القبض والبسط

"القبض والبسط" يدخلان في مدار حياة أي إنسان في أي مستوى كان وبأبعاد مختلفة ويستحوذان عليه، يتعلقان بكل فرد يحيا بشعور مستشعرًا بالحياة.

القبض أو الانقباض هو الانطواء والانكماش، وحالة انتزاع الروح، أو انقطاع الفيوض المعنوية للإنسان، ارتخاء علاقته الوثيقة مع منبع الفيض الأبدي لما في ماهيته من ثغرات وبقاؤه في فراغ إلى حدّ ما في حين ينبغي أن تكون رابطته وثيقة معه.

أما "البسط"، فهو مدّ، انفتاح، عرض، توسع، انشراح وابتهاج، أو ارتفاع الإنسان إلى نقطة يكون وسيلة رحمة في الوجود إلى حد استيعابه الأشياء، توسع القلب وانشراحه، سمو الذهن إلى حيث يتمكن من حل أكبر المعضلات.

إن كلاً من الخوف والرجاء طور إرادي، ومنـزل أوّلي ونقطة بداية لسالك الحق، أما القبض والبسط فهما معاملة ذات أسرار في الحدود النهائية بعيدًا عن بعض الأسباب الإرادية، فإما يقطعان السبيل على سالك الحق أو يرفعانه ويحلّقان به.

نعم، إن كان الخوف والرجاء، هو إحساس بالقلق أو نشوة أمل مما يُحَب أو يُكرَه فيما يخص المستقبل؛ فالقبض والبسط، نبض القلب بالنشوة أو إنكماشه بالقسوة فيما يخص الحاضر، بتأثير موجات ترد عليه مختلفة في الطول واللون.

إن ما يفيده القبض لمن يجولون في ربوع المعرفة، يفيده الخوف للذين هم ما يزالون في الطريق، وما يفيده البسط لأولئك، يفيده الرجاء لهؤلاء.

القبض والبسط بيد الله سبحانه كما في قوله سبحانه ﴿وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ (البقرة:245) بغض النظر عن التأثير النسبي للإرادة الإنسانية التي لها ماهية اعتبارية. فكما أن الوجود كله في قبضة تصرفه سبحانه، كذلك يدير متى يشاء، وكيف يشاء كل شيء من السموات إلى قلب الإنسان. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يذكّر بهذا: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ».[1]

فالله سبحانه متى شاء يقبض القلوب قبضًا يغرقها في حاجات شتى حتى لا يمكن أن يدفع تلك الحاجات غيره تعالى، وإذا شاء يبسطها لمن يريد بسطًا واهبًا لهم انشراحًا لا يشعرون معه بحاجة إلى أحد.

القبض جلالي والبسط جمالي: ففي أحدهما تظهر العظمة والكبرياء بسر "الواحدية"، وفي الآخر تتبين الرحمة وتجلي التنـزل. ففي أحدهما اقشعرار الأبدان أمام القدرة التي تدير الوجود كله كحبات المسبحة من الذرات إلى المجرات؛ وفي الآخر نفحات "الأُنس" تكرمة للأرواح الوجلة من الحيرة والدهشة أمام هذه العظمة التي تواضع لها كل شيء وهذا الجبروت الذي ذلّ له كل شيء.

بيد أن كل شخص لا يشعر بهذا التجلي وبهذه التكرمة في المستوى نفسه، ذلك لأن تجليات القبض والبسط تتناسب طرديًا مع سعة صدر الأشخاص وضيقها. نعم، إن ما يشعر به شخص عامي من ضيق صدره أو انشراح قلبه، ليس كما يشعر به ذو القلب اليقظ المتفتح إلى الماوراء المترع بالانفعال والخشية، المشحون بشعور أنه يراقب من فرجة باب، فيعتريه الانبساط والنشوة في مواضع والقلق والاضطراب في أخرى.

القبض والبسط أيضًا ككل شيء تحت تصرف الخالق العظيم، يتعاقبان كتعاقب الليل النهار والنهار الليل. فإن الإرادة الإلهية -مع ملاحظة أن الأسباب شرط عادي- تضيّق شرائح القبض والبسط وتبسطها، دافعةً الإنسان إلى توترات وانقباضات أو تهيجه بالأفراح والمسرات. نعم، الإنسان أحيانًا يقطع شريحة زمان واسع جدًا، من دون أن يقع في قبضة القبض، يحلّق كالطيور في الهواء. وأحيانًا أخرى تضيق حالات القبض فتتوسع شرائح القبض حتى لكأن الإنسان يتدحرج من فراغ إلى فراغ. فيتكدر الروح وينكفئ الإنسان على نفسه.

كما أن عدم القدرة على إعطاء المقام -الذي هو هبة إلهية- حقه أحيانًا، يكون وسيلة قبض، فكثيرًا ما تأتي الذنوب مرافقة لحال القبض. وعلى هذا يجب أن تكون حالة القبض وسيلة إيقاظ للمؤمن كل حين. فلا بد من اتخاذ الحذر من الغفلات، والقيام بإزالة الذنوب والآثام بالتوبة والحسنات، وتوجيه بصيرة القلب مرة أخرى إلى الغيوب.

في مقابل القبض الذي يرد مصحوبًا بنغمات العدم والحيرة والهلع واللاشيء، يتجلى البسط بأشكال النشوة والسرور والشطحات. وعلى هذا فالبسط ربما يكون سببًا للانخداع والضياع لقسم من الأرواح الهزيلة التي لم تتفتح بعد لمشاهدة الغيوب ولم تعيّر أجهزتها وفق الحياة الأخروية. ويصدق هذا أيضًا على حال القبض، ولكن ليس بمقدار البسط بلا شك؛ ذلك لأن المتضايق بالقبض يقول كل آن بوجدانه "لا تدعني يا إلهي وشأني فأنا لا أستغنى عنك" فيتجاوز جيوب الهوى كما تخترق الأجسام جيوب الهواء. فيتكامل بعنايته تعالى، ويمكن أن يصل في تلك البرهة الزمانية القاسية إلى ما لا يوصل إليه بحال البسط.

لذا عدّت حالة القبض فصلاً من فصول التيقظ للناس أجمعين مقابل ما في حالة البسط من غفلة وتراخ لبعض الأرواح.

وكذلك فالقبض الذي يَرِدُنا نتيجة تقصيراتنا وغفلاتنا، قد يكون مقدمة لبسط آت؛ والبسط الذي يؤدي إلى الشطحات والتراخي ربما يكون سببًا لقسم من أنواع القبض المهلك.

والمؤمن الحق، هو الذي يقيّم كل حال ضمن إطاره الخاص ويعرف كيف يستثمره.

القبض والبسط تجليان منه تعالى للعارف

فالقبض والبسط مدعاة شكر للعارف.

اللّهم اشرح صدورنا للإسلام وثبت قلوبنا على الإيمان. وصلّ وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه الفخام.

الهوامش

[1] مسلم، القدر 17؛ ابن ماجة، الدعاء 2؛ المسند للامام أحمد، 2/168.

مجلة سيزنتي التركية، نوفمبر 1991؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.