الفصل الثاني: وظائف الجهاد

1-الجهاد مهمة الأنبياء والرسل

إن من يجاهد في سبيل الله ويبتغي مرضاة ربه بامتثال دعوته، لا يُنظر إليه نظرة إنسان اعتيادي في مستوى بقية الناس، ذلك لأنه اتخذ الغاية التي بُعث بها الأنبياء والرسل الكرام -صلوات الله عليهم- هدفاً له. ولنمثل هذا بمثال للتوضيح:

من المعلوم أن لكل إنسان مسلكاً معيناً ووظيفة تخصه، ولهذه الوظيفة خصائصها، فمثلاً الحلاق، أو النجار، أو السرّاج أو صاحب مهنة أخرى، كل منهم له هدفه المعين. ويقدّر وضعه الحالي وفق ذلك الهدف. ومن جانب آخر فإن كل مهنة تحرز الأهمية بنسبة بعدها وقربها من ذلك الهدف المعيّن لها. فأهمية مهنة الحلاقة -والحلاق أيضاً من جهة- تقاس بالنسبة لذلك الهدف. وقس عليها المهن الأخرى؛ فالنائب في البرلمان مثلاً، أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية -إن عدّت الرئاسة مهنة ووظيفة- يجري المقياس نفسه على هذه الوظائف كلها، أي تُحرز الأهمية وفق الهدف المعين.

إن مهمة النبوة أقدس وظيفة عهد بها إلى أشخاص أخيار مصطفَين من بين الناس. أما وظيفتهم فهي التعريف بالله، وبالدين الذي تلقوه منه سبحانه. فهم بهذا التبليغ يعلّمون الإنسان الذي بدأ من نطفة مستقذرة وينتهي إلى جثة نتنة، طرق البلوغ إلى عالم الخلود، إلى عالم الأبدية والاستقرار في مواطن السعادة والرفعة الدائمة. وبذلك تطمئن قلوبهم المحتاجة والمشتاقة إلى البقاء والأبدية، بالإيمان بالبقاء والدنوّ إلى الأبدية.

إن الهدف المقدّر في مهمة النبوة هو الإيمان بالله ومعرفته تعالى وإبلاغ الإنسان طريق الخلود بتلك المعرفة والإيمان. ووصوله إلى الله سبحانه بعد عبوره من هذه الدنيا. وإراءته جلوات البقاء والخلود في هذا العالم الفاني، واستشعاره بألوان الوجود في الفناء. حتى يبلغ بأفكاره مبلغ الهالة المشعة بالأبدية ولا يرى نفسه إلاّ تحت ظل قوس نصر الخلود العظيم.

فالذين يفجرون هذه الماهية المغروزة في فطرة الإنسان المرشح للخلود، هم الأنبياء والرسل الكرام الذين قلدوا وظيفة النبوة.

فالنبوة بهذا هي أقدس وأنـزه مهمة عند الله، حتى إنه سبحانه وتعالى وجّه الأنظار بعد ألوهيته جل جلاله إليها. هذا وإن أقدس وظيفة في هذه المهمة المقدسة هي الجهاد. إذ هو الواسطة والوسيلة التي توصل إلى النقطة النهائية المهمة المقدسة، فهي إذن مقدسة ومنـزهة مثلها.

ومما يفيد قدسية هذه المهمة الآية الكريمة:

﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَاْلإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾(التوبة:111).

بمعنى أن الذين يبيعون ما لديهم من وجود مادي من نفس ومال سيفوزون مقابلها بالجنة وسيحظون برضى الله جل وعلا.

والقرآن الكريم باستعماله كلمتي "البيع والشراء" يسمو بمرتبة الإنسان إلى مرتبة المخاطب لربه الجليل الذي يعقد معه سبحانه المواثيق والعهود. والرسول صلى الله عليه وسلم يذكر في حديث شريف له: «كلُّ الميّت يُختم على عمله إلاّ المُرابِطَ، فإنه يَنمُو له عملُه إلى يوم القيامة ويؤَمَّن مِن فَتّان القَبر».[1]

2-الجهاد شهادة للحق

إن أحد جوانب الجهاد هو أداء مهمة الشهادة للحق، إذ كما يسمع -في المحاكم- إلى أقوال الشهود، إحقاقاً للحق، ومن ثم يُقضَى وفق شهاداتهم؛ كذلك المجاهدون في أثناء تحاكمهم مع الكفر والإنكار على الأرض، يشهدون لله بأعلى صوتهم قائلين "الله موجود" بل يُسمعون الأرض والسماء هتافهم. والآية الكريمة تبين لنا هذه الحقيقة بجلاء:

﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(آل عمران:18).

نعم، إن ذكر هذه الشهادات الثلاث في موضع واحد جنباً إلى جنب، ينطوي على مغزى عميق. وكما يأتي:

1) إن الله سبحانه وتعالى يشهد على وجوده بذاته جل وعلا. والكاملون الذين بلغوا الحقيقة، يستشعرون بهذه الشهادة في وجدانهم شعوراً عميقاً وراسخاً بما يعجز القلم عن التعبير عنه أو سكبه في قراطيس.

2) والملائكة أيضا شهود على وجود الله سبحانه وتعالى، فالملائكة المخلوقون من نور خالص، فطرتهم صافية نقية لا تشوبها شائبة قط، حتى عجز الشيطان أن يُدخل فيهم الكفر والضلال. ففطرتهم الأصلية لم تتغير قط. فهم كالمرايا المجلوة في الصفاء والنقاء. فتشاهد في هذه الماهيات النـزيهة أيضا تجلياته سبحانه وتعالى وتَسْتَشْعِرُها وَتُقِرُّ بها.

3) وأولو العلم أيضا يشهدون بوجود الله سبحانه.

فهذه الشهادات الثلاث كافية ووافية لإثبات وجود الله سبحانه حتى لو أنكرت الدنيا قاطبة وجوده تعالى.

نعم، إنه كذلك، إذ نشعر بهذه الحقيقة بجلائها وعظمتها في وجداننا حتى لا نجد داعياً إلى أي دليل آخر. فهذه الشهادة كافية ووافية كذلك لسَكَنَة الملأ الأعلى.

والذين صمّوا آذانهم وأعموا أبصارهم ولم يعودوا يدركون الآيات المبثوثة في الكون ولا يسمعون أصواتها الندية ويعجزون عن رؤية آثاره سبحانه وتعالى في ملامح صنعته الباهرة في آفاق الأرض كافة، تكفيهم هذه الشهادة، شهادة أهل العلم.

والمجاهدون شهود الله، وسيهتفون بأصواتهم العذبة في المحاكم التي تنصب للمنكرين قائلين: إننا شهداء لله.

وفي الحقيقة أن الأنبياء الكرام ما أرسلوا إلا لأداء هذه الشهادة على أفضل وجه والقرآن الكريم يوضح هذه الحقيقة بالآية الكريمة:

﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً * لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْـزَلَ إِلَيْكَ أَنْـزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً﴾(النساء:165-166).

وفي كل أمة من الأمم نبي كريم ينير لهم الطريق. أما خاتم النبيين والرسل سيد الكونين والثقلين فقد أرسل إلى الإنسانية كافة لينير لها الطريق. ويذكّرنا القرآن الكريم بهذه الحقيقة بالآية الكريمة:

﴿يَا اَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا اَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾(الأحزاب:45) وكلمة النبي في خطاب ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ المعرّفة بـ"الـ" التعريف تعني نبياً معروفاً. أي أن نبوة هذا النبي معروفة وواضحة من كل جهة تنظر إليها. بل إن نبوته معروفة ومشـهودة حتى عند الجمادات بسـلامها عليه،[2] والنباتـات[3] والحيوانات[4] بانقيادها وخضوعها لأوامره، فهو نبي كريم معروف عند المخلوقات قاطبة، مما لا يمكن إنكار نبوّته قط. فلقد لانتْ أقسى القلوب وأغلظها أمامه صلى الله عليه وسلم. أفلا يثبت هذا أنه النبي المعروف؟!

أما كلمة ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ في الآية الكريمة المذكورة، فهي بصيغة المخاطب ﴿كَ﴾ وفيها إيماء وتلميح ورحمة إلى من هو رحمة للعالمين.

أما ﴿شاهداً﴾ فيعني: أنه سـبحانه يقول لنبيه: إنّا أرسـلناك شـاهداً للإنسانية، لتبلّغ الناس كافة بأنني موجود فتعّرفهم بي، وتكون شاهدي عليهم ولو كذّبك العالم أجمع وأنكروا عليك. فأنت تعلن وتبلغ وجودي. فأنت شاهد في هذه المنـزلة. ثم إن جماعة الشهود يخلفونك ويسيرون وراءك، فهم شهداء على الإنسانية وأنت شاهد عليهم، تشهد لشهادتهم، فشهادة أمته صلى الله عليه وسلم هذه سترفع مسؤوليات بعض الأنبياء في يوم الحشر الأعظم، كما ورد ذلك في الحديث الشريف: "قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يُدعَى نوحٌ عليهِ السلام يوم القِيامةِ فيقال له: هل بلّغتَ؟ فيقول: نعم. فيُدعَى قَومُه فيقال لهم: هل بلّغَكم؟ فيقولون: ما أتانا مِن نَذِيرٍ أو ما أتانا مِن أحدٍ. قال فيُقال لِنوحٍ:مَن يَشهد لك؟ فيقول: محمد وأمّته. قال فذلِك قَولُه ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ قال: الوسَطُ العدلُ قال: فيُدْعَون فيشهدون له بالْبلاغ قال: ثمّ أَشهد عليكم".[5]

3-الجهاد منبع الحياة

الجهاد منبع يتدفق بالحياة، فيجعل المسلمين في حيوية مستديمة. فما من أمة حُرم أفرادها من الجهاد الماديّ والمعنوي، إلاّ ظهرت فيهم المشاحنات والمخاصمات الداخلية ففسدت الأمة من داخلها وتعفنت. والعثمانيون يمثلون آخر مثال حي لهذه الحقيقة. ومما لا ريب فيه أن القدر قد حكم على العثمانيين -كما حكم على غيرهم من الأمم- بالنخر والفساد والعطب. ولا جرم أن لهذا الأمر أسبابه الخاصة به. إذ لو انغمس حكام في حياة الشهوات والرذائل في القصور وأهملوا إعلاء كلمة الله، ودبّت رخاوتهم وإهمالهم هذا في صفوف الجيش، فإن الدولة تفقد موقعها المرموق بين الدول فضلاً عن البؤس والشقاء الأبدي الذي يلحق بالأمة مع المخاصمات والمشاحنات الداخلية التي لا نهاية لها. نعم إن هذه المخاصمات الداخلية هي التي أدت إلى انهيار دولة عظيمة علية. وأنهت وجودها من على الأرض.

ونحن مذ تركنا الجهاد نمت فينا الفرق والتخريب، وما نشاهده في الوقت الحاضر من التكتّلات والتخريبات والفرق ليست إلاّ ثماراً من حنظل وزقوم نمت من تلك البذور الجهنّمية التي نثرت في تلك الفترة. ولا خلاص من هذه الحالة المميتة إلا بالجهاد. فالجهاد للمؤمن أسمى غاية وأعلى مثل يمكنه أن يضحى له بنفسه. إذ يحظى المؤمن بالتطهر الكامل بالانغماس في عَرَقه والتوضّؤ بدمه وما ذلك إلا بالجهاد.

ومن الذين ذاقوا طعم هذه اللذة الرفيعة هو حرام بن ملحان في أثناء سقوطه إلى الأرض بعدما أصيب بسهم في صدره فقال: "اللهُ أكبر، فُزتُ وربّ الكعبة".[6] فلو أجرينا مقارنة بين ما غنمه "حرام بن ملحان" وما ذاق في سبيل الله من ذوق رفيع، ندرك عندئذ مدى فوزه حقًّا. نعم الجهاد أربح تجارة. والله سبحانه وتعالى يدعونا إلى هذه التجارة الرابحة بقوله:

﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(الصف:10-11).

بمعنى أن الله سبحانه يقول: إنني أدعوكم أيها المؤمنون إلى أربح تجارة وأعظمها حيث تفوزون بحياة خالدة عزيزة سعيدة في الجنة فضلاً عن نجاتكم من نار جهنم.

نعم، الجهاد الذي هو إنارة كل موضع في الأرض وإبلاغ أنوار اسم سيد المرسلين إلى أشد الأماكن ظلاماً، وإنارة العالم كله بنور القرآن المبين.. هذا الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة. وسيظل المؤمنون في مستوى المسؤولية لأداء مهمة الأمة الوسط وحقها بين الدول والشعوب.

4-الجهاد شعور سامٍ

إن أعظم شعور ينبغي أن يتنبّه لدى المؤمن هو شعوره بالجهاد. فلا يعدّ من الأحياء من لا يحمل هذا الشعور بل لا فرق بينه وبين شواهد القبور. إنه حقًّا يمثل ويرمز إلى الأموات. ولا ينظر إليه الرب الرحيم بنظر الرحمة قطعاً. لأن الذي لم ينذر نفسه لتبليغ اسم الله في الأرجاء ولم يتخذه هدفاً وغاية له، لا فرق بينه وبين الجمادات، إذ الإنسان يكتسب الحياة والحيوية بمقدار ما يحمل من روح الجهاد. لأنه لا يستطيع أن يحيي نفسه وعائلته وأمته ويقيهم من الموت إلاّ بالجهاد. نعم الحياة الحقيقية لا تتحقق إلا بالجهاد، وإن أفضل وأنبل خطوة يخطوها الإنسان وأعظمها وأسماها وأكثرها فائدة وثماراً هي الخطوة التي يخطوها نحو الجهاد.

إن من أهم ما يلفت النظر من خصائص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ضمن عظيم إصلاحاته هو تكوينه لجماعة لا ترهب الموت، ولا تتراجع عما رأته صواباً في طريق الحق، وتحتفظ بأقصى درجات الحيوية والنشاط... هذه الجماعة كانت دائمة التفكير بالجهاد بل كشفت سـرّ الخلود بهذه الوسيلة، وسيخلّدون، إذ لا تغلق دفاتر حسناتهم إلى يوم القيامة بفضل ما قدّموه من تضحيات جسام، بعدما اقتحموا المصاعب والمهالك في سبيل نشر الإيمان. نعم، إننا وجميع من سبقنا من الأجيال وكل الأجيال المقبلة في ذكر مستمر لمحاسنهم وأفضالهم علينا مع أنهم قد ارتحلوا عن هذه الدنيا من الناحية المادية.

وعندما يؤمن الإنسان بالعالم الآخر يصبح الجهاد أسمى فكر وأطيب غاية وأرفع أمنية لديه. فالشعور الذي تنامى واكتمل لدى الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين هو هذا الشـعور والفهم والإدراك. فتراهم يتسابقون في الاشتراك في بدر، ويقف الأطفال منتصبين على أصابع أقدامهم كي يظهروا طوالاً كباراً لأجل الاشـتراك في الحرب، ويحزن الذيـن لم تسعفهم أعمارهم بالمشاركة فيها..[7]

إذ كانوا يقولون: لِمَ يجعلنا الرسول صلى الله عليه وسلم مع النساء؟ أليس الجهاد من عمل الرجال، فلِمَ نظل في بيوتنا مثل النساء؟ وبهذا الشعور السامي انطلقت تلك الجماعة السعيدة المحظوظة إلى بدر، إلى جهاد يغير مجرى قدر الإنسانية. إذ كان الأمر حتى ذلك الوقت منحصراً في الإرشاد والتبليغ.

ولكن "ما إن واجه الكافر المؤمن، وأتى الرسولَ صلى الله عليه وسلم الخبرُ عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم بمسير قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِِدُونَ﴾(المائدة:24) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى "برك الغماد" -إحدى مدن الحبشة- لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً، ودعا له بخير. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشيروا عليّ أيها الناس -وإنما يريد الأنصار- وذلك لأنهم كانوا عدد الناس -أي جمهورهم–. قال له سعد بن معاذ رضي الله عنه: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل فقال: فقد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يارسول الله لما أردتَ، فوالذي بعثك إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنّا لصُبُر عند الحرب، صُدق عند اللقاء… ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك، فامض له، فصِلْ حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد مَن شِئت، وسالم من شئت، وخُذْ من أموالنا ما شئت… فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد، ونشّطه ذلك، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم" "[8] فكان الصحابة الكرام في جيشان وحماس حتى قال الذين ولوّا الدبر من الكفار وفرّوا إلى مكة: "إنهم هجموا علينا هجمة واحدة فكأننا موثقون فاستسلمنا لهم فكانوا يضربون منا فوق الأعناق وكل بنان".[9]

نعم إن الجهاد فرض وواجب لاستمرار هيمنة دين الإسلام الحنيف ولنجاة المسلمين من الذل والخنوع وليعيشوا كرماء أعزاء. فإن لم تكن في مجتمع إسلامي طائفة تؤدي هذه الوظيفة -التي يأمر بها القرآن[10]- فلا حياة إسلامية إذن. وحتى لو كانت هناك حياة إسلامية فردية فهي بلا سند ولا مرتكز. وحينما يترك المسلمون هذه الوظيفة ينقلبون على أعقابهم ويهوون حتى لو اجتازوا الفضاء الواسع وربطوا بين النجوم والكواكب. فلا ينجيهم ما بلغوا من الرقي والتكنولوجيا والصناعات وحدها ما هم فيه من الهاوية. فالجهاد فرض كفاية، ويصبح فرض عين على كل فرد ويكون مسؤولاً عنه أمام الله، إن لم يُؤدّى وعلى وجهه الأمثل وأُهمل كلياً كما هو في زماننا هذا.

والدولة كذلك عليها القيام بالجهاد المنظم. فأحياناً يتعهد الجيش بوظيفة الجهاد وأحياناً تتولاه قوى الأمن الداخلي، فكلاهما يجاهدان المعتدين من الخارج والداخل. فجهاد الأمة العسكرية المجاهدة شامل للعالم كله، لأن الأمة المجاهدة عنصرُ توازن بين الدول وقد عهد إليها سبحانه وتعالى بهذه المهمة الجليلة.

ولأجل أن تكون الأمة عنصر توازن على الأرض لا بد أن يكون الجيش على مستوى الإدراك لهذه الوظيفة التي هي أقدس وظيفة وأجلّها. فلا توازن على الأرض ما لم تكن عليها أمة تتعهد القيام بهذه المهمة.

وكم هو مؤلم أن المؤمنين منذ قرنيْن أو ثلاثة قرون صاروا ألعوبة بأيدي آخرين يتحكمون في إقامة التوازن، فلا يقدرون أن يؤدوا دورهم في التوازن العالمي. وقد أصبحت مساجد المؤمنين مأوى المساكين والخاملين، وغدت زواياهم وكر المحرومين من العشق، وتحولت مدارسهم إلى موضع تدريس الثقافة الغربية المادية (سكولاستيك) حتى باتوا يعالجون قضاياهم وكأنهم في دهاليز القرون الوسطى. وكيف يستطيع المحرومون من إدراك عصرهم أن يفرضوا ثقلهم في التوازن الدولي؟

وأعتقد أنه لا يمكن العمل باسم الإسلام ما لم يسبق المؤمنون عصرهم في مضمار التقنية، وما لم يعيشوا حياة العشق والوجد كالصحابة الكرام، وما لم يرتبطوا بالله برباط وثيق من العبادة والطاعة كالتابعين الكرام. ذلك لأن الذي لا يعيش في مستوى عصره ولا يحل مشاكله وأدواءه بعلاجات ذلك العصر، لا يمكنه أن يعمل شيئاً باسم الإسلام.

إن كل أمة أو فرد يحمل عزة إسلامية لا بد أن يعدّ نفسه مأموراً بهذه المهمة الجليلة، مهمة الجهاد. فالأمم أو الأفراد الذين لا يستشعرون في أنفسهم مثل هذه المسؤولية، ليس لهم حظ من العزة الإسلامية.

إن الجهاد مهمة جليلة وتكليف عظيم، لا بد أن تنذر جماعة نفسها له وتكون في "رباط" دائم، وبهذه المرابطة والعيون الساهرة تنجو الأمة بكاملها من كل خطر يحدق بها وتصد كل هجوم مادي ومعنوي متوقع من قبل الأعداء الداخليين أو الخارجيين. وتصبح دقائق وثواني حياة "المرابطين" الساعين في هذه المهمة مباركة كالسنوات، وسنواتهم كالعصور. فما أسعدهم! ينالون الخلود وهم مازالوا في هذه الدنيا. ذلك لأنهم قد نذروا حياتهم لهذه المهمة فيصبح مأكلهم ومشربهم ومنامهم ويقظتهم في حكم عبادة مقبولة يثابون عليها.

ومن المعلوم أن الحسن والجمال ينقسم إلى قسمين: حسن لعينه وحسن لغيره، فالحسن لعينه هو بذاته حسن، أما إن لم يكن حسناً بذاته ولكن بنتائجه، فهو حسن لغيره. والجهاد ضمن هذا القسم الثاني. وهذا يعني:

أن الجهاد ليس جميلاً بذاته، لما فيه من قتل وخراب، ولكن الذي يجمّل الجهاد ويحسنه أنه وسيلة لأمور حسنة. فمثلاً: الجهاد وسيلة لإعلاء كلمة الله، ولجعل المؤمن في وضع يُعده ليهيمن على موازنة الأمور في الأرض، ولصد الأعتداء على الإسلام والمسلمين، ولتعهده المظلومين والضعفاء... فالجهاد من هذه الجوانب جميل. لذا يصح القول: إن جمال الجهاد وحسنه مشروط بإعلاء كلمة الله.

نعم يجاهد المؤمن فيعتلي الفرس ويركب الطائرة ويقود الدبابة ويستعمل الصواريخ... ولكن لا يستعمل كل هذا إلاّ لإعلاء كلمة الله.

نعم، الجهاد الذي أُمر به المؤمن هو هذا. فليس جهاداً إن كان لغير وجه الله كأن يكون للحمية والدم والعرق، أو لأي اسم آخر. فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين الجهاد بوضوح في حديثه الذي يرويه الإمامان البخاري ومسلم إذ يقول: "مَن قاتَل لتكون كلمةُ الله هي العُليا فهو في سـبيل الله".[11] ومفهومه المخالف: أنّ من لم يقاتل لإعلاء كلمة الله ولرفع رايته في آفاق العالم، فليس له حظ من الجهاد، وبدوره فلا جمال ولا حسن فيه. نعم، إن الجهاد هو ما كان لإعلاء كلمة الله، والمجاهدُ إنما يجاهد لإعلاء كلمة الله، وإنارة كل ظلام على الأرض، فيقطع البراري والفيافي ويتجاوز الجبال والغابات حتى إذا بلغ البحر المحيط يقول كما قال عقبة بن نافع رضي الله عنه: "يا ربِّ، لولا هذا البحر لَمَضَيتُ في البلاد مُجاهدا في سبيلك".[12] فلو وضعوه وحده في جزيرة نائية لَنقّب عن وسيلة في أبعاد أخرى لإعلاء كلمة الله، وربما بلّغ الجن والأرواح الخبيثة كلمة الله، ولكأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة»[13] قد قيل في أمثال هؤلاء.

جاء رجل عقب فتح مكة وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله إني أريد الهجرة. فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم "لا هجْرةَ بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيّةٌ"[14] فكان للهجرة معنى ومغزى قبل فتح مكة، إذ كانت تعني الجهاد. أما بعد الفتح فقد بلغت الهجرة بُعداً مهما آخر من أَبعاد الجهاد. أي إن الهجرة لِكونها هجرة لم تعد جهاداً. نعم ليست جهاداً ولكن -من جهة- تتحقق بالجهاد.

فلم تعد الهجرة تعني انتقال المرء من مكان إلى آخر لأجل الجهاد. بل يمكن للمؤمن أن يجاهد في موضعه. وهذا يعني تحويل كل إنسان ما حوله إلى حدائق وارفة ومحيطه إلى بساتين غناء. وإذا ما اقتضى الأمر إلى الانتقال فلا شك أنه مستعد لذلك ويقوم به.

5-الجهاد مرتع واسع للبركة والعطاء

لا شك أن ما يؤدي إلى الخير خير مثله، كما أن ما يؤدي إلى الشر شر مثله. فالذي نذر نفسه وحياته للخير وأوقفها لعمل الخير فإن يومه ليس أربعاً وعشرين ساعة، بل سنين طوالا. لأن ساعات يومه الأربع والعشرين تسجل كلها حسناتٍ له في دفتر أعماله، فإذا هو وهب نفسه لدعوته وعاش في حب الحقيقة والهيام بالحق فإنه يحظى باللاَّمحدود في هذا العمر المحدود، حتى في أثناء نومه ويقظته وفي مشربه ومأكله وفي حلّه وترحاله. وإن الله سبحانه وتعالى ينير النقاط المظلمة في حياته جزاء نيته الحسنة وتخطيطه المتقن لأجزاء حياته وفق تفكيره الحسن لدعوته، ويوصله بفضله وكرمه إلى آفاق منيرة. فلا تبقى نقطة سوداء في حياة مَن وهب نفسه في سبيل الله، فلَيله كنهاره. نعم إن كل ثانية من عمره بمثابة سنين من العبادة، كيف لا وهو في طريق الخير. إذ كل ما يبذل في سبيل الباقي الحقيقي له ثواب عظيم مهما طال أو قصر، ولهذا فإن لحظة واحدة منه خير من ألوف السنين من حياة ميتة عقيمة.

ولأن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين أدركوا هذا السر كانوا يراجعون الرسول صلى الله عليه وسلم ويسألونه المزيد من طرُق الخير. حتى كان منهم من يسأل: "دُلَّني على عمَل إذا عَمِلتُه دخلتُ الجنّة".[15]

فهؤلاء الذين استنارت عقولهم بمعرفة الله كانوا في بحث دائم عن طرق أبواب الخير. وهذا يعني تحريهم عن وسائل تيسّر لهم سلوك الطريق نحو الخلود والأبدية. فاستفساراتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم لم تفتر بحثاً عن طرق الخير، حتى كأنهم يتسابقون في هذا السبيل. ولهذا نرى أن الجميع رجالاً ونساءً وشيباً وشباباً في جد وجهد دؤوب في الخير وإحجام وامتناع حازم عن كل ما يحول دونه.

فمنهم مثلاً:

نسيبة المازنية رضي الله عنها: امرأة أمضت حياتها بالجهاد. نذرت نفسها مع زوجها وأولادها أن يكونوا في إمرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، عندما تشرفت المدينة المنورة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، فاشتركت في بدر وأحد. كانت تداوي الجرحى وتضمدهم. ولكن ما أن حمي الوطيس حتى خاضت غمار الحرب قاتلت قتال الأبطال. فغايتها الوحيدة وأمنيتها العظيمة في كل حركاتها وسكناتها أن تكون مشاركة في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وربما عاشت أحرج فترة من فترات حياتها وأكثرها قلقاً واضطراباً عندما أبلَغَها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ألاّ تشترك في الغزوات مع الرجال بعد نـزول آية الحجاب. حتى إنها قالت وهي تبكي: "كيف أظل هنا وأنت تجاهد يا رسول الله"[16] فحزنت حزناً شديداً لبقائها بعيدة عن طريق للخير.

وهذا ابن عمر رضي الله عنه يقول: كنت في الثالثة عشرة من عمري يوم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فأشار إليّ بإصبعه: تراجع. وفي ليلتها ما إن دخلت الفراش، أقسم بالله أنني لم أكرب مثل تلك الليلة.[17]

وهذا عمير بن أبي وقاص رضي الله عنه أخو سعد بن أبي وقاص، كان غلاماً يوم بدر لا يتجاوز الثالثة عشرة من العمر. فكان ينتصب على أصابع قدميه يطاول الرجال كي يشارك في الجهاد. وما أن قبله الرسول صلى الله عليه وسلم حتى طار فرحاً حيث قد فتح الرسول صلى الله عليه وسلم له باباً إلى الخير. فدخل من هذا الباب واستشهد.[18]

وأبو سفيان الذي عادى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يوم فتح مكة، ولكن بعدما أسلم كان يبحث دوماً عن باب للخير. فوجد ضالّته في الجهاد. وأُصيب في عينه بسهم من العدو فخاطب عينه المفقوءة: وما كان نفعك ولم تبصري صاحبك سبعين سنة. فرماها واقتحم صفوف العدو.[19]

وحارث بن هشام رضي الله عنه كان مع جيش المسلمين الأبطال العشرة آلاف مقابل مائة ألف من جيش البيزنطيين. فيقول: يا من قاتلتم في بدر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاهدتم بأنفسكم في أحد، وبايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية -حيث لم يكن هو من بين هؤلاء- تعالوا لنرفع هذه الراية ونتكاتف ونتعاون لئلا تسقط على الأرض.[20] وهكذا لم تسقط تلك الراية على الأرض. نعم لم تسقط على الرغم من كثرة الأيدي التي تلقفتها، وكم من أيدٍ قُطِعَت لأجل رفعها، فصانوها من السقوط بأيديهم حتى قطعت ومشَوا بها بأرجلهم حتى بترت، وحموها بأجسادهم حتى الشهادة، فلم تسقط على الأرض. فلئن تقدم العدو في ذلك اليوم خطوة فإنما كان يخطو على أشلاء الأبطال من أمثال حارث بن هشام رضي الله عنه الذي صار أوصالاً مقطعة.

فالجهاد لهؤلاء بلاء لا يداوى إلا بالجهاد.

واسْتأذن سيدنا بلال الحبشي رضي الله عنه سيدَنا أبا بكر رضي الله عنه مرات ومرات ليغادر المدينة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أبا بكر كان يرفض طلبه كل مرة إذ كان يراه هدية تذكارية من رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ولكن بلالاً كان يتحرق شوقاً للجهاد، فهو معتاد على امتشاق السيف في ميادين الحرب، ورفع الراية. فلقد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد، لذا صعْب عليه البقاء في المدينة لأداء مهمة الأذان وحدها. فانتصب قائماً يوم جمعة وفي أثناء الخطبة وقال: يا أبا بكر إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله U فذرني أذهب إلى الله U..[21] ويمضي بلال إلى الشام ويستشهد في معركة ويدفن في قبر مجهول. وما دفعه إلى تلك البقاع إلاّ جذوة الجهاد المتقدة في داخله.

أما أبو خيثمة رضي الله عنه فقد تأخر عن اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه في خروجهم إلى تبوك فعذّب هذا التأخر والتخلف وجدانه وأقلقه قلقاً شديداً حتى أسرع إلى جواده وتوجّه نحو تبوك، وعندما كان الفرس يتعب يحمل سرجه على ظهره ويمشي مسرعاً ماضياً في سبيله إلى تبوك. وما أن شاهد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه -وهم على ماء- غباراً كثيفاً من جهة المدينة حتى قال: كن أبا خيثمة. وبعد هنيهة تراءى أبو خيثمة جلياً. فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجيئه وبارك مقدمه. وقال أبو خيثمة وهو يلقي نفسه في أحضان الرسول صلى الله عليه وسلم كدتُ أهلك يا رسول الله.[22] لأن التخلف عن الجهاد ذنب عظيم. كان أبو خيثمة يخشى أن يهلك بمثل هذا الذنب العظيم.

إن الجهاد باب للخير عظيم، فالذي يدخل من هذا الباب لا بد أن يفوز بأحد الثوابين والخيرين، فإما يكون شهيداً فهي حياة خالدة أو مجاهداً وله نعم الدنيا والآخرة.

ففي الجهاد بركات عظيمة أمثال هذه.

6-الجهاد منبع حياة لا موت فيه

إنه لحقيقة لا مراء فيها أن الذين يستشهدون في سبيل الله أحياءٌ يُرزقون، والدليل على هذا آيات كريمة كثيرة وأحاديث شريفة كثيرة وحوادث تاريخية لا تحصى.

فمثلاً: سليمان شاه الذي كان من سـادات العثمانيين ومن المجاهدين الأوائل، وهو الأخ الأكبر للسلطان مراد، كان المتوقع أن يتولى الحكم بعد والده، ولكنه كان يتولى تنظيم الهجمات والغارات على أوروبا كما كان قد اقتحم بيزنطة من قبل. وقد وُفّق إلى عبور مدينة "جَناق قَلْعَة" بالقوارب إلى جهة أوروبا وسيطر على شبه جزيرة "غالي بولي"، وضمّها إلى حكمه وتقدم حتى بلغ "بولاير" وكان الناس جميعاً يترقبون يوم توليه الحكم، إلاّ أنه استشعر في وجدانه بما يشبه بشارة من مكان قصيّ.. فجمع قادة المجاهدين وخاطبهم: إذا مت في يومي هذا، فلن يفوت البيزنطيون الفرصة على أنفسهم، وسيعيدون الكر على المواضع التي فتحناها، فوصيّتي إليكم أن تكون جنازتي حافز تجمع لكم لمهاجمة العدو هجمة رجل واحد متوكلين على الله، مستندين إلى رسوله. وإياكم والتخلف عن الجهاد.

فلما أبكر عثرت قدم فرسه في حفرة، فسقط رأساً على عقب واستشهد. فوقع كما قال، واجتمع القادة على جنازته وأغاروا على العدو غارة رجل واحد فشتتوا جنود البيزنطيين أيّ تشتيت حتى لاذوا بالفرار. وقالوا لجنود المسلمين بعد مدة: كان يتقدمكم في كل هجمة فارس شاب طويل القامة بعمامة خضراء صارم السيف، يشتت الجنود يمنة ويسرة.

وهذا يعني: أن الله سبحانه وتعالى كما وَكّل مَلَكاً كريماً يحارب بدلاً عن سيدنا مصعب بن عمير رضي الله عنه بعد استشهاده في أحد،[23] وكما أنه سبحانه وتعالى يديم معركة سيدنا حمزة رضي الله عنه العظيمة إلى يوم القيامة، كذلك يديم أعمال سليمان شاه الذي أراد إبلاغ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلب أوروبا، حالما توفى. ذلك لأن الشهداء أحياء بنص القرآن الكريم.

وقد عبّر عن هذا أيضاً "هاملتون" قائد الجيش البريطاني في معارك "جَناق قَلْعَة" حيث قال: "ما كنا نهرب من حرابكم وبنادقكم بل ممن كانوا يتقدمونكم من شبّان يافعين ذوي عمامات خضر، لا تؤثّر فيهم قذائف المدافع وطلقات البنادق". فالشجعان الذين عبّر عنهم هاملتون هم أرواح الشهداء.. أولئك الأحياء دوماً حيث بلغوا مرتبة عدم الموت.

نعم، إن المؤمن بعدما رضي أن يموت عزيزاً، فإن عزّته ستدوم إلى يوم القيامة كراية خفاقة باسم الدين الذي آمن به.

أجل، إن موتاً كهذا لا يحظى به إلاّ من استحقر الحياة وابتسم في وجه الموت، كأولئك الأبطال أبناء الأبطال.. فالجهاد حظ أولئك الأطهار الربانيين الذين ولدوا أطهاراً، فلا يسعهم مجد الأمة وعزتها قبراً بل يدفنون في قلب الأمة الإسلامية.

والله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾(البقرة:154).

نعم، لو رفعت الغشاوة عن الأبصار سيتيقن كيف ينعم الشهداء في العالم الآخر. وإذا ما أَمْكَن الإتصال بأرواحهم ومخاطبتهم والتحدث معهم، سيشهد بكاءهم على الأحياء. فنحن نبكي وراء الشهداء ونرقّ على أَيتَامهم الذينَ تركوهم، بينما هُم يَبكُونَ على الوضع الأليم لأهل الدنيا، وعلى الدنيا التي أصبحت صنَماً يُعبد من دون الله. وعلى الحياة التي غدت تمضي في رخاء وراحة ملفعة بالذل والبؤس، وعلى القعود عن الجهاد في سبيل الله، وعلى التكاسل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى الليالي التي تمضي سوداء مظلمة، وعلى السجاجيد التي لم تبتل بالدموع الغزيرة، وعلى عدم الانكسار لوضع المسلمين الأليم... وفي الحقيقة أن الشهداء في عيش رغيد وحياة ملؤها السعادة والطمأنينة، أليسوا في كل لحظة مع الله سبحانه وتعالى؟ أليست حياتنا المعاشة كالجحيم قياساً إلى حياتهم الخالدة؟. إن هذه الحياة التي أصبحت وسيلة لدخول الشيطان فيها لإبعادنا عن الله جلّ وعلا، هي حياة يرثى لها، ويصعب تحمّلها، ولكن كم هو مؤلم أننا نعيشها بلهفة وحرص ورغبة!

الهوامش

[1] أبو داود، الجهاد 16؛ الترمذي، فضائل الجهاد 2.

[2] انظر: مسلم، الفضائل 1.

[3] انظر: ابن ماجه، الفتن 23؛ المسند للإمام أحمد، 3/113.

[4] انظر: المسند للإمام أحمد، 4/170-171؛ مجمع الزوائد للهيثمي، 9/4.

[5] البخاري، الإعتصام 19؛ المسند للإمام أحمد، 3/32؛ ابن ماجه، الزهد 34.

[6] البخاري، الجهاد 9؛ مسلم، الإمارة 147.

[7] انظر: مجمع الزوائد للهيثمي، 6/69؛ حياة الصحابة للكاندهلوي، 2/93-94.

[8] دلائل النبوة للبيهقي، 3/107؛ السيرة النبوية لابن هشام، 2/266، 267؛ تفسير القرآن العظيم لابن كثير، 3/555 (باختصار).

[9] جامع البيان في تفسير القرآن للطبري، 9/197-205.

[10] انظر: سورة آل عمران: 104.

[11] البخاري، العلم 45، الجهاد، 15؛ مسلم، الإمارة 149-151 أبو داود، الجهاد 26.

[12] الكامل في التاريخ لابن الأثير، 4/106.

[13] مجمع الزوائد للهيثمي، 5/106.

[14] البخاري، الجهاد 27؛ مسلم، الإمارة 85؛ أبو داود، الجهاد 2.

[15] البخاري، الزكاة 1.

[16] حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/597-598؛ أسد الغابة لابن الأثير، 9/280؛ الإصابة لابن حجر، 4/418.

[17] كنـز العمال للمتقي، 13/476.

[18] أسد الغابة لابن الأثير، 4/300.

[19] انظر: أسد الغابة لابن الأثير 6/149.

[20] انظر: الإصابة لابن حجر، 1/294؛ أسد الغابة لابن الأثير، 1/460؛ كنـز العمال للمتقي، 5/31؛ المستدرك للحاكم، 3/242.

[21] أسد الغابة لابن الأثير، 1/244.

[22] انظر: مسلم، التوبة 53؛ الكامل في التاريخ لابن الأثير، 2/278؛ أسد الغابة لابن الأثير، 6/93.

[23] الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/121؛ المغازي للواقدي، 1/234.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.