الورع

هذا كتاب يرسم فيه مؤلفه - فضيلة الشيخ فتح الله گولن - طريق ارتقاء القلب الإنساني في معارج المعرفة الإلهية التي هي أرقى معارف الإنسان قاطبةً، وكُلُّ معرفة دونها مدينةٌ لها، وظلٌّ من ظلالها، وأثرٌ من أثارها. وقد استعان الشيخ في رسم معالم هذه الطريق بتجاربه الذانية، وبتجارب جمهرة من فضلاء مَنْ سلك هذه الطريق نفسها من عظماء الصوفية الملتزمين بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

في المعاجم والقواميس يرد الورع بهذه المعاني: تجنب ما لا يليق ولا يلائم ولا يلزم من الأمور، والحذر من المحرمات والممنوعات.. واجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات. وهذا مطابق للقاعدة الإسلامية «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ»[1] ولحقيقة الحديث الشريف «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ».[2]

وقد عرّف بعض الصوفيين الورع بأنه: صحة اليقين.. استقامة السلوك.. وعلو الهمة والتمكين في العلاقة مع الله سبحانه.

وقد عرّفه أحد أرباب القلب: "عدم الغفلة عن الله ولو طرفة عين" وآخر قال: "الكف عما سواه تعالى في كل لحظة من لحظات الحياة" وقال آخر: "أن يترفع السالك على نفسه وعلى الوجود كله ولا يتذلل ولا يتنـزل إلى الدنيا وأهلها حالاً ولا لسانًا". والبيتان الآتيان يفيدان هذه الرؤية:

تَوَرَّعْ عَنْ سُؤَالِ الْخَلْقِ طُرًّا              وَسَلْ رَبًّا كَرِيمًا ذَا هِبَاتٍ

وَدَعْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا كَاللَّوَاتِي    تَرَاهَا لاَ مَحَالَةَ ذَاهِبَاتٍ

ويمكن أن نعرّف الورع بأنه وقف الحياة والسلوك على ما يلزم في الآخرة وينتهي إليها، ومن ثم التحرك وفق إدراك حقيقة الفانيات الزائلات، ولعل الحديث الشريف يذكّر بهذه القاعدة: «إِنَّ مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكَهُ مَا لا يَعْنِيهِ».[3]

وصاحب "بند عطار" يضفي شيئًا نفيسًا بأسلوبه العطارى على هذا الفكر:

تَرسْكَارِي اَزْ وَرَعْ پَيْدَا شَوَدْ                      هَرْ كِه بَاشَدْ بِي وَرَعْ رُسْوَا شَوَدْ

بَا وَرَعْ هَرْكَسْ كِه خُودْ رَا كَردْ رَاستْ         جُنْبُشُ و آرَامَشْ اَزْ بَهرِ خُدَاستْ

آنْ كِه اَزْ حَقْ دُرُسْتِي دَارَدْ طَمَعْ                  دَرْ مَحَبّتْ كَاذِبَشْ دَانْ بِي وَرَعْ

يعني: الخوفُ من الله ينشأ من الورع، يفتضح يوم القيامة المحروم من الورع، وقوفه وقيامه وحركته وسكوته لله من استقام على الورع. كاذب في محبته من يطمع في ولاية الحق من دون ورع.

الورع عمل عام لإيفاء حق العبودية بأبعادها الظاهرية والباطنية. وسالك الورع عندما يجول في الذرى التي يبلغها بالتقوى، فهو بظاهره ينسج حياته رقًا لا عتق له للأوامر والنواهي... إذ "يعمل لله، ويبدأ لله"[4] يسكن لله ويتحرك لله، يأكل لله، يشرب لله، يتحرك ضمن دائرة "لله، لوجه الله".[5]

ومن جانب آخر يجعل باطنه مسقط تأثير "حظيرة القدس" ويختلي بـ"الكنـز المخفي" الذي في قلبه فيكفّ كليًا عن الأغيار. بمعنى يبتعد كليًا عن كل الأفكار التي لا توصل إليه سبحانه.. ويُدبر عن كل رؤية لا تذكّره به.. ويسد أذنه عن كل بيان -إن كان بيانًا- لا ينطق به.. وينفض يده عن كل ما لا قيمة له عند الله. فالورع بهذا المعنى يرفع الإنسان عموديًا إلى الله.

وقد أوحى الله سبحانه إلى موسى عليه الصلاة والسلام: "لم يتقرب إليّ المتقربون بمثل الورع والزهد".[6]

وتعرّفت الإنسانية بالورع بخير القرون، حتى أصبح في زمن التابعين وتابعيهم غاية المنى لكل مؤمن. ففي هذا العهد جاءت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا، فتمر بنا مشاعل الظاهرية (عمال الدولة)، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟ فقال أحمد: مَن أنتِِ عافاك الله تعالى؟ فقالت: أخت بشر الحافي، فبكى أحمد، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها.[7]

وكذا في هذا العهد كان أحدهم يستغيث ويصرخ بـ"ذنبي ذنبي" طوال العمر لتعلق نظره بحرام مرة. وفي هذا العهد أيضًا تُستفرغ المعدة من لقمة حرام دخلت دون علم ولأجله يُستفرغ الدمع أيامًا.[8]

يروي أحد أولئك الأبطال وهو المحّدث الكبير والفقيه العظيم والزاهد الشهير ابن المبارك أنه رجع من مرو إلى الشام ليعيد قلمًا استعاره فلم يرده على صاحبه.[9] وليسوا نادرين من عزموا على وقف أنفسهم لخدمة من يعتقدون أن لهم حقًا عليهم. والزاهد المشهور فضيل بن عياض هو أحد روّاد هذا الميدان. وكم من أبطال مثله في تلك الدنيا الوضيئة.. وتزخركُتب الأولياء والطبقات والمناقب بحياة أمثال هؤلاء الدرر الذين تفوق حياتهم حياة الروحانيين.. وما هذه الصفحات المتواضعة إلاّ للتذكير بهم.

 

اَللّهم حَبِّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، وصلّ وسلّم على سيدنا محمد وآله وأصحابه المهديين.

الهوامش

[1] الترمذي، صفة القيامة 60؛ النسائي، الأشربة 50؛ المسند للامام أحمد 3/153.

[2] البخاري، الإيمان 39؛ مسلم، المساقاة 107، 108.

[3] الترمذي، الزهد 11؛ ابن ماجة، الفتن 12.

[4] الكلمات لبديع الزمان سعيد النورسي، الكلمة الأولى.

[5] انظر: اللمعات لبديع الزمان سعيد النورسي، اللمعة الثالثة، النكتة الثالثة.

[6] الورع لابن أبي الدنيا، 47؛ الرسالة للقشيري، ص:197.

[7] حلية الأولياء لأبي نعيم، 8/353؛ الرسالة للقشيري، ص:196؛ صفة الصفوة لابن الجوزي، 2/525-526.

[8] الورع للامام أحمد، 84-85؛ كتاب الزهد لابن أبي عاصم، 109، 111؛ شعب الإيمان للبيهقي، 5/56.

[9] الرسالة للقشيري، ص:198.

مجلة سيزنتي التركية، يوليو 1993؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.