الفصل الأول: رسالة القائد والحياة

لقد أتى رسولنا صلى الله عليه وسلم بمبادئ عديدة للإنسانية، ولم يكن أي مبدأ منها يتصادم مع الحياة أو يتناقض معها. ثم إنه ذكر هذه المبادئ وهو واثق منها تمام الثقة ودون أن يحمل أي شك أو تردد أو ريبة حولها.

تناول في أحاديثه كل شيء تقريباً... من العرش إلى الفرش... من الجنة إلى جهنم... من الإنسان الأول حتى يوم القيامة... تناول كل هذه الأمور بالشرح والإيضاح. واهتم على الأخص بشؤون أمته والحوادث الآتية المتعلقة بها حتى إنه عدد بعضها وأعطى لها الأسماء وكأنه يراها على شاشة تلفزيون دون أي تشوش. أجل، لقد كان واثقاً من كل ما يقوله، ذلك لأن الله تعالى بسط أمام ناظريه الكتاب المبين والإمام المبين وأراه الشيء الكثير من ألواح القدر... كان يرى ذلك ثم يشرحه، لذا فمن الطبيعي أن تكون المبادئ التي أتى بها مثل هذا الشخص العظيم مبادئ أبدية.وما أجمل ما قاله سلطان الشعراء نجيب فاضل:

الغد لنا... طبعاً لنا...

إن أشرقت الشمس أو غربت... فالأبد لنا.

يشرح هذا الشاعر بكلماته هذه مدى ثقته بمبدئه وعقيدته. وعندما نطالع كلمات هذيين البيتين على ضوء دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تأخذ أبعاداً عميقة... الشمس تشرق وتغرب... والأيام والسنين والعصور تمضي، ولكن الرسالة التي أتى بها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ستبقى خالدة إلى الأبد.

أ. كان واثقاً وذا عزم

يروي ابن إسحاق رحمه الله أن قريشاً قصدت أبا طالب للتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واثقاً من نفسه ويعرف ما يريده فقال: «أريد منهم أن يقولوا كلمة واحدة يحكموا بها العرب والعجم.» ففرح القوم وقالوا: فديناك بأنفسنا... وما هي؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم.»[1] وفعلاً حكموا العرب والعجم...

وما أكثر الدول والأمم التي أسرعت إلى ظلال الإسلام... وأمتنا الأصيلة هذه انتبهت إلى الإسلام مبكراً وأسرعت إليه قبل أحد عشر عصراً دون أن تضيع وقتاً كثيراً... تأملوا..! لقد أسرعت جماعة تتألف من ألف خيمة إلى الإسلام في ظرف سنة واحدة ودون أن يكون هناك أي إكراه. وهذا الإقبال المخلص على الإسلام هو الذي يسر لهم رفع راية الإسلام في العالم أجمع والدفاع عنه طوال عشرة قرون تقريباً... فظهر منهم حملة لراية الإسلام مثلما كان حمزة ومصعب والزبير وابن جحش من الحملة الأوائل لراية الإسلام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم... جاءوا من سفوح جبال الهملايا ليحملوا مسؤولية الذود عن هذه الراية وعن هذا الدين طوال عصور وعصور (ندعو الله تعالى أن يحفظ هذه الأمة النجيبة في طريق الدفاع عن الإيمان وعن القرآن).

أجل، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه بثقة دون أن يتنازل عن شيء منها ودون أن يساوم على شيء منها... كان واثقاً من يومه ومن غده إذ يقول لهم «إن اتبعتموني دانت لكم العرب والعجم وسيكون البيت الحرام مثابة للناس وأمنا...» وعندما حان الوقت المناسب تحقق كل ما قاله لهم، ففي كل عام يطوف الملايين من الناس حول البيت الحرام مثلما ينجذب الفراش إلى هالة النور. وحينما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول لم يكن هناك أي أمارة أو إشارة أو علامة تؤيد هذا القول... أجل، فإن من الضروري أن يثق الزعيم والقائد بما يقوله لكي ينشر الثقة بين الآخرين.

ينقل الحاكم في المستدرك حادثة عَدِيّ بن حاتِم التي سبق وأن ذكرتها وأستسمح القراء في إعادتها هنا... وعدي هو ابن حاتم الطائي المشهور في التاريخ العربي بسخائه وجوده. ينقل لنا عدي بن حاتم رضي الله عنه حادثة إسلامه وكيف زار النبي صلى الله عليه وسلم وهو متردد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فلعلك إنما يمنعك عن الإسلام أنك ترى من حولي خصاصة. إنك ترى الناس علينا إلباً.» ثم قال: «هل رأيت الحِيرة؟» قلت: لم أرها وقد عرفت مكانها قال: «فليوشكن أن الظعينة ترحل من الحِيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت، وليفتحن علينا كنوز كسرى»، قلت: كسرى بـن هرمز؟ قـال: «كسرى بـن هرمز، ويوشك أن لا يجد الرجـل في ماله صدقة» وقال: فرأيت الظغينة ترحل وأحلف ليفتحن الثانية بقول رسـول الله صلى الله عليه وسلم وهـو الحـق.[2]

هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب بكل ثقة أصحابه والذين التفوا من حوله. ولم يكن يدور بخَلَد أحدهم ذرة واحدة من الشك أو الريبة حول ما يقوله، كما أن الأيام كانت تؤيد ما يقوله عندما يحين أوانه.

ب. طلب الأغنياء التمايزَ

كان الفقراء أول من استجابوا للرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا في الأغلب من الشباب، أما الأغنياء من مشركي قريش من الذين تحجرت أدمغتهم في بوتقة الكفر فكانوا في عناء دائم. ولكن عندما ظهر سر الآية ﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً﴾ (النصر: 2). أدرك هؤلاء أيضاً ضرورة الدخول في دين الله. ولكن معظم من كانوا حوله في البداية كانوا من الشباب... من الشباب الفقراء.

ولم يكن أشراف مكة وأغنياؤها ورؤوس القوم مرتاحين من هذا، فكانوا يراجعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه أن يخصص لهم يوماً لا يدخل فيه أحد عليه غيرهم... أي لم يكونوا يرغبون في حضور الفقراء أمثال بلال وعمّار وياسر وخبّاب، فهم أشراف القوم فكيف يجلسون معاً مع الفقراء والدهماء![3] ولأنهم اعتادوا في ذلك المجتمع على مثل هذا التصرف والسلوك فإنهم عدوا طلبهم هذا طلباً اعتياديّاً وطبيعيّاً ومشروعاً. ولكن الأمر لم يكن كما يتصورونه، ومع أنهم كانوا يتوقعون من الرسول صلى الله عليه وسلم الترحيب بطلبهم هذا إلا أن الله تعالى كان قد نبه نبيه قائلاً له ﴿وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 52).

أنت رجل الشؤون والمهمات الكبرى، فلا تشغل نفسك بالحسابات الصغيرة أمثال طرد المؤمنين الفقراء رجاء هداية الأغنياء... لأن هذا ظلم، وأنت بعيد عن الظلم... أجل، إن من الظلم أن تطرد الفقراء لكي يرضى عنك الأغنياء. وعصم الله تعالى نبيه -وهو أعدل إنسان- منذ البداية في هذا الأمر.

ويتناول الموضوع نفسه في سورة الكهف فيقول لنبيه: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف: 28).

كان القرآن يقول له: كن مع الذين يدعون ربهم ويذكرونه على الدوام، ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم، وعاشر هؤلاء لأن رحمة الله معهم، فقد يرحم الله الناس بفضل هؤلاء... بفضل عمّار أو ياسر أو بلال وعلي وخبّاب وابن مسعود، فهؤلاء هم مطمح أنظار الرحمة الإلهية وقد يدفع بهم الله البلايا فكأنهم يقومون بوظيفة مانعة الصواعق. كان القرآن الكريم يقول هذا في الوقت الذي لم يكن حول الرسول سوى أربعة أو خمسة من الفقراء... ولكنه مع هذا كان متفائلاً وواثقاً من المستقبل ويؤمن بأن معظم هؤلاء المتمردين العتاة سيسلسون قيادهم وسيقبلون على الإسلام وسيضعون القرآن فوق رؤوسهم، لذا فلماذا يقوم بطرد المؤمنين الفقراء المتحلقين من حوله من أجل هؤلاء؟ ثم كيف يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم إبعاد هؤلاء عنه وهو الذي كان يقول: «إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: عليّ وعمّار وسلمان.»[4]

أجل، فبينما يشتاق الجميع إلى الجنة فإن الجنة تشتاق إلى هؤلاء... تشتاق إليهم كما يشتاق العاشق إلى معشوقه، وكما تشتاق العين إلى الجمال وكما يشتاق الوجدان إلى الرؤية والقلب إلى المشاهدة.

كان سيد المرسلين يعلم أن هذا النفر المحيط به هو بالمستوى الذي يستطيتع أن يحكم العالم وأن يجري انقلابا كبيرا فيه، لذا كان يتصرف حسب علمه هذا، لذ لم يكن يشك لحظة واحدة أن الدنيا كلها من شرقها إلى غربها ستدين بالمبادئ وبالحقائق التي جاء بها، إذ كان واثقاً من إنجاز الله تعالى وعده له ومطمئناًّ لذلك. ومن ثم رد طلب المشركين ولم يلق لهم بالا، بل أحاط هؤلاء الفقراء بحبه واحتضنهم برعايته.

الهوامش

[1] «المسند» للإمام أحمد 1/362؛ «السيرة النبوية» لابن هشام 2/58-59؛ «البداية والنهاية» لابن كثير 3/152؛ «المستدرك» للحاكم 2/432

[2] «المسند» للإمام أحمد 4/257؛ «المستدرك» للحاكم 4/518

[3] «البداية والنهاية» لابن كثير 3/129

[4] الترمذي، المناقب، 33