ز . العوامل التي أدت إلى كثرة الأحاديث

أشار بعض المستشرقين ومن تبعهم في العالم الإسلامي إلى كثرة الأحاديث وإلى أن بعض الصحابة أكثروا من رواية الأحاديث، وزعموا باسـتحالة صـدور كل هذه الأحاديث عن الرسـول صلى الله عليه وسلم وذلك وصولاً إلى غاية محددة، وهي إلقاء الشبه والشكوك على الأحاديث الصحيحة وعلى السنة النبوية.

1- أهمية الحديث

من الواضح عدم وجود أي مستند متين لمثل هذا الزعم وأمثاله. ذلك لأن للحديث  -كما أوضحنا ذلك- أهمية قصوى في الدين الإسلامي وفي حياة المسلم، وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم على وعي كامل بهذا في كل حين، لذا كانوا حريصين على التقاط كل كلمة تخرج من بين شفتي الرسول صلى الله عليه وسلم وكل عمل أو حركة من حركاته أكثر من حرص صاحب الجواهر على جواهره، لأنهم كانوا يعلمون أن سر سعادة الدنيا والآخرة موجود ضمنها، لذا كانوا حريصين على تدارس كل كلمة وكل سلوك أو إقرار صادر منه وعلى نقشه في ذاكرتهم ثم جعله دستوراً لحياتهم.

أجل، كانوا يراقبون حركات وسكنات الرسول صلى الله عليه وسلم طوال ثلاثة وعشرين عاماً عن قرب ويقلدونه في كل مرحلة وفي كل صفحة من صفحات حياتهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرح لهم ولكل المسلمين الذين سيأتون إلى الدنيا حتى يوم القيامة كل ما يهمهم في حياتهم الدنيوية والأخروية بشكل يستطيعون فهمه واستيعابه. وكان أحياناً كما يقول أبو زيد عمرو بن أخطب: "صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبرَ فخطبَنا حتى حضرت الظهر فنـزل فصلى. ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصرُ ثم نـزل فصلى. ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس فأخبرنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمُنا أحفظُنا."[1]

كان الصحابة الذين معه يعون كلامه هذا طوال ثلاثة وعشرين عاماً ويعضون عليه بالنواجذ مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.[2] كان يصلي أمام أصحابه ثم يقول لهم «صلوا كما رأيتموني أصلي.»[3] ويحج معهم ويقول لهم: «خذوا مناسككم عني.»[4] لذا، كان من الطبيعي أن يتابع الصحابة كل كلمة منه وكل حركة بكل حرص ويحفظوها ويجعلوا كلامه هذا دستوراً لحياتهم وينقلوه إلى الأجيال القادمة.

أجل، لقد حفظ الصحابة الأحاديث ومزجوها بحياتهم ونقلوها لأنهم كانوا شديدي الارتباط برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد آمنوا أن كل كلمة وكل تصرف منه باب مفتوح إلى الجنة، ونحن أيضاً نؤمن بهذا. كانوا يحبونه من أعماق قلوبهم، وما كانوا يحفظون أحاديثه فقط، بل يحتفظون بكل شعرة منه ويتسابقون في ذلك، إذ كانوا يتبركون بكل شيء منه ويجعلونه أعز ذكرى عندهم وكأنه شيء جاء من الغيب أو من اللانهاية، وأنا شخصياً لم أنس رغم كل حوادث الدهر كلمات بعض الأشخاص الذين كنت أجلهم سواء أكانت هذه كلمات مديح أو كلمات تنبيه، وسواء أكانت ترغيباً أم ترهيباً، وأعتقد أن الأمر وارد بالنسبة لكل مسلم.

2- الذكريات التي خلفت آثارها

إذا كان كل مؤمن لا يستطيع نسيان أقوال بعض من يجلهم من العلماء الذين يتمنون لو كانوا عبيداً عند باب الرسول صلى الله عليه وسلم ويحتفظ بهذه الأقوال كأعز ذكريات لديهم، فكيف يمكن للصحابة الكرام -وهم من هم من المرتبة العالية من سمو النفس والخلق- أن ينسوا جواهر كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن الجهالة والتوحش إلى العلم وجعلهم مربي العالم ومرشديه؟ هذا محال، فهم لم ينسوا. وإذا كنتم أنتم تتسابقون لرؤية شعرات من لحيته الشريفة وتتزاحمون من أجلها تزاحماً كبيراً فكيف يستطيع الصحابة رضوان الله عليهم أن يستهينوا بذكراه وهم على تلك الدرجة من القرب منه؟!

كان أنس رضي الله عنه يضم خف الرسول صلى الله عليه وسلم إلى صدره بقوة مخافة أن يأخذه منه أحد، وعندما سمع أمير المؤمنين معاوية في الشام أن هناك شخصاً يحتفظ بجبة الرسول صلى الله عليه وسلم بذل وزنها ذهباً ليحصل عليها. لقد احتفظوا بقربته سنوات طويلة، أما قوسه ونبله وأشياء أخرى فلا تزال محفوظة في "قصر طوب قابي" وهي مصدر نشوة لقلوبنا وعيوننا، وعندما جلب السلطان سليم الأول هذه الأمانات المقدسة ووضعها في "طوب قابي"، ووضع حولها قراء يتلون القرآن الكريم صباح مساء دون انقطاع، ودامت هذه العادة عصوراً عدة وحتى سنوات قريبة،[5] وكثير من المسنين عندنا يعرفون هذا جيداً. أما السلطان أحمد سلطان الدولة العثمانية التي امتدت في قارات ثلاث فقد تمنى لو كان في الإمكان أن يضع قالب أثر قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في الطين فوق رأسه كتاج قائلاً: "كم أتمنى أن أضع أثر قدميه المباركتين فوق رأسي."

فإذا كان الذين أتوا بعده بعدة عصور يبجلون ذكراه كل هذا التبجيل، أيمكن أن يستهين صحابته الكرام بذكراه وهم الذين عاشوا معه؟ كلا، أبداً. هذا، علماً بأن الأشياء التي تعد ذكرى منه لا تُعد مساوية في الأهمية للسنة في حياة المؤمن، فإذا كانت مخلفاته المباركة يحافظ عليها كل هذه المحافظة فكيف إذن، بأحاديثه وسنته؟

يروي أحمد بن حنبل في مسنده: كان للعباس ميزاب على طريق عمر بن الخطاب، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة -وقد كان ذُبح للعباس فرخان- فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر وفيه دم الفرخين، فأمر عمر بقلعه ثم رجع فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عمر للعباس: "وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم." ففعل ذلك العباس رضي الله عنه.[6]

إذن، فكيف تستطيع جماعة هذا دأبها في احترام وتوقير وتبجيل أصغر ذكرى للرسول صلى الله عليه وسلم إبداء أي إهمال نحو أحاديثه صلى الله عليه وسلم، ذلك لأن الحديث يعني الدين ويعني الحياة ويعنى "الحقيقة الأحمدية" بتعبير المتصوفة، ويعني بالنسبة إلينا الجسر بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة.

3- حث النبي وترغيبه في تحصيل العلم

وكما قلنا سابقاً فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على طلب العلم وشوق إليه فقال مثلاً: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.»[7]

أي كان يشوق أتباعه لبلوغ أهداف وآفاق عليا. فإذا كان العلم يطلب الآن -عدا استثناءات قليلة- من أجل بلوغ المراتب أو في سبيل المعيشة، فقد كان يُطلب آنذاك في سبيل رضا الله تعالى. وكانت الحياة العلمية آنذاك نابضة بالحياة إلى درجة أن سفيان بن عُيينة حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين وبلغ درجة الاجتهاد والفتوى وهو شاب حدث.[8] وكما أوضحنا سابقاً فقد كان هناك ترغيب كبير لمذاكرة الأحاديث وشوق كبير لها، فحسب رواية الدارمي كان أبو سـعيد الخدري وابن عباس يقولان لطلابهما: "تذاكروا الحديث، فإن الحديث يهيج الحديث"[9] و"رُدُّوا الحديث واسـتذكروه فإنه إن لم تذكروه ذهب، ولا يقولن رجل لحديث قد حدثه "قد حدثته مرة"، فإنه من كان سمعه يـزداد بـه علماً ويسـمع من لم يسـمع."[10]

ودامت هذه الحيوية العلمية في عصر التابعين ثم في عصر تابع التابعين بل دامت في العصور الخمسة الأولى إلى درجة أن ابن حجر العسقلاني الذي يعد من أواخر الحفاظ والذي عاش قبل خمسة عصور تقريبا يقول إنه قرأ "صحيح مسلم" في بضع جلسات أي أنه استوعب "الجامع الصحيح" لمسلم في بضع جلسات، ذلك لأنهم كانوا يملكون شوقاً كبيراً لعلوم القرآن والسنة آنذاك، وكانوا يقومون بتحصيل هذه العلوم ضمن شعور العبادة ونشوتها، ودام هذا الأمر مدة أربعة أو خمسة عصور حتى أن الإمام النووي انكب على العلم ولم يتزوج مخافة أن تشغله مطاليب المعيشة والأسرة عن تحصيل العلم وتفرغ للعلم وحده.[11] أما العالم الكبير "السرخسي" فقد ألف كتابه "المبسوط"  المؤلف من ثلاثين جزء في قاع بئر[12] ومن ذاكرته وحفظه حيث أملاه على طلابه، ومن طريف ما يروى في حق هذا العلامة أن أحد طلابه قال له يوماً إن الإمام الشافعي كان يحفظ ثلاثمائة صحيفة، عند ذلك قال هذا العالم العملاق: إذن، فقد كان يحفظ زكاة حفظي.[13] ولو قمت بِعَدّ الصفحات التي كتبها هؤلاء العلماء الأعلام من أمثال ابن حجر وابن جرير والسيوطي وفخر الدين الرازي لما استطعت إكمال العد في أسبوع كامل.

وهذه الأسماء التي ذكرناها تعود إلى العهود الأخيرة نوعاً ما. أما إذا رجعنا إلى عهد الصحابة ثم إلى عهد التابعين لرأينا المنظر التالي:

4- شوق إلى العلم يتجاوز أفق تفكيرنا

كان محمد بن سيرين عتيق الصحابي الكريم أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسولنا صلى الله عليه وسلم عشر سنوات ومن كبار أئمة التابعين، وكان له ابن سماه باسم سيده: أنس بن سيرين. يقول أنس بن سيرين إنه عندما وصل إلى الكوفة رأى أن أربعة آلاف من الأشخاص يأخذون دروساً في الحديث في جوامعها. تصوروا وجود أربعة آلاف طالب من طلاب علم الحديث في مدينة واحدة.[14] أما في الشام فقد كان في حلقة أبي الدرداء 1500 طالب علم. ومن ضمن الأربعة آلاف طالب الذي ذكره أنس بن سيرين كان من ضمنهم 400 من الفقهاء.[15] فما معنى وجود أربعمائة فقيه؟ إن العالم الإسلامي اليوم الذي يبلغ تعداده ملياراً ونصفاً لا يملك أربعمائة فقيها. والفقيه هو الشخص الذي يستنبط الأوامر الدينية من خلال الكتاب والسنة والإجماع، فأبو حنيفة فقيه وأبو يوسف فقيه والإمام محمد فقيه والإمام الشافعي فقيه والإمام مالك فقيه، أما الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يحفظ ألف ألف من الأحاديث[16] فلم تطلق عليه صفة الفقه بسهولة. وعندما قال العالم أبو جعفر الطبري: "إن أحمد بن حنبل ليس بفقيه" قام الحنابلة برجم داره. قد يكون أحمد بن حنبل فقيهاً أو لا يكون، ولكن كلام الطبري هذا يشير إلى مدى صعوبة إطلاق صفة الفقيه على أحدهم. لذا، يجب النظر إلى أمر وجود أربعمائة فقيه في عهد التابعين في جوامع الكوفة ضمن أربعة آلاف شخص يتلقون علم الحديث من هذه الزاوية.

كان الشوق إلى العلم في ذلك العهد قوياًّ إلى هذه الدرجة، وكانوا يسافرون من مدينة إلى أخرى من أجل حديث واحد. وكان سفر أئمة الحديث من أجل سماع حديث واحد يشير إلى مدى أهمية الحديث عندهم. وقد أدى هذا الشوق الكبير عندهم وهذا الاهتمام الذي كانوا يشعرون به نحو الحديث بمرور الزمن إلى تمرس كبير في هذا الموضوع، ولم يكن تمرسهم هذا وقفاً على متون الحديث فقط بل كان يشمل السند أيضاً، وهو أمر مهم جداً من ناحية معرفة مدى صحة الحديث.

ونستطيع هنا أن نتذكر الإمام البخاري كمثال في هذا الموضوع، فعندما جاء إلى بغداد أراد عشرة من دارسي الحديث قياس درجة علمه بالحديث ومعرفة مدى قوة ذاكرته، وذلك أمام جم غفير من الناس، فبدأ كل واحد منهم يقرأ له عشرة من الأحاديث ولكن بعد تغيير وتبديل السند رأساً على عقب وتغيير مواضع الرواة، أي القيام بوضع اسم راو لحديث مكان راو آخر لحديث آخر، وهكذا خلطوا رواة مائة حديث، فمثلا نعرف أن رواة الحديث المشهور عن النية هم الحُميدي عن سفيان بن عُيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقّاص الليثي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ولكنهم عندما رووا هذا الحديث للبخاري وضعوا اسم راو آخر مكان اسم يحيى بن سعيد، ووضعوا اسماً آخر محل اسم علقمة ووضعوا اسم راوٍ آخر بدل اسم التيمي. وكما قلنا فقد قدموا له مائة حديث بعد تغيير أسماء رواتها. فذكر لهم البخاري أن اسم الراوي في الحديث الأول هو فلان وليس فلان وأن السند الصحيح له هو كذا وكذا حتى أتى على ذكر الأسانيد الصحيحة لجميع الأحاديث البالغة عددها مائة حديث، عند ذلك شهد جميع العلماء والحاضرون على قوة ذاكرته ورسوخ قدمه في علم الحديث،[17] وقد انبهر ابن خُزَيْمة بعلم البخاري في الحديث فقال: "ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري."[18]

كان البخاري عالماً جليل القدر لم يجعل علمه وسيلة لمتاع الحياة الدنيا، فعندما طلب منه أمير بخارى أن يأتي إلى قصره ليعلم أبناءه الحديث قال له هذا العالم الجليل: "إن العلم لا يذهب إلى الحاكم، فإن أراد الحاكم استحصال العلم له أو لأولاده فعليه أن يأتي هو وأولاده إلى العلم للحصول عليه." وعندما طلب منه الأمير أن يخصص في الأقل يوماً لأبنائه رفض الإمام البخاري هذا الطلب وقال بأنه لايستطيع تمييز أبناء الأمير عن سائر أبناء الأمة الإسلامية في دروسه. وكان هذا الجواب سبباً في قضاء أيام حياته الأخيرة في عزلة عن الناس، والوفاة في ديار الغربة.[19]

سافر الإمام البخاري مرة ليأخذ حديثاً من أحدهم، وعندما وصل إليه واقترب منه رآه وهو يحاول الإمساك بحصانه ويشير إلى حضنه، وعندما رأى الإمام البخاري أن حضنه فارغ وليس فيه شعير أو غيره قال إن من يكذب على الحصان ويحاول خداعه قد يكذب على الناس أيضاً، لذا رجع دون أن يأخذ منه الحديث.

هذه الدقة والحساسية التي تمَّ ضمنها جمع الحديث وتدوينه، والذين يهاجمون كتب الأحاديث الصحيحة والسنة ويدعون أن عدد الأحاديث كبير جداً، إذن، فلابد أن هناك أحاديث مكذوبة دخلت إلى كتب الأحاديث الصحيحة، هؤلاء لا يعرفون مدى العشق العلمي لجامعي الأحاديث، وماذا كانت السنة تعني بالنسبة لهم، ويتناسون الشروط والظروف التي تم فيها جمعها، ولا يعرفون نوعية العلماء الذين جمعوها، والظاهر أنهم يقيسون هذه المسألة بالنسبة لحالتهم النفسية وحالتهم الروحية والمعنوية فيضلون ويضلون.

5- التلاؤم البيئي

وعامل آخر وهو أن الجو كان ملائماً جداً لحفظ الأحاديث في عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين. فهم أولاً كانوا يعرفون دقائق اللغة العربية.. والقرآن الكريم الذي أُنـزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم كان معجزة لغوية قبل كل شيء، وكانت الفصاحة اللغوية أهم ما يعنى بها العرب آنذاك، والمعلقات السبع ترينا أنهم كانوا أساطين اللغة والشعر، ومع ذلك -أو بسبب ذلك- فقد انبهروا أمام القرآن الكريم وانعقدت ألسنتهم. فمثلاً نرى الشاعرة الخنساء وهي تنشد في الجاهلية أشعار الرثاء لأخيها صخر، وهي أبيات لا تزال تستدر دموعنا، لأنها أشعار نابعة من القلب، ولكنها بعد أن أسلمت ارتبطت بسلطان البيان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى درجة أنها عندما استشهد أبناؤها الأربعة واحداً إثر آخر في معركة القادسية تلوت من الألم -لأنها إنسانة وأم- إلا أنها قالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"[20] مظهرةً بذلك مدى ارتباطها بالقرآن وبالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم.

وكانت الخنساء هذه شاعرة بليغة وعليمة بأسرار اللغة والشعر إلى درجة أنها أشارت إلى ثمانية أخطاء في أربعة أبيات لشاعر الإسلام حَسّان بن ثابت رضي الله عنه الذي دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم من الله أن يؤيده بروح القدس في الذب عن الإسلام بأشعاره.[21] فأثبتت بذلك مدى إحاطتها بدقائق الشعر واللغة. هذه الشاعرة تركت الشعر أمام الأحاديث التي تشع نوراً للرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يقتصر هذا عليها، بل إن معظمهم كانوا من الفصحاء والشعراء آنذاك، ولكنهم أمام آيات القرآن الكريم وأمام أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تركوا الشعر واقتصروا على الترنم بآيات القرآن وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا هم ومن جاء بعدهم على معرفة بأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم ويستطيعون تمييز كلامه وحديثه وأسلوبه عن سائر أحاديث الآخرين وأساليبهم.

6- جودة القريحة وقوة الحفظ

وعامل آخر وهو كون أناس ذلك العهد السعيد عباقرة في قابلية الحفظ عن ظهر قلب. فنحن الآن نعد من يحفظ القرآن في أربعة أشهر عبقرياً. نعد أشخاصاً مثل العالم "ألماليلي حمدي" الذي تعلم اللغة الفرنسية في ستة أشهر من النوادر، بينما كانت قابليات أناس ذلك العهد في هذه الساحة أكبر، فمثلاً نرى أن أبا هريرة -وهو الشخص الذي أصبح هدفاً للمستشرقين الذين يحاولون بالهجوم عليه هدم عمود من أعمدة السنة- لا ينسى شيئاً مما يسمعه مرة واحدة ولا يحتاج لسماعه مرة ثانية.[22] ونرى أن زيد بن ثابت عندما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم العبرانية[23] تعلمها في ظرف 15-20 يوماً فقط بحيث أصبح يستطيع قراءة الرسائل بالعبرية وترجمتها.

وعبقري آخر هو ابن عباس رضي الله عنه الذي لُقّب بـ"حبر الأمة" وهو لا يزال حياً، وكذلك أمنا عائشة رضي الله عنها.. هؤلاء الأشخاص كانوا أبطال الحفظ عن ظهر قلب، فما كانوا ينسون شيئاً سمعوه مرة واحدة، وكان عددهم بين الصحابة يبلغ المئات.

ولم يكن التابعون العظام أقل منهم في هذا الخصوص فنجد بينهم مثلاً ابن شهاب الزهري الذي عاش في عهد عمر بن عبد العزيز وقام بتصنيف الأحاديث لأول مرة[24] والذي أصبح أيضاً هدفاً لهجوم المستشرقين. وكذلك قتادة بن دِعامة الذي قال لأبي حنيفة عندما قابله بأنه لم ينس شيئاً سمعه. ثم هناك "الشعبي" المشهور، وهناك إبراهيم بن يزيد النخعي والإمام الشافعي الذي ذكر أيضاً بأنه لم ينس شيئاً سمعه. نعم، كل واحد من هؤلاء كان بطلاً من أبطال الذاكرة.

الهوامش

[1] مسلم، الفتن، 25؛ «المسند» للإمام أحمد 5/341

[2] الترمذي، العلم، 1؛ أبو داود، السنة، 5؛ ابن ماجه، المقدمة، 6؛ الدارمي، المقدمة، 16

[3] البخاري، الأذان، 18؛ «المسند» للإمام أحمد 5/53

[4] مسلم، الحج، 310؛ أبو داود، المناسك، 77؛ النسائي، المناسك، 220؛ «المسند» للإمام أحمد 3/366

[5] هذه العادة تستمر اليوم والحمد لله. (المترجم)

[6] «المسند» للإمام أحمد 1/210

[7] أبو داود، العلم، 1؛ الترمذي، العلم، 19؛ النسائي، الطهارة، 113؛ ابن ماجه، المقدمة، 17؛ «المسند» للإمام أحمد 4/241

[8] «الطبقات الكبرى» للإمام الشعراني 1/48؛ «سير أعلام النبلاء» للذهبي 8/459

[9] الدارمي، المقدمة، 51

[10] الدارمي، المقدمة، 51

[11] «العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج» لعبد الفتاح أبو الغدة  ص146

[12] «الأعلام» للزركلي 5/315

[13] «أصول السرخسي» للسرخسي 1/5

[14] «المحدث الفاصل» للرامهرمزي  ص408، 560؛ «السنة قبل التدوين» لمحمد عجاج الخطيب  ص150-151

[15] «السنة قبل التدوين» لمحمد عجاج الخطيب  ص151

[16] «وفيات الأععيان» لابن خلكان 1/64

[17] «هدي الساري» لابن حجر  ص487

[18] «تذكرة الحفاظ» للذهبي 2/556

[19] «تهذيب التهذيب» لابن حجر 9/52؛ «هدي الساري» لابن حجر  ص494

[20] «أسد الغابة» لابن الأثير 7/90؛ «أعلام النساء» لعمر رضا كحالة 1/370

[21] البخاري، الصلاة، 68؛ مسلم، فضائل الصحابة، 151؛ النسائي، المساجد، 24؛ «المسند» للإمام أحمد 5/222

[22] البخاري، العلم، 42، البيوع، 1؛ مسلم، فضائل الصحابة، 59، 160

[23] الترمذي، الاستئذان، 22؛  أبو داود، العلم، 2؛ «المسند» للإمام أحمد 5/186؛ «أسد الغابة» لابن أثير 2/289؛ «الإصابة» لابن حجر 1/561

[24] «حلية الأولياء» لأبي نعيم 3/361