8- الإرشاد والهلاك من خلال الحوادث التاريخية

يمكن النظر إلى أسباب هلاك أقوام في التاريخ من زاوية القيام بمهمة "الأمـر بالمعروف والنهي عن المنكر". وحينما ننظر بهذا المنظار ونقيم الأحداث في ضوئها يصادفنا الآتي:

لضمان دوام المجتمعات المؤمنة دعامتان أساسيتان، وإن عدمهما هلاك صنفين من المجتمع وعاقبة هلاكهما أمر محتّم، ونصل إلى النتيجة نفسها سواء اطلعنا على الأمر من جانبه السلبي أو الإيجابي. إن الله لا يهلك قوماً يؤدون مهمة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". وكذا لا يهلك قوماً فيهم من يؤدي هذه المهمة المقدسة ولم يكونوا مغلوبين على أمرهم ولو كانوا قلة. ويمكن أن نعد هذا الجانب هو الإيجابي في النظر إلى المسألة. أما الجانب السلبي فهو إن لم يكن في قوم من يقوم بـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" فالله سبحانه يهلكهم. وكذا لو كان فيهم جم غفير يؤدون تلك المهمة القدسية ولكن غلبتهم ضلالة الآخرين وفجورهم حتى أقروا بمغلوبيتهم، فالله سبحانه وتعالى سبحانه يهلكهم أيضاً. وسنوضح الأمر بالآيات الكريمة في موضعه. وهنا لابد أن نقول بيقين: أن الذي يحول دون هلاك أمة من الأمم المؤمنة هو قيامهم بهذه المهمة الجليلة بما أسسوه من مؤسسات للإرشاد. نعم الأمة لا تنجو من النهاية المحتمة إلا بمثل هذه الجهود الجادة.

ونوردعددا من الأسئلة:

أ- سيدنا نوح عليه السلام

لقد دعا سيدنا نوح عليه السلام طوال عمره قومَه إلى الحق، ولكنه قوبل في كل مرة بالإنكار والردّ بل أوذي، فما آمن معه إلاّ قليل. وآل الأمر إلى حدٍ اضطر معه سيدنا نوح عليه السلام إلى الاعتراف بأنه مغلوب تجاه الكفار، وإلى الدعاء والالتجاء إلى ربه الجليل طلباً للنصر. ولا شك أن دعاء مثل هذا النبي الكريم لا يردّ، وفعلا لم يردّ. والقرآن الكريم يفصل لنا هذه الحادثة: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّـمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُـرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾(القمر:9-16).

نغم إن سيدنا نوحاً عليه السلام قد حظي بالنبوة وأُلبس تاجها. فهو مأمور إلهي يأتمر بأمر الله وحده ويدعو الناس إلى العبودية لله. غير أن قومه كانوا يقولون إنه مجنون. والحال أن قولهم هذا دليل كمال الإيمان في النبي. لأن موازين الحياة الاجتماعية في ذلك القوم قد انقلبت رأساً على عقب وجميع القيم قد انعكست وانتكست. فالنبي ليس سوياً في مقاييسهم. وسيطلقون عليه أنه مجنون وقد أشاعوه فعلاً. ذلك لأن هذا النبي العظيم كان يسعى لإعمار ما هدموه وإصلاح ما أفسدوه في كيان المجتمع كله. ولا جرم أن يوصم من كان هكذا في هذا الوسط أنه مجنون. كما ورد في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَكْثِروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون".[1] وعلى هذا رفع سيدنا نوح عليه السلام يديه ودعا ربه: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ فأغرق الله سبحانه قومه الضالين، وأهلكهم بالماء المنهمر من السماء والعيون المتفجرة من الأرض، وربما هي هذه حضارة الأطلنطس وربما هي حضارة أخرى فالنتيجة أن الكفار قد أُغرقوا سواء في الأطلنطي أو أي بحر آخر. والحادثة هي أن حضارة تغرق على الرغم من وجود نبي عظيم بينهم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كل آن وحين، لمّا أعلن أنه مغلوب. وتعقب الآية الكريمة غرق القوم ونجاة المؤمنين مع سيدنا نوح عليه السلام ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ أي هل من متّعظ؟ ونحن نقول أيضا: هل من متعظ من الآثار والخرائب المبثوثة على وجه الأرض؟ فالمئات منها علامات وأمارات على قوم مجرمين بل كل منها آية من الله ماثلة أمامنا فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ وهَلْ..؟

بـ- سيدنا صالح عليه السلام

لقد عصى قوم سـيدنا صالح عليه السلام نبيهم، حينما أرسل الله إليهم ناقة معجزة وأمرهم بعدم مسها بسوء، ولكنهم بَغَوا فعقروا الناقة. وربما يُستغرب هذا التكليف الإلهي بعدم التعرض للناقة، ولكن إذا علمنا أن لله سبحانه لكل عصر نوعاً من التكاليف يزول الإستغراب؛ فكما يكلف سبحانه بأداء الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام في شهر رمضان كذلك له تكاليف أخرى كعدم شرب الخمر وتجنب الربا والزنا. وكذلك أمر الله قوم صالح عليه السلام بعدم التعرض للناقة. إلاّ أنهم خسروا هذا الامتحان.

وسورة الشمس توضّح الحادثة كالآتي: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾(الشمس:11-14).

فقوم ثمود لمّا عصوا نبيهم صالح عليه السلام ما كان منه إلاّ قوله: ﴿نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا﴾ ذلك لأن التعرض لها يعني مس زر البلاء والمصيبة. ولكن أشقاهم عقر الناقة فمس زر البلاء. وهذا الأمر -كما يبدو- سار في الأدوار جميعها، إذ يتقدم أحدهم القوم بالكفر والآخرون يتعقبونه أفواجاً. والذين تعرضوا لديننا في فترات مختلفة قد مسوا زر البلاء والمصيبة، فأسقطوا بمسهم هذا أمةً رفيعة عظيمة. وقد بدأت نكبة هذه الأمة بالتعرض للقرآن الكريم. واستمر السيناريو مع تبدل الأدوار والأشخاص. أما قام أحدهم بتلويث الكعبة المشرفة وبئر زمزم في فترة من التاريخ؟ وربما تحدث أشياء أخرى أمثالها.

وهكذا تقدم أشقى القوم من ثمود وعقر الناقة دون أن يلقي السمع إلى نداء النبي الكريم: لا.. لا تعملوا.. لا تتعرضوا.. فالذين قاموا بهذا فعلاً والذين سكتوا عليهم قد هيأوا بأنفسهم عاقبتهم الوخيمة. فدمدم عليهم ربُّهم وأهلكهم جميعاً دون تمييز بينهم، ودفَنَهم في مقبرة الماضي. فكما أبادهم ببلاء ومصيبة جعلهم لا يُذكَرون إلاّ بسوء.

وقد لا تصيب المصيبة الأجساد، فمثلا المسخ قد لا يصيب الصورة بل السيرة. لـذا يصعب فهم هذا البـلاء، بلاء مسخ السيرة، أكثر من الذي يصيب الجسد فقط على الرغم من أنه أشد منه. وأغلب البلايا التي تنـزل في الوقت الحاضر هي من هذا الصنف. وأعتقد أن أحد أسباب دوام الغفلة بشكل محير؛ هو أن الناس لا يميزون البلاء النازل عليهم.وتختم السورة بـ: ﴿وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ فهو صاحب الملك يتصرف في ملكه ما يشاء.

نرى في ضوء هذه الآيات أن الله سبحانه يهلك ثمود عندما يكون نبيهم صالح عليه السلام مغلوباً على أمره ولا يُسمع كلامه وإرشاده، فيهلكهم ويسوي بهم الأرض. ذلك أنه سـبحانه وتعالى قـد خلق الكون ولاسيما الإنسان لمعرفته والإيمان به. فهذه هي حكمة وجود الدنيا. وعندما يكون المؤمنون مغلوبين على أمرهم تتزعزع هذه الحكمة، فالله سبحانه يزعزع أهل ذلك العصر ويسوي بهم الأرض كما ذكرنا. وهذا قانون إلهي لم يتبدل ولن يتبدل في أي زمان كان.

جـ- سيدنا لوط عليه السلام

وكان سيدنا لوط عليه السلام معاصراً لسيدنا إبراهيم. ظهر في قومه فساد لم يسبق له مثيل في البشرية فارتكبوا إثم اللواطة. وهذا النبي العظيم يجادل قومه في هذا الإثم الشنيع. وإذا بضيوف يحلّون في بيته على صورة شبان مُرْد. وإذا بالقوم الضالين يهرعون إلى بيت النبي الكريم ويُعلِمونه ما يريدون، وسيدنا لوط كأنه يتوسل بقوله: ﴿وَلاَ تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي﴾ فأشار لهم إلى بناته ساعيا جرّهم إلى وسط شرعي. ولكن الجهود كلها ذهبت أدراج الرياح. إذ: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾. وسيدنا لوط قال متحسراً: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾. وفي الحقيقة كان له ركن شديد يأوي إليه، إلاّ أن الموقف العصيب دفعه ليقول هذا الكلام. وعندها يكشف الضيوف عن كونهم ملائكة لا يمكن أن يقترب القوم الضالون منهم.

نورد أجزاء من هذه القصة الطويلة في القرآن الكريم: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا الله وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَـدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَـافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْـدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾(هود:77-83)

وهكذا أُهلكت سدوم (مدينة قوم لوط عليه السلام) فجعل الله عاليها سافلها ودُفنوا في عمق بحيرة لوط. ولاشك أن هذا العقاب لا يخص قوم لوط وحدهم بل إن ظالمي كل دور وفترة معرّضون إلى هذا العقاب.

وأبرز مثال لهذا (بومبي في ايطاليا). إذ كان هناك نصارى يدعون إلى الحق والحقيقة ولكنهم كانوا مغلوبين أيضاً، بينما كان القوم يتمرغون في الفساد والرذائل، فحول الله سبحانه ذلك المكان إلى مقبرة باللهب المتأجج من بركان (فيزوف)، علماً انهم كانوا قد أصبحوا في عداد الأموات بأرواحهم منذ مدة مديدة. ومع أن الذين هربوا إلى شواطئ البحر لينجوا، فقد تعقبتهم ركامات عظيمة من الرماد ودفنتهم في مواضعهم.

د- وآخرون

إن القدرة الأزلية التي أخذت قوم لوط غير المؤمنين أخذ عزيز مقتدر، قد أجرت حكمها بقانون عام في الهلاك على أقوام آخرين، وعلى النمط نفسه.. وهذا واقع على مرّ الزمان في التاريخ.

فمثلاً: الحضارة الباهرة التي دامت ثمانية قرون في الأندلس، عندما اعترتها تغييرات داخلية عاد الذين دخلوا البلاد أعزاء أذلاء بسيف "فرديناند". فكان المسلمون يبكون كمداً على هذه العودة المشينة، ولكن لات حين مندم.. إذ كانوا لا يبكون على ما يستحق البكاء عليه مما هدموه بأيديهم من عوامل وجودهم، بل كانوا يبكون على ما تركوه من جنات وعيون وحمامات طليطلة. نعم، كانوا يبكون على جنائزهم.

هذه الروح الرذيلة المنهارة هي التي دمّرت العباسيين، وكذلك الأمويون انهاروا وانقرضوا باللوثة نفسها، والسلاجقة تجرعوا الغصص من عاقبه العيش الفاسد، وما عاقبة العثمانيين إلاّ نتيجة هوان الروح وانهيارها؛ فعندما تدخلون قصر "دولمة باغجة" تجدون أنفسكم أمام لوحات حزينة للانهيار في حيطانه، ذلك لأنكم تسمعون أن ستة عشر طناً من الذهب صرفت لتذهيب زخارف تلك الحيطان وريازتها، فيأخذكم الهلع والرعشة.

فهذا قانون إلهي لا يتبدل ولا يتحول. ويمكنكم أن تقيموا على هذه القاعدة سقوط روما والساسانيين وكذا حضارة مصر، وكل ما قامت وانهارت من الحضارات على طول التاريخ. فالله سبحانه يهلك البلدة التي لا يُذكر فيها اسمه ولا يعرّف به. إذيعنى هذا أنه قد انتفت حكمة وجود تلك البلدة. ولعل سبب قيام الساعة هو هذا، أي لا تبقى لوجود الدنيا حكمة، حيث المؤمنون على أهون حال والإلحاد مستشر، وعندها يجعل الله سبحانه الدنيا عاليها سافلها.

هذا، وإن غدا القرآن كتاباً لا يُفهم ولا تُدرك مراميه، فظلال البلايا والمصائب تطل علينا إذن. ولئن لم ينـزل الهلاك بعدُ علينا، فإنه من سعة رحمته تعالى وعظيم حلمه، كما كان سيدنا أبو بكر الصديق يقول حيناً بعد حين "اللهم ما أحلمك!" نعم، إنه حليم يمهل المذنب ولا يهمله، ذلك "إنّ الله لَيُملِي للظّالِم حتّى إذا أخذَه لَم يُفلِتْه".[2]

تأملوا، كيف أن الله سبحانه وتعالى يعرّف نفسه لنا بصفتي "الرحمن الرحيم".. فالواجب إذاً علينا أن نؤمن بـه ونقابل تلك الصفتين الجليلتين بالعبودية والإخلاص، دعـاة إلى الله تعالى مرشدين القلوب إليه بالإيمان والأمان.

وفي الحقيقة أن المؤمن هو إنسان الأمن والأمان، فلن يصدر منه ضرر، والمسلمون هـم ضمان الأمان للإنسانية، وصمام أمن وأمان للحياة الاجتماعية، فكما أن المؤمن هذا حاله مع الإنسانية قاطبة فهو أشد أمناً للمؤمنين وأعمق أماناً لهم. ولهذا فهو يبلّغ ما انتقل إليه من جمال ما أمره الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه يحاول إعمار مجتمعه ويسعى بجد للحيولة دون أن يمسهم أي ضرر. والذين يأبون القيام بهذه الوظيفة النبيلة يعنى أنهم يردّون ما وهب الله لهم من صفة "المؤمن" الرفيعة!

نعم، للمؤمن وظائف عدة ابتداءً من أصغر دائرة، وهي دائرة القلب، إلى أوسع دائرة، كل حسب موضعه، فالبيت، والقرية، والبلدة، والأمة، والإنسانية، كلها دوائر لوظائف متداخلة، فإذا تيسّر له البلوغ إلى أقاصي العالم وآفاقها لإبلاغ ما لديه من كنوز النور بلّغها. وحتى لو لم يفهم مخاطبوه ولم يدركوا كنه ما يبلّغه لهم فإن حرمانهم الناجم من إهمال إرشادهم نقص عظيم وعاقبته وخيمة.

وكذا إن لم يُصدّ الكفرُ ويُمنع الإلحاد، فلا يُهلك الكفار والملحدون وحدهم بل المؤمن أيضاً سينال حظه من هذا الخراب والدمار؛ إذ كان عليه أن يؤدى وظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ليحول دون الوقوع بالهلاك الفجيع الشامل على أقل تقدير.

يوضح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بقوله الشريف: "مثَلُ القائم على حُدود الله والواقِعِ فيها كمثَلِ قَومٍ استهَموا على سَفينة فأصابَ بَعضُهم أعلاها وبَعضُهم أسفلها فكان الذِين في أسفلها إذا استقَوا مِن الماء مَرّوا على مَن فَوقَهم فقالوا لو أنّا خَرَقنا في نصِيبنا خَرقا ولم نُؤذِ مَن فَوقَنا فإنْ يَترُكوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعا وإنْ أخذوا على أيديهم نجَوا ونَجَوا جميعا".[3]

فهذا الحديث الشريف هو تمثيل، بالقياس التمثيلي، كما يطلق عليه علم المنطق. إذ يبين الرسول صلى الله عليه وسلم مسألة اجتماعية خطرة ويعبّر عنها بمستوى أفهامنا في صورة تمثيل. فالراغبون في خرق السفينة ربما يبدون لأول وهلة أنهم أبرياء، ولكن عاقبته الوخيمة لا تسمح أن يعدّوا أبرياء قط.

فانطلاقاً من مفهوم هذا الحديث الشريف، يمكن القول: إن الدنيا هي كسفينة نوح عليه السلام، وإن جميع بني البشر دون استثناء ولا اختيار قد أُركِبوا هذه السفينة، لأنهم مضطرون للعيش في الدنيا، وإن سفينة الدنيا التي نعيش فيها ونسيح معاً هي وحيدة ليس لنا خيار غيرها، ونظام الحياة في هذه السفينة يخص مَن أركبنا فيها. لذا لا يحقّ لأحد كائناً من كان أن يغيّر هذا النظام أو يخلّ به. والحفاظ على السفينة والحيلولة دون غرقنا جميعاً وظيفة كل من فيها دون أستثناء، والحياة الخاصة لا أهمية لها.. أي إن هذه الوظيفة العظيمة قد أُلقيت على كاهلنا جميعاً حالمَا ركبنا في السفينة. فلا يمكن أن نسمح لإعدامنا وإعدام ملايين الناس الأبرياء بحجة أننا نهتم بخاصة أمورنا ولا نتدخل بشؤون الآخرين. أي من الضروري أن نكافح كل من يريد خرق السفينة أوالإخلال بالحياة الاجتماعية. ولهذا ففي الوقت الذي نحول بين المجتمع وبين أضرار المنكرات، حافظين الإنسانية من شرورها ونبلّغ في الوقت نفسه الخصال الحميدة والفضائل السامية أمراً بالمعروف. فالمجتمع الذي تنشئه الفطر السليمة يسلم من السيئات بأنواعها.

هذا جانب من المسألة، والجانب الآخر هو تحقيق الفضائل وإنمائها ونشر الحسنات في المجتمع. هذه هي المهمة التي تعهدناها للمجتمع، وهي مقدسة وعسيرة أيضاً.

إن الذي ذاق حلاوة الإيمان، من مقتضى المروءة، أن يُشرك الآخرين فيه. والمؤمن إنسان المروءة من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فهو يفكر دوماً بمصير الآخرين. فحين يرتع وسط ربيع زاه، يسعى أن يعيش غيره معه ويتذوق ما يتذوقه. أليس المؤمن يدع حبه للحياة ليديم حياة غيره؟ هل يمكن أن يقف من نفذ نور الإيمان في قلبه دون حراك؟ هذه الاستحالة تدفع المؤمن إلى السير في الأسواق، وفي البيوتات باحثاً عن القلوب المتعارفة. وهذا ضمان لوجوده أيضاً -من جانب- إذ الحفاظ على إيمانه في قلبه حتى الموت، وضمان دخوله القبر بهذا الإيمان إنما هو بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فمن كان محروما منهما فلا ضمان له للإيمان. لذا يتحتم على المؤمن أن يؤدى هذه الوظيفة، إنقاذاً لنفسه، في الأقل.

الهوامش

[1] المسند للإمام أحمد، 3/68؛ الترمذي، الزهد 39؛ صحيح ابن حبان، 3/99.

[2] البخاري، التفسير (11) 5؛ مسلم، البر 61.

[3] البخاري، الشركة 6؛ المسند للإمام أحمد، 4/268، 269.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.