الذكر

بالذكر هو التخطر، الاستذكار. ولدى الصوفية هو تكرار اسم "الله" وصفاته واحدة واحدة، أو بضع منها معًا. ويؤدَّى الذكر منفردًا أو جماعة بأي اسم كان، ففي بعضها يذكر اسم "الله" وفي أخرى يذكر "لا إله إلاّ الله" وفي أخرى يذكر أسماء أخرى وصفات أخرى، وذلك حسب تعيين المرشد والدليل.

والذكر كالشكر تمامًا، وظيفة ودَين العبدية، يؤدّى بجميع الأركان باللسان وبالقلب وبالبدن وبالوجدان.

فذكر اللسان هو؛ في موضع ذكر الله بجميع أسمائه الحسنى وبجميع صفاته الجليلة وأن يكون صدّاحًا بحمده والثناء عليه والانفعال بالتسبيح والتحميد.. وفي موضع قراءة كتاب الله الكريم واللواذ بريادته والترنم بآيات الله التكوينية في كتاب الكائنات بمعناها الحرفي،[1] وإعلان عجز الإنسان وفقره بلسان الدعاء والمناجاة.

وذكر الوجدان هو ذكر الله بجميع أركان الوجدان وفي مقدمته اللطيفة الربانية، أي ذكره تعالى قيامًا وقعودًا بأخذ الدلائل على وجوده سبحانه، والتفكر في أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة التي تتلمع في كتاب الوجود والتي تهمس فينا كل آن همسات متنوعة. ومن ثم التفكر في أحكام ربوبيته التي تسع العالم أجمع، وفي المسائل المتعلقة بمسؤولياتنا تجاه هذه الأحكام، من أوامر ونواه، ووعود ووعيد، وثواب وعقاب، والبحث عن أسرار الوجود وعما وراء أستاره، بطرق الأنفس والآفاق، والمشاهدة المتكررة لمحاسن أخروية تتفتح الواحدة تلو الأخرى، في ثنايا هذا البحث أمام البصر والبصيرة. وتصور أن كل شيء من الذرات إلى السيارات نبضٌ ينبض باسم "عالَم القدس" وترجمانٌ لعالم اللاهوت يشع نورًا، ومنفذٌ "لحقيقة الحقائق". وهذا هو الذكر القلبي. فالذين يدركون الوجود ويتحسسونه أنه حي نابض، والذين يستطيعون أن يستمعوا إلى عالم اللاهوت وهو يتكلم كالخطيب، والذين يوفّقون إلى مشاهدة تجليات الجلال والجمال من خلال هذه المنافذ، يتذوقون أذواقًا روحانية لا عين رأت مثلها ولا أذن سمعت، حتى أن ساعة من هذه الحياة ضمن هذه الزمزمة الذوقية تعادل مئات السنين. نعم، إن هذه السياحة القدسية، بتلك اللانهائية اللذيذة تدوم متنهدة بالواردات والحظوظ المعنوية وتستمر في دائرة صالحة. وفي النقطة التي تغمر أنوار "سُبُحات الوجه" الجهات كلها، تفوق مشاهدات الإنسان ذاته وتتجاوزه. فكل فرد من أرباب القلوب يجد نفسه في لجّة الذكر -سواء كانت مشاهداته موافقة بذات الأمر أم لا- وإذا به يردد الأسماء الإلهية، بما يستشعره من أشياء باختياره أو بدون اختياره.

والذكر أحيانًا يرغو ويزبد حتى يغشى ذات الإنسان. ففي مثل هذه الحالة، حالة الاستغراق، لا تبقى علامة للذكر ولا عنوان للذاكر. فيداوم بعضهم على كلمة التوحيد بقولهم: لا موجود إلاّ هو، وآخرون يقولون: لا مشهود إلاّ الله، وآخرون: لا إله إلاّ الله، وآخرون ضمن شعورهم الفطري وبمقاييس كلية يلاحظون بعد "لا" جميع الأسماء الحسنى، فيمرّون إلى "إلاّ الله" ويداومون على ذكر كلمة التوحيد في مثل هذا الشعور الكلي والنظرة الكلية.

ولعل الثواني التي تمر في مثل هذا الجو، جو القربة وجو المعية -تلك الثواني المنورة المتفتحة على الواردات- أكثر بركة وتوجهًا للأبدية من سنوات مظلمة ومقفلة عن الواردات. ويروى كلام طيب كحديث شريف إشارة إلى هذه المباركية "لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملكٌ مقرّب ولا نبي مرسل".[2]

والذكر البدني هو تحويل الأوامر الإلهية ونواهيها إلى حياة تُمارَس وتُعاش، بحيث يستشعر الإنسان في وجدانه كل ما هو مكلف به فيأتمر بأوامره بشوق عظيم وينتهي بنواهيه مع الشعور العميق بالمسؤولية. وإن عمق ما يؤدّى من ذكر باللسان بصورة عامة نابعٌ من هذا الذكر الثاني، فيأتي على صورة صوت لا يموت ينبعث بقوة دافعة من المركز. والذكر البدني على الأكثر هو حملةُ عرض حاجاتنا إلى القدرة الإلهية والقوة الإلهية والغنى الإلهي وذلك بطَرق باب الألوهية، بحثًا عن سبل القبول إلى ذلك الديوان الرفيع بأسلوب الإعلان عن عجزنا وفقرنا البشري.

نعم، إن الذاكر، والمصرّ على الذكر، يؤخذ إلى حفظ الله سبحانه وحمايته ويؤوى في محاضن عنايته حتى أن الأمر الإلهي ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة:152) يعبّر عن كيفية ذات أسرار وهي تحوّل العجز إلى القوة بعينها والفقر إلى الغنى بعينه.

أي ما أن تذكروا الله بالفكر والعبادة، يذكركم بالتشريف والتكريم.. وما أن تترنموا به في الأدعية والمناجاة، يستجيب لكم بإغداق ألطافه عليكم.. وما أن تديموا علاقاتكم معه سبحانه رغم مشاغلكم الدنيوية الكثيرة، يشرّفكم بالإحسان بعد أن يزيح عنكم مشاكل الدنيا والعقبى.. وما أن تشرّفوا به أوقاتكم التي تنفردون بها وحدكم، يكون "جليسا أنيسًا" لكم حيثما تُدفعون إليه من انفراد واغتراب.. وما أن يكون لسانكم رطبًا من ذكره في أوقات راحتكم، يرسل إليكم أنسام الرحمة أمام الحوادث الممضة لكم.. وما أن تنطلقوا في أرجاء العالم تعرّفونه، ينجيكم من ذل الدنيا والعقبى.. وما أن تكونوا مخلصين لله في أعمالكم، يكرمكم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر[3].. وبهذا يرقى الذاكر، بالذكر وبالرغبة في الذكر وبذل الجهد فيه ونيله، وإذا بالله سبحانه يعمّق أكثر هذا اللطف، لطف الهداية والتوفيق، بإحساناته الخاصة. وإن الأمر الإلهي ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ (البقرة:152) يذكّر بهذه الدائرة الصالحة بين الذكر والشكر، أي السير من الذكر إلى الشكر ومنه إلى الذكر.

إن الذكر لبّ العبادات جميعها، ولبّ هذا اللبّ هو القرآن الكريم. ثم الكلمات المنورة الصادرة عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم. والذكر بجميع أشكاله الجهرية والخفية، عملية نقل ضياء "سُبُحات الوجه" المتحلقة في مجال الحواس والتفكر والشعور، إلى البدن، وتمليكه الروح.

والذكر، عنوان للإعلان عن الحق سبحانه للإنس والجن تجاه نعمه الظاهرة والباطنة، وما أن ينقطع هذا الإعلان حتى لا تبقى حكمةٌ لوجود الأرض وما عليها. أَلا يربط بيان النبي صلى الله عليه وسلم قيام الساعة بعدم بقاء من يقول على الأرض: الله...الله.[4]

إن طريق ذكر الله -بأي شكل كان- هو أقوى الطرق وأسلمها للوصول إلى الحق سبحانه. وبدونه يتعسر الوصول إليه تعالى. نعم، إن ذكر الوجدان له بشعور، ومرافقة اللطائف له كل آن، وكون اللسان ترجمانًا لهذا الانسجام الجاذب زادٌ لا ينفد وذخيرةٌ مباركة طيبة لسالك الخلود.

نعم، إن ذكر الله لهو سياحة رائعة في عروج القربة، بحيث ما إن يبدأ اللسان والشعور والقلب بذكر الله معًا، يجد الإنسان نفسه في لحظة واحدة أنه في مصعد ذي أسرار يصل به إلى إقليم تُحلّق فيه الأرواح، فيشاهد ما يشاهد من فرجات أبواب السماء ما يخص الغيوب والماوراء.

ليس لذكر الله وقت معين. فالصلاة التي هي سيدة العبادات وعماد سفينة الدين تقام في أوقات مخصصة، وأوقات أخرى لا تجوز فيها الصلاة. أما ذكر الله فله الحرية المطلقة في السير في أجزاء الزمان، وليس مقيدًا بأي حال من الأحوال، كما هو مضمون الآية الكريمة ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ﴾ (آل عمران:191) فليس له حدّ لا زمانًا ولا حالاً.

لا أتذكر في الكتاب والسنة وآثار السلف الصالح أمرًا أكثر ترغيبًا وحثًا من الذكر. وفي الحقيقة أن الذكر بمثابة الروح والدم في جميع العبادات، من الصلاة إلى الجهاد. إلاّ أن ذكر كل شخص هو حسب تأثير ما يذكر على مشاعره، وهذا ما يطلق عليه الصوفيون بـ "المشاهدة" أو "سكينة القلب". فبعضهم يصل إلى الله في قلبه بذكره له بطريق ذي أسرار. وبعضهم يدركونه سبحانه في وجدانهم "كنـزًا" ويكونون دائمًا في المعية الإلهية بما في أعماقهم من نقطة استناد واستمداد. فالذين هم في هذا المستوى، كل ذكر جديد هو جهالة، لأنه وسيلة للانقطاع. ولعل العبارة الآتية تعبير عن الذين هم في هذا المستوى من الفهم:

اَللهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ أَذْكُرُهُ                وَكَيْفَ أَذْكُرُهُ إِذْ لَسْتُ أَنْسَاهُ[5]

اللّهم اجعلني لك ذكّارًا لك شكّارًا لك رهّابا لك مطواعًا لك مخبتًا إليك أوّاها منيبًا. وصل اللهم على سيدنا محمد الذكّار وعلى آله وصحبه المخبتين المنيبين.

الهوامش

[1] أصل دلالة "الحرف" نحويا أنه غير مستقل بنفسه، في حاجة مستمرة إلى غيره، فقراءة الكائنات بالمعنى الحرفي يعني: أنها غير مستقلة بنفسها، بل هي في حاجة مستمرة إلى خالقها، مفتقرة في بقائها إلى إرادته سبحانه. (المترجم)

[2] الأسرار المرفوعة لعلي القاري، 197؛ كشف الخفاء للعجلوني، 2/226.

[3] انظر: البخاري، بدء الخلق 8، تفسير سورة السجدة، التوحيد 35؛ مسلم، الإيمان 39، الجنة 6،5.

[4] «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُقَالَ فِي الأرْضِ اللهُ اللهُ». (مسلم، الإيمان 234).

[5] شعب الإيمان للبيهقي، 6/331.

مجلة سيزنتي التركية، سبتمبر 1992؛ الترجمة عن التركية: إحسان قاسم الصالحي.