الفصل الرابع: صاحب الفراسة المتنورة بالوحي

إن حصول أي قائد على ثقة جماعته وأتباعه مرتبط بحصوله على قبولهم له ورضاهم عنه من كل جانب من جوانبه ونظرهم إليه كشخص موثوق يمكن الاعتماد عليه. وهذا متعلق بقدرته على حل جميع مشاكل هؤلاء الأتباع سواء أكانت فردية أم عائلية، اجتماعية كانت أو اقتصادية أو سياسية. وكلما كان هذا القائد موفقاً في حله لهذه المشاكل كلما زاد قبوله من قبل أتباعه وزادت محبتهم وتقديرهم وتوقيرهم له، وأصبح لهم رمزاً أبدياًّ، وكان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قائداً للإنسانية لا شبيه له في حل مشاكلها ومعضلاتها.

هناك بديل لحل المشكلات، وهو اللجوء إلى الضغوط وإلى استخدام القوة وسن العقوبات والطرد من البلاد وحرمان الشخص من حقوق المواطنة وفتح أبواب السجن على مصاريعها وتطبيق صنوف التعذيب وبث العيون والجواسيس بين الناس وإشاعة جو من الإرهاب والفزع بين المواطنين... لن تستطيع حل أي مشكلة بهذا الأسلوب... لا تعجز فقط عن حل المشكلات بل ستتسبب في خلق تعقيدات عديدة وهزات عنيفة في المجتمع، لذا فهذا ليس أسلوبا للحل وإن كان البعض يتصوره طريقا ناجحا في حل المشكلات، إلا أنه في الحقيقة طريقا لإثارة المشكلات ودخول إلى دائرة مفرغة، وبينما تفرح لاعتقادك أنك حللت كل شيء، إذا بك تفاجأ بتعقيدات لم تخطر لك على بال. وعندما تتشكل مثل هذه الدائرة المفرغة فإن كل حركة تتحركها تغرقك في الوحل أكثر فأكثر حتى تكسر هذه الدائرة.

بينما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحل جميع المشكلات والمعضلات بكل سهولة ويسر دون أن يدخل داخل هذه الدائرة المفرغة ودون أن يستعمل الضغوط والإرهاب والقوة، بل أخذ الإرادة الإنسانية الحرة بنظر الاعتبار واحترمها. ولو أخذت هذه الناحية فقط بنظر الاعتبار دون النظر إلى حالاته الخارقة للعادة ودون النظر إلى معجزاته العديدة لآمنت بأنه رسول من عند الله... أجل، إنه رسول الله لا غير... وإلا كيف يمكنه حل كل هذه المشكلات..؟ كيف كان يمكنه هذا مع أنه نشأ في مجتمع كان يثير المشكلات لأتفه الأسباب، وتنشأ بينهم الخصومات الدموية لأحقر الأمور وتشتعل الفتن لأهون الأشياء... مجتمع غارق في البداوة والضلالة والطغيان والظلام، لقد وضع الله تعالى عبء إرشاد مثل هذا المجتمع على كاهل النبي صلى الله عليه وسلم. يقول القرآن الكريم:

﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ (الحشر: 21). فهذه الآية تشرح كيف أن هذه المهمة التي أعطيت للرسول صلى الله عليه وسلم لو أعطيت للجبال لتصدعت من جرائها... أجل، لقد كانت المهمة شاقة وصعبة إلى هذه الدرجة، ولاسيما في ذلك المجتمع البدوي والبدائي الغارق في الضلالة، فتناول الرسول صلى الله عليه وسلم مشاكل هذا المجتمع مشكلة مشكلة ومعضلة معضلة وبدأ بفك عقدها وحل مصاعبها، فأوصل هذا المجتمع إلى شاطئ الاطمئنان وإلى ساحل السلامة.

لقد صنع من هذا المجتمع مجتمع أمن وطمأنينة إلى درجة أنك لن تستطيع رؤية مثل ذلك المجتمع إلا في الكتب التي تصف المدن الفاضلة ككتاب أفلاطون (Platon) "الجمهورية"، وكتاب "توماس مور (Thomas More)" "يوتوبيا" وكتاب كامبانللا (Campanella) "مدينة الشمس"... لقد كتبت كل هذه الكتب بأمل البحث أو بدافع الشوق إلى مجتمع مثل المجتمع الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وسلم... لندع هؤلاء يتجولون في أودية الخيال ولننظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنشأ قبل قرون مجتمعاً أزال منه الجوانب السلبية الموجودة حتى في هذه المجتمعات المثالية والخيالية، وجعله مجتمعاً مثالياً يبرق في السماء بريق النجوم ليهتدي به من يأتي من بعده... فمن اهتدى بهذا النجم اهتدى إلى الحق وملأ الاطمئنان قلبه... ونحن نرى هذه الحقيقة في أيامنا الحالية بكل وضوح. ونفهم أن مجتمع الصحابة كان مجتمعاً حقيقياً وواقعيا، ونطمح في أيامنا القادمة السير نحو ذلك المجتمع النوراني.

لو لم يقم الرسول صلى الله عليه وسلم بحل جميع مشاكل ومعضلات إنسان ذلك العصر أكان من الممكن ظهور الصحابة الذين هم فخر الإنسانية..؟ كلا بالطبع. ولكن هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحل كل هذه المشاكل بعقله الخاص فقط..؟ كلا بالطبع. ونضيف فنقول إن الله تعالى وهب له فطنة نبوية، أي فطنة ينورها الوحي بحيث استطاع بهذه الفطنة أن يحل جميع المشاكل بكل يسر، وهذا من أدلة نبوته وهي منطلق بحثنا هذا. والآن لنتعرض لبعض الأمثلة في هذا الخصوص:

أ- التحكيم حول الحجر الأسود

كان الناس في ذلك العهد يراجعونه ليحل لهم مشاكلهم المتعددة. وعندما بدئ بترميم الكعبة -الذي شارك فيه شخصياً- كان وضع الحجر الأسود في مكانه مشكلة قابلة للانفجار بين القبائل العربية قد تؤدي إلى إراقة الدماء. وكان من الواضح أن المشكلة إن لم يتم حلها في ظرف يوم أو يومين فإن الحرب آتية دون ريب. وكما قلنا سابقاً إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يحل هذه المشكلة بوضع الحجر الأسود في مكانه بطريقة يرضى عنها الجميع لنشب نزاع دموي. وكما هو معلوم فقد وضع الحجر الأسود في ثوب ودعا زعماء القبائل إلى الإمساك من أطرافه وحمل الحجر الأسود جماعياً. وعندما اقتربوا من مكان الحجر الأسود رفعه بيديه ووضعه في مكانه.

هذه الحادثة -التي لا ندخل في تفاصيلها- تبين لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان حتى قبل نبوته صاحب فطنة كبيرة.

عندما قام بهذا التحكيم كان عمره يتراوح بين العشرين وخمس وعشرين، أي قبل أن يتشرف بالنبوة ويتأيد بها، وقبل اكتسابه أعماقاً أخرى وقبل انفتاح أبواب اللانهاية أمامه وقبل بدء تلقيه الدروس من ربه. ولكن حتى قبل أن يأتيه الوحي، كان قد احتلّ -بالالهامات التي كانت ترد إلى قلبه- مكانة في القلوب إلى درجة أن كفار قريش ما أن رأوه داخلاً من باب المسجد حتى هتفوا فرحين: "هذا الأمين.. رضينا.. هذا محمد"[1] جاء وحلّ تلك المشكلة.

أجل، حل تلك المشكلة دون أن يفكر طويلاً أو ينتظر أو يأخذ رأى فلان أو علان أو يبحث في الأمر مليا... حلها ببساطة وكمن يسل شعرة من عجين... كان ذلك أمراً بسيطاً بالنسبة إليه، ولم يعترض أحد عليه، وما كان بإمكانه أن يعترض، ذلك لأنهم عينوه حَكَماً لهم، وقام هو بوظيفة الحكم خير قيام، دون خطأ أو تعثر أو تردد، وأرضى الجميع.

لم يخط في حياته خطوة إلى الوراء أبداً، لأنه كان صاحب فطنة كبيرة يفهم ما يُلقى إليه من ربه حق الفهم... كانت فطنته هذه مثل برعم زهرة تفتحت، وكلما تفتحت تلونت وابتسمت في الوجه العابس للإنسان... هذا الإنسان المليئة حياته بالمشاكل وبالرغبات غير المشبعة.

وقد تتصور أن أبعاد عظمته قد انتهت، أو أنك أحطتَ بها، ولكن هيهات... فعلى قول الشاعر المتصوف "يونس أمره" إنه برعم في داخله براعم أخرى...

أجل، لقد راجعه الآخرون طوال حياته السنية، ولم يَرُدّ هو أحداً راجعه حزيناً أو مهموما، بل قام بحل مشاكله. فمنذ البداية قام بحل مشاكل قومه الذين كانوا مهيئين لإثارة المشاكل والفتن على الدوام... كانوا يثيرون المشاكل، وكان يقوم بحل تلك المشاكل واحدة تلو الأخرى.

كانت الهجرة مشكلة قائمة بحد ذاتها... مشاكل الحرب والنزاع والسلام، مشاكل المنافع والمصالح المادية مشاكل الغنيمة... ولو لم يستطع الخروج من بين هذه المشاكل، لكان من المحتم دخول قومه المحبين للجدل والنزاع والخصام في نزاعات دموية فيما بينهم.

ب- تقسيم غنائم حُنين

وأشرنا إلى هذه الحادثة أيضاً وإلى حكمته البالغة وبُعد نظره وفراسته المرهفة في منع وقوع فتنة بين المسلمين وأوردنا خطابه الرائع الذي شرح لهم فيه كيف أنه تألف بهذه الغنائم قلوب زعماء قريش وأنه وكلهم إلى إسلامهم، وأن هذه الغنائم ليست إلا لعاعة من لعاعات الدنيا الفانية وأنهم الرابحون حقاً لأنهم سيرجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، ثم دعا لهم ولأولادهم ولأحفادهم. ففتح ببيانه الرائع قلوبهم حتى بكوا واخضلت لحاهم بالدموع.[2] وهذا مثال من أمثلة فراسته وفطنته وسرعة بديهته. ولا نفصل هنا هذا الموضوع فقد سبق وأن شرحناه ببعض الإسهاب.

ج- مشكلة الهجرة

تُعد الهجرة مشكلة على الدوام، وهي تقع في أيامنا الحالية أيضاً، [3] ونرى كيف أن دولتنا بدأت تقاسي الأمرين من جراء هذه الهجرة، وقد أظهرتُ قلقي في عدة خطب، وقلت إن هذه نتيجة مؤامرات تحاك في الخارج وتوضع كتمثيلية على مسرح تركيا... وغداً سيفتحون باباً للنفاق في الشرق وباباً للشقاق في الغرب، وفتنة في الشمال وأخرى في الجنوب... يستطيعون فتح هذه الأبواب، ذلك لأن الكفار والظالمين ومنافقي آسيا متهيئون على الدوام لفتح أبواب الغوائل أمامنا. وكانوا قد انتهزوا فرصة ضعفنا في السابق فأزالوا الدولة العثمانية التي كانت عنصر توازن دولي آنذاك، ولو لم تلتجئ الأمة في النهاية إلى معاني روحها وإلى جذور عقيدتها في معركة "شنق قلعة" وفي "حروب الاستقلال" لما كانت هذه الأمة قائمة وموجودة اليوم... بل لتضرر العالم الإسلامي كله من هذا الأمر، ولكن فدائيي "شنق قلعة" و"حرب الاستقلال" استطاعوا تسخير القوى الديناميكية الموجودة في روح هذه الأمة والتي تنبع من عقيدتها ومعنوياتها واستعانوا بالله تعالى فأنقذوا هذه الأمة من أن يكون مصيرها مثل مصير بلغاريا أو مصير تُرْكِسْتان أو أوزبكستان أو مُنغوليا (Mongolia)... وندعوا الله تعالى أن يمكن هذه البلدان أيضاً من كسر سلسلة العبودية التي تطوق أعناقها[4] وأن يمكنهم من محاسبة خصومهم ذلك لأن الله تعالى يقول: ﴿وَتِلكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140). فإذا كانت الأيام متوجهة نحو أعدائهم اليوم، فقد تدبر عنهم غدا، وقد تغشى الابتسامة والانشراح في المستقبل هذه البلدان المظلومة البائسة.

أجل، إن الهجرة مشكلة قائمة بذاتها وما ذكرناه باختصار عن الهجرة الحالية التي وضعت أمة تعدادها 55 مليون نسمة وحكومتها في وضع حرج وصعب مثال واضح. غير أن الهجرة التي حدثت آنذاك كان عدد أفرادها يكاد يقترب من عدد أهل المدينة ولكن النبي صلى الله عليه وسلم استطاع بفطنته أن يجنب الذين هاجروا سواء إلى الحبشة أو إلى المدينة من الضوائق المادية. وإضافة إلى تخطي المتاعب الدنيوية فقد تحققت نتائج جيدة. والحقيقة أنه لا توجد هجرة في تاريخ العالم تحققت بهذا النجاح الذي تم على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف حل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المعضلة الكبيرة؟ لنشرح هذا بعض الشيء دون الدخول في تفاصيل كثيرة:

كانت يثرب مدينة صغيرة يعمل أهلها في الزراعة، لذا فقد كانت سوقها في يد اليهود، صحيح أن المهاجرين من أهل مكة كانوا يجيدون التجارة إلا أنه لم يكن عندهم الرأسمال اللازم للتجارة؛ ومن ثم فما كان يمكنهم منافسة اليهود، فكيف كان بإمكانهم التعامل بالتجارة وقد تركوا كل أموالهم وأملاكهم في مكة؟ ثم إن أعداد المهاجرين كانت في تزايد مستمر، وكانت نفوس أهل المدينة في تصاعد سريع، فأين يستقر هؤلاء ومن أين يأكلون ولاسيما أن أهل المدينة فقراء.. كانت المشاكل تتراكم وتزداد وتنتظر كلها الحلول من الرسول صلى الله عليه وسلم. كان الجميع يتطلعون إليه ويثقون بقدرته على حل هذه المشكلات جميعها. وفعلاً قام بحلها بضربة واحدة.

ما أن حل الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة حتى آخى بين المهاجرين والأنصار، فقد نفخ في أرواحهم روح آصرة أخوة أقوى من أخوة النسب وأبعد منها مدى، إلى درجة أنهم توارثوا لفترة من الزمن...[5] كانت هذه الأخوة قوية إلى درجة أن الأنصار قسموا أموالهم قسمين وأعطوا قسماً منها إلى المهاجرين، حتى لقد بلغت هذه الأخوة مرتبة جرت فيها هذه الحادثة التي تذهل العقول:

جاء في رواية ينقلها البخاري أن المهاجرين عندما قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالي نصفين، ولى امرأتان، فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عِدتها فتزوجها. قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أَقِط[6] وسَمْن، ثم تابع الغدو، ثم جاء يوماً وبه أثر صفرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَهْيَمْ.»[7] قال: تزوجت، قال: «كم سقتَ إليها؟» قال: نواة من ذهب.[8]

أي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أسرع بالزواج حالما توفرت له فرصة إعالة بيته، وهذا نوع من الاحترام لمشاعر الذين كان يتردد على بيوتهم، ومثال على رهافة الحس ورقة الروح والذوق.

لا شك أن أعظم المشكلات تذوب أمام هذه الأخوة؛ فهولاء المضحون الذين ارتبطوا ببعضهم بمثل هذه الرابطة القوية كانوا هم المرشحين لفتح العالم؛ وروح الأخوة التي كانت ترفرف في سماء المدينة سيأتي يوم تحلق فيه على أرجاء العالم كله.

1.  نزاع بين الاستغناء والكرم

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وحده فدخل عليه بعض زعماء المهاجرين بعد الاستئذان منه... لم يكن بينهم أحد من الأنصار، وكان هذا جالباً للانتباه، فلماذا أتى المهاجرون ولم يدعوا معهم أحداً من الأنصار؟

وبعد الاستئذان من الرسول صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه ما جاءوا من أجله فقالوا: "يا رسول الله! ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤنة[9] وأشركونا في المهنأ[10] حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله." فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم.»[11]

كانت هذه هي الأخوة التي نفثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه، وهذه هي الأخوة التي جعلت منهم جسداً واحداً. فالأنصار كانوا يحبون أن يبقى المهاجرون في بيوتهم، لأن فراق هؤلاء الإخوة كان شيئا مؤلما ألم الموت. فمع أنهم كانوا يلتقون بهم خمس مرات في اليوم في المسجد إلا أن فقدانهم لهم في غرف بيوتهم وفي وجبات الطعام التي تقاسموها معهم كان يحزّ في نفوسهم...

أجل، كان هناك استغناء من طرف وكرم ومروءة وتضحية في الطرف الآخر وكان كلا الطرفين يصرّ على موقفه. وأخيرا قد توصل الطرفان إلى اتفاق يقضي بأن يقوم المهاجرون بالعمل في مزارع الأنصار مقابل أجرة، وهكذا يستطيعون إعالة أنفسهم ويسكنون في مساكن مستقلة بهم ولا يبقون تحت منة أحد. وهكذا ساعد الأنصار المهاجرين باستخدامهم في العمل. وهكذا حل الرسول صلى الله عليه وسلم مشكلة الهجرة على نطاق كبير بشعور الأخوة الذي أسسه في المدينة.[12]

وكانت المشكلة الثانية التي حلها هي التجارة، فقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن اليهود هم المسيطرون على الحياة التجارية في المدينة، فأصدر أمره بتأسيس سوق للمسلمين في مكان آخر[13] لكي يتعاطى المسلمون عمليات البيع والشراء فيما بينهم في سوقهم الخاصة بهم من أجل أن يدخل المسلمون إلى عالم التجارة ويزدادوا قدرة وقوة ويؤسسوا محالهم التجارية الخاصة بهم ويقضوا على هيمنة غير المسلمين على السوق.

تأسست سوق جديدة وبدأ المسلمون يتعاطون البيع والشراء فيما بينهم فنرى كتاب المغازي ينقلون بأنه لم يمر وقت طويل حتى عجز اليهود عن مواصلة التجارة في المدينة المنورة. أجل، فلم يعد باستطاعة أحد منافسة المسلمين تجارياً في سوق المسلمين. وهذا ما كان الله تعالى يريده... فالله تعالى لا يريد من المسلمين أن يكونوا تابعين لأحد... إن الله لا يرضى لنا أن ننتظر الأوامر الصادرة من الآخرين ولا أن نلتجئ للآخرين ونرجو منهم أن يحلوا لنا مشاكلنا ونستعطفهم قائلين: نرجو ونتوسل منكم أن تحلوا لنا المشكلة الفلانية... هذا لا يرضاه لنا. يجب أن يكون المؤمن عزيز الجانب واقفاً على قدميه ينجز أعماله بيده ويحل بنفسه مشاكله، ويرى بعينه لا بعيون الآخرين ويعيش حسب معتقداته ويحافظ على أصالته... وهذا ما أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.

2.  أول دستور

ما أن وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة حتى نشر بياناً.[14] ويطلق المتخصصون في القانون اسم "دستور رسول الله صلى الله عليه وسلم " على هذا البيان الذي أعلنه بعد وصوله إلى المدينة بوقت قصير. ففي هذا البيان أو هذه المعاهدة نرى وجود أسس معظم ما جاء في بيان حقوق الإنسان وفي "فرمان التنظيمات" عندنا. فالحقوق التي تعهد بها للمسيحيين واليهود ساعدت على إرساء وحدة بين أهل المدينة وقربهم إليه وأبعدهم عن خصومه من البيزنطيين والساسانيين والقرشيين. لذا، عاش اليهود مدة تحت جناح المسلمين بكل اطمئنان وراحة وأمن. وقد عبر المنافق المعروف عبد الله بن أُبَيّ بن سَلول عن قلقه أمام قريش فقال إنه لا يخشى قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بنشر دينه في المدينة. ولكن الخطر هو قيامه بجذب اليهود والنصارى إلى جانبه وضد المشركين.

وقد أصبحت هذه المعاهدة أو هذا البيان أو الدستور مدة طويلة سبباً في إرساء الصلح والأمن بين المسلمين واليهود حتى نقضها اليهود. وكان اليهود يراجعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويرضون به حكماً.

أجل، إن كتب الحديث تبين لنا أنهم راجعوه في قضايا السرقة والقصاص والزنا. ونعلم من هذا أن المسلمين وإن أوكلوا شؤون اليهود إليهم وجعلوهم أحراراً فيها إلا أن اليهود كانوا يرون في المسلم ولاسيما إن كان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عدالة أكثر وقابلية أكثر، لذا كانوا يراجعونه ويجعلونه حكماً في كل مسألة. وهذا المصدر والنبع القدسي الذي سيصبح في المستقبل مرجع الإنسانية كلها كان قد أثبت مرجعيته بدأ من تلك الأيام.

وهكذا حل الرسول صلى الله عليه وسلم مشكلة الهجرة بضربة واحدة ليتفرغ المسلمون للتوجه نحو العالم أجمع باطمئنان قلب.

د- مشكلة الحرب

للحرب وللهزائم مشاكلها... أجل، هناك مشاكل للحروب وللانقلابات وللانتصارات وللصلح... قمنا بعملية إنزال في قبرص سنة 1974، ولكننا لا نزال نعاني من مشاكلها حتى الآن. إنني أقبّل جبين الجندي التركي الذي جابه الأعداء هناك وحاربهم، ولا أستهين أبداً ببطولته ولكنكم ترون أننا لم نستطع حل مشاكلها حتى الآن. علماً بأن جزيرة قبرص تم فتحها في عهد معاوية بسهولة وبسرعة ودون أن يخلفوا وراءهم أي مشكلة. ولكن الوضع أصبح يختلف الآن تماماً. وقد ذكرت مسألة قبرص كمثال فقط، وإلا فإن غايتي الأصلية هي الإشارة إلى صعوبة حل المشاكل ولاسيما مشاكل الحرب والصلح. فقد مرت سنوات طويلة على حرب البلقان، ولكن آثار مشاكلها لا تزال باقية حتى اليوم.

لقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحروب أيضاً... أولاً مع قومه وقبيلته ثم مع اليهود في المدينة وحواليها، ثم دخل حرباً مع الإمبراطورية البيزنطية، فقد كان محاطاً بالأعداء، وكان هؤلاء الأعداء مصدر مشاكل عديدة له. ولكنه كان يستطيع في كل مرة أن يستل نفسه من هذه المشاكل مثل استلال الشعرة من العجين.

1.  التكتيك في معركة أُحد

لن أتناول هنا الانتصار في معركة بدر، ولا التعبئة في معركة الخندق ولا المفاخر التي سطرها الأبطال في مؤتة، ولا البطولات النادرة في معركة اليرموك بل سأتناول بإيجاز المسائل التي نتجت عن معركة أُحد التي تعد -في جانب منها- معركة كان للهزيمة فيها نصيب، والإشارة إلى تعامله مع هذه المسائل والقرارات الصائبة التي اتخذها في شأنها.

تُعد معركة أُحد أول معركة ظهرت فيها بوادر الهزيمة في صفوف المسلمين، وأنا أعوذ بالله من إسناد الهزيمة إلى أي مسلم حقيقي، ذلك لأنه كان لله تعالى تقدير خاص في ذلك أولا، إذ كان هناك أمام المسلمين أشخاص أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من الدهاة العسكريين والسياسيين، وهؤلاء سيردون جيوشاً عديدة للأعداء على أعقابهم في المستقبل... صحيح أنهم كانوا آنذاك لسوء حظهم في صفوف المشركين، إلا أنهم كانوا صحابة المستقبل.

أجل، لقد غلب صحابة المستقبل صحابة اليوم، والمسألة الثانية هي أن الرماة -عين لهم الرسول صلى الله عليه وسلم موضعاً خاصاًّ وأعطى لهم أوامر معينة- لم يلتزموا بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم بل ظهر عند بعضهم حب جمع الغنائم، ولكنهم وجدوا عكس ما أملوا... والحقيقة أننا لا نرى في أنفسنا صلاحية وحق نقد هؤلاء الصحابة الأجلاء، فهم أولاً قد شرفوا برتبة المقربين، والمقربون لهم مستوى خاص من التعامل. ما أريد قوله هو أن هؤلاء الناس الشبيهين بالملائكة كانوا يعاملون معاملة خاصة، وإلا فإن حسناتنا تعد سيئات بالنسبة إليهم...

أجل، لو أننا فعلنا ما فعلوه آنذاك لاكتسبنا الثواب دون شك لكون باب الاجتهاد مفتوحاً على الثواب دائما. أما هم فقد كانوا من الرجال المخلصين المضحين الذين صافحوا يد الرسول صلى الله عليه وسلم، والذين عاهدوا على نبذ الدنيا وهجرها لحساب الآخرة والذين سبقوا الملائكة المقربين... ولكون هؤلاء قد أسقطوا ظلاً على مرتبة "المقربين" عندهم فقد ظهروا بمظهر المغلوبين... فماذا حدث؟ الذي حدث هو سقوط سبعين شهيداً من الذين نعرف أسماءهم من بين بضع مئات من الصحابة.[15]

وجرح مثل هذا العدد منهم جرحاً بليغاً حتى أنهم عجزوا عن الحركة. وقد كان بإمكان المشركين إنزال ضربة أخرى بالمسلمين لولا أن المسلمين التجأوا إلى جبل أُحد. ورأى المشركون أن أصواتهم قوية وليست واهنة، فلم يرغبوا في الدخول إلى مخاطرة أخرى لذا، تركوا ساحة القتال فورا، إذ داخل الخوف قلوب المشركين، وكان عذر المشركين لهذا الخوف ولما يشبه الهزيمة هو: لقد آذيناهم إلى درجة أنهم لن يستطيعوا التخلص سريعاً من أثر هذه الهزيمة، إذن، فلنذهب، فمن يدري ما الذي سيحصل إن هجمنا عليهم مرة أخرى. فانسحبوا على هذا الأساس وتركوا ساحة القتال، ثم حين حرض أحدهم قريشاً (أصبح هذا فيما بعد صحابيّاً وقدم خدمات جليلة) على مواصلة القتال، والذي جاء وصفه في القرآن بأن الشيطان حرض قريشاً، وقال لهم أن أذهبوا إلى المدينة ما دام الوضع مساعداً. كان من الواضح أنه يريد منهم التوجه إلى المدينة لهدمها على رؤوس أهاليها مثلما فعل الرومان بمدينة قارطاجة، ولا يبقوا فيها فرداً واحداً، لأنه إن بقي منهم أحد تكاثروا بسرعة وأصبحوا مشكلة لهم.[16]

ما أن سمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا حتى أصدر أمره بأن من كان معه يوم أُحد من الأصحاء أو الجرحى فليجتمعوا في المكان الفلاني لأنه سيذهب لملاقاة العدو.[17]

فهؤلاء الجرحى والمصابون الذين التجأوا قبل يوم إلى سفح جبل أُحد كانوا يستعدون لحملة أخرى، ذلك لأنه كان من الضروري إبداء قوة معنوية كبيرة تقوم بجبر معنوياتهم وإزالة مظاهر خيبة الأمل التي أصابت المسلمين والتي سنذكرها هنا:

أول مظهر من مظاهر خيبة الأمل هو انكسار القوة المعنوية للمسلمين، ثانياً تزايد شهية الكفار، ثالثاً تزايد شماتة المنافقين من حال المسلمين مما كان يؤثر على معنوياتهم. لذا، فإن الفكرة التي طرحها ذلك المشرك من وجوب التداعي والهجوم الجماعي على المسلمين لاستئصال شأفتهم بدأت تنتشر هنا وهناك وتتداولها الألسن، فكان هذا الأمر نذير خطر كبير على المسلمين، ولولا فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسرعة تداركه للأمر لكان من الممكن ظهور مشكلة كبيرة وخطر عظيم يصعب على المسلمين مواجهته... أجل، لقد أصابت المسلمين آنذاك أضرار فادحة -مثلما أصاب الجندي التركي في معركة شنق قلعة- ولكنهم استطاعوا أن يلموا شعثهم ويقلبوا الهزيمة التي كانت تلوح قريبة منهم إلى نصر بعون من الله تعالى.

أجل، فما أن أصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره إلى هذه الجماعة بالتهيؤ والتجمع حتى تهيأوا وتجمعوا وانتقلوا إلى حالة الاستعداد للهجوم... كان بعضهم مصابا في يده أو في رجله، وبعضهم لا يستطيع المشي إلا بمشقة، ومع ذلك فما أن سمعوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تجمعوا في المكان المعين، فكأن أنفاس الرسول صلى الله عليه وسلم قد أحيتهم ونفخت فيهم القوة والعزيمة. فبدأوا يتسابقون في الاستجابة إليه. وكما قال الشاعر البوصيري:

لو ناسبتْ قدرَه آياتُه عِظما     أحيا اسمُه حين يُدْعى دارسَ الرِّمم

أي لو كانت معجزاته على قدر قيمته صلى الله عليه وسلم لأحيا ذكر اسمه الرمم الدارسة في القبور... لقد أحيت دعوته الجميع في أُحد فتسابقوا إلى إجابة دعوته.

والآن لنستمع إلى شرح هذه الحادثة من أحد الصحابة حيث يقول ما معناه:

"كان لي صديق لا يستطيع المشي فكنا نحمله على أكتافنا لأنه قال لنا أن نحمله إلى موضع القتال فإن لم يستطع رمي السهام فهو يستطيع استعمال الرمح. كان أحدنا يحمل الآخر، وربما سقط أحدنا وأغمي عليه، وهكذا حتى وصلنا إلى وادي حمراء الأسد. وهو موضع يستطيع فيه المشركون رؤية دخان مواقد المسلمين. فما أن رأى المشركون تجمع المسلمين الذين ظنوا أنهم أصابوهم إصابة بالغة لا يرجون منها شفاء حتى ذهلوا واحتاروا. وإذا بأبي سفيان الذي أصابه الفزع يصرخ فيهم: "الرحيل! الرحيل!" ذلك لأنه بدأ يخشى أن تدور الدائرة عليهم بعد أن فكروا في الإغارة على المدينة... أما الآن فإن همهم الوحيد كان هـو الإسـراع إلى مكة."[18]

فلو تأملتم لرأيتم كيف قام الرسول صلى الله عليه وسلم بحل جميع مشاكل الحرب بنفحة واحدة وبضربة واحدة ودون أن يخلف أي مضاعفات ولا أي مشاكل. والقرآن الكريم يشير إلى هذا الموقف الحرج فيقول: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).[19]

أجل، لقد تركت قريش كل شيء وهربت، أما المسلمون فقد تخلصوا من أثر الهزة التي أصابتهم أمس، ثم رجعوا إلى المدينة دون أن يصيبهم أي ضرر بنعمة من الله وفضل.[20] هناك بعض من كتاب السير والمغازي يذكرون أن معركة أُحد كانت هزيمة بالنسبة للمسلمين... أجل، إن كان هناك جانب من الهزيمة في معركة أُحد فهو يرجع إلى بعض الصحابة الذين لم يستمعوا إلى تعاليم النبي صلى الله عليه وسلم واستشهدوا في تلك المعركة فرحلوا إلى الآخرة طاهرين مطهرين. ولكن هناك جانب نصر في أُحد، وأنا أرى الوقوف عند هذا الجانب الذي حققه الرسول صلى الله عليه وسلم... أجل، فإن المهم هو القيام بقلب الهزيمة إلى نصر وهو ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم.

هناك مقولة للغرب تقال في حق الأمة التركية وهي: ”هناك أوقات تنتهي فيها مقاومة كل أمة، في هذا الوقت تبدأ هذه الأمة بالهجوم.“

والحقيقة أن هذه المقولة يجب أن تُقال في حق المسلمين الصادقين حيث تصبح صحيحة على الدوام، أي في الأوقات وفي الظروف التي تنتهي فيها مقاومة الأمم وتبدأ بالاستسلام يقوم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ببدء الهجوم. وهذا الهجوم يقوم بحل المشاكل المتراكمة الواحدة فوق الأخرى، ويهب الأمل والإيمان إلى قلوب المؤمنين واليأس والقنوط إلى قلوب المنافقين، ويجعل أمنية المشركين حسرة في قلوبهم. فماذا يمكن أن يقال هنا بعد أن حول الرسول صلى الله عليه وسلم الهزيمة إلى نصر وأعاد المسلمين إلى المدينة فرحين غالبين، وحل بحكمته هذه المشكلة المعقدة.. سوى الشهادة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله حقا وصدقا؟

2.  الشورى

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بحل بعض المشكلات التي تعرض له عن طريق التشاور. وهو مع عدم حاجته إلى المشورة إلا أنه كان يريد إرساء قضية الشورى كقاعدة مهمة لأن الذين سيأتون من بعده كممثلين للأمة الإسلامية سيكونون في حاجة للشورى. أجل، فقد كان شخصاً وهب له التأييد الإلهي، فلم يتركه الله تعالى وحده في أي مسألة من المسائل، فلو ألم به مرض لتلقى الإلهام الإلهي بطريقة العلاج والشفاء؛ فقد كان على ارتباط وثيق بعالم الملكوت، ولكنه كان يعطي أهمية كبيرة لموضوع الشورى، وكان هذا بُعدا آخر من أبعاد فطنته وجانباً آخر من جوانب فراسته.

لقد أصبحت الشورى بعده بعدة عصور نظاماً لا يستغنى عنه في إدارة الدولة. ولكون الإدارة في الإسلام مفتوحة على الشورى ولكونها مرنة وواسعة وتستطيع أن تحتضن العصور بعالميتها فقد تخطت العصور عصراً عصراً حتى وصلت إلى أيامنا الحالية.

إليكم بعض الأمثلة:

1. كان صلى الله عليه وسلم يشاور الجميع ويأخذ وجهة نظر الكل لأنه كان يريد إشاعة فكرة الشورى في حياة المجتمع وجعلها سائدة فيه. استشار علـياًّ رضي الله عنه، وهو الإنسان الذي قال: "لو رُفع الغِطاء ما ازددتُ يقيناً" [21] ولكنه كان مع هذا تلميذاً في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استشاره الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان شاباًّ يافعاً.[22]

كان المنافقون قد افتروا على أمنا عائشة رضي الله عنها فيما اشتهر بحادثة "الإفك" التي برأ الله تعالى فيها أمنا عائشة رضي الله عنها. ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موقنا بأن الوحي سيقول القول الفصل في هذا الأمر. ورغم كونه غير قلق من ناحية عائشة رضي الله عنها، إلا أنه قام مع هذا باستشارة أصحابه عدة مرات لأنه كانت هناك مصلحة في مثل هذه الاستشارات. لأن الاستشارة دائما مغانم وليست لها خسائر. وما بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا لهدايتنا لما فيه الخير لنا.

وهناك رواية ضعيفة عن حادثة جاء فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عمر رضي الله عنه وسأله عن رأيه في عائشة رضي الله عنها فقال عمر: يا رسول الله! إن عائشة بريئة وإنها طاهرة ونقية. فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم كيف عرف ذلك فأجاب عمر: "لقد عرفنا فيما بعد أنك كنت تصلي مرة دون أن تعرف أن نجاسة صغيرة قد مست نعلك فنزل جبريل عليه السلام وأخبرك بالأمر. وقال لك بأن تخلع نعلك.. فإذا كان الله تعالى يخبرك عن مثل هذه النجاسة الصغيرة فكيف يرضى لك أن تكون لك زوجة تقترف -حاشاها- مثل هذا الإثم؟ لا شك أن جبريل سيأتيك ليخبرك عن مدى عفة عائشة رضي الله عنها."

أجل، لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ندم من استشار.»[23] لذا، فقد استشار عمر. فمثل هذه الاستشارة لا تفقده شيئا، بل ربما كسب قلب عمر رضي الله عنه مرة أخرى. أجل، لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتشاور مع طلابه ويأخذ آراءهم. ولا شك أن الرابح في هذه الاستشارات كان هؤلاء الطلاب، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقن طلابه درساً أخلاقياًّ في هذا الخصوص. ثم أليس هو القائل: «ما ندم من استشار.»

2. عندما خرج لمعركة بدر استشار الرسول صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار وأخذ بآرائهم، فتكلم المقداد بن عمرو باسم المهاجرين فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه." فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشيروا عليّ أيها الناس» وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعَقَبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.

فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سـعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أجل.» قال: فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَهُ أن تَلقى بنا عدونا غدا. إنّا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينُك فسِرْ على بركة الله.[24]

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بالاستشارة لإظهار روح الاتفاق بين المسلمين. كان الأنصار والمهاجرون متفقين على شيء واحد... عزمهم على القتال وعلى الاستشهاد... أجل، لقد كان هذا هو الشيء الوحيد الذي كان عليهم أن يعملوه تجاه الجمع الحاشد لأعدائهم المملوئين حقداً وغيظاً والمتهيئين بسيوفهم ورماحهم وسهامهم للقضاء عليهم. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان متهيئاً للدفاع عن الحق وعن الحقيقة وعن شرف الإسلام وعن كرامة الأمة الإسلامية، وكان يقوم باستشارة أصحابه ويبدي رأيه السامي على أوسع نطاق ويرسيه على أصلب أساس ويدع رأيه هذا يسري في مشاعر الصحابة وفي أحاسيسهم جميعاً دون استثناء. كما كانت الاستشارة غاية من غاياته. لقد رسم الله تعالى له الطريق وبين له ما يعمله، ولكنه إضافة إلى إرشاد ربه فقد كان يستشير أصحابه ليشاركهم وليشاركوه أفكاره ومشاعره في ذلك الموقف المهم. وما كان لأحد من أصحابه المخالفة في اتباعه والانقياد له أبدا، ذلك لأنهم أعطوه على ذلك عهداً وميثاقاً... وسيأتي يوم يقول لكعب بن مالك رضي الله عنه معاتباً: «ما خلّفك، ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟» كان كعب رضي الله عنه قد أعطاه عهداً في العَقَبة على أن يكون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في اليسر والعسر ما تعاقب الليل والنهار.[25] لقد أعطوه عهدا، وألقوا بأنفسهم إلى الموت بملء إرادتهم.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم باستشارته هذه ليتبنى المسلمون جميعاً دعوته، فكان الجميع يهرعون لمساعدته على قدر طاقتهم ويرون حمل هذه الدعوة غاية لهم وهدفا لحياتهم، ويرون في الشهادة أحلى أمانيهم.

3. عندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر كان عليه أن يعين المكان الذي ينزل فيه والآبار الموجودة هناك والتل الذي يجب أن يحتله، وكان عليه أن يشاور أصحابه في هذا الأمر.

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به، فحُدّثتُ عن رجال من بني سلِمة أنهم ذكروا أن حُباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرايت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأى والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأى والحرب والمكيدة.» قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنـزل، فامضِ بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننـزله ثم نغور ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد أشرت بالرأى.»[26]

4. كان سلمان رضي الله عنه عبداً فارسيا، كان مجوسياً في أول الأمر ثم تنصر ثم أسلم وهو عبد... وعندما أسلم لم يكن يملك مالا أو أهلاً. وهو يدين بكل شيء إلى الإسلام، وقد عبر سلمان رضي الله عنه عن هذا الأمر بجملة وجيزة. فعندما سألوه مرة عن نسبه، قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه     إذا افتخروا بقيس أوتميم

أجل، لقد وجد نسبه الحقيقي؛ فهو ابن الإسلام.

وفي معركة الخندق أو معركة الأحزاب استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه كما هي عادته، فأدلى كل برأيه وعندما جاء دور سلمان رضي الله عنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم اعتادوا في بلادهم على حفر خندق حول المدينة إن هاجمهم عدو، لذا فقد اقترح حفر خندق حول المدينة. وأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الرأى فأمر بحفر الخندق وشـارك بنفسه في أعمال الحفر وشـجع العاملين هناك.[27]

5. لم يكن يستشير الرجال فقط، بل يستشير النساء أيضا، ففي الحُديبية استشار زوجته أم سلمة رضي الله عنها، ولم ير بأساً في تنفيذ ما اقترحت عليه.[28]

لقد سلك هذا المسلك طوال حياته، واستطاع عن طريق الاستشارة تخطي مشاكل صعبة. وقد بدأنا نفهم مؤخراً مدى ضرورة الشورى وأهميتها في إدارة الدولة. أما المستبدون فقد تركوا وراءهم مئات المشاكل قبل أن يرحلوا. لقد علّم وجوب احترام الفكر والعقل؛ فهناك حكمة في وجود العقل، أي حكمة في التفكير وإجراء المحاكمات العقلية. وهناك حكمة من وجود الفكر البشري بحيث تتم مراجعة هذا الفكر حتى من قبل الدعوات المؤسسة على الوحي، وحتى من قبل الأشخاص المتصلين بالوحي، حيث يتم تفسيرها بهذا الفكر. لذا، فمن لا عقل له لا يعد مكلفا في شرعنا، وهذا أساس من أسس ديننا.

الهوامش

[1] «المسند» للإمام أحمد 3/425؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 1/209

[2] البخاري، المغازي، 56؛ مسلم، الزكاة، 132-135؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 4/141-142

[3] فقد سيق مثلا (300) ألف أخ من إخواننا في الدين والقومية إلى الهجرة من بلغاريا إلى تركيا في سنة 1989 ووقعت في أثناء هذه الهجرة مآسٍ وفواجع عديدة.

[4] قال المؤلف هذا قبل انهيار الاتحاد السوفيتي. (المترجم)

[5] انظر إلى تفسير هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو اْلأَرْحَامِ بَعضُهُم أَولَى بِبَعضٍ في كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: 75) من «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير 4/42-43 و«الدر المنثور» للسيوطي 4/117-118

[6] أَقِط: نوع من الجبن. (المترجم)

[7] مَهْيَمْ: أي ما حالك؟ أو: ما شأنك؟ (المترجم)

[8] البخاري، مناقب الأنصار، 3

[9] أي تحملوا عنا مؤنة الخدمة في عمارة الدور والنخيل وغيرهما. (المترجم)

[10] المهنأ: ما أتاك بغير تعب، والمعنى: أشركونا في ثمار نخلهم. (المترجم)

[11] الترمذي، القيامة، 44؛ «المسند» للإمام أحمد 3/200، 204

[12] البخاري، مناقب الأنصار، 3

[13] ابن ماجه، التجارات، 40؛ «مجمع الزوائد» للهيثمي 4/76

[14] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/147

[15] البخاري، المغازي، 26

[16] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/128

[17] «البداية والنهاية» لابن كثير 4/56

[18] البخاري، المغازي، 25؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/99-111؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/42-49

[19] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/128

[20] البخاري، المغازي، 25؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/99-111؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/42-49

[21] «الأسرار المرفوعة» لعلي القاري  ص193

[22] البخاري، المغازي، 34؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 3/313

[23] «مجمع الزوائد» للهيثمي 2/280

[24] مسلم، الجهاد، 83؛ «المسند» للإمام أحمد 3/257؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 2/266-267؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/320-322

[25] البخاري، المغازي، 79؛  مسلم، التوبة، 53

[26] «السيرة النبوية» لابن هشام 2/272؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/326

[27] «السيرة النبوية» لابن هشام 3/235؛ «الطبقات الكبرى» لابن سعد 2/66؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 4/109

[28] انظر: البخاري، الشروط، 15