و . الأحاديث الصحيحة المتهمة بالوضع

بينما لا نرى من يتكلم ضد هذه الأقوال المنتشرة والمحسوبة كأحاديث بل حتى أنها تكون أحياناً موضوعاً للخطب والمقالات. فإننا نرى من يتهم بالوضع الكثير من الأحاديث الموجودة في صحاح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الأحاديث الستة.

1) بشارة التوراة

فمن هذه الأحاديث الحديث التالي الوارد في صحيح البخاري: «في التوراة: [يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحِرْزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بِفَظٍّ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملةَ العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح بها أعيناً عُمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.]»[1]

قام بعض المستشرقين ومن يسير خلفهم في العالم الإسلامي بنقد هذا الحديث وزعموا أنه موضوع، والسبب بسيط وهو كون رواة الحديث هم عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وأنس وأبو هريرة وكذلك وجود كعب الأحبار ضمن الرواة.

أولاً ليس هناك في هذا الحديث شيء يناقض صفات الرسول صلى الله عليه وسلم أو أي حادثة تاريخية أو أي وصف قرآني للرسول صلى الله عليه وسلم، ثم نستطيع ذكر أن التوراة والإنجيل لا يزالان حافلين ببشارات وإشارات حول رسولنا صلى الله عليه وسلم رغم تحريفهما، والقرآن الكريم يقول في حق الذين يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب: ﴿اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ اْلأُمِيّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّورَاةِ وَاْلإنْجِيلِ﴾ (الأعراف: 157) ويقول أيضاً في نهاية سورة الفتح: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّورَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي اْلإنْجِيلِ﴾ (الفتح: 29).

إذن، ألا يخبرنا القرآن الكريم بأن التوراة والإنجيل يتحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه؟ حتى أن العلامة حسين الجِسْر ثبت في نسخ التوراة والإنجيل الموجودة حالياً 114 إشارة تتعلق برسولنا صلى الله عليه وسلم. ولا يسع الإنسان إلا الذهول من كثرة هذه البشارات رغم كل هذا التحريف والتغيير، وسوف يأتي اليوم الذي ستؤيد البحوث صحة إنجيل بَرنابا إن شاء الله حيث نجد فيه اسم رسولنا صلى الله عليه وسلم صراحة، أجل، فإن التبشير باسم الرسول الذي سيأتي من بعده كان من أهم وظائف عيسى عليه السلام.

ثم إن معظم من دخل الإسلام كان إما من المشركين أو من النصارى أو من اليهود، وكان كعب الأحبار مسلماً من أصل يهودي، ويقول عنه مفكر العصر الحديث "إن معلوماته أسـلمت أيضاً بعدما أشـهر إسـلامه."[2]

وكان ينقل بعض الإسرائيليات التي لا تخالف القرآن والسنة في المواضيع التي سكت عنها القرآن والسنة. ولم يكن -كما ادعى البعض- عدواً متعصباً ضد الإسلام. أما اتهامه بوجود علاقة بينه وبين مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهي تهمة اختلقت بعد عدة عصور. وكان كبار الصحابة من أمثال ابن عباس وأبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم يستمعون إليه وهو ينقل إليهم بعض أخبار التوراة، ولكن ما كان يكذب لا هو ولا أحد من هؤلاء الصحابة الكرام. فالكذب ما كان ليقرب حتى من أحلامهم، لذا فالقيام باتهام أحاديث صحيحه بالوضع واتهام رواتها من كبار الصحابة دون أي مبرر وبملاحظات سطحية وارتجالية مع كون الحوادث والوقائع التاريخية واضحة جداً في هذا الخصوص لا يقصد منه سوى النيل من السنة النبوية التي هي الركن الثاني للإسلام ومحاولة هدمها.

2) التوسل

والحديث الصحيح الآخر الذي جوبه بالاعتراض هو عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ بيد العباس رضي الله عنه في عام القحط وتوسل به إلى الله تعالى واستمطره قائلاً: "اللّهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا" فيُسقَون.[3]

جاء الاعتراض على هذا الحديث في كتاب ابن أبي الدنيا وفي كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ الذي كان تلميذاً من تلاميذ "النظّام" إمام المعتزلة المعروف بإنكاره للكثير من الأحاديث الصحيحة والمعروف أيضاً بنظرته المادية، إذ يقول الجاحظ في كتابه هذا إن في حادثة استسقاء عمر رضي الله عنه اضطراباً كثيراً إذ ترد مرة بأنه دعا وهو على المنبر، ومرة أنه دعا بعد الصلاة.

أولاً: إن الجاحظ ليس بمحدث، وعلاقته مع الحديث علاقة أي إنسان عادي، أما ابن أبي الدنيا فهو رغم كونه شخصاً تقياً إلا أن كثيراً من المحدثين يتفقون على احتواء كتابه على الكثير من الأكاذيب والأخطاء. إذن، فكيف يمكن إصدار حكم على حديث ما استناداً إلى مثل هؤلاء؟ ولو قال أحدهم إن الحديث الفلاني رواه الإمام الغزالي لضحكوا منه، لأنه مع كونه مفكراً إسلامياً فريداً وكبيراً إلا أنه لم يكن محدثاً، حتى أن زين الدين العراقي -الذي يعد مجدداً في علم الحديث- تناول الأحاديث الواردة في كتاب "إحياء علوم الدين" فأشار إلى الصحيح وإلى الحسن وإلى الضعيف منها، أي قام بنقد وتقييم الأحاديث الواردة فيه.. فلا يسأل من الطبيب علوم الهندسة ولا من الكيمياوي علوم الطب.. إذن، فإن الاعتراض على هذا الحديث لا يستند إلى أساس علمي ولا إلى أساس متين.

ثانياً: إن التوسل ليس شيئاً غريباً أو مستهجناً، فالقرآن الكريم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابتَغُوا إلَيهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35). وكان الصحابة الكرام يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وهذا الطلب مبني على الأمر نفسه، أي أمر التوسل. فمثلاً جاء بدوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد الأيام وشكا إليه القحط وطلب منه أن يستسقي لهم فرفع رسول صلى الله عليه وسلم يديه ودعا: «اللّهم اسقنا غيثاً» فلم يلبث حتى تجمعت السحب وأرعدت وبدأ المطر ينـزل مدراراً، واستمر المطر أياماً حتى اشتكى الناس وجاءوا إليه ورجوه الدعاء لتحبس السماء ماءها فدعا فأمسكت السماء ماءها، وشكلت الغيوم تاجاً فوق المدينة وذهب الناس إلى بيوتهم تغمرهم أشعة الشمس حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم تبسم أمام هذا المنظر وقال ووجهه مشرق: «أشهد أن الله على كل شيء قدير وأني عبد الله ورسوله.»[4]

وقد ورد في أحاديث صحيحة حادثة انحباس ثلاثة مؤمنين في مغارة وقيام كل واحد منهم بالتوسل لله بأعماله الصالحة للتخلص من ذلك المأزق، فذكر أحدهم بره بوالديه، وذكر الآخر ابتعاده عن غواية ابنة عمه خشية من الله تعالى، وذكر الثالث قيامه بتنمية وتشغيل أجرة شخص خدمه ولم يتيسر له تسليمها له ثم قيامه بإعطاء هذا المال الذي نماه له عند لقائه به.. ذكروا هذا ودعوا الله تعالى أن يخلصهم مما هم فيه من الضيق بحرمة هذه الأعمال الصالحة.[5] كما وجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من استعان بالوسيلة وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، فمثلاً جاءه أحدهم يشتكي من عمى عينيه فعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يدعو الله تعالى بالدعاء الآتي: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد! إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى لي، اللّهم فشَفِّعْه فيّ.»[6] وما أن نفذ ذلك الشخص توصية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تخلص من العمى وأصبح مبصراً.

فإذا كان القرآن الكريم يوصينا بالبحث عن وسيلة إليه، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصينا بالتوسل بالقران، وإذا كان يجوّز التوسل به كما يوصي بالتوسل بأعماله الصالحة،[7] إذن، فما الغرابة في التوسل، ولماذا يستهجنون قيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتوسل عند استسقائه المطر؟ ليس هذا إلا تمرداً على السنة وتشكيك بها من دون مبرر.

3) الإناء الذي ولغ فيه الكلب

هناك حديث آخر رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حنبل رفضه المستشرقون ومن يسير في أثرهم، وذلك لمجرد أن عقولهم لم تستطع استيعابه أو لكون الرواة هم إما أبو هريرة أو عبد الله بن عمر أو أنس رضي الله عنه والحديث هو: «طهور إناء أحدكم إذا وَلَغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب.»[8] ويرد الحديث في رواية أخرى بصيغة: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات.»[9]

وتعبير "سبع" الوارد في الحديث قد يقصد منه العدد "سبعة" نفسه أو هو يرمز إلى الكثرة، لذا رأى فقهاء المذهب الحنفي أن غسل الإناء ثلاث مرات يكفي، أي إذا كان غسل الإناء ثلاث مرات يكفي لنظافته تم الاكتفاء بذلك.[10]

يمكن كتابة كتاب في المعاني الشاملة لهذا الحديث الشريف، وهو إشارة من إشارات النبوة، فقد تم في العصر الحديث فقط معرفة وجود أمراض تنتقل من الكلاب إلى الإنسان. وهذه المسألة المهمة في موضوع حفظ الصحة نبهت إلى وجود أمراض مشتركة بين الإنسان والكلب لوجود بعض الجراثيم والفيروسات التي تستطيع العيش في الكلب وفي الإنسان وتسبب لهما المرض، أي أن هذا الحديث يعد معجزة نبوية، وقد ظهرت كتابات لا تعد ولاتحصى في المجلات العلمية حول هذا الخصوص.

4) حديث الذباب

وشبيه بالحديث السابق ما جاء في حديث صحيح آخر تناوله بالنقد حتى "موريس بوكاي (Maurice Bucaille)" الذي بدأنا نترجم كتبه بكل تقدير، إذ ادعى أن المسلمين قبلوا هذا الحديث نتيجة ذهول أو جهل، إلا أن النتيجة كانت في صف رواة الحديث من أمثال أبي هريرة وخيبة وخسرانا للمستشرقين وتابعيهم، والحديث هو: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمِسْه كله ثم ليطرحه.»[11] ليس في الإمكان نقد الحديث من ناحية السند، ذلك لأننا نجد أن رواته هم البخاري وأبو داود والنسائي والدارمي وابن حنبل، وأن الصحابة والأمة قبلته ولم يورد علماء الحديث أي اعتراض حوله حتى وصوله إلينا.

كان أئمة المعتزلة أول من اعترضوا عليه لأنه خالف العلم الموجود آنذاك ثم اعترض عليه المستشرقون ورجال العلم في القرن العشرين، هذا علماً بأن هذا الحديث يشكل وحده معجزة، ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يجلب الأنظار قبل كل شيء إلى قيام الذباب بنقل الجراثيم لأن الحديث يستمر هكذا: «فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء.»

فعندما يريد الذباب أن يحط على مكان نراه يستعمل أحد جناحيه باحتياط وهو نادراً ما يحط على مكان لا يستطيع أن يطير منه كالعسل مثلاً، فدماغه الصغير جداً مخطط ومبرمج لتسيير أموره الحياتية، ولكن هذا الذباب ينقل معه للإنسان عندما يحط على وجهه أو طعامه أمراضاً عديدة كالتيفود والكوليرا والديزانطري. وهكذا نرى أن العلم متأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -الذي أعلن أن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر دواء- عدة عصور. وقد كشف علم الطب الآن هذه الحقيقة التي عبر عنها الرسول بكلمات قليلة. إذن، فإن رد هذا الحديث -الذي قبلته الأمة أربعة عشر قرناً- لمجرد وجود أبي هريرة ضمن الرواة أو لمجرد عدم استيعاب عقولهم له يعد قراراً مستعجلاً لا يتلاءم مع العلم ولا مع الحقيقة.

ولا تقتصر صفة حمل الداء في جانب وحمل الدواء في جانب آخر على الذباب فقط، فالأمر وارد أيضاً لدى العقرب ولدى النحل، فعندما يلسع العقرب شخصاً يأخذون العقرب ويسحقونه ويضعونه على موضع اللسع فيكون شفاء، أما النحل فنراها تصنع العسل في جانب والسم في جانب آخر.

5) شد الرحال إلى المساجد الثلاثة

وحديث صحيح آخر تعرض للنقد على أساس أنه يهدم قواعد السنة ولكونه مروياً عن الصحابة عن كعب الأحبار، أو لمظنة أنه يقدس المسجد الأقصى باسم اليهودية. والحديث هو: «لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى»[12] ويرد المسجد الأقصى في بعض الروايات قبل المسجد النبوي.

أولاً: لا يوجد مؤمن يشعر بأي غضاضة عند مدح المسجد الأقصى، لأنه المسجد الذي يذكر القرآن الكريم عنه ﴿بَارَكنَا حَولَهُ﴾ (الإسراء: 1)، وهو المكان الذي عرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج وأمّ أرواح الأنبياء العظام فيه. فالمسجد الأقصى ليس معبداً لليهود، بل هو رمز لحكم الإسلام الذي هو دين الله المبين. فالبقعة المباركة التي تضم المسجد الأقصى هي البقعة التي فتحها يوشع بن نون فتى الرسول العظيم موسى عليه السلام عندما رأى أن جماعته قد نضجت وتهيأت للأمر، ثم أصبح فتح هذه البقعة المباركة من نصيب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم للقائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي وسيكون فتحها الأخير من نصيب الربانيين في المستقبل القريب إن شاء الله. المسجد الأقصى رمز، وفقده هزيمة معنوية، وفتحه من جديد سيكون رمزاً لوجدان الإسلام ذاته.. فإذا كان المسجد الأقصى يملك قيمة ومكانة كبيرة في كتاب الله وقام الرسول صلى الله عليه وسلم بالتعبير عن هذه القيمة والمكانة فما الداعي لتكذيب هذا الحديث؟ أما كونه مرجحاً على المسجد النبوي فهذا موضوع يمكن مناقشته، أما العبادة في المسجد الأقصى وفي غيره من الأماكن المماثلة فلا توجد عبادة خاصة لها، وتعيين زمان ومكان العبادات يعود للشارع، ففي رواية عن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تصلي في المسجد الأقصى إن شفاها الله من مرضها، وعندما شفيت بدأت تستعد للسفر، وقبيل سفرها زارت أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأعلمتها بأمرها فقالت لها ميمونة رضي الله عنها: أجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة.»[13]

أجل، إن الصلاة يمكن أن تؤدى في كل مكان ما دام الله تعالى لم يخصص زماناً خاصاً ومكاناً خاصاً للعبادة والطاعة.. فمن نذر أن يضحي هنا أضحية يستطيع أن يذبح أضحيته في مكان آخر، ومن نذر أن يضحي في مكان آخر يستطيع أن يوفي بنذره هنا أيضاً. وعندما تناولت أمنا ميمونة رضي الله عنها الموضوع من هذه الزاوية أرادت أيضاً أن تبرز أهمية وأفضلية الصلاة في المسجد النبوي، ومع ذلك فإن بعض الفقهاء الكرام استثنوا المسجد الحرام من هذه القاعدة العامة لكونه مشتملاً على بعض الخصوصيات مثل إمكانية الصلاة فيه على الدوام وإمكانية الطواف حوله إلى جانب أداء الصلاة، لذا قالوا بأن من نذر أضحية في المسجد الحرام عليه أن يوفي بنذره هناك. ولا تقلل هذه المسألة الفقهية ولا كلام أمنا ميمونة رضي الله عنها من قيمة المسجد الأقصى أو من قيمة أي مسجد آخر ومنـزلته.

6) الطائفة الملتزمة بالحق

وحديث صحيح آخر تعرض للتكذيب يرينا مستوى المكذبين له، وهو حديث: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.»[14]

من الصعب فهم السبب في معارضة هذا الحديث، فالتاريخ الإسلامي لم يشهد على مدى أربعة عشر قرناً أي عهد انمسح فيه الإسلام من الدنيا ومن القلوب ولم يجد له مناصرين ومعاونين. أجل، فالتاريخ لا يحدثنا عن عهد لم يكن للإسلام جماعة عملت في سبيله.. لندع الماضي ولنتأمل القرن العشرين وهو أكثر القرون تهجماً على الدين وعلى المتدينين، ومع ذلك لم يستطيعوا إزالة الدين ومسحه من الوجود، إذن، فأين الجانب غير المقنع في هذا الحديث؟ قامت الشيوعية بمطاردة الدين في ديارها وأعلنت عليه حرباً ضروساً بهدف مسحه من الوجود، ولكن كان هناك على الدوام حتى في تلك البلاد الشيوعية من نذر نفسه للدين، بل إن الإنسانية بعد أن سبحت في مستنقع الكفر كل هذه السنوات تفتش الآن عن مخرج وعن منقذ لها، فلا تجد إلا الدين -والدين الإسلامي على الأخص- لأن الدين الإسلامي شمعة إلهية لا يمكن إطفاؤها بالنفخ.

قدمت تفاسير عديدة لكلمة "الجماعة" الواردة في الحديث، فالبخاري يقول: "إنهم أهل الشام"،[15] ذلك لأن الشام كان في عهده مركز العلم، ومع أن الخلافة كانت قد انتقلت من الشام إلى بغداد إلا أن بلاد الشام حافظت على صفة مركزيتها هذه عدة قرون، فالعلماء الكبار من أمثال الأوزاعي والليث بن سعد ومالك كانوا يرسلون طلابهم إلى الشام ليلتفوا حول الأمراء وينشروا العلم.

ورأى آخرون أن المقصود بـ"الجماعة" هم المحدثون، ورأى آخرون أنهم هم المفسرون. وعلى أي حال فلو تجنبنا حصر معنى "الجماعة" في الحديث في زمان معين أو في مجموعة معينة لكان ذلك أفضل وأقرب إلى معنى الحديث. فهذه الجماعة وجدت على الدوام.. في الشام مرة وفي غيرها مرة.. مرة حول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ومرة حول الإمام الغزالي رضي الله عنه، وأخرى حول الإمام أحمد السرهندي رضي الله عنه أو حول مولانا خالد البغدادي رضي الله عنه أو حول آخر.. ولكن المهم أنهم وجدوا على الدوام وسيوجدون في المستقبل أيضاً على الدوام.

7) غسل اليدين بعد الاستيقاظ

هناك حديث آخر تعرض للرد من قبل من لم يفهموه وهو حديث: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، أو أين كانت تطوف يده.»[16]

وقد استهزأ أحمد أمين صاحب كتاب "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام" بهذا الحديث قائلاً: "ألا يعرف الإنسان أين كانت تطوف يده؟" واستهزأ به أيضاً أبو رَيّة والمستشرق "غولتسهر (Goldziher)" الذي يُعد أستاذاً لهؤلاء. ولكن أحقاً يعلم الإنسان أين كانت يده تطوف في الليل؟ أنا أرى أن هذا الحديث يتضمن معجزة من ناحية علم حفظ الصحة جاوزت الأزمان وهي تظهر وتبين حقائق مهمة.

قد يكون الإنسان مصاباً بحساسية أو مرض جلدي، وقد يحك في الليل دون أن يشعر بعض أجزاء جسده، وعلم الطب اليوم يقول إن ملايين الجراثيم توجد تحت الأظافر، إذن، أيجوز مثل هذا الإنسان الذي لوث أظافره وتحت أظافره بالجراثيم أن يمد يده عند فطوره صباحاً إلى الطعام أو إلى إناء الماء؟ ألا يعني ذلك أنه يفتح الطريق للجراثيم لتغزو جسمه؟

إذن، فإن رد مثل هذا الحديث الذي قبلته الأمة منذ البداية حتى الآن والذي لا يتناقض مع العلم بل يتماشى ويتلاءم معه، وذلك لمجرد أن بعض المستشرقين -ومن ورائهم بعض المستغربين في العالم الإسلامي- لم يعجبهم رواة هذا الحديث من الصحابة، أو لأن المستوى العلمي في عهد هؤلاء المستشرقين لم يكن كافياً لفهم هذا الحديث، أيجوز رد هذا الحديث استناداً إلى هذه الأسباب الواهية؟

8) لقاء النبي موسى عليه السلام في المعراج

من بين الأحاديث التي حاولوا ردها هو الحديث الوارد حول لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بموسى عليه السلام في المعراج والذي أرشد رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى تقليل أوقات الصلاة -التي فرضت بادئ الأمر خمسين وقتا- إلى خمس أوقات،[17] مع أن هذا الحديث رواه أوثق الرواة من رجال الكتب الستة وغيرها.

أولاً: إن هذا كان لقاء ولم يكن مراجعة، وحتى لو راجع رسولنا صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام لما كان في الأمر غرابة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان في المعراج لأول مرة، أما موسى عليه السلام فكان في ذلك العالم منذ زمان كنبي مكرم. ثم إن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان مثال الأدب سواء تجاه الله تعالى أو تجاه النبي موسى عليه السلام، وكان يبحث دائماً عن اليسر في سبيل أمته. وكان لقاؤه مع موسى عليه السلام ضمن هذا الإطار. ثم إن كان هذا مراجعة فمراجعته لموسى عليه السلام كانت مهمة من زاوية تلطيف الجو مع بني إسرائيل أو مع اليهود من الناحية النفسية والاجتماعية. كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء مصدقاً لجميع الأنبياء، وكان هذا اللقاء يعبر عن هذا المعنى، وكان قبوله وتصديقه لجميع الأنبياء قبولاً رائعاً حتى أنه لم يأذن بتفضيله على الأنبياء السابقين أو عدم احترامهم.. وعندما غمز أحدهم في حق موسى عليه السلام تدخل حالاً وقال: «لا تُخَيِّروني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش جانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله.»[18] أي قام بحفظ حق موسى عليه السلام.

ثم إننا لا نعرف جميع أبعاد المكان، لذا لا نعرف في أي بُعد جرت بعض الحوادث، فمثلاً هناك حديث ذكر في الكثير من كتب الأحاديث الصحيحة ككتب أحمد بن حنبل ومسلم وابن ماجه عن تميم الداري -الذي أسلم بعد أن كان نصرانياًّ- الذي ذكر خبر "الجسّاسة" والدجال في إحدى الجزر، فهل يمكن إنكار مثل هذا الحديث بدعوى أن الداري كان قبل إسلامه نصرانياً وأنه جلب هذا من النصرانية؟ وهل يمكن إنكاره بدعوى أن هذا أمر غير ممكن؟ ألا يمكن أن نعد هذا رؤية لأشخاص في حالة التحول (Transcedent)؟ ولا نقول إننا يجب أن نعده هكذا، علماً بأننا لا ندري في أي بعد مكاني شاهد الداري هذه الحادثة.

ثم هناك أحاديث عديدة حول نـزول المسيح عليه السلام[19] -مهما كانت طبيعة هذا النـزول- فهل علينا أن ننظر إلى جميع هذه الأحاديث على أساس أنها مختلقة من قبل النصرانيين؟ ألم يكن عيسى عليه السلام من أولى العزم من الرسل الذي نؤمن بنبوته والذي بشر بقدوم رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ إنه نبينا أيضاً مثله في ذلك مثل إبراهيم وداود وسليمان وموسى عليهم السلام. ثم أيمكن قبول التخاطب عن بُعدٍ، وتحت الماء بطريقة "تليباثي (Telepathy)" وتحضير الأرواح وتنويم الإنسان عن بعد وبوساطة التلفون ولا يمكن قبول الحوادث المذكورة سابقاً، والتي لا نعرف في أي بُعد حدثت، أو لا يمكن قبول حديث "شق الصدر" مثلا الذي ورد في كتب معتبرة مثل كتاب "الشفاء" للعلامة القاضي عياض وفي "الدلائل" لأبي نعيم الأصبهاني وفي "الشمائل" لابن كثير وفي غيره من الكتب وذلك لمجرد عدم إمكان تفسيره بالعقل أو بالعلوم التجريبية؟

أجل، إن الذين يحاولون هدم السنة بإنكار مثل هذه الأحاديث الصحيحة سيذهبون، أما السنة فستبقى إلى الأبد.

الهوامش

[1] البخاري، تفسير سورة (48) 3، البيوع، 50؛ الدارمي، المقدمة، 2

[2] «صيقل الإسلام أو آثار سعيد القديم» لبديع الزمان سعيد النورسي  ص34

[3] البخاري، الاستسقاء، 3، فضائل أصحاب النبي، 11

[4] البخاري، الاستسقاء، 14؛ أبو داود، الاستسقاء، 2؛ ابن ماجه، الإقامة، 154؛ «المسند» للإمام أحمد 4/253-256

[5] انظر: البخاري، الإجارة، 12؛ مسلم، الذكر، 100

[6] ابن ماجه، إقامة الصلاة، 189؛ الترمذي، الدعوات، 118

[7] انظر: البخاري، الإجارة، 12؛ مسلم، الذكر، 100

[8] البخاري، الوضوء، 33؛ مسلم، الطهارة، 91؛ أبو داود، الطهارة، 37؛ الترمذي، الطهارة، 68؛ النسائي، الطهارة، 50؛ «المسند» للإمام أحمد 2/245، 253

[9] البخاري، الوضوء، 33؛ مسلم، الطهارة، 90

[10] «الهداية» للمرغناني 1/23

[11] البخاري، الطب، 58، بدء الخلق، 17؛ أبو داود، الأطعمة، 48؛ النسائي، الفرج، 11؛ ابن ماجه، الطب، 31؛ الدارمي، الأطعمة، 12؛ «المسند» للإمام أحمد 2/229، 246

[12] البخاري، الصلاة في مسجد مكة، 1؛ مسلم، الحج، 511؛ الترمذي، الصلاة، 126؛ النسائي، المساجد، 10؛ ابن ماجه، إقامة الصلاة، 196؛ «المسند» للإمام أحمد 3/234

[13] البخاري، الصلاة في مسجد مكة، 1؛ مسلم، الحج، 510؛ الترمذي، المواقيت، 126؛ النسائي، المناسك، 124

[14] البخاري، الاعتصام، 10، التوحيد، 29؛ مسلم، الإمارة، 170؛ أبو داود، الفتن، 1؛ الترمذي، الفتن، 51؛ ابن ماجه، المقدمة، 1

[15] البخاري، التوحيد، 29

[16] البخاري، الوضوء، 26؛ مسلم، الطهارة، 87-88؛ أبو داود، الطهارة، 50؛ «المسند» للإمام أحمد 2/241، 252، 265

[17] البخاري، الصلاة، 1؛ مسلم، الإيمان، 263؛ النسائي، الصلاة، 1؛ ابن ماجه، إقامة الصلاة، 194؛  «المسند» للإمام أحمد 9/208

[18] البخاري، الخصومات، 1، الأنبياء، 25؛ ابن ماجه، الزهد، 33؛ «المسند» للإمام أحمد 2/33

[19] البخاري، البيوع، 102، الأنبياء، 49؛ مسلم، الإيمان، 242-247؛ أبو داود، الملاحم، 14؛  الترمذي، الفتن، 21، 54؛ ابن ماجه، الفتن، 33؛ «المسند» للإمام أحمد 2/240، 394، 538، 4/67

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.