ي. الخلاصة

أجل، لم يتم تدوين الأحاديث بأمر من عمر بن عبد العزيز بعد مائة عام من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يدعي المستشرقون. دونت الأحاديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وحفظت ثم نقلت سواء كتابة أم شفاهاً إلى الأجيال التي جاءت فيما بعد. فقد ترك الصحابي جابر بن عبد الله مصدراً كبيراً سجل فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.[1] وعلاوة على هذا نجد "الصحيفة الصحيحة" لهَمّام بن مُنَبِّه التي انتقلت من ذلك العهد أيضاً والتي تعد من المصادر المهمة للحديث.

لازم "هَمّام بن مُنَبِّه" أبا هريرة على الدوام، وكان يكتب كل حديث ينقله هذا الصحابي الذي كان من عباقرة الحفظ إلى درجة أنه ذكر مرة حديثاً لأستاذه فقال له أبو هريرة رضي الله عنه بأنه لا يتذكر هذا الحديث فقام "هَمّام بن مُنَبِّه" وجلب إليه الصحيفة التي سجل فيها الأحاديث وقرأ منها هذا الحديث[2] فاقتنع أستاذه. وقد قام الأستاذ محمد حميد الله بنشر هذه الصحيفة وأثبت التحليل الكاربوني[3] لهذه الصحيفة أنها تعود إلى ما قبل ثلاثة عشر قرناً. ثم إنه مما يجلب الانتباه أن هـذه الأحاديث موجودة في مسـند الإمـام أحمد بن حنبل، كما يحتل القسم الأكبر منها أجـزاء مهمة في كتب الحديث الصحاح أمثال البخاري ومسلم. وكما يدل هذا على تدوين الأحاديث في عهد الرسـول صلى الله عليه وسلم فهو دليل على انتقالها بشـكل صحيح وتـام إلى الصحابة ومنهم إلى التابعين وإلى تـابع التـابعين ومـن ثم إلى كتب الحديث.

أمام هذه الوقائع التاريخية وأمام هذه الأحاديث يرى "أحمد محمد شاكر" -وهو من أكبر علماء الحديث في العصر الحديث - أن الأخبار والأحاديث التي تمنع الكتابة إما أنها نُسخت فيما بعد، أو أن النهي يعود إلى نهي كتابة الحديث مع القرآن لكي لا يختلط مع القرآن أي شيء آخر.[4] هذه الحساسية الموجودة لدى الرسول صلى الله عليه وسلم كانت موجودة لدى عمر رضي الله عنه أيضاً، ذلك لأنه كان من الضروري حفظ القرآن سليماً كما أنـزل، وفهمُه جيداً، وإدراك أهميته ووظيفته حسب مرتبته العالية لأنه كلام الله تعالى، وإلا كان من الممكن أن يختلط الحديث به ويفقد القرآن بذلك خصوصيته الفريدة ويتكرر ما جرى في الأمم السابقة. لذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشارك عمر رضي الله عنه في الاهتمام والحساسية التي أبداها في هذا الموضوع. ولكن بعد ما توضح كل شيء وبعد أن تبين ما هو القرآن وما هو الحديث فقد تم السماح بتدوين الحديث تدويناً مستقلاً عن تدوين القرآن.

بعد أن تم تدوين الحديث بهذا الشكل في العهد الأول تم تدوينه بشكل رسمي في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي يطلق عليه اسم "عمر الثاني". فقد كانت هناك صحف حديث مختلفة في أماكن مختلفة، وكانت هذه الأحاديث تنتقل من فم إلى فم، فكما عارض عمر وابن عباس وأبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري وزيد بن ثابت في العهود الأولى تدوين الحديث وفضلوا حفظها، كذلك نجد في عهد التابعين من يعارض تدوين الحديث مثل الشعبي والنخعي ممن كانت لهم اليد الطولى في الحديث ومن أصحاب الذاكرة القوية والقابلية الكبيرة في الحفظ، ولكن رغم هذا تم تدوين الأحاديث الموجودة في تلك الصحف السابقة، وكذلك الأحاديث التي كانت متداولة شفاهاً وحفظاً تدويناً رسمياً في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز. إذ كما أدى استشهاد عدد كبير من حفاظ القران في معركة اليمامة إلى إثارة شعور عمر بن الخطاب رضي الله عنه بضرورة جمع القرآن، كذلك أدى تمسك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بالسنة إلى قيامه بتدوينها.

نشأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه- الذي يعد لدى الكثيرين المجدد الأول الذي استحق بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الدين بدأ غريباً ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي»[5] قبل ثلاثة عشر قرناً- في قصر بني أمية، وكان حجة في التفسير وفي نقد الرجال، وحقق في البلاد الإسلامية التي توسعت كثيراً إصلاحات عديدة في ظرف سنتين ونصف من خلافته حتى أصبحت هذه البلاد وكأنها تدار من قبل الملائكة، وكان قيامه بتدوين السنة إضافة إلى إصلاحاته الأخرى ذروة خدماته الكبيرة، إذ أصدر أمره بهذا الخصوص إلى والي المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم -وهو حفيد الصحابي عمر بن حزم الذي استكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم صحيفة حول الديات والقصاص- فعهد هذا الوالي إنجاز هذا الأمر إلى أحد شباب التابعين من ذوي الفطنة والذكاء والعلم وهو محمد بن شهاب الزهري[6] الذي شمر عن ساعديه فوراً للقيام بهذه المهمة التي أنجزها بكفاءة واكتسب صفة وعنوان أول "مدون رسمي" للحديث في التاريخ الإسلامي، ومع أن الوالي أبا بكر بن حزم ساهم في هذا العمل أيضاً، إلا أن الخليفة عمر بن عبد العزيز توفي قبل أن يرسل له الوالي ما تم جمعه وتدوينه من الأحاديث.

ولم تقتصر فعالية تدوين الحديث التي بدأها الخليفة عمر بن عبد العزيز على جهود الإمام الزهري في المدينة فقط، بل ساهم فيها عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج في مكة وسعيد بن أبي عروبة في العراق والأوزاعي في الشام ومحمد بن عبد الرحمن في المدينة أيضاً، وزائدة بن قُدامة وسفيان الثوري في الكوفة وحمّاد بن سلمة في البصرة، وعبد الله بن المبارك في خراسان حيث تركوا لأخلافهم ثروة كبيرة في هذا الموضوع.[7]

وبعد عهد التدوين جاء عهد "التصنيف" الذي يأتي بمعنى التأليف وترتيب الأحاديث حسب مواضيعها، ويعد العهد الذهبي لتاريخ الحديث في الإسلام، حيث نرى هنا أسماء مشهورة كأبي داود الطيالسي، ومسدّد بن مسرهد والحُميدي وأحمد بن حنبل صاحب "المسند"، ونرى من جانب آخر عبد الرزاق بن هَمّام وهو يؤلف "المصنف"، كما قام ابن أبي ذئب والإمام مالك بتأليف "الموطأ"، ويحيى بن سعيد القطّان ويحيى بن سعيد الأنصاري بتأليف كتبهم القيمة في هذا العهد الذهبي.

كان هؤلاء الأئمة الكبار شيوخ كبار المحدثين وأساتذتهم أمثال البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي ويحيى بن معين. وأخيراً حان وقت تأليف الكتب الستة من قبل مؤلفيها العظام، هذه الكتب التي عدت أوثق كتب الحديث، وقد عاش معظم هؤلاء المؤلفين الكبار في العصر نفسه تقريباً. فقد كان البخاري صديقاً لمسلم، وتتلمذ الترمذي على البخاري، كما كان النسائي معاصراً لأبي داود. ولم يكن بين هؤلاء العلماء الأجلاء وبين عهد الرسول صلى الله عليه وسلم سوى ثلاثة أو أربعة أجيال فقط، ولم يكن من الممكن أن يخطر الكذب حتى على أحلام هؤلاء العلماء الكبار الذين كانوا يشكلون الحلقات الذهبية لهذه السلسلة النورانية.

وهكذا تم حفظ السنة التي تعد نصف الدين بأوثق شكل، وبعيداً عن كل شك وشبهة ومن قبل كبار المحققين الذين كانوا يزنون كل شيء ميزان الشعرة، وقد بدأ هذا الحفظ من عهد الصحابة واستمر إلى عهد التابعين وتابعي التابعين، ثم تدوينها وحفظها عن ظهر قلب والمحافظة عليها ثم تدوينها وتصنيفها ونقلها دون تغيير حرف منها حتى يومنا الحالي.

أجل، لقد عرف الصحابة قيمة السنة وأهميتها كمصدر ديني مهم وكمرشد لا يستغنى عنه وكمفسر مبارك للقرآن، وانتقل هذا الاهتمام إلى التابعين وإلى تابع التابعين حتى وصلت السنة تحت ظل كل هذا الاهتمام والرعاية إلى الأجيال الأخرى وإلى عصرنا الحالي.

الهوامش

[1] «الكفاية» للبغدادي  ص354؛ «تقدمة الجرح» لابن أبي حاتم  ص46

[2] «تهذيب التهذيب» لابن حجر 11/59

[3] التحليل الكاربوني: هو طريقة علمية يتم بواسطتها قياس أعمار الآثار القديمة. (المترجم)

[4] «الباعث الحثيث» لأحمد محمد شاكر  ص132-139

[5] مسلم، الإيمان، 232؛ الترمذي، الإيمان، 13؛ «المسند» للإمام أحمد 4/73

[6] البخاري، العلم، 34

[7] «تاريخ بغداد» للبغدادي 14/85؛ «تذكرة الحفاظ» للذهبي 1/229

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.