدريس أو عند أحد العلماء فيتعلم دقائق النحو ودقائق اللغة. ولم يكن هذا وارداً بالنسبة لرسول الله، فكلامه لم يكن من عنده، بل من عند المعلم الأزلي. لذا، نرى في بيان الرسول صلى الله عليه وسلم جميع دقائق اللغة، وإضافة إلى هذا لا نجد فيه أي قصور أو مخالفة أو خطإ لغوي.

والآن لنرجع إلى الحديث. المسلم هو إنسان السلام والأمن إلى درجة أن المسلمين الآخرين يستطيعون أن يديروا له ظهورهم بكل أمن، لأنهم يعلمون بأنه لن يؤذي أي أحد. وعندما يضطرون إلى إيداع أهلهم أمانة عنده يستطيعون ذلك دون أن يخالجهم أي خوف، لأنهم يعلمون عدم صدور أي أذى منه، لا من لسانه ولا من يده. وعندما يتركون مجلساً ضمهم معه، فإنهم يتركونه وهم مطمئنون بأنه لن يغتابهم في غيابهم، ولن يستمع إلى غيبتهم من أحد الحاضرين. وهو يراعي كرامة الآخرين وعرضهم كما يراعي كرامته وعرضه تماماً. قد لا يأكل ولكنه يُطْعِم. قد لا يشرب ولكنه يسقي، وقد يفتدي الآخرين بروحه، بل قد يضحي بأحاسيس فيوضاته الروحية من أجل الآخرين. ونحن نستخرج كل هذه المعاني من لام التعريف التي تفيد معنى الحصر.

2. السلم والمسلم

من جانب آخر هناك جناس بين هاتين الكلمتين. فكلمة "المسلم" وفعل "سلم" يأتي كلاهما من جذر "س ل م". ونظراً لوجود بعض التشابه بين حروفهما فالجناس هنا جناس ناقص. غير أن صيغة كل من هاتين الكلمتين مختلفتان، فهذا التشابه والاختلاف يذكرنا بالمعنى التالي:

المسلم هو الإنسان الذي تجري جميع الأمور عنده في "سلم" وفي "سلامة" و"سلام". فقد ترك نفسه إلى الشوق الإلهي بحيث أصبحت جميع حركاته وسكناته حول هذه القوة المركزية. هو يسلِّم على الجميع، على من يعرفه وعلى من لا يعرفه... لذا، تستقر محبته في القلوب.[26]

عندما ينهي صلاته ينهيها بالسلام فتتلقى الكائنات العاقلة جميعها هذا السلام من إنسها وجنِّها وملائكتها. فهو يسلم على هذه الكائنات وإن لم يكن يراها. وليس هناك عدا المؤمنين من أفشى السلام بهذه الصورة الواسعة.

يتم الدخول إلى الإسلام بأداء أركان الفرائض: الصلاة والصوم والزكاة والحج والنطق بالشهادتين، وهذا يتم بالدخول إلى السلم حسب أوامر الآية الكريمة: ﴿اُدخُلُوا في السِّلْمِ كَافّةً﴾ (البقرة: 208). أي ينشر شراعه في بحر السلم ويبحر فيه. ومثل هذا الشخص يفوح سلماً وسلاماً في كل حركة من حركاته، ولن يجد أي أحد فيه شيئا سوى الخير ولن يتوقع أو ينتظر منه سوى الخير.

3. لِـمَ اليد واللسان؟

كما هي العادة في كلام رسولنا صلى الله عليه وسلم فإن جميع الكلمات المتعلقة بالموضوع مختارة بعناية فائقة. وكما يلاحظ فإن الحديث يشير إلى اليد وإلى اللسان، إذن، فلا بد من وجود حكم عديدة في ذكرهما دون سائر الأعضاء، ذلك لأن الإنسان يستطيع أن يضر إنساناً بطريقتين... إما يضره وجهاً لوجه، أو يضره غيابياً أي من وراء ظهره. فالضرر الذي يقترفه وجهاً لوجه يمثله الضرر باليد، والضرر الذي يقترفه غيابياً يمثله الضرر باللسان. أي إما أن يعتدي الإنسان بنفسه على حقوق الشخص الموجود أمامه أو يعتدي على حقوقه في غيابه بأن يغتابه ويهينه ويحقره. وكلا الأمرين قبيحان ولا يمكن صدورهما من المؤمن أبداً، لأنه يتصرف دائما بمروءة حيال الآخرين سواء أكانوا في حضوره أم لم يكونوا.

ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم يذكر اللسان قبل اليد، ذلك لأن من المحتمل أن يقوم الشخص الآخر بمقابلة الاعتداء اليدوي، غير أن الغيبة الصادرة في غياب الشخص أو الافتراءات الواقعة عليه تبقى في معظم الأحوال دون مقابل. لذلك فإن مثل هذا التصرف يؤدي إلى زرع العداوات بكل سهولة بين الأفراد بل حتى بين الأمم. فتعقب أضرار اللسان أصعب من إزالة الأضرار التي تحصل وجهاً لوجه، لذا قدم الرسول صلى الله عليه وسلم اللسان على اليد. ومن ناحية أخرى تجد في هذا الحديث قيمة المنـزلة التي يحتلها المسلم عند الله، بحيث أن أي مسلم آخر لا يستطيع أن يمد له لسانه أو يده.

إن أحد الأبعاد الخلقية المهمة للدين الإسلامي الذي جاء لتأسيس الأمن والسلام هو أن الفرد المسلم مثلما يجب عليه الابتعاد عن كل ما يضر شخصه ماديا أو معنويا، كذلك يجب عليه الابتعاد عن الإضرار بالآخرين. وليس هذا فحسب بل عليه أن يكون ممثلاً للأمن والأمان في كل شريحة من شرائح المجتمع. أجل، إن المسلم مسلم حقيقي بدرجة شعور الأمن والأمان الذي يضمه في جوانحه. وهو في غدوه ورواحه وحركاته وسكناته وقيامه وقعوده ترجمان للشعور النابع من "السلام"[27]: فعند مقابلته للمؤمنين يسلِّم عليهم، وعندما يفارقهم يتمنى لهم السلامة... يزين تحيات صلاته بالسلام، ويختم صلاته بالسلام على المؤمنين قبل مغادرة الحضور الإلهي. لذا، فإن من المحال لمثل هذا الشخص الذي أرسى حياته حول محور السلام أن يسير في طريق معاكس لفكره الأساسي، ومضاد للأمن وللسلام المادي أو المعنوي، الدنيوي أو الأخروي. وبعد هذه النظرة من شاهق على هذا الحديث، لنذكر هذه الخصائص المنبثقة من روح الحديث:

أ - إن المسلم الحقيقي أفضل ممثل للسلام العالمي في الأرض.

بـ- إن المسلم أينما وجد ينشر حواليه روح السلام، هذا الذي تشربت به أعماق نفسه.

ﺟ- لا يبتعد المسلم عن إلحاق الأذى أو الضرر بالآخرين فحسب، بل يكون رمزاً للأمن والاطمئنان في كل مكان يُذكَر فيه.

د- لا فرق عند مثل هذا المسلم بين الاعتداء الذي يتم باليد، أو الاعتداء الذي يتم باللسان غيبة ونميمة، أو بالافتراء والبهتان أو بالإهانة والتحقير. بل يكون ذنب الاعتداء باللسان أكبر من ذنب الاعتداء باليد.

ﻫ- إنْ اقترف المؤمن بعض هذه الذنوب فسيبقى مؤمنا ولا يخرج عن ملة الإسلام، أي لا تكون هذه الذنوب حداًّ فاصلاً بين الإيمان والكفر حسب عقيدتنا.

ويشير هذا الحديث ذو البيان المعجز في سطر واحد فقط إلى أن الإنسان يجب أن يسعى في موضوع الإسلام والإيمان -كما في غيرهما من المسائل- ليس إلى الإسلام أو الإيمان الاعتيادي بل إلى مراتبها العليا، ويضع الحب والشوق في القلوب لبلوغ هذه الغايات.

ط . من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

ننتقل إلى حديث مضيء آخر لرسولنا صلى الله عليه وسلم حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «مِنْ حُسْنِ إسلام المرء تَرْكُه ما لا يَعْنِيه.»[28]

يبين الحديث سر وصول المؤمن بإسلامه إلى درجة الإحسان والإتقان، أي الوصول إلى إسلام متين ودون شروخ أو قصور من ناحية المظهر الخارجي وإلى درجة سر الإحسان من ناحية الباطن. فالواصل إلى هذه الدرجة عليه أن يترك ما لايعنيه... وهو لا بد تاركه.

1. الوقار الداخلي ينعكس على المظهر

إن عبادات الأشخاص المتسمين باللامبالاة وعدم الجدية تكون كذلك أيضاً غير جدية. وشخص من هذا الطراز قد يقوم للصلاة مُظْهِراً الجدية والوقار، ولكن إن لم تبلغ الجدية والوقار أعماق قلبه ووجدانه وعالمه الداخلي كيراعة تحاول أن تظهر نفسها نجمة لامعة، لا ينجح في الاستمرار في مثل هذا التمثيل، وذلك لاستحالة إخفاء الخُلق والسلوك. فكل إنسان سيتصرف -إن عاجلاً أو آجلاً- حسب طبيعته وحسب خلقه، إلا إذا أصبحت الجدية والوقار طبيعة ملازمة له. ولا يمكن الوصول إلى هذا المستوى إلا بالتمرين والتدريب والرياضة الجادة للنفس. فإن كانت هذه الرياضة موجودة أصبح الجد خلقاً وتراجع "التظاهر". ولكن الإنسان ابن لاشعوره، ولا يستطيع التخلص منه، فالعصفور لا يستطيع تقليد مشية الطاووس مدة طويلة. ونستطيع جمع أطراف هذا الموضوع كما يأتي:

حتى يبرز الإتقان خارج النفس فلا بد أن يوجد داخلها الإحسان، أي أن المظهر الخارجي يجب أن يستمد العون من الداخل... فيجب أن يكون داخل النفس جاداًّ وقوراً لكي يسري ذلك إلى المظهر الخارجي.

عندما ذُكِر أحد الصحابة الكبار أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه يستحق أن يكون خليفة قال عمر رضي الله عنه: "إنه أهل للخلافة، غير أنه فيه بعض المزاح، والخلافة جِدٌّ لا هزل فيها."[29]

فإذا كانت الخلافة التي تقتضي إدارة الناس تتطلب الجدية، ألا تتطلب خلافة الله في الأرض جدية؟ إن الإنسان الذي لا يتسم بالجد والوقار وهو بين يدي خالقه ومولاه، كيف يستطيع أن يكون شخصا جادّاً في المواضع الأخرى؟

2. شعور الإحسان والجد

إن كلمة "مِنْ" الواردة في بداية الحديث تفيد الحصر، أي هنا شرح للطريق الذي يوصل المسلم إلى مرتبة الإحسان، وهو تركه اللامبالاة. فطالما لم يكتسب الإنسان الجد ولم يترك اللامبالاة فلا يمكنه البلوغ أبداً إلى مرتبة الإحسان.

في حديث جبريل عليه السلام يتم تناول مرتبة الإحسان في المرحلة الأخيرة. فعندما جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم سأله أولاً عن الإيمان ثم عن الإسلام وبعد أن صدّق أجوبة رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله: ما الإحسان؟ فأجابه نبينا: «أن تَعْبد اللهَ كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».[30]

والوصول إلى هذه المرتبة لا يتم إلا بعميق التقوى والزهد والولاية. وعلى الإنسان أن يعيِّن الوصول إلى هذه المرتبة كهدف مثالي وأن يجرب الطرق المؤدية إليها. إن الله أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. أجل، إن قلب الإنسان بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء، وكل شيء  تجلٍّ من تجلياته، فمن العبث البحث عنه في الخارج، ذلك لأنه أقرب إليه من نفسه، وانكشاف هذا السر يكون في مرتبة الإحسان.

3. الإتقان في كل شيء

عندما يغمر الإحسان قلب الإنسان ووجدانه يسود الإتقان جميع تصرفاته. والله تعالى يحب العمل المتقن، إذ يقول في القرآن الكريم: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الْغَيبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ﴾ (التوبة: 105).

أي أن جميع الأعمال ستعرض على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين من ذوي القلوب النيرة والعقول الأريبة وتمر من تدقيقهم وتفتيشهم. لذا، يجب أن يضع الإنسان نصب عينيه أن كل عمل يؤديه سيمر من خلال التفتيش والتمحيص، ولذا، فعليه أن يعمل عملاً لا يستحيي ولا يخجل منه. ولا يتأتى ذلك إلا بإتقان ذلك العمل. ولكي يوفَّق الإنسان لأداء مثل هذا العمل عليه أن يكون واصلاً لمرتبة الإحسان. وعندما يتعمق العالم الداخلي للإنسان ترتفع درجة الإتقان في عمله، فلا يسقط في وهدة اللامبالاة، وهكذا يحصل على محاسن الإسلام، أو بتعبير آخر يعيش الإسلام الحقيقي، ويصل إلى منـزلة ملائمة للإسلام الحقيقي الجميل في ذاته.

و"ما لا يعنيه" هي الأمور التي لا علاقة له بها وغير الضرورية وغير المفيدة له لا في حاضره ولا في مستقبله، بحيث لو انشغل بها فلن يستفيد منها لا هو ولا عائلته ولا أمته أي فائدة. وهكذا فالذي استطاع إدراك جمال الإسلام والوصول إليه يكون قد ابتعد في الوقت نفسه عن اللامبالاة وعدم الجدية.

فهذا الحديث يعلّم الإنسان ما ينبغي. إذ أن عليه أن ينشغل فقط بالمسائل العلوية، بحيث أن كل مسألة منها تكون ذات فائدة له ولأسرته ولمجتمعه، وهذا في الحقيقة هـو تعريف للإنسـان الجـدي.

ولا أتمالك نفسي هنا من عرض أمر دقيق أتحسسه من خلال هذا الحديث: ما المقصود بـ"ما لا يعنيه"؟

إن الشخص المشغول بما لا يعنيه لا يجد الفرصة أمامه لكي ينشغل بما يعنيه حقا، إذ لا يجد الوقت الضروري والكافي لذلك. إن الشخص الذي لم يكتشف حقيقة نفسه بعد، ولم يجد الجو والاتجاه المناسب، لا يمكن أن يقدم على إنجاز إيجابي أو عمل جيد. فالإنسان المغمور حتى ذقنه بما لا يعنيه لا يمكن أن يكون منفتحا على ما يعنيه، لأن قلبه ورأسه مليئان بأمور تافهة وعرجاء، فكيف ننتظر من مثل هذا الشخص الانشغال بشيء ذي قيمة؟

وهكذا استطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم التعبير عن كل هذه المعاني بجملة واحدة مؤلفة من بضعة كلمات. وعندما قمت بشرح معانيه لم أقل شيئا. كل ما قمت به هو أنني حاولت أن أهوي بمعول التعبير على البنية الرصينة الصلبة لذلك الحديث، فكان كل ما وصلكم عبارة عن بعض القطع المتناثرة منها. وقد لا أكون موفقاً في شرح تلك المعاني كما يجب. غير أن عجزي وعجز أمثالي ليس إلا برهاناً لمدى قوة التعبير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوة بيانه وفصاحته، ذلك لأننا لا نحيط علماً بكل معاني أقواله صلى الله عليه وسلم التي كان يرسلها ارتجالاً دون تحضير سابق. فالمعاني التي يضيق عنها عالمنا الفكري كانت المعاني الاعتيادية التي يتحدث بها كل يوم. فهل يمكن تفسير هذا إلا بالفطنة؟ إن كلمة العبقرية تبقى هزيلة وعاجزة في شرح هذه الخصلة.

يـ . الصبر

يتفق مسلم والبخاري في رواية هذا الحديث: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى.»[31]

عندما شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرار بعض العادات الجاهلية عند زيارة القبور، منع المؤمنين من هذه الزيارة. ولكنه عاد بعد ذلك وأباحها ودعا إليها إذ قال: «قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فقد أُذِنَ لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها فإنها تُذَكِّر بالآخرة.»[32] ذلك لأن أفضل نصيحة للإنسان وأكثرها تأثيراً في إنقاذه من طول الأمل موجودة في القبر. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان رمزاً للوفاء يزور القبور كثيراً ويزور شهداء أحد مرة في الأسبوع على الأقل.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال: «اِتَّقي الله واصبري»، قالت: إليكَ عني فإنك لم تُصَب بمصيبتي ولم تعرفه. فقيل لها إنه النبي، فأخذها مثلُ الموت، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوّابِين. فقالت: لم أعرفك... فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى.»[33]

فقد شرح في أربع كلمات بليغة معجزة مسألة يحتاج بيانها إلى مجلدات.

إن للصبر أنواعا متعددة: الصبر على المصيبة، والصبر في مقاومة الذنوب والآثام، والصبر على العبادة والاستقامة عليها. فأداء الصلاة خمس مرات في اليوم وصيام شهر واحد كل عام على الأقل وأداء الزكاة وإيفاء حق الأوامر الأخرى المتعلقة بالعبودية... كل هذه الأمور تتطلب الصبر وتنظم حياة الإنسان وتصبغ حياته صبغة أخروية. وتنقضي مثل هذه الحياة في درب نوراني وجو تغمره البركة مثمراً الجنة في نهاية المطاف. لذا، كان على الإنسان أن يعض بالنواجذ على هذه العبادات ويصبر عليها لكي ينور حياته ويضيئها.

فالصبر مُرّ مثل تناول "عشب الصبار" المرّ المذاق الذي يستعمله الأطباء في تحضير بعض الأدوية. غير أن هذه المرارة ليست إلا في البداية، ثم تكون نتائجها بعد ذلك حلوة على الدوام.

إنه ليس من السهل الصبر على الحوادث المرة الأليمة والصرُّ على الأسنان وتَحمُّل كل المصائب دون فقد للأعصاب ودون اهتزاز أو شلل للفكر وللإرادة. غير أن تحمل هذه الآلام يكون عند الصدمة الأولى. ذلك لأن أي تغيير أو انتقال إلى وضع آخر يؤدي إلى تغيير في الحالة النفسية للإنسان ويخفف عنه ويؤدي إلى نسيانه للحوادث التي هزته.

لنفرض أن مصيبة مّا أصابتنا... سنعتقد في الوهلة الأولى استحالة تحملنا لها. ولكن علينا أولاً أن نـزيل أثر الصدمة الأولى، وهذا لا يكون إلا بتغيير وضعنا. فإن كنا وقوفاً علينا أن نجلس، وإن كنا قاعدين علينا أن نتمدد، أو نغير شيئا في نوع فعاليتنا... أن نتوضأ مثلاً أو نصلي أو نبتعد عن موضوع الحديث الذي كنا نتحدث فيه، أو أن نترك موضعنا ونذهب إلى أي موضع آخر أو إلى أي مكان آخر للالتجاء إلى جو آخر. وأحيانا يكون أخذ سِنة من النوم مفيداً في التخلص من أثر الصدمة الأولى. وعلى أي حال فإن تغيير الوضع أو الحال أو المكان يقلل من تأثير الصدمة ويخفف من أثر المصيبة التي حسبنا أننا لن نستطيع تحملها.

كما أن الصبر ضروري في موضوع الاستقامة على أداء العبادات. فالصلاة مثلاً قد تبدو للمبتدئ عبادة صعبة جدا، ولكن ما إن يصبر قليلاً وما إن تمتزج الصلاة بروحه، حتى يكون عدم أدائه لصلاة وقت واحد جحيماً لا يطاق. ويمكن ذكر نفس الشيء بالنسبة للعبادات الأخرى كالصوم والزكاة والحج.

تأملوا معي كيف أن الشخص المؤدي لعبادة شاقة مثل الحج يملأه شوق عارم كل سنة لأداء الحج مرة أخرى، حتى أنه ليكاد يجن من التحديدات التي توضع في موضوع الحج.[34] فمثل هذا الحب للعبادة يعني تجاوز صعوبة الصدمة الأولى... وهذا ينطبق على سائر العبادات الأخرى تقريباً.

وعلى الإنسان أن يتذرع بالصبر نفسه أمام المحرمات أيضاً. لأن المقاومة المعلنة عند الصدمة الأولى لهجوم الإثم على النفس تخمد شرارته وتضعف طاقته، فيتخلص الإنسان من صدمته. لذا، قال رسولنا صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «يا عليّ! لا تُتْبِع النظرةَ النظرةَ، فإن لك الأولى وليست لك الآخِرة.»[35] أي إن نظر الإنسان قد ينـزلق إلى الحرام، فإذا حوَّل الإنسان وجهه ونظره حالاً فلا يُعَدّ ذلك ذنبا له بل يعد حسنة لأنه لم ينظر إلى حرام. ولكن النظرة الثانية والنظرات الأخرى تنغرز في قلب الإنسان وروحه كسهام مسمومة فتعكر صفو خياله وتضعف القوة المعنوية لإرادته، لأن كل نظرة إلى الحرام إنما هي بمثابة دعوة لتيسير الولوج إلى دروب الإثم والمعصية. فكل نظرة تشوق وتدعو إلى نظرة أخرى، وهنا يبدأ الإنسان بفتح أشرعته للإبحار نحو الحرام ويبدأ رحلة يصعب الرجوع عنها. فقبل الوصول إلى هذه المرحلة يجب الصبر عند الصدمة الأولى للحرام وعدم التوجه إليه، بل إغماض العين عنه، وهذا من الوصايا الذهبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لنا.

وقديما قال "أبكتيتوس (Epiktetos)": "عندما تحيط بك الخيالات الضارة حاول الهروب منها في أول فرصة. وإلا فلن تستطيع الرجوع من الموضع الذي ستقودك إليه." وهذا قول ملهم، ولو عاش هذا الرجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقلنا إنه أخذ إلهامه منه صلى الله عليه وسلم.

وعندما يبدي الإنسان هذا التصرف تجاه الحرام على الدوام، يصبح هذا طبعه وديدنه، ذلك لأن النور الذي يتولد في قلبه من جراء هذه التمارين التي يمارسها يكون ستراً له من الذنوب والمعاصي التي هي بمثابة شرارات من جهنم، إلى درجة أن غضه البصر عن الحرام يدخل ضمن سلوكه الفطري الأصيل. ولو هجس بباله هاجس مخالف لَغمس يدَه في خلية عسل الإيمان الموجودة في قلبه ونأى بنفسه في ظل هذه اللذة الإيمانية عن كل ما يبعده عن هذا الجو الإيماني والمعنوي.

لذا، يمكننا القول بأنه من المستبعد جداًّ أن يدخل مثل هذا الشخص سـاحة الحـرام بإرادته.

لكل مصيبة صدمة خاصة بها. وعندما يتم تجاوزها تنقلب المصيبة إلى رحمة، والألم إلى لذة، والهموم إلى أذواق، وآلام مثل هذا الإنسان تكون قد سكنت وهدأت وتركت مكانها للنشوة. غير أن كل هذا مرتبط بتجاوز الصدمة الأولى بنجاح. وهكذا عبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الموضوع العميق بأربع كلمات فقط «الصبر عند الصدمة الأولى.»

ﮐ . اليد العليا

يقول نبينا صلى الله عليه وسلم في حـديـث رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل رضي الله عنه: «اليَـد الْعُليَا خير من اليد السُّـفْلَى.»[36]

واليد العليا هي التي تنفق وتعطي، واليد السفلى هي اليد التي تأخذ، وذلك كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى.[37] وكما أن اليد التي تعطي هي في الحقيقة أعلى من اليد التي تأخذ، كذلك فإن في الحديث إشارة إلى أن الثواب الناتج من الإنفاق يجعل اليد التي تنفق أعلى من اليد التي تأخذ. كما أن فيه استثارة للكرامة الإنسانية لحث وتشجيع ذوي النفوس السليمة على العطاء وتنفيرهم من الأخذ. وقد بيّن الحديث كل هذا بأسلوب رائع وموجز لا تنبو كل كلمة فيه عن موضعها، فكل كلمة في مكانها وفي موضعها الصحيح.

وحتى لا تبقى عملية الإعطاء والإنفاق معلقة في الهواء فقد جعل هناك يدا تأخذ مقابل اليد التي تعطي، وقد وصف الحديث اليد المعطاء بالخير، ولم يصف اليد التي تأخذ بالشر، ومع هذا فإن في الحديث إشارة من طرف خفي إلى أنها "أقل خيرا" وتنبيه إلى عدم ضرر الأخذ في بعض الظروف.

ومع ورود كل هذه المعاني فإن حديث «اليد العليا خير من اليد السفلى» لا يعني مجرد اليد المادية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل الكلمات بمعانيها المجازية.

أولاً: لقد عبر بالجزء وأراد الكل، فالمقصود من اليد هنا الإنسان نفسه أي أن معنى الحديث هو "الإنسان المعطي خير من الإنسان الآخذ."

ثانياً: إن الذي ينفق هو المعطي والذي يُنفَق عليه هو الآخذ، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استعمل هذه الكلمات لشرح صفات اليد لكان يجب أن يقول "اليد التي تعطي خير من اليد التي تأخذ"، غير أنه لم يستعمل كلمة "المعطي" ولا كلمة "الآخذ" بل استعمل كلمة "العليا" وكلمة "السفلى" في وصف كلمة اليد. لذا، يرد إلى الخاطر نكتة دقيقة وهي أن اليد التي تعطي ليست أفضل من اليد التي تأخذ في جميع الأحوال. ففي بعض الأحيان قد تكون اليد الآخذة أفضل بكثير من اليد المعطية، وذلك إذا كانت مضطرة أو كانت تحمل نية إثابة اليد المعطية بإنفاق هذا المال في مواضعه الصحيحة، أو عندما يكون صاحب اليد المعطية مناناً، ففي كل هذه الأحوال تكون اليد الآخذة هي اليد العليا، وإن كانت اليد المعطية هي العليا في الظاهر غير أنها تكون السفلى في الحقيقة.

فقد ترى البعض من الفقراء الصابرين... شُعثاً غُبراً... لا يوقرهم الناس في المجالس... وتغلق في وجوههم الأبواب... هؤلاء يصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: «لو أقسموا على الله لأبرّهم» كان البراء بن مالك من هؤلاء.[38] وكان المسلمون إذا وقعوا في ضيق في أي معركة، ذهبوا إلى البراء وطلبوا منه أن يقسم بأن ينتصروا، فيقسم فينتصر المسلمون،[39] وقد تكون يد مثل هذا الشخص يداً آخذة.

وكان ثَوْبانُ من فقراء الصحابة، ومع ذلك أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم بألا يسأل الناس شيئا، ومن ذلك اليوم لم يسأل ثوبان من أي إنسان شيئا حتى إن السوط كان يسقط منه وهو يسير بناقته فينـزل عنها ويأخذ سوطه بنفسه لكي لا يسأل أحداً شيئاً ثم يركب ناقته.[40] فقد يكون من الناس من أعطى لمثل هذا شيئاً، وذلك كمن يعطي جبريل عليه السلام المتمثل في شكل إنسان شيئا أو صدقة. فمثل هؤلاء الأشخاص لا يكونون أبداً في وضع أقل أو مرتبة أدنى من مرتبة المعطين والواهبين، ذلك لأننا نعلم من حديث يرويه أبو هريرة أنه عندما يتم إعطاء صدقة لمثل هؤلاء الأشخاص فكأنما أعطاها لله تعالى، وكأن الله تعالى هو الذي أعطى هذه الصدقة لهم.[41]

1. الوصايا

كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصينا بعباراته هذه الوصايا:

كونوا أعزاء النفوس، ولا تذلوا أنفسكم بالتسول. ولا تهبطوا أبداً أفرادا كنتم أو أمة إلى مستوى اليد الآخذة، بل كونوا دائما اليد المعطاء. وبمثل هذا تُبقون على مكانتكم المرموقة وتحافظون على عزتكم. ولا تنسوا بأن اليد العليا تكون دائماً في أمن وهي تعطي وتبذل، واليد السفلى تكون دائماً في قلق وهي تلتقط العطايا. كونوا أنتم اليد الحاكمة، ولا تكونوا اليد المحكومة، فإن كنتم فوق كنتم اليد العليا.

2. المقياس الدولي

يشكل هذا الحديث مقياساً وقسطاساً لنا لا يخطئ في المناسبات الدولية. فإن كنا يداً عليا كانت لنا مكانتنا في التوازن الدولي. عند ذلك تجد جماهيرنا الفرصة السانحة للتخلص من استغلال القوى العظمى لها ولثرواتها، وإلا لما تخلصت من وضع الجماهير المهانة والمستغلة. والمنظر العام الذي نراه اليوم في عالمنا هو مصداق ما نقول. فالقوى العظمى تقوم بامتصاص دماء الأمم والشعوب مقابل ما تعطيه لهم من دراهم معدودة غايتها الدعاية، تسترجع فيما بعد أضعاف أضعافها. ونحن الآن نعيش ذلة كوننا "اليد السفلى"، لذا، فواجبنا الآن هو السعي على المستويين الفردي والجماعي لتحقيق ما ينتظره العالم الإسلامي بل الإنسانية كلها منا.

هذه المعاني -ومعانٍ أخرى قد لا نعلمها- موجودة في هذا الحديث الوجيز والبليغ لرسولنا صلى الله عليه وسلم.

لـ. زمر ثلاث لا تُزَكّى

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم: الْمُسْبِل إزارَه، والمنّان الذي لا يعطي شيئاً إلا مَنَّه، والمنفِق سِلْعته بالحَلِف الكاذب.»[42]

كلمة "ثلاثة" ذكرت مطلقة، أي قد تعني ثلاثة رجال أو ثلاث نساء أو ثلاث جماعات، وقد يكون هؤلاء الرجال علماء أو جهلاء. لأن هوية هؤلاء الأشخاص ليست مهمة بل أوصافهم هي الأهم، لذا أطلقت هذه الكلمة ولم تقيد. و"ثلاثة" هنا كلمة نكرة، والتنوين في آخرها يفيد النكور أي أن هولاء الأشخاص مجهولون وغير معروفين ولا يملكون هوية يُعرَفون بها، لذا فهم وضيعون ومحتقرون إلى درجة لا يستحقون إعطاء أي قيمة أو منـزلة لهم. فكما لا ينظر الله إلى وجوههم ولا يكلمهم، كذلك لن تجدوا أنتم فيهم قيمة أو فضلاً لكي تتعرفوا عليهم وتتحدثوا معهم. هؤلاء لم يسقطوا بأجسادهم بل سقطوا وهزموا بأرواحهم وقلوبهم. فانسحق وجدانهم تحت ثقل أجسادهم فلا يملكون أي استعداد للارتقاء، فهم يتدحرجون إلى الدركات السفلى.

وبعد كلمة "ثلاثة" هذه تأتي ثلاثة أفعال تشير إلى المستقبل وترسم أمام الأنظار لوحة قاتمة لهذه الزمر الثلاث.

1. محروميات ثلاث:

أ. المحرومية من التكلم

الفعل الأول هو الفعل المضارع الموجود في بداية جملة "لا يكلمهم الله". والفعل المضارع كما يدل على المستقبل فإنه يدل على الحال. والمصيبة تبدأ بخبر أن الله تعالى لن يكلم هذا الإنسان الذي أعطاه ومنحه قابلية الكلام، ولن يخاطبه. هذه هي المصيبة الكبرى التي تبدأ بالجملة الأولى. ومع أن الله تعالى يَمُنّ على الإنسان في سورة الرحمن بتعليمه البيان ويُعدّ ذلك من نعمه، إلا أنه لا يكلم مثل هذا الإنسان، مع أن تكلم الإنسان وتحدثه دليل على صفة الكلام عند الباري عز وجل. ولكن هذا الإنسان هبط إلى مستوى لا يقبل فيه الله تعالى التوجه إليه بالخطاب، ولا يعطيه هذا الشرف. أهناك عذاب أكبر من عذاب الإنسان الذي يمنع من الكلام والذي لا يُستمع إليه في يومٍ هو فيه في أشد الحاجة إلى الكلام وفي أشد الحاجة إلى شرح حاله والدفاع عن نفسه..؟ إنه يطلب النجدة والغوث... ويتقلب ألماً وهو يبحث عمن يشرح له حاله... غير أن الواحد الأحد الذي يستطيع أن ينجده ويغيثه لا يستمع إليه أبداً. وعندما يشرح القران الكريم هذا المنظر يقول ﴿قَالَ اخْسَؤُا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ﴾ (المؤمنون: 108). ذلك لأن الدنيا كانت هي محل وموضع كلامكم... كنتم تستطيعون التكلم هناك والوصول إلى الأنس بالله... لم تأنسوا بالله في الدنيا، واليوم لا يكون هو أنيسكم.

ب. المحرومية من النظر الإلهي

المنظر الثاني أو اللوحة الثانية هي لوحة "ولا ينظر إليهم" إذ لا ينظر الله تعالى إليهم نظرة الرحمة في ذلك اليوم الذي هم فيه في أشد الحاجة إلى نظرة عطف ورحمة. وبينما تشرق بعض الوجوه النضرة فرحاً وبشاشة، تعبس بعض الوجوه وتقتم، وهذه هي الوجوه التي لا ينظر الله تعالى إليها يوم القيامة. ويوم يُدعى كل إنسان باسمه ويصل كل إنسان إلى بَرّ النجاة... في هذا اليوم ما أتعس حال هؤلاء الذين لا يُنظر إليهم. إن الجلود لتقشعر من هول هذا المصير المفجع. لقد علمنا مدى الألم الفظيع لهذا الأمر من حادثة كعب بن مالك عندما قاطعه النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لمدة قصيرة نوعاً ما، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم،[43] أما هؤلاء فسيستحقون هذا العقاب إلى أبد الآبدين... رُحْماك يارب! إن هذا لأفظع من عذاب جهنم... فما أفظع عاقبة من لا ينظر إليه الرب الرحيم ولو نظرة واحدة، وما أشد عذابه!

ماذا نستطيع أن نقول..؟ لا نستطيع إلا أن نقول بأن الإنسان سيجني ما زرعه، وسيلقى ما عمله... إن خيراً فخير... وإن شرّاً فشر.

ج. المحرومية من التزكية

الوضع الثالث أو المحرومية الثالثة هي "ولا يزكيهم". عملية تزكية الإنسان، أي عملية تنظيفه وتطهيره من الذنوب تكون في الدنيا، لأن على الإنسان أن يذهب الى الآخرة وهو نظيف طاهر، أما في الآخرة فلا ينظف الإنسانَ سوى جهنم... لذا، فإن الله تعالى لا يزكيهم أيضاً.

إن للإنسان فرصة امتحان واحدة. فرصة واحدة يستطيع أن ينتهزها وينجح فيها نجاحاً باهراً. من استغل هذه الفرصة جيداً ربح وكسب، ومن أهملها خاب وخسر، فليس هناك احتمال ثالث.

إن الإنسان المسكين الذي تلوّث وتقرّح قلبه ووجدانه وروحه ومشاعره وجميع اللطائف الربانية الممنوحة له مثل تقرّح جسد النبي أيوب عليه السلام... هذا الإنسان المسكين سينظر إلى حاله يوم القيامة ويسائل نفسه: أأستطيع أن أطهر نفسي..؟ قد تبرق له بارقة أمل، غير أن الله تعالى لن يطهر هذه الزمر الثلاث.[44]

2. العاقبة: عذاب أليم

والعاقبة هي «ولهم عذاب أليم...» فما أن يخطو هؤلاء خطوة واحدة حتى يجدوا العذاب الأليم أمامهم... عذاب يحرق النفس ويسري إلى جميع أوصال الإنسان، فلا يلبثوا أن يجدوا أنفسهم وقد انحدروا إلى هوة وادي العذاب. من هؤلاء الذين تنتظرهم مثل هذه العاقبة المرعبة؟ من هؤلاء الذين لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم؟ ومن هؤلاء الذين أعد لهم هذا العذاب الأليم؟ سيبلغ الفضول مداه لدى قارئ هذا الجزء من الحديث، وسينقلب كيانه كله ويتحول إلى كتلة من الاهتمام ليرى من هم هؤلاء الزمر الثلاث.

يستمر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه فيقول: "المسبِل إزارَه" وهذا كناية عن الغرور والكبرياء. لقد رأيتم ولا شك صور الرومانيين واليونانيين وهم يجرون أرديتهم وأثوابهم. ويمكن مشاهدة هذا بشكل أوضح في الأفلام المتعلقة بهؤلاء القوم. غير أن المهم هنا ليس في إسبال الإزار، بل جعل هذا الشيء رمزاً للغرور والكبرياء، فهذا هو القصد من الحديث.

3. الغرور والكبرياء

تناولت العديد من الآيات والأحاديث الغرور والكبرياء وشرحت كيف أنهما من الأمراض السيئة التي تؤدي إلى عواقب وخيمة. فمن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص قوله: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من كبر.»[45] ذلك لأن الله تعالى قد سد طرق الهداية أمام من كان في قلبه ذرة من الكبر والغرور إذ قال: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ اٰيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ اٰيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِاٰيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 146).

الكبر ستار يعمي العيون، والقلب الذي داخله الكبر لا يستطيع رؤية المعجزات التي يحفل بها الكون، ولا يدركها ولا يستطيع فهمها، ذلك لأنه عندما تعمى البصيرة فإن البصر الذي يأتي بمعنى الإدراك لا ينفع أبداً.

العظمة والكبرياء لله وحده. وهذه الحقيقة التي تتكرر خمس مرات فوق كل مئذنة في كل يوم كيف يمكن نسبتها إلى أحد آخر؟ يقول الله تعالى في حديث قدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار.»[46]

والكبر والكبرياء والعظمة صفة من صفات الله تعالى. فما يعنيه اللباس والرداء بالنسبة للإنسان يعنيه الكبر والكبرياء والعظمة لله، ولكن بصفة وكيفية لا نستطيع إدراكها. فالذي يريد مشاركة الله تعالى في واحدة من هاتين الصفتين وبخه الله وقذفه في جهنم. فالقلب المتكبر لا يجد الإيمانُ إليه سبيلا، وبتعبير آخر فإن القلب المشغول بغير الله لا يستطيع الإيمانُ أن يتربع فيه. فهذا هو وضع الشخص المتكبر المغرور، والحديث يصف مثل هذا الشخص بأنه الذي يجر ثوبه خيلاء.

4. الـمنّـان

الزمرة الثانية أو النوع الثانى من الناس هو "المنان". هذا الشخص أعطاه الله تعالى مالاً وملكاً لكي يستفيد من نعمه وينفق أيضاً على الآخرين فيجازيه الله تعالى مقابل هذا الإنفاق ألف ضعف. غير أن هذا الشخص غافل عن هذا الأمر... غافل ولاهٍ... وإذا أنفق مرة فإنه يبطل هذا الإنفاق لقيامه بالمنّ على من أنفق عليه، وما علم أن هذا المال الذي أنفقه ملكٌ لله تعالى وهو عبد له. فكان من المفروض عليه القيام بإنفاق مال الله تعالى ولكننا نراه ينحرف إلى طريق المن وكأن المال ماله. فما أعظم هذه الغفلة وما أفظع هذا السقوط !

لقد أعطاه الله تعالى مالاً وملكا، وجعل للآخرين حقاً في هذا المال. فإذا به يبخل فلا يعطي، وإذا أعطى منّ على الناس بما أعطاه. وقد كان خيراً له أن يقول معروفاً وكلاماً طيباً بدلاً من القيام بإنفاق أو صدقة يتبعها بالأذى، والقرآن الكريم يقول ﴿قَولٌ مَعرُوفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذَى﴾(البقرة: 263). والمـنّان بخيل في الوقت نفسه، والبخل يبعد الإنسان عن الله وعن الجنة وعن الناس الآخرين ويقربه من جهنم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حق البخيل: «البخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار.»[47]

5. الجزاء من جنس العمل

في هذا الحديث قاعدة من قواعد البلاغة، وهي قاعدة "اللفّ والنشر المرتّب"، ويستفاد منها ما يلي:

إن قوله "ولا ينظر إليهم" يقابل قوله "المنان"، وقوله "ولا يكلمهم" يقابل "المسبل إزاره"، وقوله "ولايزكيهم" يقابل "المنفق سلعته بالحلف الكاذب". ومن خلال تلك المقابلة نستطيع أن نستخرج النكتة التالية:

إن هذا المنان الذي لم ينظر إلى الناس نظرة رحمة في الدنيا ولم يهتم بهم، بل إنه كان يمن عليهم بعطائه إن أعطاهم شيئاً، ومن ثم أبطل حسنته بهذا المن سيلقى في الآخرة جزاء من جنس عمله، وسيعامله الله تعالى بنفس هذه المعاملة فلن ينظر إليه.

وذلك الذي يختال في مشيته ويجر إزاره المسبل بغرور ولا يكلم الناس إلا من طرف أنفه، عليه أن يعلم أن الله تعالى لن يكلمه يوم القيامة. ومن ثم فليمسك عن هذا السير وعن المضي في هذا السبيل الخطر الذي يفضي به إلى تلك العقوبة المرعبة.

ثم هذا الذي تعود أن يروّج سلعته بالحلف الكاذب لكي يجر من ورائها منافع دنيوية أو يصرّف بضاعته مستهينا بهذا الحلف فإنه ينساق إلى عاقبة وخيمة حيث يتحقق في حقه وعيد "ولا يزكيهم". والرسول صلى الله عليه وسلم رسم له هذه اللوحة بقوله "والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". فهو يكذب في حياته التجارية لكي يربح ويجر نفعا دنيويّاً، وهو يرى بذلك أنه يستطيع غش الناس وخداعهم بالحلف الكاذب، فهؤلاء هم الزمر الثالثة المستحقة للعذاب.

فلننظر إلى جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم. نعم، فهذا القول ديْن في أعناقنا عند قراءة كل حديث، لأن كل عبارة من عباراته تشير إلى أنه رسول الله حقا وصدقا، اللّهم صل على سيدنا محمد بعدد أوراق الأشجار وأمواج البحار وقطرات الأمطار وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

ﻣ . العفة وبلاء الألسنة

في حديث صحيح يرويه الإمام البخاري والترمذي وأحمد يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من يضمَن لي ما بين لَحْيَيْه[48] وما بين رجليه أضمن له الجنة.»[49] إن القائل هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرف معرفة أكيدة وأكثر من أي شخص ما يَضمن وما لا يضمن. فإن قال إنه يضمن الجنة كان هذا ضماناً أكيداً. ومما يدل على ذلك ما جاء في رواية للبخاري عن امرأة عثمان بن مظعون عندما وقفت ترثي زوجها فقالت: رحمة الله عليك أبا السائب. فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: «أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي» قالت: فوالله لا أزكي أحداً بعده أبداً.[50]

إذن، فعندما يضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة لمن يضمن ما بين لحييه وما بين رجليه فإنه لم يضمن هذا عن هوى في نفسه، بل لا بد أن يكون هذا إخباراً من الله تعالى في هذا الموضوع، وأنه لم ينطق بذلك أبداً عن هوى، ولم يُنطقه الله تعالى حسب هوى نفسه بل صانه عن مثل هذا الأمر. إذن، فما قاله كان على الدوام حقا وحقيقة، ويتحقق ما قاله عندما يأتي أوانه دون ريب. فإن حفظت لسانك وحفظت ما بين رجليك وعشت عفيفاً فإنني أقول لك دون أي تردد بأن الزبانية إن ألقت القبض عليك يوم القيامة وأرادت سوقك إلى جهنم فإنك تستطيع أن تصرخ بكل ما أُوتيتُ من قوة بأن رسول الله كفيلك وضامنك، فلا تلبث أن تأتيك شفاعة رسول الله وتنجدك.

1. الكلام نعمة

لسان الإنسان عضو مهم، وله قيمة كبيرة لأنه مظهر لنعمة البيان، ولكن إن استعمل هذا العضو المبارك في السوء انقلب إلى أكثر الأعضاء ضرراً وفساداً وجرّ صاحبه إلى الهلاك. بهذا اللسان نفسه يسبح الإنسان ربه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتلو القرآن الكريم الترجمان الأزلي لكتاب الكون ويفسره للآخرين، ويقوم به أحياناً بهداية الملحدين إلى الإيمان فيكون قد حقق عملا أفضل من كل ما طلعت عليه الشمس وغربت، فيسمو بمثل هذا إلى أعلى عليين.

ولكن هذا الفم نفسه قد يُودِي بالإنسان إلى الهلاك أيضاً. فاللسان هو السبيل إلى جميع أنواع الكفر والضلالة. فالذين يشتمون الله ورسوله يفعلون هذا الشيء القبيح المقزز للنفس بألسنتهم، كما أن الكذب والغيبة والافتراء تكون باللسان فيسقط الإنسان إلى هوة الكذب التي سقط فيها مسيلمة الكذاب.

إذن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلمة واحدة ويشير بالتحذير إلى عضو واحد فيطوي في كلمته هذه المعاني التي ذكرناها باختصار ومئات المعاني الأخرى. فكأنه يقول لنا استعملوا أفواهكم في سبيل الخير لكي أضمن دخولكم الجنة. ولا يقول لنا سُدّوا أفواهكم واقعدوا في زاوية، بل استعملوها في مجال الخير والمعروف.

2. أدب الحديث

لا يصرّح الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر العورة بل يكني عنها بقوله "ما بين رجليه"؛ وهذا مظهر من مظاهر أدبه الرفيع. فقد كان دأبه هذا الأدب السامي والرفيع الخاص به حتى وهو يحدثنا عن أمور طبيعية وفطرية بل إنه عندما يتناول مواضيع غير محببة إلى النفس يصورها بصورة تبدو كلوحات محببة. لقد كانت نفسه مرآة لكل الأخلاق الرفيعة والسجايا السامية والجمال الدائم. فانظر مثلا إليه يتحدث عن عضو يخجل الناس من ذكره فيلمح إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسلوبه الجميل فيقول: "ما بين رجليه"؛ نعم إن أثر الجميل جميل كذلك.

3. ما بين رجليه

ما بين الرجلين مهم جداً. إذ كان وسيلة لخروج آدم من الجنة بعدما ذاق الفاكهة المحرمة. ولأن شرح وتحليل الآيات حول إخراج آدم من الجنة خارج موضوعنا فإننا لن نتناوله هنا، إلا أننا سنكتفي هنا بإشارة موجزة إلى أهمية "ما بين الرجلين"، فبه بقاء النسل وحفظ النسب، كما يؤدي الزنا والفحش إلى خراب النسل، وذلك بسبب اختلاط الأنساب عند سوء استعماله وانهدام كل الأمور التي يجب على النظم القانونية حمايتها.

مَن أبُ مَن؟ من يترك ميراثه لمن؟ من يطالب بحقه مِن مَن؟ كيف يمكن صيانة العائلة والأمة؟ كل هذه الأسئلة وأشباهها مرتبطة بعفةِ ما بين الرجلين. فبينما يتمكن الأفراد العفيفون والمجتمعات المتكونة منهم من الحفاظ على بنيتهم الداخلية حتى يوم القيامة، لا يستطيع الأفراد الساقطون في مستنقع الزنا والفحش ولا المجتمعات المتكونة منهم من إبقاء وجودهم أكثر من نسل واحد.

وكما في المواضيع الأخرى فإن دائرة الحلال هنا أيضاً دائرة واسعة تكفي للنفس فلا حاجة للتوجه نحو الحرام إذ يمكن إشباع تلك الرغبة الموجودة في الإنسان بأفضل شكل في دائرة الحلال، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تكثُروا فإني أباهي بكم الأمم.»[51]

فالرسول صلى الله عليه وسلم سوف يباهي بأمته الأمم الأخرى، وستكثر أمته إلى درجة أن الأمم الأخرى ستبقى بجانبها شيئاً لا يذكر. وتكاثر أمته بهذه النسبة يرجع إلى ما بين الرجلين. فالذين لهم أنساب والذين لا يملكون أنساباً سيظهرون عن هذا الطريق، إذن، فما بين الرجلين منبت خصب يؤدي إلى هذين الضدين.

والإنسان الذي يفتش عن الطريق الحلال في هذا الموضوع يكتسب ثواب القيام بالواجب. وعندما شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر لأصحابه تعجبوا واندهشوا: كيف يمكن هذا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر.»[52] ذلك لأن ترك الحرام واجب، إذن، فمباشرة المرأة عن طريق الحلال يكسب الإنسان ثواب القيام بالواجب.

وهذا موضوع قد يستحي من ذكره بعضهم مع أنه طريق ولجه حتى الأنبياء، فلو حُرِم آدم عليه السلام من هذه الرغبة فكيف إذن، كان سيأتي فخر الكائنات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الوجود. إذن، فإن الغاية الأصيلة من تلك الفاكهة المحرمة هي مجيء النبي صلى الله عليه وسلم. وقد سمعتُ من أحد وُعَّاظِنا المتحمسين يقول: "لو علم آدم عليه السلام العلاقة الموجودة بين مدّ يده إلى تلك الفاكهة المحرمة ومجيء محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، لم يكتف بمد يده بل قلع تلك الشجرة بجذورها."

4. الولاية العمودية

أرجو أن أسترعي انتباهكم هنا إلى موضوع مهم جدا، فالرسول كما ذكرنا قد ضمن الجنة لمن ضمن ما بين لحييه وما بين رجليه. ونحن نعرف قدر الذين بشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، إذن، فهناك خارج هؤلاء أشخاص استطاعوا الوصول إلى الجنة بما حصلوا من مقام وقرب. وحصولهم على هذا يعني أن ضمان ما بين اللحيين وما بين الرجلين أمر صعب وغير سهل، ذلك لأن الشهوة عندما تسيطر على الجسم كله وتأخذ بزمام النفس وتهز الروح وتحل الإرادة وتضعفها، عندها تكون نفس المرء مفتوحة لكل أنواع السوء. في مثل هذه اللحظة تكون السيطرة على النفس من أجل مخافة الله وفي سبيله مهمة جدا، إلى درجة أنها تكون وسيلة إلى السمو العمودي للإنسان. والذي يوفق إلى هذا يستحق دون شك ضمان رسول الله صلى الله عليه وسلم له دخول الجنة.

أجل، إنني أقول بإصرار بأن من يستطيع لجم فوران نفسه وهيجانها وضبطها ومنعها من الولوج إلى الآثام ومقاومتها على الدوام بصبر لا ينفد.. مثل هذا الشخص قد يحصل في لحظة واحدة على فيوضات لا يحصل عليها شخص قضى سنوات من عمره في تكية، أو شخص يصلي كل ليلة مئات الركعات... يحصل على هذه الفيوضات وعلى رتبة عالية قد تصل إلى رتبة الولاية... ولا يذهبن بأحد الظن بأننا نهوِّن من شأن صلاة النوافل أو من صوم النوافل... فهذه النوافل وسائل مهمة في التقرب إلى الله وستبقى كذلك، إنما نريد التذكير بوسيلة أخرى تساعد على ارتفاع الإنسان نحو الكمالات.

لنفرض أن الله تعالى أودع فينا قوة خمسة أو عشرة أشخاص وجهَّزَنا بكل ما يلزم الإنسانَ للوصول إلى أوج الكمال الإنساني، ولكنه صاننا أيضاً من كل ما يؤدي إلى الإثم... ولكن المهم هنا هو قدرة الشخص على المحافظة على نفسه مع وجود الدوافع إلى الإثم في فطرته. أجل، فالمَثَل يقول "بحسب المغرم المغنم"، أي على حسب المشاق يكون الأجر والغنيمة. وكذلك بحسب المخاطر يكون العلو والسمو. فكلما زاد جو الخطر الذي تعمل فيه، وكلما تحملت مسؤولية في مجالات الخطر كلما زادت مكافأتك. لنوضح أكثر:

إن الله تعالى وضع مثلا بعض الصفات المضرة في فطرتك كالغضب والحقد والنفور والشهوة.. الخ، ولكن إن لم تستطع أيٌّ من هذه الصفات المضرة أن تتحكم فيك في أيّ وقت، بل على العكس من ذلك كنتَ قادراً دوماً على التحكم فيها بإرادتك القوية، وعشت رجل إرادة وروح مؤدياً الفروض والسنن متبعاً طريق القلب والروح دون أن تتصيَّدك المظاهر البراقة الجذابة الداعية إلى طريق جهنم، كما استطعتَ تحمُّل مصاعب سلوك طريق الجنة، إذا بك تَرى نفسك وقد حشرت مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين. وأنا أعتقد بأن هذا هو السر في نظرة العطف لرسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الجماعة المسلمة التي تمثل حركة البعث الإسلامي الجديد التي تعتصم بالإسلام وتتمسك به في مثل هذا العصر العاصف بالفتن والذي أصبحت فيه الأسواق والشوارع والميادين وكل المظاهر الاجتماعية الأخرى تموج بالفتن وتبتلع الإنسان وتذيبه في جوفها. لذا، فإن الشخص الذي يصر على أسنانه ويرفض أن يذوب في مثل هذا المجتمع ويحافظ على كيانه وعلى هويته يستحق أن يكون في معية الصحابة يوم القيامة. والصحابة هم رفقاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصدقاؤه، أما هؤلاء فإخوته، ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتاق إلى هؤلاء الناس المؤمنين به والذين سيأتون بعده بعدة عصور وأرسل لهم سلامه وتحياته وأشواقه.[53]

أجل، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب إنسان جميع العصور ولاسيما إنسان هذا العصر ويقول لهم «من يضمَن لي ما بين لَحْيَيْه وما بين رجليه أضمن له الجنة»، وهذا القول موجه إلى الأشخاص المشتاقين إلى الجنة والمشتاقين إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الشوق. وسيقوم هؤلاء -بإذن الله- بالتصرف بشكل ملائم وموافق لبشارة الرسول صلى الله عليه وسلم وينجحوا فى هذا الأمر إن شاء الله.

وهكذا يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الطرق الموصلة إلى الجنة بأوجز وأبلغ عبارة ويرسم لوحة للفرد المثالي وللمجتمع المثالي. وإن حَشْد كل هذه الحقيقة الكبيرة في مثل هذه العبارة الوجيزة لا يمكن إيضاحه إلا بكونه صلى الله عليه وسلم صاحب فطنة كبيرة. أجل، فهو سلطان الكلام، وكلامه كله من جوامع الكلم.

وفي حديث آخر يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات.» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط.»[54]

لنقف ونمعن النظر في عقد لآليء هذا الحديث حسب قدرتنا. فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين الطرق التي تنقذ الإنسان من الأخطاء التي تؤدي به إلى أودية جهنم.

يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بتنبيه مستمعيه من بدء كلامه باستعمال كلمة "ألا"؛ لأن الأمور التي سترِد في الحديث أمور تستوجب الانتباه. إذ أن تنفيذها يتطلب الانتباه واليقظة. فهناك تصرفات يستطيع الإنسان إتيانها حتى وهو نائم؛ فمثلاً يتجنب الإنسان الوقوع في إثم الزنى أو في إثم الغيبة لكونه نائماً. ولكن التصرفات التي نحن بصددها الآن أعمال تتطلب اليقظة، ولا يستطيع إتيانها إلا المتيقظون. لذا، تم إيراد كلمة "ألا" في بداية الحديث.

وكلمة "الخطايا" تجلب انتباه المستمعين؛ لأن كل إنسان يخطئ، ومن يزعم أنه لا يخطئ فهو من أكبر المخطئين؛ فالعصمة وعدم الوقوع في الخطأ من صفات الأنبياء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه: «كل بني آدم خطّاءٌ، وخير الخطائين التوابون.»[55] ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يرشد الإنسان إلى حلول للخلاص من الأخطاء التي ستسوقه إلى أودية جهنم.

إن الخلاص من الأخطاء فحسب لا يكفي؛ لأن على الإنسان أن يرقى ويسمو درجات وأن يقطع بعض الأشواط في سبيل ذلك. إلا أننا يمكن أن نقول إن محو خطايا الإنسان يعد بذاته ارتفاعا؛ فإذا ما قام ببعض أعماله الأخرى قد يصل إلى شواهق أخرى. وهكذا فبهذه الأعمال الإيجابية يتقدم إلى الأمام على الدوام، وأنا أعتقد أن هذا هو معنى السير في درجات المعرفة الإلهية. وإن أول هذه الأعمال هو إسباغ الوضوء على المكاره وضوءاً تام الأركان والسنن دون عيوب أو قصور.. الوضوء في البرد وفي الشتاء وفي الثلج، وفي ظروف يبدو أن الوضوء فيها غير ممكن. والثاني قضاء العمر في طريق المسجد.. مثل هذا العمر يكون مثل بذرة تتحول في الآخرة إلى شجرة باسقة ضخمة تعطي ثمار الجنة.. إذن، فهذا هو العمل الثاني: التوجه إلى المساجد البعيدة وعدم الانقطاع عن المساجد.

1- الهدف: الصلاة

والعمل الثالث هو انتظار الصلاة القادمة في شوق بعد الانتهاء من الصلاة، وهذا -كما جاء في حديث آخر- يعنى تعلق القلب بالمسجد.[56] الصلاة هي راحة الروح ونـزهة القلب. إن لكل إنسان رغبة شديدة في شيء ما، أما رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم الشديدة فقد كانت في الصلاة.[57] لذا، كان يقول لبلال: «يا بلال! أرحنا بالصلاة.»[58] ويشير إلى هذا بقوله: «وجُعل قُرّة عيني في الصلاة.»[59] وأنا أظن بأن الشوق الذي سيغمرنا ونحن ندخل الجنة هو الشوق الذي كان يحسه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مرة وهو يقوم للصلاة، لذا فإنه كان بعد كل صلاة ينتظر الصلاة الأخرى بكل شوق.

مع أن هذا الحديث يتناول أمورا ثلاثة، إلا أننا إن دققنا النظر نجد أن جميعها تدور حول محور واحد هو الصلاة؛ فالصلاة عامل مهم في حياة الإنسان، وهي معراج المؤمن، وهذه الصلاة التي تمتد وتسمو إلى مدارج المعارف أفضل منبِّه للإنسان للحقائق الإنسانية. الصلاة عماد الدين،[60] وهي التي تقود سفينة الدين؛ ولولا وجودها لما استطاع الدين البقاء طويلاً. وبما أن الصلاة عملية تنبيه، لذا، يجب أداؤها بحيث تؤدي وظيفة التنبيه هذه. فعلى الإنسان أن يصلي وقد أفرغ قلبه من أمور الدنيا ومشاغلها. ولهذا السبب لا تقبل صلاة من يدافعه الأخبثان.[61] أجل، فعندما يكون عقل الإنسان مشغولاً بمثل هذه الأمور عليه ألا يقوم للصلاة؛ لأن عقل الإنسان يكون آنذاك مشغولاً بشيئين. وفي مثل هذه الأوضاع تضيع أمور كثيرة في معظم الأحيان، كما أن القيام للصلاة بهذه الكيفية يعد إهانة للصلاة. ذلك لأنها ليست من الأمور البسيطة التي يمكن أداؤها كيفما كان. فالصلاة موجودة لكي تقوم بإنارة حياتنا ولا يصح الخروج منها بسرعة وبأي شكل من الأشكال.

2- التهيؤ للصلاة

من جهة أخرى فإن كل الترتيبات المتخذة لأداء صلاة بحضور قلب تكسب الإنسان الثواب، مثلها في ذلك مثل الصلاة. لذا، يجب على الإنسان أن يطرح عنه جميع مشاغله قبل أن يدخل ساحة العبادة، وأن يدخلها بشعور العبادة وحدها وأن يخلص نفسه من جميع المشاغل والمؤثرات الأخرى. في هذه الحالة يكتسب الإنسان في فترة الاستعداد للصلاة أجراً وثواباً، لأن نية هذا الإنسان كانت معقودة لأداء صلاة باطمئنان وحضور قلب، ونية المؤمن خير من عمله.[62] أليس من العجيب أن الآخرين عندما يذهبون للخلاء يقومون فقط بدفع حاجة طبيعية، بينما المؤمن عندما يذهب إلى الخلاء وهو يتهيأ للوضوء وللصلاة فإنه عندما يدفع حاجته يؤجر على ذلك أيضاً.

والحقيقة أن دفع الحاجة ثم التوضؤ لأداء الصلاة أمور مهمة لتهيئة الإنسان روحيا للصلاة. ومهما قيل في تفسير التهيؤ للصلاة بالوضوء من أن الوضوء يعادل الكهربائية الستاتيكية المتراكمة في الجسم في أثناء غسل ودلك الأعضاء، أو أي تفسير آخر فإن النتيجة لا تتغير. وفي الواقع فإن المؤمن عندما يتوضأ لا يخطر بباله مثل هذه الحكم أو التفاسير. فهو يفكر فقط في السبب الذي يتوضأ من أجله وهو الصلاة. والتهيؤ للوضوء هو التنبيه الأول، أما الوضوء فهو التنبيه الثاني وسماع الأذان هو التنبيه الثالث للصلاة. والحقيقة أنه في أثناء الوضوء، وفى ختامه يسنّ له الشرب من ماء الوضوء وقراءة بعض الأدعية؛ وهذا كله يدفعه إلى عالم ما وراء الطبيعة، فإذا أتبع هذا بصلاة السنة فإنه يكون قد تهيأ تماماً لصلاة الفرض.

أجل، كل شيء فى جو الصلاة يذكرنا بالصلاة بدءاً من الأذان المرتفع من فوق المآذن الذي يمس قلوبنا ويذكرنا بعظمة الله.. فنقوم ونسرع إلى المسجد تلبية لنداء الأذان، وعندما تنتهي آخر كلمة في الأذان نحس وكأن قلوبنا وأرواحنا قد ذابت معها، ثم نذهب إلى المسجد ونصلي النافلة، وهي بمثابة فتح أبواب صلاة الفرض.. ذلك لأننا نتوجه إلى الله في صلاة النافلة وكأن كل فرد منا يقول لله تعالى: يا رب!. إنني أريد أن أتوجه إليك وحدك.. أن أجد مثيل ما أبحث عنه... أن أراك وأن أسمعك.. وأن أعيش بك وحدك، ذلك لأن النظر إلى ما سواك، ومشاهدة غيرك والانشغال بسواك جهد ضائع وعمل خاسر، بينما أرغب أن أبتعد عن الأمور الفارغة وأتوجه إلى الأمور المهمة المثمرة.

وهكذا فإن صلاة النافلة تكون وسيلة مهمة في الاقتراب من باب الله والتهيؤ لصلاة الفرض بوعي كامل وتركيز كاف. الوضوء يؤدي دوره.. والأذان كذلك.. والخطوة الثالثة التي تؤديها هي صلاة النافلة.. في هذه الأثناء يقوم مؤذن جميل الصوت متوجها إلى الله ويقيم الصلاة.. هنا يكون الانفعال قد بلغ مداه واشتعلت العواطف والتهبت المشاعر. إن لم تلتهب هنا العواطف؛ ولم يتم التوجه الكامل لله تعالى ولم يحن الإنسان إلى محرابه فمعنى ذلك أن هناك نقصاً ما في مكان ما. عندما تتم الإقامة يكون المؤذن قد أنـزل الضربة الأخيرة على كل ما يشغل الإنسان عن الله فيدخل العبد إلى الصلاة بقول: "الله أكبر" في مثل هذا الجو وبهذه النية، ويكرر هذا القول وهو يركع وهو يسجد فيعلن في كل ركوع وفي كل سجود عظمة خالقه: يا رب..! أنت كبير عظيم الشأن وأنا ضعيف عاجز. أي يقف أمامه وقفة العبد المعترف بعبوديته وبضعفه. فيصل إلى لب العبودية وجوهرها.

يصل الإنسان في الصلاة إلى الله.. يصل إلى درجة أنه يوجه التحية إلى الله تعالى مباشرة.. هذه التحية التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى في أثناء المعراج.

3- محو الخطايا

عندما يذكر الحديث الشريف إزالة الخطايا يقول "يمحو الله". وكلمة "يمحو" تستعمل في إزالة شيء مكتوب. إذن، فالخطأ أو الخطيئة موجودة في الطبيعة البشرية بشكل نواة. والإنسان يستطيع أن يسقي هذه البذرة وينميها إن أراد، أو لا يعطي الفرصة لها لمثل هذا النماء. وعندما يقوم الإنسان باتباع وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم يمحو الله الخطايا ويحوّل قابلية الشر إلى قابلية خير. والآية الكريمة ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾(الرعد: 39) تشير إلى هذه الحقيقة. فهناك استعداد في الإنسان لمقارفة الخطأ؛ لأن طبيعة فيه لا يمكن فصلها عنه؛ وهذه صفة مهمة في الإنسان، لذا فإن التوجه والاهتمام بتطهير النفس شيء  يهم كل إنسان.

يمكن أن يقع كل إنسان في الخطأ، وقد يقضي حياته وهو منحرف عن الطريق القويم، غير أن الفرصة موجودة دائماً أمام الإنسان لكي يصلح هذه الأخطاء ويمحوها، وأن يرتفع في الدرجات العلى للخير. وإحدى الطرق الموجودة لتحقيق هذا هي الوضوء مهما كانت الظروف صعبة، والطريق الثاني هو السعي بشوق إلى المساجد وتعلق قلبه بها، وعقد النية على الرجوع للمسجد وهو يغادره. والطريق الثالث انتظار الصلاة بعد الصلاة.. هذه الطرق تؤدي إلى محو الخطايا من ناحية وإلى رفع الإنسان في مدارج الخير والكمال من ناحير أخرى.

4- الرباط

وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الأعمال بكلمة "الرباط" وكرر هذه الكلمة ثلاث مرات، وكما تطلق كلمة الرباط على كل نوع من أنواع البركة الفياضة المادية منها والمعنوية، فإنها تأتي بمعنى الحذر والانتباه لكل نوع من أنواع البلايا والمصائب، كما تطلق على ارتباط المرء بعمل ما أو نذر نفسه له. لذا، أطلقت كلمة "المرابط" على الجندي الذي يحرس مواضع خطرة ينذر نفسه لمثل هذه الحراسة.

وتشير الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ اٰمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200) إلى هذه المرابطة وتأمر بها. وفي آية أخرى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيلِ﴾ (الأنفال: 60) يأتي معنى الرباط من زاوية أخرى. وبما أن الرباط يأتي بمعنى حصر المرء نفسه لوظيفة ما ونذر نفسه لها، فإن الوظيفة المقصودة في الحديث هي الوضوء والرواح والغدو بين البيت والمسجد، وتعلق قلبه بالمسجد حتى وهو في بيته أو في وظيفته.. فإنْ عمل هذا فمعنى ذلك أنه نذر نفسه لله.

وعبارة رسول صلى الله عليه وسلم تفتح هنا باباً في الجناس إذ يقول: إن الرباط في الأصل يطلق على قيام الجنود في نقاط الحدود بنذر أنفسهم للدفاع عن بلدهم ضد الأعداء. فكما أن التهيؤ ضد الأعداء وحشد الحشود لهم في الأماكن التي يخشى دخول الأعداء منها يعد رباطا، كذلك فإن هناك معركة بين الإنسان وبين الشيطان والنفس، أي بينه وبين أعدائه، وتعد هذه المعركة من بعض الوجوه جهادا أكبر من ذلك الجهاد. والإنسان مكلف للقيام بكلا هذين الجهادين، أحدهما هو "الجهاد الأصغر" والآخر هو "الجهاد الأكبر"، وعندما يشتبك الإنسان في معركة مع أعدائه فإنه لا يجد فرصة لكي يفكر في أهواء نفسه، لذا فهناك احتمال ضئيل جداًّ أن ينهزم مثل هذا الشخص أمام نوازع جسده، ذلك لأن نفسه أصبحت مشغولة ومملوءة بفكرة الجهاد. ولكن ما إن يدع نفسه للراحة وللتراخي حتى تبدأ الأهواء بمهاجمة نفسه ويزداد احتمال التفافها حول روحه؛ لذا، فعليه بمراقبة نفسه وصيانتها جيدا، وهذا جهاد أيضا، وأهم سلاح مستعمل في هذا الجهاد هو الصلاة. والجهاد يكون تارة فرض كفاية وتارة فرض عين. وهناك مشابهة بين الجهاد المادي والجهاد الداخلي من ناحية فرضيتهما، لذا قال رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو راجع من إحدى المعارك: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.»[63]

إن تعلق قلب المرء بالمساجد، أي كونه مشغولاً بالصلاة -أو حسب الفهم النبوي الارتباط بالصلاة ارتباط عشق وشهوة وأن تكون الصلاة قرة عينه- فإن هذا يعادل عمل الفرد المرابط على جبهة القتال. إن أردنا إيراد خلاصة لملاحظاتنا حول هذا الحديث نقول: هناك ثلاثة أعمال يتعلق إثنان منهما بالتصرف ويتعلق الثالث بالنية بحيث تحيط هذه الأعمال بفكر الإنسان وأحاسيسه، لذا فحسب القاعدة الكريمة والمليئة بالبشارة ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ (هود: 114) فهي تطهر الإنسان من آثامه الماضية وتجهزه بوجد العبادة وبالارتباط بالله تعالى والنية الصالحة لكي يستطيع مواجهة أخطاء المستقبل وذنوبه.

الأول: عندما تكون الظروف الجوية غير مساعدة لوضوء سهل ومريح، كأن يكون الجو بارداً والماء باردا، أو لا يكون متيسراً بل نادراً بحيث يصعب استعماله للوضوء -طبعاً إن استثنينا الحالات الضرورية والمتعلقة بالحياة- عند الأشخاص العاديين، عندما يتوضأ الإنسان في مثل هذه الظروف الصعبة فإن هذا يكون مؤشراً على عمق إخلاص ذلك المرء وشدة ارتباطه بالله، وعلى رغبة عميقة عنده لنيل الثواب وشوق كبير لأداء وظيفة العبودية حتى عند أصعب الظرورف؛ والقاسم المشترك هنا هو الارتباط بالله تعالى. في مثل هذه الظروف عندما تمس بعض الذنوب مثل هذه القلوب فإنها لن تثبت فيها. أما المواضيع الأخرى المتعقلة بالوضوء كقيامه مثلا بتأمين التوازن الكهربائي.. أو مساعدته للإنسان للتغلب على توتره النفسي، أو تجدد الإنسان روحياً خمس مرات في اليوم فلن نتناولها هنا -مع أننا نسلِّم بها- لأنها خارج موضوعنا.

الثاني: أن الصلاة نوع من المعراج.. وأن التعود على التوجه للمساجد هو توجه لله تعالى وتمرين للبدن ومحافظة على نشاطه وحيويته.. وجيشان الروح جيشاناً يجاوز إدراك العقل، وولوج القلب إلى جو الصلاة قبل الصلاة وتأمينها للتركيز الواجب الوصول إليه قبل المثول بين يدي الله، وسلوك هذا الطريق الذي رمز إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة "كثرة الخطا".. سلوك هذا الطريق والتحول فيه والتغير فيه والتطهر فيه من الذنوب السابقة السوداء بمشاعر الندم الصادقة، وبالبكاء والأنين لكي تصبح صحيفته بيضاء ناصعة، ويدخل في دائرة صلاح يكون فيها الخير وسيلة لخير آخر وهو ضد الدائرة المفرغة. والذي يعزم على السياحة في هذه الدائرة يكون مَظهراً للآية الكريمة التي تمثل الوفاء ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ﴾ (الفتح: 2) من ناحية ماضيه، ثم يُدخله إلى حصن حصين بقوله "وما تأخر" من ناحية مستقبله. لذا، فإن الأعين شاخصة دائماً في كل منـزل من منازل هذه السياحة إلى "يمحو الله به الخطايا" وتهفو القلوب إلى "ويرفع به الدرجات"

الثالث: أن انتظار الإنسان أوقات الصلاة بلهفة تَقرُب من لهفة العاشق إلى الوصال، وتنظيم أوقات حياته ونشاطه حسب أوقات الصلاة مفهوم خاص للزمان يستطيع به الإنسان أن يملأ الفراغات الموجودة بين مختلف أوقات أعماله، وينقل الهدوء والاطمئنان والارتباط بالله تعالى الموجود في الصلاة إلى خارج أوقاتها، ويربط كل مشاغله الدنيوية بالله تعالى فيحول كل هذه المشاغل إلى عبادة، فتتحول العبادة المحدودة إلى عبادة غير محدودة فيكون أداء الصلاة بروح الانتظار عنوان ارتباط العبد بربه وبمثابة الجهاد المادي والمعنوي المعبر عنه بكلمة "الرباط".

وهذا الحديث الذي يقدم مقطعاً عميق المعنى من الحياة النيرة للمؤمن، هذا المقطع الذي يتزين بالوضوء ويرتفع في الصلاة إلى السماء... هذا الحديث مثال للحديث الموجز ذي الدلالات العميقة الشاملة. وبدلاً من إطالة الحديث أود الانتقال إلى بيان نبوي مضيء آخر. وهو في هذه المرة حديث قدسي. والأحاديث القدسية كما هي معروفة من قبل الجميع هي الأحاديث التي تكون معانيها من الله وأسلوبها من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ومروية عن الله تعالى من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.

ﺳ . مفاجآت للعباد الصالحين

يقول الله تعالى في هذا الحديث القدسي الذي يرويه البخاري ومسلم:

«أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عَيْنٌ رأت ولا أُذُنٌ سمعت ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَر.»[64] يتناول الحديث أخبار مفاجأة، إذ يفاجأ الإنسان هناك بمفاجآت لم تخطر على باله وفي أوقات لم يتوقعها. صحيح أن القرآن تحدث عن بعض نعم الجنة. إلا أنها ليست سوى خطوط عريضة وعناوين وإشارات، وإلا فإن من المستحيل فهم حقيقة هذه النعم في الدنيا. يقول ابن عباس في تفسيره لآية ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ (البقرة: 25) "لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء" وفي رواية أخرى: "ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء."[65] فعندما تذوقون نعمة هناك ستقولون "إنها تشبه الشيء الفلاني" ولكنها ليست أبداً ذلك الشيء . ذلك لأن نعم الجنة -مثلها في ذلك مثل الجنة- مخلوقة لكي تكون متلائمة ومتوافقة مع الحياة الأبدية والخالدة. لذا، فإن من السذاجة أن نتوقع هناك رؤية البطيخ أو التفاح... الخ من فواكه هذه الدنيا.

الجنة هي دنيا المفاجآت، تندهش فيها العقول وتحار فيها الأنظار وتنتشي فيها القلوب وتثمل فيها النفوس، حتى يكاد الإنسان يحتار ماذا يفعل أمام كل هذه النعم، لأن الجنة معرض للنعم المتنوعة المتسلسلة والمتعاقبة للحياة الأخروية. ثم إن رؤية جمال الله تعالى -التي لا تعادل فرحتها فرحة آلاف من سنين الجنة- هي من مفآجات الجنة. أي أن المؤمنين بعد دخولهم الجنة سيرون هناك ربهم وإلا فإن الله تعالى منـزه عن الزمان وعن المكان حتى ولو كان المكان والزمان مكان الجنة وزمانها. أجل، فقد هُيِّئَت مفاجأة مشاهدة جمال الله تعالى للعباد الصالحين في الجنة.

و"الصالح" معناه الشخص الذي يعمل عملاً لا عيب فيه ولا قصور ولا خلل، أما "الصالحات" فهي الأعمال التي عملت دون عيب أو قصور أو خلل. ولا يمكن تعيين عما إذا كانت أعمال معينة تعد من الصالحات إلا بقياسها بالقسطاس الإلهي. أي أننا نعلم وحسب المقاييس الإلهية كيف تؤدى الصلاة ويتم الصوم وتؤدى الزكاة ويتم الجهاد وكيف تتم المراقبة والعالم الداخلي للإنسان ويُهَذَّب الضمير وتثار الروح وتقوى الإرادة وتنمى العواطف والمشاعر. إننا نعلم كل هذه الكيفيات بعرض هذه الأعمال على المقياس الإلهي لنستطيع تقييمها. وبهذا الاعتبار يجب على الإنسان تعيير نفسه حسب البيان الإلهي وبالشكل الذي يستطيع به الحصول على مرضاة الله تعالى، فيكون بذلك قد خطا الخطوة الأولى في عمل الصالحات.

أجل، فكما يقوم الموسيقيّ قبل العزف بتعيير آلاته الموسيقية، كذلك يجب عليكم إن أردتم الحصول على مرضاة الله أن تضبطوا أنفسكم حسب القرآن، وإلا لا ينظر إلى وجوهكم. أجل، إن الله تعالى سميع وبصير. يسمع كل صوت ويرى كل شيء، ولكن إن كان صوتكم غير ملائم للمقام الالهي فلن يسمعكم، وتكونوا قد فشلتم في إيصال صوتكم.

والصالحات في معنى آخر، هي الأعمال التي تؤدى بكل عناية وبكل دقة. وذلك بناء على معرفة القائم بهذه الأعمال أن الله تعالى يراقب عمله ويلاحظه. إذن، فعلى الإنسان أن يؤدي كل الأعمال الخيرة التي يقابلها بعناية ودقة. ذلك لأنه لا يعلم أحدٌ أيَّ عمل من أعماله سيكون وسيلة لإنقاذه، لذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اِتق الله ولا تَحْقِرَنّ من المعروف شيئاً.»[66] وفي الحديث القدسي الذي نحن بصدده ترد عبارة "لعبادي الصالحين"، ومن ثم فإن أصحاب الأعمال الصالحة لهم قربتهم من الله تعال التي جعلتهم عباداً محبوبين من قبله تعالى. وفي حديث قدسي آخر يشرح موقف الذي يحبه الله تعالى: «فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمع به وبصره الذي يُبصِر به ويده التي يبطش بها ورِجْله التي يمشي بها.»[67]

أي إن العبد يكتسب بأعماله الصالحة قرباً من الله تعالى بحيث ينصبغ بصبغته ويصبح الله تعالى هو المحرك له.. أي يصبح كالميت في يد المغسل يحركه كيفما يشاء، فما ألذ هذا الإجبار الذي يتم من قِبل الرب الذي يدفعه إلى طريق الخير. ومثل هذا الشخص يستحيل عليه أن يعرض عن الله، ذلك لأنه أحرز مرتبة كبيرة بحيث يقول الله عنه "لعبادي" أي يصفه بالعبودية له، فقد وصل إلى درجة المقربين. ومثل هذا الشخص يقول ضارعاً: "خذ بيدي يا رب! خذ بيدي، فإنني لا أستغني عنك."

مثل هذا الشخص يعمل كل ما هو جميل، وفي كل عمل يعمله يبحث عن وسيلة لخلاصه، وبما أنه لا يعلم أي عمل صالح سينقذه، فإنه لا يدع أي عمل خير يفلت من يده، وكل هذه الأعمال ستكون بمثابة صندوق مفاجآت له، وعندما يدخل الجنة يوم القيامة تفتح هذه الصناديق أمامه واحداً إثر آخر فيرى مفاجآت لـم تـرهـا عين ولا تسـمع بها أذن.

أحياناً يكون حتى إرواء كلب سبباً في دخول الجنة[68] وأحيانا يكون حبس قطة حتى الموت سبباً في دخول جهنم.[69] فإذا أخذنا هذه الحقائق بنظر الاعتبار علمنا أن الجنة وما يعطى فيها إنما هي مفاجأة على الدوام. ثم إن الإنسان لا يمكنه إدراك إلا ما يستطيع مشاهدته أو سماعه أو ما يستطيع تصوره. ولكن الإنسان لكونه محدوداً فإن أحاسيسه هذه محدودة أيضا، ومن ثم فإنه لا يستطيع بحواسه المحدودة هذه إلا إدراك الأمور والأشياء المحدودة. أي إنه لا يستطيع إدراك ومعرفة النعم الموجودة في عالم لا نهائي بأحاسيسه القاصرة والمحدودة هذه. يقول الشاعر ضياء باشا:

"لا يمكن لهذا العقل الصغير إدراكُ المعاني العالية
ذلك لأن هذا الميزان لا يستطيع وزن هذا الثقل"

وقد يكون أحد التوجيهات ما يأتي: يضاعف الله تعالى أجر الأعمال الصالحة، فيعطي أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً مائة أوسبعمائة أو ألفاً أو مائة ألف أو مليوناً وأحياناً بعدد لا يعد ولا يحصى. وليس هناك من عبد يعرف بالضبط نوعية المكافأة المعطاة له، لذا فإنه عندما يجازى بمكافآت هي أضعاف أضعاف عمله بشكل يفوق التصور يوم القيامة يكون ذلك مفاجأة كبرى لم تخطر بباله قط.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بهذه الحقائق العميقة بكلمات قليلة وبشكل فوري ودون تفكير مسبق ودون تهيئة مسبقة وبشكل ارتجالي. هذا الكلام فقط يكفي لإثبات كيف أنه كان صاحب فطنة كبيرة تفوق الإدراك البشري. ولأننا مفتونون بكلامه صلى الله عليه وسلم لذا، لا نملك أنفسنا من الإشارة إلى بعض أحاديثه الأخرى.

ﻋ . الجنة محفوفة بالمكاره، والنار بالشهوات

يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديث ينقله مسلم والبخاري: «حُفّت الجنة بالمكاره وحُفّت النار بالشهوات.»[70] جهنم محفوفة بالشهوات وبالأهواء وبالأجواء التي تماشي رغبات النفس، أما الجنة فهي محفوفة -حسب المنطق الظاهري للعقل- بالمكاره وبالصعوبات. والذين يرون كل شيء  في المادة ويفسرون كل شيء  بالمادة يتوهمون أن الذين يسلكون الطرق الواصلة إلى الجنة لا يتصرفون تصرفاً جيداً.

والحقيقة أن كلا من الجنة وجهنم تعدان نعمة لنا.. ففي عملية سلوك الطريق تقوم الجنة بتشويقنا لسلوك الطريق المستقيم وتقوم جهنم بتحذيرنا من سلوك الطريق المعوج. فكلما نظرنا إلى الوجه المشرق للجنة اشتقنا للوصول إليها، وكلما تطلعنا إلى الوجه المرعب لجهنم بذلنا جهودنا لمنع أنفسنا من الوقوع في هاويتها فنتشبث بالجنة ونتمسك بها، وهكذا يكون كلاهما رحمة لنا. غير أن الله تعالى عرض علينا الجنة وجهنم كمتاع، وقدمهما في سوق العمل، والإنسان بالإرادة المعطاة له يستطيع أن يختار أحد هذين المتاعين، فمن استعمل إرادته اختار الجنة وكان من السعداء، ومن أراد اختيار جهنم سلك طريقها وكان من الأشقياء.

أجل، إن جهنم محفوفة من كل جوانبها بجو من الشهوات، ويبدو هذا الجو من الخارج في منظر جذاب فيه كل شيء: الطعام والشراب والنوم وكل شهوات النفس وكل ما يشبع رغبات الجسد، وتحيط هذه الشهوات وهذه الرغبات بجهنم إحاطة السوار بالمعصم. والخلاصة أن طريق جهنم طريق كل أنواع الرغبات والشهوات النفسية والجسدية.

أما الجنة فهي لؤلؤة محاطة بصدفة من المكاره.. الوضوء وأداء الصلاة والذهاب إلى الحج وإيتاء الزكاة والجهاد ومواجهة المتاعب والمصاعب في سبيل الله، وأن يعامل الإنسان معاملة الأسير في وطنه، ويجرد من كل حقوقه الإنسانية وينقل من سجن إلى سجن، ويعرض للإيذاء وكل صنوف التعذيب دون أن يكون له ذنب سوى قوله "ربي الله"، ونفيه من وطنه بل حتى تعرضه لحكم الإعدام.. الخ من المكاره والمصاعب التي يتعرض لها، والتي تبدو للعقل الظاهري أموراً كريهة وصعبة على النفس. أجل، فالمكاره والمصاعب هي التي تحيط بالجنة وتسترها بستارها. والذين ينظرون من الخارج لا يرون إلا هذه الأستار. وطبقا لهذه الأستار فإن جهنم تبدو مدغدغة لشهوات النفس، والجنة تبدو مفزعة. وهذا هو السبب في أن معظم الناس خدعوا بهذه المظاهر الخارجية لأنهم اكتفوا بمطالعة الوجه الخارجي لهما. لذا، كان طالبو جهنم كُثُراً وطالبو الجنة قلة.

يركض أكثر الناس وراء الحسابات القصيرة الأمد. فهذا الذي يقول "نعم إن الصلاة شيء جميل، ولكن أداءها خمس مرات في اليوم يبدو لي أمرا صعبا" قد قصر نظره على المشقة القليلة الموجودة في الصلاة. وكما أن صعوبة الوضوء في أيام الشتاء أصبحت سبباً عائقاً أمام البعض، غير أن هذا الوضوء أصبح سبباً لتقريب الجنة إلى الذين تحملوا مشقته القليلة خطوة فخطوة. ويمكن إيراد الشيء نفسه بالنسبة للصوم والزكاة والحج والجهاد ولكن ما أكثر من منعتهم عقولهم من التصرف بعقلانية فتعثروا بهذه العقبات الصغيرة ولم يستطيعوا القفز فوقها فأصبحت المكاره المحيطة بالجنة حائلاً بينهم وبينها.

أما جهنم فتشبه الساحرة الشريرة التي وضعت الشهوات البسيطة مصائد للناس يهرعون إليها وهم لا يعلمون أنها خطر مميت، فهم مثل الذباب الذي يهرع إلى العسل فيكون فيه مهلكه... أجل، فالشهوة عندهم عسل سام. أو يمكن أن نشبه هؤلاء بالفراشات التي تحوم حول النار فتحترق فيها وكذلك يجد هؤلاء أنفسهم في جهنم، عندما يقبلون نحو الشهوات المحيطة بها. ذلك لأنهم لا يرون ما وراء هذه الشهوات التي تشكل ستاراً حول جهنم فيقبلون عليها مستجيبين لدواعي رغبات أجسادهم.[71]

أما الذين تعرفوا على رسول صلى الله عليه وسلم في مفترق الطرق وسلكوا في حياتهم طريقهم حسب إرشاده صلى الله عليه وسلم والذين تفتحت قلوبهم للحقائق فإنهم لا ينخدعون أبداً بمظاهر المكاره المحيطة بالطرق الموصلة إلى الجنة بل يعرفون حقيقتها. ذلك لأن الجنة موجودة في قلوبهم بذرة تنمو شيئاً فشيئاً حتى تستولي على عوالم أرواحهم. وبينما يبحث الآخرون عن الجنة في الخارج يسعد هؤلاء بالجنة الموجودة في قلوبهم، بينما لا يستطيع الذين يعيشون جنتهم المادية في الحياة الدنيا أن يعيشوا طوال حياتهم دقيقة واحدة من السعادة التي يشعر بها هؤلاء الذين يضمون الجنة بين جوانح قلوبهم. "الإيمان بَذْرة تحمِل الجنة في داخلها، والكفر بذرة أخرى تحمل جهنم في داخلها. وهاتان البذرتان بعد نموهما تنقلبان في الآخرة إلى جنة وإلى جهنم حقيقيتين؛ لأن المؤمن يعيش حياة الجنة حتى وهو في الدنيا ولكن الشكل الظاهري لحياته يبدو وكأنه محاط بالمكاره والمصاعب."

إن الأرواح التي تخفق شوقاً إلى الجنة عندما تسير في طريق الجنة وتقطع هذه المنازل -هذه المنازل التي تعد كل واحدة منها سعادة خاصة- ستواجه بما تكرهه النفس والجسد -رغم الروح- من أداء العبادات البدنية كالوضوء والصلاة والصوم والحج، والتكاليف الصعبة الأخرى مثل الزكاة والصدقة وغيرهما من الكلف المالية أو الكلف المادية والبدنية كالحج والجهاد.. هذه التكاليف والأعباء قد تجعل طريق الجنة لبعضهم طريقاً يصعب سلوكه. فبعضهم يشق عليه الوضوء والصلاة، وبعضهم يشق عليه الجوع والعطش في الصوم، وبعضهم يؤثر عليه حب المال والنفس، وبعضهم بمجموع بعض هذه الصعوبات أو كلها فلا يصلوا إلى الجنة بكل مباهجها وزينتها وروعتها وهي على بُعد بضع خطوات منهم.

أجل، فكما أن الجنة عالم للسعادة التي لا يستطيع العقل تصورها ولا بلوغها حتى في الأحلام إلا أن طريقها مملوء بالمكاره والمشقات والصعاب والمسؤوليات، وكذلك جهنم هي بئر غائرة وواد مهلك ولكن طريقها مملوء بالشهوات الجسدية والأهواء النفسية والرغبات الدنيوية التي تسترعي إليها الأنظار وتسحر بها الأرواح الضعيفة وتجذب إلى مركزها مثل ثقب أسود كل من يمر بالقرب من ساحتها بقوة عنيفة. ما أكثر من تسحرهم أستار جهنم الكاذبة فيتركون أنفسهم لتهوي في أوديتها، كما تخيفهم المصاعب التي تبدو في أستار الجنة فينكصون على أعقابهم ويخسرون السعادة الأبدية. أجل، فكيف يوجد من يعرف الجنة ولا يشتاق ويسعى إليها، ومن يعرف جهنم ولا يجتهد في الابتعاد عنها، ولكن سر التكليف والإيمان بالغيب والامتحان في الدنيا اقتضى كل ذلك أن تضع الجنة على وجهها قناع الصعوبة والمشقة والمكاره وأن تلبس جهنم فستاناً من الشهوات والرغبات.

ولكن انظر هنا إلىهذا السحر وتلك القوة في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصف محتويات وحقيقة هذين الطريقين الطويلين العظيمين بكل الانشراح والسعادة الموجودة في أحدهما، والمخاطر والمخاوف الموجودة في الآخر بأسلوب راعى فيه منتهى الإيجاز كعادته دائماً، فاستعمل في شرح هذا الأمر العظيم بضعة كلمات. ولا ننسى هنا أن نستطرد فنقول إننا نشير فقط إلى جواهر من كلام سيد المرسلين ونكتفي بذلك ولا نتعرض إلى النواحي البلاغية ولا إلى قوتها اللغوية، ولو تناولنا هذه النواحي بالتحليل والدراسة لشاهدنا معاني وأموراً دقيقة أخرى كذلك. ولكن هذا موضوع آخر لا نتعرض له هنا.

ﻓ . حقوق ثلاثة: حق الله، حق الدولة وحق الدين

ينقل الإمام الترمذي الحديث الآتي: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإنْ تَأَمَّر عليكم عَبْدٌ حبشيّ، وإنه من يَعِشْ منكم فسيري اختلافاً كثيراً فعليكم بِسُنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ. وإياكم ومُحْدَثات الأمور فإنّ كل بِدْعة ضلالة.»[72]

يتحدث هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة حقوق. أولها التقوى التي هي حق الله، والثاني هو السمع والطاعة وهو حق الذين يديرون الدولة، والثالث هو الارتباط بالسنة، وهو حق الدين. التقوى: كلمة مشتقة من "الوقاية" وتعني من جهةٍ رعايةَ قوانين الشريعة الفطرية والدخول إلى حماية الله تعالى وتأمين الصيانة والحفظ إزاء قوانين الشريعة الفطرية في حال مخالفتها.

ثم إنه من الواجب إطاعة من تختارونه ليحكمكم حتى ولو كان عبداً حبشياً أسود. وهذه ديمقراطية فوق الديمقراطيات؛ وإن البشرية حتى الآن لم تستطع الوصول إليها؛ ومن الواضح أنها ستأخذ وقتاً طويلاً قبل أن تصل، مع أن هذه الديمقراطية دعي إليها قبل أربعة عشر قرناً. غير أنه ليس من المناسب إطلاق تعبير أو كلمة "الديمقراطية" على النظام الذي أتى به نبي من الأنبياء. ذلك لأنه ما من مفهوم للديمقراطية في الدنيا استطاع الوصول إلى مثل هذا الأفق، إذ لم يتأسس بعد مثل هذا المفهوم أو الفكر في أي أمة من الأمم التي تدعي المدنية. فالسود في أمريكا لا يزالون مواطنين من الدرجة الثانية، وهناك بلدان لا يعدون السود من البشر. بينما أبان الإسلام وقبل عصور عديدة أن الناس إن اختاروا مثل هذا الشخص بملء إرادتهم فيجب عليهم آنذاك إطاعته، كما يتبين من هذا الحديث أن طريق الخلافة مفتوح أمام الجميع. فإن إراد الناس أن يختاروا عبداً أسود ليكون رئيساً عليهم كان لهم ذلك وتجب طاعته على الجميع. فالمهم هنا ليس الشخص المنتخب، بل المهم أن من سينتخبه هم السواد الأعظم من الناس.

إن قوله تعالى ﴿اَلْيَومَ أَكْمَلتُ لَكُم دِينَكُمْ﴾ (المائدة: 3) يفيد أن الدين قد اكتمل، أي لم يبق هناك أي شيء  يقال. فلا يمكن إدخال أي شيء جديد فيه، ذلك لأن أي بدعة جديدة تدخل إلى الدين تعني إماتة سنة من السنن الشريفة. لذا، كان من الواجب الاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين من بعده. وهذا الاعتصام لا يكون بالأيدي وإنما بالعضّ عليها بالنواجذ، فسنته مثل طير السعد الذي يجب الاحتفاظ به جيداً بعد اصطياده. ثم إن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تبلغ للآخرين عن طريق الفم، ومن يتكلم ضدها تحد له الأسنان ولا يسمح له بإطالة لسانه عليها.

كم يتمنى القلب لو أننا استمعنا إلى هذا الحديث من سلطان البيان نفسه واستطعنا فهمه، إذن، لكانت هذه الجوانب التي حاولنا شرحها غنية. فكل نافذة مفتوحة على كلامه توصلنا إلى معان غنية جديدة. ولا يسعنا ونحن نسمع حديثه صلى الله عليه وسلم إلا أن نقول: "صدق رسول الله"

ﺻ . اللـدْغ من جُحْرٍ مرتين

يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم في حديث ينقله البخاري ومسلم:

«لا يُلْدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحدٍ مرتين.»[73]

لن نقف طويلاً أمام هذا الحديث الذي يجب على رجال السياسة في المستقبل أن يهتموا به اهتماماً كبيرا، بل سنكتفي ببعض الإشارات حوله. ومثقفو الغد من الذين انتبهوا فاهتموا بثقافة ومفاهيم أمتهم والذين سيقيمون أسس ومعالم عالمهم من داخل عالمهم... هؤلاء المثقفون السائرون في قوافل النور يجب أن يقفوا طويلاً أمام هذا الحديث ويتأملوه جيداً ويقيموا جميع أسس سياستهم الداخلية والخارجية على الدروس المستنبطة منه، فيكونون بذلك قد وجدوا طريقاً مهماً يقودهم إلى النجاح، وإلا فإن الانخداع في ساحة السياسة والخداع لن ينتهي أبدا، وسيبقى شعبنا مخدوعاً على الدوام.

ﻗ . الناس معادن

على علماء التربية في المستقبل أن يمحصوا جيداً هذا الحديث الشريف الذي يرويه البخاري ومسلم: «الناس مَعادِنُ كمعادن الفضة والذهب. خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.»[74]

كأن الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه هذا يلقي على المربين وعلماء النفس هذا الدرس: إن معرفة شخصية الإنسان وطبيعة معدنه ضروري ومهم جداًّ عند تربيته. وسيماء الشخص قد يكون من أمارات عالمه الروحي. لذا، يجب أولاً معرفة العالم الداخلي والعالم الروحي لكل إنسان، لكي يوضع ويصهر في البوتقة المناسبة له، لأن التربية تعني فيما تعني إعطاء شكل ما. وهذا لا يتم إلا بالقدرة على إذابة ذلك الإنسان في بودقة معينة. والقيام بجهود تربوية بشكل عشوائي لن يكون له أي فائدة بل قد يكون وسيلة لإلحاق الضرر. لذلك قال الله تعالى لرسوله الكريم منذ البداية: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108). أجل، إن أي دعوة إلى التفكير يجب أن تكون على بصيرة. والدعوة ببصيرة هي الدعوة الواعية التي تعرف من تخاطب وما غاية الخطاب وبأي مقياس تتم الدعوة. إذن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يختار الطريق الواعي لدعوته ويوصي أمته بذلك، والحقيقة أن الله تعالى هـو الـذي يأمر بذلك مباشـرة.

يجب معرفة طبيعة كل شخص: في أي درجة يذوب ويجد ذاته. من وإلى أي بوتقة يؤخذ... وفي أي أنبوب اختبار يصفى... كل هذه الأمور يمكن معرفتها عند الدعوة على بصيرة. الأشخاص الواعون في الجاهلية والذين كانوا على بصيرة وأصحاب عقل وإنصاف عندما فتحوا أعينهم على الحق والحقيقة وتعرفوا على الإسلام ودانوا به أصبحوا في مقدمة صفوف المسلمين. ذلك لأن الذهب عندما يذوب في بودقة يبقى ذهبا، والفضة تبقى فضة والنحاس يبقى نحاساً فلا ينقلب أي معدن إلى معدن آخر أبدا، فالذي كان معدنه ذهباً في الجاهلية بقي معدنه ذهباً عندما أسلم، ولكن بشرط واحد وهو "إذا فقهوا"، أي بشرط أن يتفقهوا في الدين ويتعمقوا في فهمه.

ولكي يكونوا كذلك فلا بد لهم من معلم ومن مرشد، أي يحتاجون إلى كيمائي يتناول نفوسهم فيذيب كلا منها في بوتقة خاصة بها. أجل، فلا بد من هذا لنفخ الإسلام فيهم ولا يمكن لهؤلاء الوصول إلى الفقه إلا بهذا الشكل.

ر . الظلم وخيم العاقبة

لا نملك أنفسنا من إيراد هذا الحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لَيُمْلِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه» ثم قرأ: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَة إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد﴾ (هود: 102).[75] إن الله يمهل الظالم المرة تلو الأخرى، أي يقابل الظالم والذي أعلن عصيانه له بالإمهال، ولكن إن أخذه أخيراً لم يفلته. وهذا معناه أن الظالم تجاوز حده وأن الكأس قد فاض فلم يعد هناك مجال للمهلة.

لله تعالى قوانين جارية في الكون لا تبديل لها ﴿لاَ تَبدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: 30). ومن هذه القوانين كون الظالم سيفاً بيد الله، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخصوص: «الظالم عَدْلُ الله في الأرض يَنتقم به ثم يُنتقم منه.»[76] الظالم هو سيف الله يؤدب به الله من تجاوز حده، ثم يأخذ الظالم أخذاً وبيلاً.. الظالمون اليوم سادرون في غيهم، ولكن إياك أن تيأس وأنت تشاهد هذه الأوضاع فكم من قرى أمهلها الله تعالى وكان يقول لها "كلي واشربي وتمتعي" ثم أخذها أخذ عزيز مقتدر.[77]

انظروا حواليكم بتمعن ستجدون أمثلة حية على ما نقول. "سَدوم" و"عامورة" و"بومبيي (Pompéi)" ليست إلا أمثلة ثلاثة فقط... من يدري كم من أمثلة أخرى موجودة لا نعرفها، أو كانت أقل عبرة من هذه الأمثلة فتم نسيانها.. ولكن كل هذه الأمثلة شاهدة على هذا القانون الإلهي. ولماذا نذهب بعيدا..؟ ألم تكن فوق هذه الأراضي التي نعيش عليها دولة عليّة عثمانية.. هذه الدولة التي لم يكن يخطر على بال أحد إمكانية زوالها، ولكنها عندما سقطت أصبحت إحدى ذكريات التاريخ التي نتذكرها بقلوب مفجوعة. واليوم تكافح فئة قليلة حصرت داخل حدود ضيقة من أجل البقاء أمام التيارات الداخلية والخارجية التي تستكثر عليها حتى حق الحياة في هذه المساحة الصغيرة. والقانون الالهي الذي لا يتغير هو ﴿وَكَذَلِكَ أخْذُ رَبِّكَ...﴾ (هود: 102)

ويستطيع المؤرخون الحقيقيون وعلماء الاجتماع أن يستفيدوا من هذا القانون الإلهي الذي لا يتغير، ومن الأمثلة التي تحفل بها مقابر التاريخ، يستطيعون الاستفادة وأن يخلدو أنفسهم عصوراً عدة. ونحن نترك تفسير هذا الحديث لهم لننتقل إلى حديث آخر.

ﺷ . في ظل عرش الرحمن

«سَبعةٌ يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّه يومَ لا ظِلّ إلا ظِلّه: الإمام العادل، وشابّ نَشَأَ بعبادة الله عز وجل، ورجل قلبُه معلَّق في المساجد ورجلان تَحابَّا في الله اجتمعا عليه وتَفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تَصَدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تَعلم يمينُه ما تنفق شمالُه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه.»[78]

هذه موضوعات سبعة يمثل كلُ موضوع منها أهمية كبرى من ناحية الإرادة الإنسانية. فإيفاء حق بعضها صعب وشاق، وبعضها شباك للروح، ولو تخلص الإنسان من بعض هذه المصايد فهناك احتمال على الدوام أن يسقط في البعض الآخر ولكن إمكانية الوقاية من الوقوع في هذه المصايد أمر وارد إن التجأ الإنسان إلى عناية الله وحمايته، وبذل كل إرادته.. أي إن مقومات هذا الطريق هو استعمال الإنسان إرادته حق الاستعمال مع الاستعانة التامة بالله والالتجاء إليه.

مثل هذه الجماعة القدسية التي يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه هذا والتي اتحدت فيها الإرادة مع الارتباط بالله والاستعانة به.. هذه الجماعة هي الجماعة التي تخيلها الكتّاب المثاليون في المدن الفاضلة والتي لا يجدونها في الواقع العملي، مما يملأنا رغبة وطموحاً في الوصـول إلى مثل هذه الجماعة وتحقيقها واقعياً.

أجل، في ذلك اليوم الذي لا تحجب الشمسَ فيه غيمةٌ واحدة.. في ذلك اليوم الذي ترسل الشمس حرارتها اللاهبة إلى كل مكان فتغلي الأدمغة في الرؤوس ويرتفع العرق حتى الأذقان وتنقطع الأسباب ويبدو كل شيء  وكأنه عدو للإنسان.. في ذلك اليوم لا يبقى هناك ملجأ ولا منجى ولا ظل إلا حماية الحق تعالى وعنايته.. وسواء أكان هذا ظل العرش أم غيره فهذا لا يهم إذ المهم تغير النظام الذي نعرفه وانقلابه رأساً على عقب وتبدل المقاييس وتبدل الأرض والسماء. في هذا اليوم المرعب لن يكون أحد عوناً لاحد، إذ لن تنفع أي معونة ولا أي مساعدة آنذاك.. فمن يستطيع فعل ذلك في هذا اليوم الذي تنقطع فيه الأصوات، وتبلغ القلوب الحناجر، وتدور الرؤوس وتشخص فيه الأبصار..؟ في مثل ذلك اليوم من يحمي من..؟ من يستطيع ذلك؟ في مثل ذلك اليوم ليس هناك إلا ملجأ واحد.. اللجوء إلى ظل الله أيْ إلى حمايته، وهذه الحماية تشمل هؤلاء الأشخاص:

أ. رؤساء الدول الذين وعوا مسؤولياتهم في الدنيا وراعوا الأمانة المودعة لديهم.. أي راعوا الحق والعدل والاستقامة.

بـ. الشاب الذي نشأ في طاعة الله تعالى وذلك في أوج فترة غليان النفس والجسد.

ﺟ. رجل العبادة الذي تملكه حب العبادة فأصبح قلبه معلقاً بالمساجد.

د. المتحابين في الله.. الذين يجتمعون على حب الله.. ويتفرقون على حبه.. أي الذين جعلوا رضا الله ومحبة الحق محراباً لهم.

ﻫ. الرجل الكامل الرجولة الذي يستطيع أن يديم حياته على خط "مخافة الله" و"مهابة الله" والذي يستطيع المحافظة على عفته بكل حساسية، والمصمم على الوقوف أمام رغباته وشهواته، القائل دائماً لنفسه الأمّارة بالسوء: "إنني أخاف الله رب العالمين."

و. الشخص الذي يقتصد من مصاريفه ولو كان به خصاصة لكي ينفق في سبيل الله رمزاً على إخلاصه ووفائه لله بحيث لا يعلم أحد غير الله انفاقه هذا، وتبلغ حساسيته في هذا الموضوع إلى درجة الغيرة فلا تعلم يساره ما تنفق يمينه...

ز. رجل القلب والعواطف الذي يغني أوقات وحدته وعزلته بالتأمل وبالتفكر والمراقبة ويترجم عواطف قلبه دموعاً تجري من مقلتيه ويستمد قوة إرادته من الله تعالى، وبحواجز هذه الإرادة الفولاذية يحطّم كل رغبات المعصية وينسفها نسفاً... فهذا هو رجل القلب والعاطفة.

أجل، فقد ورد في أحاديث أخرى أن هذا الإمام العادل يكون يوم القيامة على منابر من نور يتلقى عطايا الله،[79] ويرتشفها، وهذا الشاب الذي قضى شبابه عفيفاً ينال رضا الله، وذلكم الرجل المعلق قلبه بالمساجد يكون في ظل الحماية الإلهية، والمتحابون في الله ينالون المحبة الإلهية، والذي ربط قلبه بمهابة الله ومخافته سيكون في أمان مما يخشاه يوم القيامة. وهذا الرجل رجل الوفاء الذي يؤدي صدقته بمقياس دليل صدقه سيجد مقابلها من نعم الله -الذي هو خير الأوفياء- ما يفوق خياله، وأخيراً رجل العاطفة والقلب الذي يكون ظاهره حافلاً بالمعاني وباطنه عميق الغور القدوة الحسنة للناس الذين يعرفونه بجوانبه المشرقة هذه، مثل هذا الرجل عندما يخلو إلى ربه تتفجر أحاسيسه وعواطفه دموعاً منهمرة، وهو إلى جانب اجتيازه جميع المصاعب والمفاوز وإلى جانب نيله العطايا في الآخرة فإنه يعطي نموذجاً للمجتمع المثالي وإطاراً للأمة المثالية التي تقود الإنسانية إلى هذه المثل الرفيعة.

ولا أدري أهناك حاجة لتكرار القول أن معاني عميقة عمق البحار والتي لا يمكن التعبير عنها إلا بمجلدات قد صيغت في أسطر قليلة فكأن القطرة الواحدة استوعبت بحراً زاخراً.

تـ . الدنيا ظل

في حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استَظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها.»[80]

ما الدنيا؟ وكيف يتصرف الإنسان تجاه شيء  زائل ووقتي؟ ثم لماذا أتى الإنسان إلى هذه الدنيا وإلى أين يغادرها؟ هذه هي المسائل الرئيسة للفلسفة والتي قيل الشيء الكثير عنها طوال عصور عديدة. وكما هو واضح فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بشكل وجيز وبليغ. وهذه المسألة وغيرها من المسائل التي لا يستطيع الآخرون شرحها وإيضاحها في مجلدات يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم بأوجز شكل وأبلغه وأوضحه. أجل، إن الإنسانية جمعاء معجبة ببيانه الوجيز.

ﺛـ . مميزات خمسة لسيد البشرية

«أُعْطيتُ خمساً لم يُعْطَهنّ أحدٌ قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعْب مسيرةَ شهر، وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ. وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تُحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصةً وبُعثتُ إلى الناس عامة.»[81]

أَعطى الله النعم بمعناها الكلي للجميع، وبمعناها الخاص لكل أمة ولكل نبي، فلكل منهم نعمة خاصة ولطف خاص، فلآدم عليه السلام ولأتباعه أعطاهم الصفوة ونيل شرف فَهْم معاني الأسماء الحسنى، ولنوح عليه السلام روح الكفاح والعزم والعزيمة، ولإبراهيم عليه السلام درجة أبوة العديد من الأنبياء وعشق التوحيد وخلة الرحمن، ولموسى عليه السلام قابلية التعليم والتربية والعلوم الاجتماعية والدراية في إدارة المجتمع ولعيسى عليه السلام جانب اللين والشفقة والصبر والتحمل ونشر المسامحة في المجتمع والمحبة بين الناس، ولسيد الزمان والمكان محمد صلى الله عليه وسلم ولأمته الإرادة والحكمة والموازنة وصفات التحليل والتركيب وغيرها من الصفات التي تستوجبها الرسالة العالمية، وذلك إضافة إلى الصفات الممنوحة للأنبياء السابقين. لذا، فإنه بجانب كون الدين الإسلامي أكثر الأديان مسؤولية وواجبات فإنه ألطفها وأسماها وأبركها وأكثرها قرباً من النفس البشرية، ويعد هذا من صفاته كدين عالمي.

يتناول هذا الحديث الشريف رسول الإسلام ورسالته العالمية الشاملة بأسلوب آخاذ ويبسطها أمام الانظار. عندما قام مبلغ هذا الدين العالمي وهذه الدعوة العالمية وتلاميذه الأوائل بنشر هذا النظام العالمي في أرجاء العالم، كانوا يشعرون بمدى مسؤوليتهم ويدركونها. فكانوا يسرعون من جبهة قتال إلى أخرى يجاهدون في سبيل الله لاستلام قيادة العالم... يقتلون ويُقتَلون... يبرهنون على أحقيتهم في الدخول إلى الجنة ورؤية جمال الله... يستهينون بحياتهم الدنيوية في سبيل دعوتهم. وبحرص أكبر من حرص الآخرين ورغبتهم في الحياة الدنيا، كانوا يذوبون شوقاً للقاء الله ويسعون لتحقيق الخلافة في الأرض. لذا، فما كان بقدرة أحد قتال أمثال هؤلاء الذين ارتبطوا بالعالم الآخر مثل هذا الارتباط. أما الذين ساقهم سوء حظهم لمواجهة هؤلاء فقد أخذهم الخوف والرعب إلى درجة الشلل منذ الخطوة الأولى... لاسيما عندما يبلغ تعظيم الله تعالى عند المؤمنين درجة المهابة، فوعد «نُصرتُ بالرعب مسيرةَ شهر» سلاح رهيب بيد المؤمنين الصادقين وقلعة حصينة لهم.

ثم إن كون الأرض مسجداً وطهوراً لمنتسبي هذا الدين واستطاعتهم أداء الصلاة في كل مكان دون حاجة إلى وجود معبد أو مصلى بُعدٌ آخر من أبعاد هذا الدين العالمي. والبعد الآخر هو إباحة الغنائم لكي يمضي الجهاد في سبيل الله حتى يوم القيامة دون عائق أو مانع.. وبُعدٌ آخر هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يؤخذ بيد كل شخص -ضمن معايير ومقاييس معينة- لإيصاله إلى مستوى معين من الأمن ومن السلامة.. أما كون جميع الأنبياء بعثوا إلى أممهم خاصة، وبعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة فهو البُعدُ الصريح الواضح في هذا الشأن. كما يمكننا استنباط الأمور التالية من الحديث الشريف دون أي تكلف أو تعسف:

أ. أن النبوة ورسالتها المصاحبة لها موهبة إلهية لا يمكن تحصيلها بجهد بشري.

بـ. أن هذه المميزات الخمس من خصائص الدعوة المحمدية فلم تعط لأي نبي أو رسول.

ﺟ. أن إرسال الرعب إلى قلوب الأعداء من مسافة بعيدة حالة نبوية خاصة وهدية إلهية إلى من يعيش في ظل ذلك الخط النبوي.

د. أن عدم ارتباط العبادة بالمعابد وبرجال الدين[82] كما يشكل بُعدا في عالمية هذا الدين وشموله، فإنه يشكل تيسيراً لعلاقة العبد بالمعبود في كل زمان وفي كل مكان. وهنا ترد خاصية أخرى وردت مع الرسالة الإسلامية وهي أن التراب مطهِّر أيضاً كالماء. ونرى هنا من الفضول أن نتحدث عن أهمية الاغتسال في الإسلام وعن خاصية التطهير بالماء وكونه منبعاً للحياة وعن خاصية التطهير بالتراب.

ﻫ. أن أخذ الغنيمة لم يكن في حد ذاته حراما، وإنما كانت حرمة الغنيمة متعلقة بالزمن وامتحاناً. وقد تم تجاوز هذه المحرمات في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما إنها كانت المصدر الرئيس للجهاد الذي هو ماض إلى يوم القيامة.[83] لأنها تكون مصدر إعاشة للذين وهبوا أنفسهم له وعاملاً مشوقاً لهم، وسبباً فعّالاً في إضعاف جبهة الأعداء من الناحية المالية وعدم تمكينهم من لَـمّ صفوفهم، لكونها مهمة ومباحة -مع أنها غير واجبة- فهي ليست منافية للإخلاص لأنها وسيلة لإعلاء كلمة الله.

و. أن الشفاعة حق.. ويجوز أن يقوم كل واحد بالشفاعة بإذن الله تعالى.. ولكن الشفاعة العظمى يوم القيامة من ناحية شمولها وإحاطتها وعلاقتها بكل الناس تقريبا نعمة وميزة معطاة له صلى الله عليه وسلم وحده وهي من الخصائص الأحمدية ومبعث سرور وفخر لنا.

ز. كان الأنبياء السابقون مبعوثين لأممهم وقبائلهم لا غير، أي في دائرة ضيقة، أما خاتم الرسل وسيد الأنبياء فقد أرسل للناس وللوجود بأكمله، لذا فإن دعوة الأنبياء السابقين كانت قائمة ما دامت قبائلهم وأقوامهم موجودة، أما هذه الرسالة فهي عامة وشاملة وتضم الوجود كله؛ لذا، فهي باقية ومستمرة حتى يوم القيامة.

هاكم إذن، سلسلة وضيئة أخرى منقوشة حول معانى مشتركة جامعة ورصينة وقوية من ناحية محتواها وطريقة التعبير عنها.

ﺧ . المؤمن إنسان مسؤولية

«كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رَعِيَّته. الإمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها. والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته.»[84]

ترد كلمة "راع" بمعنى الشخص الذي يحرس ويصون ويراقب ويهتم. لذا، أطلقت كلمة "الراعي" على الشخص الذي يحفط الحيوانات الموجودة في عهدته ويصونها من الحيوانات المفترسة ويجد لها أفضل المراعي، وعندما يقوم بمهمته هذه يكون بفطرته السليمة بعيداً عن كل حرص معيب، ويكون شغله الشاغل الرحمة والشفقة التي يحسها تجاه قطيعه حيث يتألم بألمه ويسعد براحته.

وهكذا فإن العلاقة بين رئيس الدولة وبين المواطنين تشبه -في وجه من الأوجه- هذه العلاقة. كما أن على ممثليه في الدوائر المختلفة وعلى مختلف المستويات مراعاة أحوال من هم تحت أيديهم ومقاسمتهم آلامهم وأفراحهم وأن يهيئوا لهم مستقبلاً أميناً وسعيداً ويجابهوا المشكلات التي تعترضهم.

والعلاقة نفسها موجودة عند رئيس الأسرة، فهو المسؤول الأول عن نفقتهم وإلباسهم وإسكانهم في مسكن مناسب، ثم عن تعليمهم وتربيتهم وحسن معاشرتهم وإرشادهم إلى الطرق التي توصلهم للسعادة في الدار الآخرة. والأمر نفسه يرد في علاقة المرأة بزوجها في تدبير شؤون بيتها والمحافظة على مال زوجها وعرضه.

والخادم أيضا في موضع الراعي بالنسبة لمال سيده وملكه، كما يراعي الابن مال أبيه وشرفه وكرامته، حتى يمكن أن يقال إنه ما من إنسان في الإسلام يخرج عن دائرة "الراعي" و"الرعية"، فهو من جانب "راع"، ومن جانب آخر "رعية" حتى أنه لو لم تكن هناك "رعية" لراع فهو مسؤول أيضاً لأنه مسؤول عن رعاية عقله وجسده وأحاسيسه وأعضائه، فهي كلها أمانة عنده يجب مراعاتها والاهتمام بها.

والإسلام من بين كل النظم والأديان هو النظام الوحيد في الحياة الذي بين مسؤولية كل شخص حتى أدق تفاصيلها بدءاً من رئيس الدولة وانتهاء بالخادم في المنـزل، وذلك في عهد لم ير أحد الديمقراطية حتى في المنام. وليس هناك من نظام حياتي آخر يستطيع منافسته في هذا الموضوع. يقول نبي الإسلام إن «الإمام راع ومسؤول عن رعيته» ويعدد مسؤوليته ويعيِّن حدود هذه المسؤولية ويشير إلى وظائفه ومهامه.. ويذكر بمسؤوليات الرجل والمرأة كل على حدة وفي ساحاتها المختلفة، ويحمل كلا منهما مسؤولياتهما... مسؤولية الأب نحو ابنه، ومسوؤلية الابن نحو أبيه. كما بحث عن حقوق ومسؤوليات العمال والخدام في وقت مبكر جداًّ إن أخذنا التطور العالمي في هذا الموضوع بنظر الاعتبار، وقدّم حلولاً للمشاكل الاجتماعية قبل حدوث الهزات الاجتماعية في تاريخ البشرية.

هذه بعض الكلمات النبوية حول الحقوق المتقابلة بين الإمام والرعية -شرحت معظم هذه الحقوق في كتب "الأحكام السلطانية" وغيره- وبين الابن والوالدين وبين الزوج وزوجته، وبين العامل وصاحب العمل، وقد تم تفصيل هذه الحقوق في كتب الفقه وفي رسائل الأخلاق والتربية، وفي كتب علم الاجتماع والحقوق وشغلت فيها مواضع بارزة.

ذ . بعض أنواع الحرام والمكروهات

«إن الله حرّم عليكم عُقوقَ الأمهات ووَأْدَ البنات ومَنْعاً وهاتِ وكَرِهَ لكم قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعة المال.»[85]

1. عقوق الأم

إن الابن الذي يعق أمه ويعصيها كأنه يقطع كل حقوقية العلاقة بينه وبينها ويدفعها نحو الوحدة. ومع أن عقوق الأب أيضا محرم، إلا أن ذكر الأم هنا ينبع من كون النساء أكثر حاجة للحماية، وكذلك لكونها أرق شعوراً وإحساسا، لذا فإن عقوقهن يجرح شعورهن بشكل أقوى ويزيد في حزنهن. ولأن الأب يشترك مع الأم في حقها على الابن فإن عقوق الأب حرام أيضاً ولكن لا يمكن قياسه مع حرمة عقوق الأم.

2. وأد البنـات

كان عرب الجاهلية يقومون -في بعض المناطق وفي بعض المستويات الاجتماعية- بوأد البنات أي دفنهن وهنّ أحياء. كان البعض يقومون بهذا العمل الوحشي بدافع غريب من شعور الغيرة؛ والبعض الآخر بدافع الفقر والضيق الاقتصادي، وغيرهما بدافع قَبَلي لمنع انتقال ثرواتهم إلى الغرباء. ومهما كان الدافع لهذا العمل، فقد كان عملاً وحشياً يجب منعه والقضاء عليه وقد تم هذا فعلا، لذا حرم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هذا الموضوع بأوامر مشددة.

3. خيانة الأمانة

رمَز الحديث الشريف إلى الامتناع عن دفع الديون والحقوق الأخرى اللازمة بكلمة "منعا" ومحاولة أخذ أو طلب الأشياء الممنوعة بطرق مختلفة بكلمة "هات"، أي يحرم الامتناع عن دفع الحقوق الواجب أدائها، كما يحرم أخذ الأشياء دون وجه حق. وخَطُّ الحرمة هنا هو نفس خط الحرمة لعقوق الوالدين ولوأد البنات.

كما يمكن فهم الكلمة الأولى هنا أي كلمة "منعا" بمنع الزكاة المفروضة عليه والصدقات وسائر الإعانات الأخرى وعدم أدائها إلى المستحقين من الفقراء. وفهم الكلمة الثانية "هات" في مجال التسول والسؤال. وإذا أردنا أن نخطو خطوة أخرى إلى الأمام لقلنا إن الكلمة الأولى تعني فيما تعنيه إنكار الديون بعد أخذها وأكل حقوق الآخرين وعدم تسديد قيمة الصكوك والسندات، والقيام بحيل معينة في سبيل ذلك كإعلان الإفلاس وغير ذلك من الحيل والطرق غير المشروعة في كسب المال وأكل حقوق الآخرين ثم إهمال إيصال هذه الحقوق إلى أصحابها بل حتى التمرد في هذا. وعن الكلمة الثانية نقول إنها تشمل حاليا حالات عديدة بدءاً من التسول العادي إلى قيام بعض الدوائر -رسمية كانت أم غير رسمية- باستغلال العواطف الدينية أو الوطنية في الشعب لامتصاصها وخداع الجماهير وأخذ أموالها بالباطل بطرق عديدة.

يتناول هذا الحديث المليء والموجز عقوق الأولاد لوالديهم وقطعهم لصلة الرحم أو قيام الوالدين بتصرفات قاسية وغير إنسانية تجاه أولادهم دون الاهتمام بعواطف الرحمة والشفقة المركوزة في فطرتهم، وقيام بعض الأنانيين في المجتمع -الذي يعد عائلة كبيرة- بوضع مصالحهم ومنافعهم الشخصية فوق كل اعتبار، وهزهم بذلك قواعد النظام والثقة والاطمئنان والأمن في المجتمع، وبعد أن جمع الحديث هذه الأمور في خط الحرام لصفة مشتركة بينها أشار إلى أمور أخرى ثلاثة ممنوعة أيضاً وإن لم تكن في المستوي السابق من ناحية الحرمة وهي "قيل وقال" أي نشر الشائعات و "كثرة السؤال" أي طرح أسئلة عديدة في غير أماكنها، أو المقصود جعل الشحاذة والتسول صنعة ومهنة. و"إضاعة المال"، أي تبذير المال بالإسراف هنا وهناك.

4. الشائعات

رمز إلى الشائعات هنا بـ"قيل وقال". وقيل وقال هو كل كلام لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة... هو الكلام التافه وغير الضروري... هذا قد يكون كلاماً لا يعنينا في شيء أو بياناً يقترب من حدود الممنوعات، ونشر الشائعات مرض اجتماعي يختلف في شدته باختلاف المستوى الاجتماعي للناشرين وباختلاف واسطة الشائعة -قد تكون جريدة أو مجلة أو إذاعة أو تلفزيونا- ومدى وسعة دائرة انتشارها. وهذا مرض اجتماعي يسري في المجتمعات التي تعطلت فيها مواهب الأفراد وتسطحت فيها مشاعر الجماهير وضاقت آفاق تفكيرهم.

إن كل الآثام القاتلة التي يكون الفم مصدرها والتي حرمها الإسلام تنمو وتنتشر عن هذا الطريق "القيل والقال". ولهذا أورد الرسول صلى الله عليه وسلم قول المعروف أو الصمت من بين أشياء ثلاثة أوصاها إذ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جارَه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِمْ ضيفَه.»[86]

5. كثرة السؤال

وهي إما الإسراف في طرح أسئلة لا معنى لها أو القيام بالتسول دون ضرورة ماسة واتخاذ التسول مهنة وعادة، وكلا الأمرين مذموم. فقد حرم القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة التسول خارج نطاق الضرورة. كما أنّ طرح أسئلة هنا وهناك وفي كل وقت وحين شيءٌ  مذموم وغير مستحب، إذ الأفضل أن تتوجه مشاعر الناس وأفكارهم إلى أمور مفيدة مثمرة. وعلى أي حال فإننا نرى أن القرآن الكريم يقسم الأسئلة إلى نوعين. نوع مقبول ومستحسن ومثاله ﴿يَسْـأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ﴾ (البقرة: 215) ونوع مذموم وغير مسـتحب ومثـالـه ﴿يَسْـأَلُونَكَ عَـنِ الـرُّوحِ﴾ (الإسراء: 85).

طرح السؤال أو عدم طرحه.. التسول أو عدم التسول.. وجود ضرورة أو عدم وجود مثل هذه الضروة، وجود حاجة أو عدم وجودها. كل هذه الأمور هي التي تعين عما إذا كانت أفعال المكلفين واجبة أم حراماً أم مباحة. لذا، فإن هذين الموضوعين وإن بدا مختلفين إلا أنه يمكن مطالعتهما وتفسيرهما معاً من جهة وحدة اتجاههما.

أما "إضاعة المال" فيمكننا تفسيرها بأنها إنفاق المال دون أن يكون لهذا الإنفاق أي فائدة دنيوية أو أخروية، أي تبديد الثروة هباء منثوراً فيما لا ينفع. وهذا مرض فردي ومرض اجتماعي. أجل، قد يبدو قيام فرد ما بتبديد ثروته وإضاعتها فيما لا ينفع وكأنه ضرر فردي يصيب ذلك الفرد فقط، غير أن ثروته لكونها جزءاً من ثروة البلد والمجتمع فإن تبديدها وإضاعتها فيما لا ينفع يضر المجتمع ويضر البلد ككل. وينتهي هذا الحديث الشريف بهذه المسألة الأخيرة التي اكتسبت أهمية كبيرة في أيامنا الحالية والتي ستكتسب أهمية أكبر في المستقبل ألا وهي الاستغلال الجيد للثروة والاستثمار الاقتصادي لها. ولا ننسى أن ننوه إلى سعة المعاني العميقة وشمولها التي أكسبها سلطان الأدباء والبلغاء قوة بحسن اختياره للكلمات واستعمالها في مواقعها الصحيحة المناسبة.

ﺿ . الإحسان

«الإحسان أن تَعْبد اللهَ كأنك تراه  فإنْ لم تكن تراه فإنه يراك.»[87]

إن شعار المؤمنين الكاملين هو أن يتكامل الإيمان ويتحد بالإسلام ويقترب من درجة الإحسان. وقيام المؤمنين ضمن الإيمان والإسلام بالوصول إلى درجة الإحسان، أي الوصول إلى بُعد أسمى ومستوى أرقى من الإيمان والإسلام، وإيفاء هذه الدرجة حقها يؤدي إلى أن يكون مظهراً لعناية الله ولطفه على قاعدة "إن الخير ينتج الخير"، لذا يجازيه الله تعالى بـ«ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»[88] أي بمفاجاة من جنس الإحسان.. إذ ترد هنا قاعدة ﴿هَلْ جَزَاءُ اْلإحْسَانِ إلاَّ اْلإحْسَان﴾ (الرحمن: 60). فإحسان العبد هو إخلاصه بمقدار عمق إيمانه وأدبه وخشيته؛ وإحسان الله تعالى بمقدار عظمته وغناه وقيامه بملء قلب عبده بالإيمان واستثارته بالإلهام ورفع الغشاوة عن عينه ليريه الأشياء على حقيقتها، وحفظ لسانه عما لا يعنيه، وإنطاقه بالحكمة وإلهاب عاطفته حتى تسرح في آفاق التجليات.. وعندما يصل المؤمن إلى هذا وتنفرج أمامه أستار الوجود، يصبح وكأنه يراه ولكن "دون كم أو كيف"، ولكن لكونه تعالى ﴿لاَ تُدْرِكُهُ اْلأَبْصَارُ﴾ (الأنعام: 103) فإن المؤمن المتيقن من رؤية الله تعالى له، بسعادة رؤيته لله، وبمهابة رؤية الله له يكاد يغيب عن صوابه، فكما يَتخيل الصائم وهو ينتظر ساعة الأفطار لذة الإفطار، كذلك يحس المؤمن- الذي قضى حياة حافلة بألوان الطاعة والإخلاص والخضوع والخشوع - من الرؤية العاجلة وغير التامة في هذه الحياة لذّةَ تلك الرؤية التامة والأجلة في الدار الآخرة. فكأن حياته الدنيوية - التي هي أيام معدودات - بمثابة صوم وصال حتى لقاء حبيبه. ففي كل جزء من أجزاء الثانية الواحدة تتضاعف هذه اللذة أضعافاً مضاعفة، فكأن حياته الواحدة تصبح ألف حياة.

أجل، فكما أن العبد يسعد سعادة لا حدود لها عند رؤية سلطان الأزل والأبد فهو يسعد عندما يشعر أن الله يراه، أي يحس بسعادة ولذة من معرفته بأن الله يراقب ما يقدمه من خدمات ويشاهده. يسعد بعمق وهو يؤدي حتى أقل أعمال الخير والبر وأصغرها.

وما قلناه ليس إلا نافذة صغيرة على معاني كلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم الوجيز والبليغ والذي يتسع شرح لآلئه وجواهره لمجلدات. إذن، فهذه قطرة من بحر... ولمعة من شمس... وشعلة من عالم تسبح فيه النجوم. فالتصدي لشرح هذه الكلمات النورانية -التي هي مرآة مجلوة لعكس الحقيقة الأحمدية- شيء يتجاوز قدراتنا، ومع أننا خضنا في هذا الأمر عمداً إلا أننا نضرع إليه صلى الله عليه وسلم ونبتهل إلى الله تعالى أولاً وآخراً لكي يغفر لنا هذه الجرأة. ولقد سبق وأن قلنا بأن شرح كلماته النيرة بكل أبعادها شيء  يتجاوز طاقتنا وقدرتنا وأننا بانتظار من يكون أهلاً للقيام بهذا العمل. إلا أننا مع هذا أظهرنا بعض الجرأة وقمنا بمحاولة تحليل بعض جوانب من بعض أحاديثه. والشيء الذي تجرأنا على الخوض فيه -بأسلوب عامي- هو تناول بضعة أحاديث مضيئة من عالمه صلى الله عليه وسلم الواسع الفسيح، ومن زاوية عمق محتواها ورصانة أسلوبها وبلاغة بيانها. لذا، نرجو الله أن يغفر لنا، وأن ينظر إلينا أرباب العلم نظرة تسامح.

(2) وباقة من أدعيته

نود هنا أن نتناول بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم وأن نلفت أنظاركم إليها، فالكلمات والمعاني الموجودة في أدعيته صلى الله عليه وسلم من العمق ومن التميز والسمو والغنى بحيث لا يستطيع أحد الوصول بل حتى الاقتراب منها. ونستطيع أن نقول دون تردد بأن كل دعاء من أدعيته يحتوي من ناحية المعاني ما يملأ كتاباً بكامله. فكما أن أقواله وأحاديثه أسمى من كل الأقوال والأحاديث البشرية الأخرى، فإن أدعيته أعمق بكثير من كل الأدعية التي تلفظت بها الإنسانية سابقاً أو ستتلفظ بها في المستقبل. ذلك لأنه كان أعلم الخلق بالله تعالى وأشدهم خشية له، لذا كانت أدعيته أعمق الأدعية وأسماها وأرقها. فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الدعاء التالي عند التهيؤ للنوم:

«إذا أتيتَ مَضْجعَك فتوضأْ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل: اللّهم أسلمتُ نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوَّضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبةً ورهبةً إليك. لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك. آمنت بكتابك الذي أنـزلتَ ونبيك الذي أرسلت.»[89] ما أروع هذه الكلمات المستعملة!. ما أعذبها وما أرقاها..! ما أصفاها وما أنقاها..! وما أدفأ معانيها، وما أعمق محتوياتها.ولكوننا سنورد هذه الأدعية في فصل خصصناه لأدعيته فإننا نؤجل شرحها ونكتفي بلفت الأنظار إلى بلاغتها وإيجازها فقط.

ودعاء آخر له: «اللّهم باعِدْ بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بين المشرق والمغرب. اللّهم نقِّني من خطايايَ كما يُنَقَّى الثوبُ الأبيض من الدَنَس.»[90] معاني هذا الدعاء تملأ كتاباً... لا أملك قول شيء آخر. أجل، لقد كان صلى الله عليه وسلم سلطان الداعين.

ودعاء آخر له: «اللّهم إني أسألك من الخير كله...؛ عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمتُ منه و ما لم أعلم.»[91]

ومن لآلئ أدعيته صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلام: «اللّهم لا مانعَ لِما أعطيتَ، ولا معطي لِما منعتَ، ولا يَنفع ذا الجَدّ منكَ الجَدّ.»[92]

ثم دعاء آخر: «اللّهم ما قلتُ من قول أو حلفت من حلف أو نذرتُ من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك. ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن. لا حول ولا قوة إلا بك. إنك على كل شيء  قدير. اللّهم ما صليتُ من صلاة فعلى من صليتَ، وما لعنتُ من لعنٍ فعلى من لعنتَ، أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.»[93]

و«وأسألك اللّهم الرضا بعد القضاء وبَرْدَ العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقاً إلى لقائك من غير ضَرّاء مُضِرّة ولا فتنة مضِلّة، أعوذ بك أن أَظلِم أو أُظلَم أو أَعتدِي أو يُعتدى عليّ أو أَكسِب خطيئة أو ذنباً لا تغفره.»[94]

و«...وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضَيعة وعورة وذنب وخطيئة. وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنبي كله إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.»[95]

ودعاء آخر: «اللّهم أنت أحَقُّ من ذُكِر وأحقّ من عُبِد وأنصَرُ من ابتُغِي وأرأف من مَلَك وأجود من سُئل وأوسع من أعطى أنت الملِك لا شريك له والفردُ لا يهلك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك ولن تُعصى إلا بعلمك. تطاع فتشكر وتُعصى فتغفر، أَقربُ شهيد وأدنى حفيظ. حُلتَ دون الثغور وأخذتَ بالنواصي وكتبتَ الآثار ونسخت الآجال، القلوبُ لك مفضية، والسِّرُّ عندك علانية، الحلال ما أحللتَ، والحرام ما حرمت والدين ما شرعتَ، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك والعبد عبدك وأنت الله الرؤف الرحيم. أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض بكل حقٍّ هو لك وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة وفي هذه العشية وأن تجيرني من النار بقدرتك.»[96]

«اللّهم إنا نسألك من خيرِ ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم .»[97] «اللّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها.»[98]

«اللّهم إني أسألك الثبات في الأمر وأسألك عزيمة الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك لساناً صادقاً وقلباً سليماً وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأسألك من خير ما تعلم، وأستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب.»[99]

«اللّهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردتَ فتنة الناس فتوفني غير مفتون. وأسألك حبَّك وحبَّ مَن يحبك وحُبَّ عمل يقربني إلى حبك.»[100]

«اللّهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، وظاهره وباطنه والدرجات العلى من الجنة. آمين.»[101] «اللّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.»[102] «اللّهم إني أسألك الهدى والتُّقَى والعَفاف والغنى.»[103] «اللّهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.»[104]

في هذه الأدعية لا يمكنك تبديل كلمة واحدة، أما الانسجام الموجود بين الكلمات فشيء رائع حقا، وليس في إمكان أحد الوصول إلى أبعاد هذه الأدعية.. أجل، لقد كان رسول لله صلى الله عليه وسلم قمة شاهقة في الأدعية أيضاً. لقد اقتبس كل الأولياء والزهاد كلمات من أدعية رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزينوا أدعيتهم بها ويعطوا لها حيوية ودفئا، ولكي يطرقوا بدعائه صلى الله عليه وسلم باب رحمة الله. ويتميز أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأدعية بإشراقة مضيئة بحيث تستطيع معرفته ضمن الأساليب الأخرى وتشخيصه بسرعة قائلاً ”هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.“

عندما أقرأ أدعية عمالقة الروح والقلب ومناجاتهم من أمثال أبي الحسن الشاذلي وأحمد البدوي وأحمد الرفاعي والشيخ الكيلاني يغمرني الوجد والهيام وأكاد عندما أقرأ بعض المقاطع منها أن أغيب عن الوعي، فأدعيتهم مؤثرة جداًّ ومدهشة، ولكنهم جميعاً اقتبسوا من أدعية الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخلوها في هذه المقتبسات ضمن أدعيتهم لكي يغنوها ويزينوها بها. ونحن بدورنا نستخدم أدعيتهم هذه عندما نطرق باب رحمة الله تعالى بأمل قبولها.

وختاماً نقول إن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحاديثه بأجمعها دليل على فطنته، وبعض كلماته لكونها من ”جوامع الكلم“ تحمل أهمية خاصة. والأسلوب الذي يستخدمه في تعابيره في الأدعية يدخل ضمن هذا القسم، فإن أحاديثه وأدعيته تشيران إلى منطق النبوة أي إلى منطق العقل ذي البُعد الأخروي ويشير إلى بعده الإلهامي... فما هو إلا سلطان الأنبياء والرسل.

الهوامش

[1] «المسند» للإمام أحمد 2/250، 412؛ «كنـز العمال» للهندي 11/412

[2] البخاري، الجهاد، 122؛ مسلم، المساجد، 6؛ وانظر: «كنـز العمال» للهندي 11/425

[3] البراق: المركب الذي ركبه الرسول صلى الله عليه وسلم في أثناء إسرائه ومعراجه. (المترجم)

[4] يشير الى خطاب فرعون لموسى عليه السلام : ﴿أَمْ أَنَا خَيرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكادُ يُبِينُ﴾ (الزخرف: 52).

[5] الترمذي، القيامة، 59

[6] البخاري، الرقاق، 3؛ الترمذي، الزهد، 25؛ ابن ماجه، الزهد، 3

[7] انظر: «كشف الخفاء» للعجلوني 2/291

[8] البخاري، الأدب، 69؛ مسلم، البر، 105؛ أبو داود، الأدب، 80

[9] البخاري، الأدب، 96؛ مسلم، البر، 165

[10] البخاري، الحدود، 4-5؛ أبو داود، الحدود، 35؛ «المسند» للإمام أحمد 2/298-299

[11] الترمذي، البر، 55؛ «المسند» للإمام أحمد 5/153

[12] «كنـز العمال» للهندي 6/89

[13] البخاري، الجمعة، 11؛ مسلم، الإمارة، 20

[14] انظر الآية: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

[15] «الإصابة» لابن حجر 4/288

[16] البخاري، بدء الوحي، 1؛ مسلم، الإمارة، 155؛ أبو داود، الطلاق، 11

[17] «فتح الباري» لابن حجر 1/24-25

[18] «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/61، 109

[19] البخاري، الإيمان، 39؛ مسلم، المساقاة، 107؛ «المسند» للإمام أحمد 4/270

[20] البخاري، الرقاق، 31؛ مسلم، الإيمان، 206-207

[21] البخاري، الجهاد، 1؛ مسلم، الإمارة، 85

[22] أبو داود، الجهاد، 33؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/106

[23] الحديث الذي يذكر هذا هو «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.» انظر: البخاري، الإيمان، 4؛ النسائي، الإيمان، 9؛ أبو داود، الجهاد، 2؛ ابن ماجه، الفتن، 2

[24] «تذكرة الأولياء» لفريد الدين العطار  (ترجمته باللغة التركية) ص146-149

[25] البخاري، الإيمان، 4؛ النسائي، الإيمان، 9؛ أبو داود، الجهاد، 2؛ ابن ماجه، الفتن، 2

[26] البخاري، الإيمان، 20؛ مسلم، الإيمان، 62

[27] "السلام" هنا اسم من أسماء الله تعالى. (المترجم)

[28] الترمذي، الزهد، 11؛ ابن ماجه، الفتن، 12

[29] «عمر بن الخطاب: جوانبه المختلفة وإدارته للدولة» لشِبْلي النعماني 1/299

[30] البخاري، الإيمان، 1؛ سنتناول باختصار هذا الحديث فيما بعد.

[31] البخاري، الجنائز، 32؛ مسلم، الجنائز، 14، 15

[32] مسلم، الجنائز، 106؛ النسائي، الجنائز، 100؛ أبو داود، الجنائز، 77؛ الترمذي، الجنائز، 60؛ ابن ماجه، الجنائز، 47

[33] مسلم، الجنائز، 15؛ البخاري، الجنائز، 32

[34] المقصود هو التحديدات التي أصبحت توضع في تركيا وفي غيرها من البلدان الإسلامية حول عدد الأشخاص المسموح لهم بالحج في كل سنة ويكون هذا العدد عادة أقل من عدد الراغبين في الحج مما يولد في نفوسهم الألم. (المترجم)

[35] أبو داود، النكاح، 43؛ الترمذي، الأدب، 28؛ الدارمي، الرقاق، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 5/353، 357

[36] البخاري، الوصايا، 9، الزكاة، 18؛ مسلم، الزكاة، 94؛ النسائي، الزكاة، 52؛ أبو داود، الزكاة، 28؛  الدارمي، الزكاة، 22؛ «المسند» للإمام أحمد 2/4

[37] الدارمي، الزكاة، 22؛ البخاري، الزكاة، 18

[38] الترمذي، المناقب، 55

[39] «الإصابة» لابن حجر 1/143، 144

[40] أبو داود، الزكاة، 27؛ ابن ماجه، الزكاة، 25؛ «المسند» للإمام أحمد 5/277، 279، 281

[41] البخاري، الزكاة، 8؛ مسلم، الزكاة، 63-64

[42] مسلم، الإيمان، 171-174؛ الترمذي، البيوع، 5؛ النسائي، الزكاة، 69؛ أبو داود، اللباس، 25؛ «المسند» للإمام أحمد 5/162، 168

[43] البخاري، المغازي، 79، تفسير سورة (9) 14، 19؛ مسلم، التوبة، 9

[44] انظر: «اللمعات» لبديع الزمان سعيد النورسي  ص10

[45] مسلم، الإيمان، 149؛ الترمذي، البر والصلة، 61؛ أبو داود، اللباس، 26؛ ابن ماجه، الزهد، 16

[46] مسلم، البر والصلة، 136؛ أبو داود، اللباس، 26؛ ابن ماجه، الزهد، 16

[47] الترمذي، البر، 40

[48] لحييه: فكيه، أو منبت لحيته. (المترجم)

[49] البخاري، الرقاق، 23، الحدود، 19؛ الترمذي، الزهد، 61؛ «المسند» للإمام أحمد 5/333

[50] البخاري، الجنائز، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 6/436

[51] «فيض القدير» للمناوي 3/269؛ «كنـز العمال» للهندي 16/276

[52] مسلم، الزكاة، 53؛ «المسند» للإمام أحمد 5/167، 168

[53] مسلم، الطهارة، 39؛ النسائي، الطهارة، 110؛ ابن ماجه، الزهد، 36؛ «المسند» للإمام أحمد 2/300

[54] مسلم، الطهارة، 41؛ الترمذي، الطهارة، 39

[55] الترمذي، القيامة، 49؛ ابن ماجه، الزهد، 30؛ الدارمي، الرقاق، 18؛ «المسند» للإمام أحمد 3/198

[56] البخاري، الأذان، 36؛ مسلم، الزكاة، 91؛ الترمذي، الزهد، 53

[57] «مجمع الزوائد» للهيثمي 2/271

[58] أبو داود، الأدب، 78؛ «المسند» للإمام أحمد 5/364، 371

[59] النسائي، عشرة النساء، 1؛ «المسند» للإمام أحمد 3/199

[60] «كنـز العمال» للهندي 7/284

[61] انظر: ابن ماجه، الطهارة، 114؛ «المسند» للإمام أحمد 5/250

[62] «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/61، 109

[63] «كشف الخفاء» للعجلوني 1/424

[64] البخاري، التوحيد، 35؛ مسلم، الجنة، 4-5

[65] «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 1/91

[66] مسلم، البر والصلة، 43؛ أبو داود، اللباس، 25؛ الترمذي، الأطعمة، 30؛ وانظر: «فيض القدير» للمناوي 1/121؛ «كنـز العمال» للهندي 6/576

[67] البخاري، الرقاق، 38

[68] البخاري، الأنبياء، 54؛ مسلم، السلام، 153، 154

[69] البخاري، المساقاة، 9؛ مسلم، السلام، 151؛ الدارمي، الرقاق، 93؛ «المسند» للإمام أحمد 2/507

[70] البخاري، الرقاق، 28؛ مسلم، الجنة، 1

[71] يشرح لنا صلى الله عليه وسلم هذا الموضوع بالتشبيه التالي: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ استَوقَدَ نَاراً فَجَعَلَتِ الدَّوَابّ وَالفِرَاشُ يَقَعنَ فيه، فأنا آخذُ بحُجَزِكمْ وأنتم تقحمون فيه.» (البخاري، الرقاق، 26؛  مسلم، الفضائل، 18؛  الترمذي، الأدب، 82).

[72] الترمذي، العلم، 16؛ «منهل الواردين شرح رياض الصالحين» لصبحي صالح 1/152؛ وانظر إلى الروايات المختلفة في: ابن ماجه، المقدمة، 6؛ «المسند» للإمام أحمد 4/126، 127؛ أبو داود، السنة، 5

[73] البخاري، الأدب، 83؛ مسلم، الزهد، 63

[74] البخاري، المناقب، 1؛ مسلم، البر، 160؛ «المسند» للإمام أحمد 2/539

[75] البخاري، تفسير سورة (11) 5؛ مسلم، البر، 61

[76] «كشف الخفاء» للعجلوني 2/49

[77] تشير الآية إلى هذا الأمر: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَريَةٍ أَملَيتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أخَذتها وَإلَيَّ الْمَصِير﴾ (الحج: 48).

[78] البخاري، الأذان، 36؛ مسلم، الزكاة، 91؛ الترمذي، الزهد، 53

[79] مسلم، الإمارة، 18؛ النسائي، القضاة، 1؛ «المسند» للإمام أحمد 2/159

[80] الترمذي، الزهد، 44؛ ابن ماجه، الزهد، 3؛ «المسند» للإمام أحمد 1/301

[81] البخاري، التيمم، 1، الصلاة، 56؛ مسلم، المساجد، 3

[82] نفهم من الحديث الشريف عدم ارتباط العبادة بالمعابد ومن ثم برجال الدين.

[83] أبو داود، الجهاد، 33؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 1/106

[84] البخاري، الجمعة، 11؛ مسلم، الإمارة، 20

[85] البخاري، تفسير سورة (11) 5؛ مسلم، الأقضية، 12

[86] البخاري، الرقاق، 23؛ مسلم، الإيمان، 75

[87] البخاري، تفسير سورة (31) 2؛ مسلم، الإيمان، 5، 7

[88] البخاري، التوحيد، 35؛ مسلم، الجنة، 2-4

[89] البخاري، الدعوات، 6، 7، 9؛ مسلم، الذكر، 56، 57

[90] البخاري، الأذان، 89؛ مسلم، المساجد، 147؛ ابن ماجه، الدعاء، 4

[91] «المسند» للإمام أحمد 6/147

[92] البخاري، الأذان، 155؛ مسلم، الصلاة، 205؛ أبو داود، الصلاة، 139

[93] «المسند» للإمام أحمد 5/191؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/113

[94] «المسند» للإمام أحمد 5/191؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/113

[95] «المسند» للإمام أحمد 5/191؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/113

[96] «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/117

[97] الترمذي، الدعوات، 88

[98] مسلم، الذكر، 73؛ أبو داود، الوتر، 32

[99] الترمذي، الدعوات، 23؛ النسائي، السهو، 61؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 10/173

[100] الترمذي، تفسير سورة (38) 2؛ الموطأ، القرآن، 40

[101] «المستدرك» للحاكم 1/520

[102] «المستدرك» للحاكم 1/499

[103] ابن ماجه، الدعاء، 2؛ مسلم، الذكر، 72؛ الترمذي، الدعوات، 72؛ «المسند» للإمام أحمد 1/416، 434، 437

[104] «المسند» للإمام أحمد 4/181؛  «المستدرك» للحاكم 3/591