الفصل الثالث: يقينيات الأرض بين التصنيف العلمي والوصف القرآني

تمهيد

يَعتبر بديع الزمان النورسي الأرض هي قلب الكون لاحتضانها الإنسان عمد السماوات والأرض. وفي ذلك يقول رحمه الله: "إن الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد أصبحت مشهرًا لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشرًا لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممرًا لقافلة موجوداته الوفيرة، ومسجدًا لعباده المتراصين صفوفًا عليها، ومقرًّا لأداء صلاتهم.. هذه الأرض تظهر من شعاع التوحيد ما يملأ الكون نورًا وضياءً"(1). ثم أضاف رحمه الله قائلاً: "ومن هنا فإن مهد هذا الإنسان ومسكنه وهو الأرض كفء للسماء معنى وصنعة ومع صغر الأرض وحقارتها بالنسبة إلى السماء فهي قلب الكون ومركزه، ومشهر جميع معجزات الصنعة الربانية.. ومظهر جميع تجليات الأسماء الحسنى وبؤرتها.. ومعكس الفعاليات الربانية المطلقة ومحشرها وسوق عرض المخلوقات الإلهية بجود مطلق"[1].

هذا الكلام الذي يحمل في طياته مكانة مركزية للأرض من الكون يجعل منها معرضًا هائلاً لمصنوعات الله إذا تأملت في معروضاتها وتدبرت في معانيها وجدتها بالغة الدلالة في تعبيرها عن تطابق آيات الكتاب مع آيات الكون. كما أنك تجد الأحاديث النبوية المتصلة بموضوعها تتضمن أسرارًا وتنبؤات إذا تأملتها وجدتها مفاتيح لألغاز حيرت وما تزال فكر الإنسان ومعرفته. فالآيات والأحاديث التي تنبئ أسرارها بدبيب الحياة في كل مكونات الأرض من الذرة وأصغر من ذلك إلى الجبل وأضخم من ذلك تعكس عالم الشهود الذي يضيء بنور الله المتغلغل في كل الوجود. بحيث إن أنت تحققت من يقينيات الأرض، فإنك لن تجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله ما يناقض حقيقتها أو يعارض دلائلها، بل تجد في هذه اليقينيات ما يزيدك يقينا بأن الأرض هي حقا في قلب كتاب اليقين كما قال في حقها ربنا الكريم: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ)(الذاريات:20)، وبأن القرآن والسنة هما الشاهدان على ذلك. فإذا تعمقت في هذا المنحى وأردت استجلاء معانيه من خلال ما أدرك فهمك من حقائق علمية في عالم الأكوان، وجدته يتجلى في أكثر من لوحة فيما هو مشاهد بعين البصيرة من مكونات هذه الأرض التي تشهد لك بكل ذرة من ترابها على وحدانية الخالق ودقة تدبيره لنظام الخلق. ومن الظواهر البديعة المتصلة بهذا المعنى ذكر كتاب الله للأرضين السبع وإشارته لمد الأرض ونقصانها من أطرافها ثم تجسيده للجبال أوتادا مع لفت النظر إلى سر حركتها على سطح الأرض: وذلك ما سنعمل وبالله التوفيق على تفصيله في هذا الباب.

ذكر القرآن الكريم للأرضين السبع

من خلال قراءة علمية في إشارة القرآن الكريم إلى كمال البناء في مماثلة الأرض للسماء المتجلية في قوله تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(الطلاق:12)، والتي تحمل في معناها أن الأرض هي أيضًا سبع أرضين، سنعمل -وبالله التوفيق- على إظهار مدلول الكمال في العدد "سبعة"، الذي ذكرت به ظاهرة خلق السماوات والأرض، ثم موقع الأرض من عالم السماوات الكامن في سر هذه المماثلة قبل أن نخلص إلى مفهوم الأرضين السبع في هذا البناء.

1- مدلول الكمال في العدد سبعة

جاء في كتاب خواطر دينية للعلامة الشيخ عبد الله بن الصديق -رحمه الله- أن الـ"سبعة" عدد كامل. وورد في معرض بيانه لمعنى هذا الكمال، أن الأديب "الصفدي" قال في كتابه "عين النبع على طرد السبع": "إن السبعة جمعت العدد كله، لأن العدد أزواج وأفراد، والأزواج لها أول وثاني، والاثنان أول الأزواج، والأربعة زوج ثاني، والثلاثة أول الأفراد، والخمسة فرد ثاني، فإذا اجتمع الزوج الأول مع الفرد الثاني، أو الفرد الأول مع الزوج الثاني، كان سبعة. وإذا أخذ الواحد الذي هو أصل العدد مع الستة التي هي عند الحكماء، عدد ثام، يكون منها السبعة التي هي عدد كامل، لأن الكمال درجة فوق التمام. وهذه الخاصة لا توجد في غير السبعة، ولذلك يفصلون بينها وبين الثمانية بالواو، فيقولون واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة وثمانية وتسعة وعشرة. ومن ذلك قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاَثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)(الكهف:22)"[2]. انتهى كلام الأديب الصفدي كما أورده الشيخ بن الصديق رحمه الله.

2- موقع الأرض من عالم السماوات

هذا التحليل الذي أعطى للعدد "سبعة" درجة الكمال، إذا تأملنا فيه من خلال استحضارنا للآيات القرآنية التي أشارت إلى عدد السماوات والأرض، فسنجد سره كامنًا في عمق الحساب العددي الذي ذكرت به ظاهرتا خلق السماوات والأرض. فذكْر خلق السماء في سبع سماوات ورد في القرآن الكريم سبع مرات:

1- (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ)(البقرة:29).

2- (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ)(المؤمنون:17).

3- (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ)(فصلت:12).

4- (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)(الطلاق:12).

5- (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا)(الملك:3).

6- (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا)(نوح:15).

7- (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا)(النبأ:12).

أما ذكر خلق الأرض في سبع أرضين، فلم يرد في القرآن الكريم سوى مرة واحدة في سورة "الطلاق" معطوفًا بمثل العدد على خلق السماوات السبع، وذلك في قوله تعالى: (وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) الذي نجد ذكر الأرض ورد فيه أيضًا في الموقع السابع من كلمات الآية.

وبذلك فإذا تناولنا العدد الذي ذكرت به ظاهرة خلق السماوات السبع وهو سبعة، وتمعنا في الموضع الذي ورد فيه ذكر خلق الأرضين السبع مرة واحدة، وجدنا أن هذا الأخير وقع في وسط الترتيب القرآني الذي ذكرت به ظاهرة خلق السماوات السبع، أي في الموضع الرابع الذي تتماثل حوله الستة الأخرى في ثلاثة أزواج متناظرة إذا جمعنا عددي كل زوج منها ثم قسمنا الحاصل على العدد اثنين الذي هو أصل الأزواج، أعطتنا العملية في كل مرة العدد "أربعة" الذي هو موضع الأرض في وسط الترتيب. فما الذي تستبطنه هذه المواقع من خفايا المواضيع، وما الذي يمكن استجلاءه من كمال البناء في عالم السماوات وتوسط الأرض في ترتيب الآيات لهذا العالم؟

3- مفهوم الأرضين السبع

إذا سبرنا أغوار التشكيلة الباطنية للأرض، فسنجد أن الأرض تتكون من سبع طبقات كروية تتراكب بعضها على بعض. ولكل طبقة سمكها وتركيبها الخاص. هذا التطابق الكروي للأرض، برزت خصائصه للباحثين في علم الجيولوجيا من خلال قياسات جيوفيزيائية غير مباشرة لباطنها. وذلك عن طريق إرسال موجات اهتزازية تخترق باطن الأرض، ثم التقاط صداها بعد انعكاسها من مختلف الطبقات الأرضية في شكل إصدارات لذبذبات تسري إلى السطح بمستويات تتوافق وطبيعة التركيبة الفيزيائية والكيميائية لكل طبقة. فتبين من خلال ذلك أن الأرض مكونة من سبع طبقات تتراكب من السطح إلى الباطن في الترتيب التالي 

 

1- القشرة الأرضية وتكون النطاق العلوي من الغلاف الصخري للأرض. (5-8 كلم من صخور البازلت تحت البحار و60 إلى 80 كلم من صخور الجرانيت تحت القارات).

2- النطاق السفلي من الغلاف الصخري للأرض (Lithosphère)، وهو موجود فوق نطاق الضعف الأرضي ويحده من الأعلى خط انقطاع الموجات الاهتزازية المسمى موهو (Moho).

3- النطاق العلوي من الغطاء الأرضي (Asthénosphère) المسمى بـ"الوشاح العلوي" والمعروف باسم "نطاق الضعف الأرضي" لما به من لزوجة عالية وانصهار لصخوره. ويمتد إلى عمق 400 كلم.

4- النطاق الأوسط من الغطاء (الوشاح الأوسط). ويكون طبقة صلبة تمتد إلى عمق 700 كلم حيث يوجد أحد مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية.

5- النطاق السفلي من الغطاء (الوشاح السفلي). ويحيط بالنواة السائلة للأرض بفاصل خط انقطاع الموجات الاهتزازية المعروف باسم "جوتنبرغ" (Gutenberg) الواقع على عمق 2900 كلم.

6- الطبقة السائلة للنواة التي تجري فيها المعادن المنصهرة إلى عمق 5170 كلم.

7- الطبقة الصلبة للنواة، وهي لب الأرض التي يتركز فيها الحديد بدرجة فائقة مع النيكل.

وعليه فالإشارة التي جاءت بها الآية 12 من سورة الطلاق في شأن مثيلات السماوات السبع من الأرض قد تكون هذه الطبقات السبع من الأرض. وهو المعنى الذي ذهب إليه كثير من المفسرين استنادًا إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي رواه البخاري -رحمه الله- في الجامع الصحيح (2322)، والذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه، خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين".

وهنا نلاحظ أننا كما وقفنا على توسط الأرض لعالم السماوات من خلال الاستقراء الحسابي للعدد سبعة، فكذلك نجد توسط النواة الصلبة التي هي قلب الأرض لباقي الطبقات الأرضية يصوغه موقع الحديد الذي يتركز فيها، والذي جاءت الإشارة إليه في سورة تتوسط في الترتيب عدد سور القرآن الكريم، ألا وهي سورة الحديد التي تأتي في الموقع 57 من أصل 114 سورة المرتبة في كتاب الله.

هذا التطابق الكروي، يمكن تلمسه في الصيغة الأخرى التي جاءت في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، والتي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يأخذ أحد شبرًا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة". والتطويق هو الإحاطة الشاملة المغلقة من جميع الجهات، الشيء الذي يوحي بكروية التطابق الأرضي حول الأرض السابعة السفلى تطابقًا مغلقًا يجعل هذه الأخيرة في قلب الكرة الأرضية محاطة بالست الأخرى من جميع الجهات. وهو ما يمكن استنباط معناه أيضًا من بقية الآية التي انطلقنا منها في قوله سبحانه: (يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)(الطلاق:12) والتي كما فسرها القرطبي -رحمه الله- أن المراد من قوله تعالى (بَيْنَهُنَّ): "إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها".

وهكذا من خلال قوله تعالى: (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)(غافر:64) يبدو لنا مضمون قرار الأرض بطبقاتها السبع من مفهوم البناء السماوي المحيط بها في شكل وحدة  متماسكة بين كتلتين لا ينبغي لأي واحدة منهما أن تزول عن الأخرى كما قال سبحانه في محكم التنزيل: (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)(فاطر:41) في إشارة إلى أن السماوات وإن ورد ذكرها بصيغة الجمع، فهي لا تشكل في سياق الآية سوى كتلة واحدة تحيط بكتلة الأرض، كما يقر بذلك فعل "زال" الذي جاء بصيغة المثنى "تزولا-زالتا" وليس بصيغة الجمع، للدلالة على التطابق الكروي التام بين كتلتين كانتا ملتصقتين عند بدء التكوين: (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا)(الأنبياء:30)، أي فصل الله بينهما بظاهرة التوسع التي انطلقت بحادثة فتق الرتق، لتظل سارية في جميع الاتجاهات الكونية المتعامدة مع الأرض. مما يوحي بأن الأرض كانت في قلب ذلك البناء الكوني، محاطة بطبقات السماوات السبع التي يتنزل الأمر بينهن إلى أن يصل إلى الأرض السابعة السفلى التي هي القلب المحرك لها، كما يوحي أيضًا بأن وسطية الأمة الواردة في قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143) (التي جاءت في وسط سورة البقرة الآية 143 من مجموع آياتها التي هي 286) والمستوحاة من توحد الأبعاد في الدلالة على تواجد الكعبة في وسط الأرض بل وفي محور الوسطية من الكون، هي قائمة على هذا الكمال في المكانة والمكان منذ خلق الله السماوات والأرض حيث كان الإنسان يومئذ في لب القصد، وذلك بحكم موضوع الاختبار الوارد في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)(هود:7)، وكذلك بحكم موضوع التسخير الوارد في قوله سبحانه: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ)(الجاثية:13). فكأن أطوار ذلك التسلسل العجيب الذي بدأ الكون بدخان، ثم نظمته في مجرات تموضعت الأرض في وسطها لتفرز الماء من جوفها، وتكوّن غلاف جوها، ثم ترسي الجبال على سطحها، وتخصب التربة التي منها انبثقت الحياة على ظهرها، كل تلك الأطوار لم تكن سوى حلقات متكاملة تماسكت تمهيدًا لمجيء الإنسان المخلوق لهذا الكمال، الموكّل إليه خلافة الأرض، الذي من أجله جاء الخطاب الإلهي متمما للآية التي جعلناه محور هذا الفصل بقوله تعالى: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)(الطلاق:12).

الحجارة بين الوصف القرآني والتصنيف العلمي

من مظاهر الإعجاز في وصف القرآن لعالم الحجارة أن تجد العِلم يصل بعد جهود مكثفة لعلماء من مختلف التخصصات الجيولوجية، إلى وضع تصنيف للصخور يطابق ذاك الذي جاء به القرآن الكريم في قول الله تعالى: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ)(البقرة:74). كما أن من معالم الدقة في هذا الوصف أن تجد الترتيب الذي أقرته الآية الكريمة لأنواع الحجارة والذي هو نفسه المعتمد اليوم في التصنيف الجيولوجي، يبتدئ من الأصل الذي هو الصخور الباطنية المتفجرة بأنهار الصهارة والمياه الحارة، إلى الفروع المتمثلة في قسم الصخور المتحولة الناتجة عن تحول صخور قديمة بفعل ارتفاع الضغط أو الحرارة الذي يولّد التشقق وخروج الماء ثم الحجارة التي تهبط المتمثلة قي قسم الصخور الرسوبية التي كلما ارتفع سمكها بفعل تراكم الرواسب المجلوبة من التعرية إلا وهبطت مع الزمان تحت وطء الحمولة الرسوبية المتزايدة فوقها.

فما السر وراء هذا التوافق العجيب بين ترتيب علمي لأقسام الحجارة وضعه علماء لا صلة لهم بالقرآن وتصنيف قرآني لأنواعها جاء به إخبار الوحي قبل عدة قرون من الزمان؟ ذلك ما سنعمل -وبالله التوفيق- على إظهاره من خلال وقوفنا على أهم الميكانيزمات المتحكمة في نشوء وتطور الأصناف الأساسية للحجارة التي منها سنحاول استجلاء الدلالات الإعجازية التي تحملها مطابقة العلم للقرآن في وصفه لها.

1- نشوء الأصناف الأساسية للحجارة

 الصخور الباطنية: يُعدّ هذا الصنف من الصخور الذي إليه يعود أصل الحجارة، أول ما ظهر من الصخر على وجه الأرض، إذ شكل أول مادة تصلبت على سطح الأرض بعد بزوغها من صهارة باطن الأرض. فالأرض عند بدء تكوينها كانت عبارة عن صهارة حامية تكورت في فضاء الكون إلى أن استقر بها المقام في مدارها حول الشمس. ولغاية سبقت في علم الله، شاءت قدرته تعالى أن يظل موقعها بعيدًا عن الشمس، فنزلت حرارتها إلى حد تصلب معه سطحها، فارتفع سمكه تدريجيًّا إلى أن كوّن قشرة لبّست الأرض غلافًا حفظها من خطر انتثار جوفها المثقل بالحرارة والضغط. وبفعل الطاقة الهائلة المنبعثة من صهارة باطن الأرض ظلت هذه القشرة خاضعة للتفاعلات الباطنية، فظهرت فيها تصدعات تفجرت منها سيول الصهارة التي تدفقت عبر فتحات تحددت بموجبها التقطعات التي من فجواتها سيعمل النشاط البركاني على ربط الصلة بين باطن الأرض وظهرها والتي ستشكل الحدود الفاصلة بين قطع السطح الوارد ذكرها في قوله تعالى: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ)(الرعد:4). أما باطن الأرض فظل منصهرًا، وظلت الصهارة تمور فيه في شكل وديان تجري داخل مسالك بطن الأرض، كما نجد الإشارة إلى ذلك واردة في قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)(الملك:16). فإذا وجدت هذه الصهارة متنفسًا عبر تصدعات سطح الأرض، صعدت إليه فتفجرت أنهارًا من حمم بركانية قد يصل سيلانها إلى عشرات الكيلومترات في الساعة (الصورة 1)، أو احتبست في مسالك القشرة إذا كانت لزوجتها عالية. وهذا هو عمل البراكين التي ما فتئت تصل باطن الأرض بسطحها، وتفجّر من فوهاتها -كذلك- أنهارًا من مياه حارة تتدفق أحيانًا على علو عشرات الأمتار كشأن بركان "Waimangu" بـ"نيوزيلاندا"، الذي فجر سنة 1904 حوالي 800 طن من المياه على علو 460 متر قبل أن يخمد[3]، أو كما هو مشاهد اليوم في "يلاوسطون" بـ"أمريكا" (الصورة 2). وهكذا إذا كان القرآن قد وصف هذا النوع الأول من الحجارة بالمتفجر منه الأنهار، فلأنه يشكل موطنًا لتفجر سوائل باطن الأرض على اختلاف أنواعها والتي تفرزها فاعليتها القوية، بدليل أن التفجير يقتضي قوة في الشد متولدة عن الضغط أو الحرارة وذلك ما يحصل في باطن الأرض، كما أن الأنهار ليست فقط من المياه ولكن مما يجري بمختلف السوائل بدليل قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى)(محمد:15). فإذا تفجرت الصهارة من باطن الأرض، جرت سيولها على السطح أنهارًا قبل أن تتصلب عليه أحجارًا.

 الصخور المتحولة: يُعد هذا الصنف، من الفروع الناتجة عن تحول صخور القشرة الأرضية التي إذا تعرضت إلى الكي الناجم عن تماسها مع صعود صهارة باطن الأرض الحامية، أو إلى التضاغط الشديد الناجم عن تدافع قطع السطح المتحركة، تجففت فتشققت ثم تحولت من نوعها الأصلي إلى نوع آخر. وفي هذا الصنف غالبًا ما يؤذي التحول إلى خروج الماء من الحجارة وحدوث تغير في خصائصها، بظهور تنضد (Schistosité) تتراص فيه الصفيحات الحجرية في مساحات متراكبة بعضها فوق بعض (الصورة 3). وهذا الشكل مشاهد مثلاً في حجر الطين الذي إذا وقع عليه إجهاد، تورق وتحول إلى حجر الشيست. وكذلك في  بعض المعادن التي إذا وقع عليها ضغط أو حرارة، أفرزت الماء وتحولت إلى أنواع أخرى كما تبين المعادلة التالية:

 الصخور الرسوبية: يُعدّ هذا الصنف من الصخور، ناتجًا عن تراكم الرواسب المجلوبة من تعرية ونقل مواد الصخور القديمة التي يعود أصلها الأول إلى الصخور الباطنية. فهي تتوضّع باستمرار فوق سطح الأرض، مكوّنة طبقات يرتفع سمكها مع الزمان ثم يهبط بفعل تكثف الصخور (Compaction) تحت ضغط الحمولة التي تتوضّع فوقها، والتي تطرد الماء والغازات من مسام الصخر كلما زاد ثقلها. فيهبط الصخر كلما زاد التراكم حتى لا يزيد سمكه عن حد مخلٍّ بميزان الأرض، وذلك حسب المنحنى المبين في الشكل 6:

هذا الشكل يظهر حقيقة الهبوط التي يخضع لها الحجر. فالمنحنى يعطي فكرة عن تكثف الرواسب بفعل ارتفاع التراكمات فوقها وانسداد مسامها مع الزمان. فعند توضع الصخر على سطح الأرض (عمق 0) يكون سمكه (Ho) ومساميته (фo)، وبعد تزايد التراكمات الرسوبية فوقه يهبط في عمق (Z) تحت الرواسب إلى سمك (Hz) تحت وطء الحمولة، وتنخفض مساميته إلى (фz)، فتكون نسبة الهبوط في مادة الصخر (T) حسب دراسة لمدرسة المعادن بـ"باريس"[4] وفق المعادلة التالية:

وهذا يدل على أن الصخر يهبط بمقادير تتوافق مع طبيعة تركيبته المحددة بمساميته، ومع ثقل ما توضع فوقه. فإذا تجاوز العمق حدًّا معينًا، خرج الصخر من خصائصه الرسوبية وولج عالم الصخور المتحولة.

ومن المميزات الخاصة بالصخور الرسوبية، احتواءها على بقايا وآثار الكائنات الحية محجرة بين مركباتها. وهذه البقايا والآثار نظرًا لاحتفاظها بعنصر الكربون، يمكن أن تشكل دلالات قيّمة لإدراك حقيقة هذا الهبوط. فهذا العنصر الكيماوي، يتكون باستمرار في أعالي الغلاف الجوي على هيئة ذرات مشعة (C14)، أما على سطح الأرض، سواء في المجال القاري أو البحري، فتحصل عملية توازن بين تكوين وانشطار ذرات الكربون. وبما أن الكائنات الحية تستمد نسبًا محددة من الكربون المشع من هذين الخزانين، فإن توقف الحياة فيها يعني توقف عملية تجديد مخزونها من الكربون المشع. فيبدأ هذا العنصر في التناقص التدريجي من المادة المتلاشية حسب معادلة دقيقة تخضع بالأساس لعامل الزمان، حيث ثبت بدراسات متخصصة أن محتوى المادة من الكربون المشع، يتناقص بنسبة تصل إلى نصف المحتوى الأصلي خلال 5700 سنة وإلى ربعه بعد 11400 سنة وإلى ثمنه بعد 17100 سنة وهكذا... وهناك طرق أخرى تمكّن من تقدير المدد الأكثر قدمًا تعتمد على عناصر مشعة متفاوتة الأعمار، كاليورانيوم والطوريوم والبوتاسيوم وغيرها... كلها تفيد أن تقدير عمر المادة يرتكز أساسًا على مبدأ تناقص العناصر المشعة منها بعد توقف الحياة فيها. فسبحان مَن أعجز علمُه كل الخلائق فقال وقوله الحق: (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ)(ق:4)، الذي أقر للأرض ميزانًا لا يختل أبدًا مهما تراكم فوقها من ركام الرواسب أو بقايا الكائنات إذ قال سبحانه: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا)(المرسلات:25-26)؛ بحيث كلما ارتفع الركام فوق الأرض إلا وضمته إليها وحضنته في ثناياها فيهبط مع الزمان حتى لا يختل ميزانها.

2- الدلالات الإعجازية

من خلال هذا العرض لأصناف الحجارة يتضح أن الصخور النارية شكلت الأصل الذي منه تفرعت باقي الأصناف، وهذا يظهر من نواحي عدة، على مستوى التوزيع الجغرافي لصخور الأرض، بحيث نجد أن أرض مكة التي كلية من الصخور النارية، شكلت في كتاب الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الأصل الذي تفرعت منه كل البراري على وجه الأرض. فالمعروف من خلال الآثار المرسخة في بقايا الصخور الأصلية للأرض أن الماء كان يغمر سطح الأرض بشكل كلي، وأن تواجده كان السبب في التغيير البطيء والتدريجي لملامح هذا السطح الذي أدى إلى نشوء القارات. فالماء كان أساس تقويم هذا النشوء نظرًا للدور الذي لعبه في تبريد الحمم البازلتية المتدفقة من باطن الأرض، حيث أنزل حرارتها بحوالي 450 درجة، محوّلاً الصهارة الملقاة على الأرض من حالة الذوبان إلى حالة التصلب، فتكوّنت على إثر ذلك قشرة الأرض التي ستعلو بعد ذلك في السمك وتمد في جميع الاتجاهات.

تحت هذه القشرة ظلت الصهارة تمور في باطن الأرض تحت درجات حرارة وضغط هائلة مفجرة من حين لآخر تدفقات من الحمم البازلتية التي كانت تلتحم بالقشرة وتمدها. ثم صعدت بالموازاة مع ذلك صهارة أكثر لزوجة من الأولى تشعبت في جذور تحت القشرة لتكوّن صخور الجرانيت. هذه الأخيرة نظرًا لكثافتها التي لا تتجاوز 2.7 مقارنة مع كثافة البازلت التي تفوق 3 اعتلت قشرة البازلت وكوّنت أول كتلة قارية على ظهر الأرض. هذه الكتلة نظرًا لبقائها ساخنة ولينة، ظلت مهيأة للمد والانبساط، فدحيت منها أراضي يابسة برزت على سطح البحر الكاسح. فتكوّن على إثر ذلك في بضع مئات الملايين من السنين ما بين 10 إلى 15% من الكتلة القارية، ثم بعد ملياري سنة تشكل ما يناهز ثلاثة أرباع المجال القاري للأرض[5]. لكن هل تم ذلك انطلاقًا من نقطة واحدة، أم من نقط متفرقة على الأرض؟ ذلك ما لم يتمكن العلم من الجزم به، لأن ما تشهد به الآثار المرسخة في الصخر، يُظهر أن المد تم عبر مراحل متقطعة ناتجة عن ديناميكية أرضية جد متغيرة مرتبطة أساسًا بالتطور المعقد لآلياتها. كما أن البقايا الأصلية لصخور قشرة الأرض الأولية لا تشكل سوى نسبة جد ضئيلة من القشرة الحالية نظرًا لعامل الانضواء الذي أتى على معظمها بالانصهار في باطن الأرض، وكذلك للتعرية التي تأتي على كل ما ارتفع فوق سطح الأرض. إلا أننا نجد في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفيد تصدر الكعبة في الزمان لعملية المد القاري على سطح الأرض.

فكما رأينا في الفصل الرابع من الباب الثاني أنه جاء في النهاية في غريب الأثر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانت الكعبة خُشعة على الماء فدحيت منها الأرض"[6]، وهو الحديث الذي -كما قلنا- إذا تلمسنا فهمه من خلال المعطيات الجيولوجية الحديثة، فسنجده يحمل تلميحًا إلى أن الكعبة قد تكون أول أكمة انبثقت من باطن الأرض المنصهر، حتى إذا ما برزت على سطح الأرض المغمور بالمياه وهي في مرحلتها الجنينية لزجة، دحيت منها اليابسة فانتشرت القارات.

من جهة أخرى نجد أن التقارير الجيولوجية تفيد بأن القطع القارية الأكثر قدمًا، والتي تبقى أيضًا الأكثر سمكًا والأقل كثافة، هي الأكثر استقرارًا من الناحية الجيولوجية نظرًا للتجفف الشديد الذي حصل لصخورها مع الزمان بإفراز الماء الذي يشكل عنصر هشاشة في كل جسم. وأرض مكة -كما نعلم- هي الأكثر أمنًا من الناحية الزلزالية كما تشهد بذلك خريطة توزيع الزلازل على سطح الأرض. وبالتالي هي الأكثر استقرارًا من الناحية الجيولوجية من أي بقعة فوق سطح الأرض بشهادة القرآن الذي وصفها بقول الله تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا)(القصص:57)، وبقوله أيضًا: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا)(العنكبوت:67)، بل وبالقسم الذي جاء في حقها في قوله تعالى: (وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ)(التين:3) الذي يضفي عليها من الاستقرار ما يدل على تفانيها في القدم. والدليل على أن أرض الحرم لم تعرف التصدع، ذكرُ الحديث النبوي الشريف لهزمة جبريل - عليه السلام - عند تفجير ماء زمزم في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حقها: "هي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل"[7]. والهزمة في اللغة هي: الطرقة القوية التي تُحدث بشدة الصوت التشقق. وذلك ما حدث بالفعل، إذ لا يمكن للماء أن يتسرب عبر صخور مكة النارية القاتمة الشديدة التبلّر التي ليست بها مسامية أو إنفاذ، إلا عبر الشقوق والفواصل التي أحدثتها تلك الهزمة فسمحت بإمرار الماء إلى السطح.

كما أننا نجد القرآن يقرر أن الكعبة هي أول موطن وضعه الله للإنسان على ظهر الأرض، وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران:96). وهو التقرير الذي جاء بصيغة التوكيد الدالة على أن الكعبة شكلت أول موقع أبرزه الله على سطح الأرض لتنطلق منه اليابسة. فقد جاء في تفسير القرطبي -رحمه الله- لهذه الآية، أن عليًّا بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم - عليه السلام -". ولذلك جاءت الإشارة في الآية بصيغة "للناس" وليس للمؤمنين فقط، للدلالة على مركزية الكعبة ليس في المكانة فحسب، ولكن أيضًا في المكان كأول بقعة أرض يابسة برزت على سطح الأرض المغمور بالمياه، لتكون منطلق إعمار الإنسان الأرض التي من أجله خلقت.

هذا على مستوى المراحل الزمنية لنشوء الأرض. أما على مستوى التوزيع المكاني، فنجد أن الكعبة التي شكلت مهد نشوء اليابسة ومنطلق دحوها، كانت دائما -وما زالت- تتوسط الأرض. بحيث إذا رجعنا إلى مختلف مراحل المد القاري للأرض ورسمنا دائرة على خريطتها نجمع فيها كل القارات، وجدنا مركزها في الكعبة، وتلك ذروة الكمال التي تمثلها الكعبة بالنسبة للأرض. فكانت من أجل ذلك (هُدًى لِلْعَالَمِينَ) كما وصفها الله - عز وجل - في مختتم الآية الكريمة.

وهكذا من خلال هذه القراءة العلمية الجامعة بين عناصر الواقع (الكعبة)، والعقل (الاستنتاجات الجيولوجية)، والوحي (الكتاب والسنة)، نخلص إلى أن الكعبة تبقى مرشحة لأن تكون أول نقطة بزغت منها الحجارة قبل أن تتفرع على وجه الأرض أصنافًا. فما ورد في الآيات الكريمة وفي الحديث الشريف إذا أخذناه من منظور العلوم الجيولوجية، فإننا سنجده يشكل دلالات قوية على أن الكعبة قد تكون شكلت منطلق الغلاف الصخري الذي منه تفرعت القارات، ونوزعت بمختلف أصناف الحجارة على ظهر الأرض. إلا أن هذه الاستنتاجات، ومع قوتها العلمية، لا ينبغي أن تؤخذ فقط من زاوية التحوير المادي، لأن ما تستبطنه الإشارات التي جاءت بها العبارات القرآنية على المستوى المعنوي، له دلالات أعمق بكثير مما يمكن أن نتصور. فالوصف القرآني لما وضع المقارنة بين القسوة وأثر الماء، جاء بمقاربة وظيفية بين عمل الماء على الحجارة وعمل الإيمان على القلوب، كما جاء في تفسير ابن كثير لقول الله تعالى: (وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)(النحل:65)، حيث قال رحمه الله: "وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها، كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزل عليها من السماء من ماء". فجميع أنواع الحجارة التي جاءت بها الآية موضوع هذا الفصل تُخرج الماء الساكن فيها إذا وقع عليها ضغط أو حرارة. فهي إذن، تتفاعل مع محيطها بحكم احتوائها على الماء الذي كلما زاد فيها إلا وزادت معه قابليتها للتحول. أما إذا انغلق الصخر على محيطه اشتدت كثافته بالتجفف المزمن فانسدت مسامه وانعدمت منه النفاذية فصار أشد قساوة.

ولذلك جاء الوصف القرآني مشبهًا دور الإيمان في تليين القلوب، بدور الماء في مطاوعة الحجارة، لأن تلك القلوب إنما قست من جراء انغلاقها في غشاوة عزلتها عن تعاليم السماء التي هي المؤثر الفطري على خشوعها، تمامًا كما انعزلت الحجارة عن الماء الذي هو المؤثر الطبيعي على تليينها. فتعطل بذلك السلك الواصل بين سطح الجسم وباطنه مما انعكس عليه سلبًا بالقساوة. فكما يفعل الماء بالحجارة لما تكون نفاذيتها عالية فتربو وتهتز، كذلك يفعل الإيمان في القلوب لما تكون قابليتها للذكر والتفكر عالية فتوْجل وتخشع.

إشارة القرآن إلى مد الأرض ونقصانها من أطرافها

جاءت الإشارة إلى نقصان الأرض من أطرافها في سورتين كريمتين من القرآن الكريم: سورة الرعد، الآية 41 في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)، وسورة الأنبياء، الآية 44 في قوله تعالى:

(أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا). وفي كلتي السورتين نجد النص القرآني يخاطب الإنسان من خلال وحدة بنائية تتكامل فيها عناصر الواقع والعقل والوحي تكاملاً يجعل المتدبر لكتاب الله إن هو انطلق من عالمي المشاهدة الحسية لواقع الكون والتفكر العقلي في نواميسه، يصل من خلال تناظر يقينيات الكون مع آيات الكتاب إلى الإقرار بعالم الغيب.

وذلك ما نجده مفصلاً في سورة الرعد التي ترتبت الآيات في مطلعها في ثلاثة أنواع من الخطاب متناظرة مع عوالم الكون الثلاثة: عالم الشهادة وهو الواقع المشاهد المحسوس الذي جاءت الآيات تذكرنا به، وعالم الغيب النسبي وهو المغيب المدرك بقوة العقل، وعالم الغيب المطلق وهو المغيب المستمد من إخبار الوحي. فالسورة افتتحت بقوله تعالى:

(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ)(الرعد:1) لوضع الإنسان في صلب العقيدة الذي حوله تتمحور عوالم الكون الثلاثة. ثم تفتح السورة مباشرة أمام القارئ نافذة على العالم الأول الذي هو الكون المشاهد في قوله تعالى: (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا)(الرعد 2) لتحرك فيه حواس المشاهدة والملاحظة. ثم تنقله بعد ذلك إلى العالم الثاني الذي يشمل ظواهر كونية غير مشاهدة بالرؤية المباشرة ولكنها تدرك بالجهد العقلي، وذلك في المقطع الذي يقول فيه تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(الرعد:3-4). تلك الظواهر من مد الأرض وإرسائها بالجبال، وتقطيعها إلى قِطع متجاورات وما إلى ذلك، مما لم يكن ليظهر للإنسان لولا تقدم وسائل الكشف العلمي الذي أنتجه العقل البشري، كما نستشف ذلك من قوله تعالى في وسط المقطع: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، وقوله تعالى في آخره: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، لتنتهي الرحلة بالإنسان في هذا المطلع من السورة إلى العالم الثالث والأخير الذي هو عالم الغيب المطلق، حيث تسرد عليه الآيات مشاهد يوم القيامة في قوله تعالى:         (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(الرعد:5)، ذلك الغيب الذي يؤكده قوله تعالى في آخر هذا المطلع: (اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)(الرعد:8-9).

فإذا كان مشهد الآية التي جعلناها محور هذا الفصل غير مرئي بالرؤية المباشرة، مع العلم أن الخطاب الذي جاءت به صيغتها يستفسر عن سبب عدم الرؤية له: (أَوَلَمْ يَرَوْا)، (أَفَلاَ يَرَوْنَ)، فذلك يعني أن نقصان الأرض من أطرافها يستحق من حيث الدلالة جهدًا عقليًّا لإدراكه الإدراك العلمي. فكيف يمكن إذن من خلال معطيات العلم الحديث أن نجسد هذا المشهد؟

جاء في الاصطلاح اللغوي أن الطرف هو منتهى الشيء، وقيل ما جاوز حد الاعتدال. وطرف النبات هو ما كان في أكمامه. وأطراف البدن هي اليدان والرجلان والرأس. ومصدر فعل نقص هو النقص أو النقصان. إلا أن النقصان له دلالة أدق، إذ يفيد القدر الذاهب من المنقوص فيقال نقصانه كذا وكذا. وذلك ما جعلني أستعمله في النص، لأن مثل هذه الظواهر المذكورة في كتاب الله يخضع تدبيرها لدقة بالغة في التقدير يدل عليها قوله تعالى في الآيات السابقة: (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ). فالأرض ككوكب كروي الشكل لا نجد لها مشهدًا يظهر حقيقة هذا النقصان الذي يسري على أطرافها، أروع من ذاك المجسد في حدود التصادم بين قطع سطحها المتجاورات، حيث تبرُز في الطرف المدفوع إلى الأعلى النتوءات السطحية الأكثر ابتعادًا عن جسم الأرض، وهي الجبال التي كلما زاد ارتفاعها عن الحد إلا وأتت عليها عوامل التعرية بالنقصان، وحيث يندس في الجهة المقابلة الطرف المنضوي وهو المنتهي عمره في عمق الأرض المنصهر ليُهضم في بطنها بالذوبان كما تبين الصورة 4:

فالجبال هي نتوءات منبثقة من الغلاف الصخري للأرض المسمى "ليتوسفير" المكون من صفائح وردت الإشارة إليها في قوله تعالى    (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ)(الرعد:4). وهذه الصفائح التي يصل سمكها إلى ما بين 60 و150 كلم، هي عبارة عن ألواح تطفو على الصهارة اللزجة لنطاق الضعف الأرضي المسمى "أستينوسفير" الذي يمتد في بطن الأرض إلى عمق 700 كلم. هذا النطاق يتميز بانصهار مكوناته وبوجود تيارات حمل حراري تجعل الصهارة لا تنقطع عن المور والدوران، مما يبقيه على سيولة عالية تسهل تحريك قطع الغلاف الصخري على ظهره، بل ويعتقد أنه المحرك الأساسي لها نظرًا لما ينتجه جريان الصهارة فيه من طاقة محركة لما فوقه كما نستشف ذلك من قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ)(الملك:16). والمور عند العرب هو: الموج والجريان، وقيل: أماره أي أساله.

وبذلك يبدو سطح الأرض كبساط يطلق من موضع طيه الكامن في عمق الصدع، حيث الصهارة تمور ليتدحرج على ظهر الأرض مكونًا قشرة تقسو ويزداد سمكها كلما ابتعدت عن خط الصدع. وتلك إشارة سبق ذكرها في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ)(الرعد:3). فمد الأرض يبدأ بتدفق الصهارة من بين قطع الأرض المتباعدة، كما يظهر على خط صدع وسط الأطلسي الذي يعزل قطعتي أمريكا وأفريقيا، والذي يبدي على مستوى خط الاستواء تكاملاً في الشكل ما بين الحافة الغربية لأفريقيا والحافة الشرقية لأمريكا الجنوبية، وينتهي ببروز المرتفعات في الجهة المعاكسة عند خطوط التصادم التي تفضي إلى انضواء طرف إحدى القطعتين تحت الأخرى وانصهاره في باطن الأرض، وإلى ارتفاع سمك الطرف المقابل وبروز المرتفعات الجبلية بفعل التضاغط كما هو مشاهد على الطرف الغربي لأمريكا الجنوبية، حيث تبرز سلسلة جبال الأنديز على طول خط التصادم بين صفيحتي أمريكا الجنوبية والمحيط الهادئ وهو ما يبينه الشكل السابق.

وهذا يظهر جانبًا مهمًّا من جوانب نمو قشرة الأرض عند أطرافها المتباعدة حيث الصهارة تتدفق وتقسو، وجانبًا آخر من جوانب تقلصها حيث التصادم يفضي إلى انضواء طرف إحدى القطعتين في عمق الأرض المنصهر فينقص بالذوبان في أنيارها، وإلى ارتفاع سمك الطرف الآخر المضغوط عليه، وتكوّن سلاسل جبلية كلما تجاوز ارتفاعها حدًّا معينًا إلا وأتت عليها عوامل التعرية السماوية بالبري والنقصان. وتستمر العملية في تناسق بديع بين جانب تنشأ فيه قشرة الأرض وجانب تفنى فيه. فيكون سطح الأرض بمثابة بساط من قطع تنمو عند أطرافها المتباعدة وتنقص عند أطرافها المتدافعة، وما نقص من هذا الجانب، يُزاد في الجانب الآخر وفق حلقة مغلقة قُدر فيها عمر مادة السطح بين نشوئها وفنائها بحوالي 200 مليون سنة.

هذا السطح الذي تستدير أطرافه حول الأرض استدارة كروية من كل الأقطار، يجعل دورة الأرض حول محورها تجري في إيقاع بديع وتوازن محكم. ولمعرفة درجة الاستدارة في كوكب الأرض، يمكن أن نشبه الأرض بقطعة حجرية، ونطبق عليها المعادلة الرياضية التي وضعها عالم الرواسب الفرنسي "Berthois"[8].

هذه المعادلة، تمكّن من حساب درجة اللاتماثل عن طريق قياس مسافة الخط الواصل بين قمة أعلى محدب في تلك القطعة (أ) وبين التقاطع المتعامد معه المسقوط على أقصى طرف من القطعة (ب)، ثم قسمة هذه المسافة (أب) على أكبر طول للقطعة (ط)، كما يبين الشكل 7:

 فإذا افترضنا الأرض منبسطة -وهو الفكر الذي كان سائدًا قديما- فسوف لن يكون هناك تحدب متميز يمكن اعتباره لقياس مساحة الخط (أب). وعليه فسيتمدد هذا الخط بتمدد طول الأرض المنبسطة (ط)، ويميل إلى معادلته. وبذلك سترتفع درجة اللاتماثل لتساوي 1. وهذا يعني أن الشكل لن يبدي أثرًا للتماثل، الشيء الذي لا ينطبق على ما وصفت به الأرض في القرآن الكريم من صفات التكوير المتجلية في تناظر الليل والنهار الوارد في قوله تعالى: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ)(الزمر:5)، وفي تزاوج المشارق والمغارب على سطح الأرض الوارد في قوله تعالى: (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ)(الرحمن:17)، وما إلى ذلك من المشاهد التي تستدير على سطح الأرض بتعاقب الفصول على مر السنين والأعوام، لتضفي على ظهر الأرض تداولاً متكافئًا لتعاقب الظواهر على تطاول الزمان وامتداد المكان، بل ولفوجئ الإنسان وهو يحول أطراف الأرض بحواف خطيرة تهوي به إلى فراغ سحيق.

أما إذا انطلقنا من مبدأ كروية الأرض وهو الوصف الصحيح الذي أجمعت عليه الكشوف العلمية ولمحت إليه الآيات القرآنية، فإن خاصية التماثل الكروي ستتجلى لنا من جميع الاتجاهات، بحيث إن أي جهة رصدناها من الأرض، سنجدها تتماثل مع الجهة المعاكسة لها. فإذا تم هذا المشهد تساوت مسافة (أب) مع نصف طول الأرض (ط\2)، فصارت درجة اللاتماثل في الأرض تساوي النصف (1\2) الذي يعني منتهى الكمال في التماثل الكروي، كما يبين الشكل 8:

 فلا يمكن إذن أن يصير التماثل كاملاً في الأرض ما لم تتساوى فيها الأطراف حول محور معين. ذلك هو محور الدوران الذي يضمن للأرض حركتها اللولبية المتوازنة. فإذا زاد أي طرف من الأرض عن حده من هذا المحور، أتت عليه العوامل الخارجية بالإنهاك أي البري وهو النقصان.

ولتأكيد هذا المعنى، سنقف على المشهد من خلال معالجته من زاوية حركية الأرض.  فمدلول كلمة أطراف كما سبق ذكره هو منتهى الشيء. وفي الاستعمال القرآني قد يراد به الجبال كما يظهر من خلال تفسير القرطبي لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اْلأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)(الملك:15)، حيث قال رحمه الله: أي في أطرافها، وأضاف أن ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب قالوا في جبالها. إذن المعنى هنا يحمل على قمم الجبال، باعتبارها الأطراف المتمادية في الابتعاد عن جسم الأرض.

ولتجسيد هذه الظاهرة يمكن أن نشبه المشهد بعملية احتكاك تحصل لأية قطعة حجرية تدور في حركة لولبية بمحاذاة جسم خارجي حاد. فهي لابد أن تتآكل من أطرافها وتميل إلى الاستدارة.

ولمعرفة درجة تآكل أطراف القطعة، يمكن استخراج درجة البري المطبق على أطرافها (Degré d'émoussé) عن طريق قسمة ضعف شعاع أصغر دائرة تشكلها محدبات أطراف القطعة في اتجاه الطول (ش)، على طول أكبر خط مستقيم يصل بين طرفي تلك القطعة (ط)، كما بيّن ذلك Berthois في الشكل 9:

وهذا يعني أن شكل القطعة سيصير أكثر كروية كلما تساوت أطرافه حول مركزه، أي اقترب ضعف الشعاع وهو القطر من الطول. فإذا تساوى قطر الشكل مع طوله في جميع الاتجاهات، تمت كرويته كما هو مبين في الشكل الأخير. بينما يبتعد عن التكوير كلما تباعدت أطراف منه عن مركزه وشكلت تحدبات منزوية تختلف أقطارها عن طول الشكل. وذلك ما لا يمكن أن يحصل في شكل الأرض، لأن نتوءاتها الجبلية ما إن تنزوي في أطراف معينة من الأرض وترفع قممها، حتى تأتي عليها مؤثرات السماء بالنقصان، فلا تخرج الأرض عن إطار شكلها الكروي.

 فسطح الأرض الذي يظهر انبعاجًا نسبيًّا عند مناطقه الاستوائية وتفلطحا نسبيًّا عند مناطقه القطبية، يعبر في تسويته تعبيرًا دقيقًا عن حقيقة النقصان الذي يتعرض له من جراء دوران الأرض حول محورها. فالأرض في دورانها اللولبي، تتعرض في مناطقها الاستوائية إلى قوة نابذة مركزية (force centrifuge) تحدث لها انبعاجًا مستمرًّا في هذه المناطق. ويقترن ذلك مع تضاؤل قوة الجاذبية المركزية للأرض، وبروز النتوءات القارية التي تُرسي في هذه المناطق أهم المرتفعات الجبلية، كما يظهر على خريطة الكرة الأرضية.

وعليه، فبما أن هذه العملية (عملية الانبعاج وبروز النتوءات)، على استمرارها لا تقوى على مجاوزة عتبة الارتفاع، فهذا يعني أن تكافؤا ما هنالك قائم بين نتوءات الأرض المتمركزة في مناطق انبعاجها وبين مضاداتها في السماء التي هي عوامل التعرية التي تعمل باستمرار على تخليص الأرض مما زاد عن حد الارتفاع بالنقصان.

وذلك ما يؤكد صحة المشهد الجيولوجي في تجسيده لنقصان الأرض من أطرافها، إذ لولا هذا النظام التكافئي المحكم بين نمو سطح الأرض عند حدود التباعد بين قطعه من جهة، وفنائه بالنقصان عند حدود التصادم في الجهة المعاكسة التي فيها تنضوي الأطراف فتنصهر في بطن الأرض وترتفع الأخرى فتنبري في جو السماء، لاختل توازن الأرض في دورانها ولمادت بما عليها. فسبحان من صور لنا هذا المشهد الرائع لقرار الأرض بين شموخ جبالها وتوازن حركتها، فقال وهو أصدق القائلين: (أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)(النمل:61).

معادلة التكافؤ الجيولوجي تجسد الجبال أوتادا

تعبر كيفية نصب الجبال على سطح الأرض عن هندسة رائعة في البناء ودقة فائقة في الإحكام. فهي تجسد الدور البنيوي الذي تقوم به الجبال في عملية تسطيح الأرض، كما تدل على إسهامها الفعال في إرساء توازن القشرة الأرضية على سطح الأرض نظرًا لما تشكله هذه المرتفعات من تجدر في عمق القشرة الأرضية يجعلها تشد وثاق السطح المكون من ألواح متحركة إلى باطن الأرض المنصهر. فلقد تحدى الخالق - سبحانه وتعالى - بهذه الإبداعات التي أرسى بها سطح الأرض، المجادلين في كتابه بقوله - عز وجل -: (أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)(الغاشية:17-20)، للدلالة على ما تحمل طياتها وما تترجم بنيتها من تعبير معجز عن مدى التكافؤ الحاصل بينها وبين السطح الذي نصبت عليه. فالسطح يشكل قاعدة لحمل هذه الجبال، والجبال تشكل رواسي له تضبط حركته وتوازنه. ذلك التوازن الذي يتجلى بالخصوص في أماكن تواجد هذه الكتل الصخرية الشامخة، متجاورة في محيطها الطوبوغرافي مع الأعماق السحيقة من بحار وأودية وفجاج عميقة، الشيء الذي يوحي بوجود قوة هائلة تعمل على إرساء هذه المرتفعات، وتدعّم سلاسل بأكملها في توازن محكم مع تشكيلة سطح الأرض المتباينة.

هذا التوازن الذي ترسي به الجبال قطع السطح بفعل معادلة التكافؤ التي تحكمها بين باطن الأرض وسطحها، يتجلى في التكافؤ الحاصل بين الصعود المستمر للصهارة الباطنية للأرض وبين إلقائها على السطح، ثم امتدادها اللامحدود اللذين شكّلا الآلية المركزية لتسطيح الأرض وإرساء جبالها. ويعتبر هذا التكافؤ سببًا في إبقاء قشرة البازلت التي تلبس قاع المحيطات، أقل سمكًا من قشرة الجرانيت التي ترفع القارات إلى مستويات عالية، وذلك قصد إقرار توازن بين كتلتي البازالت التي تقارب كثافتها 3 نظرًا لتركيبتها السيليكومغنيزية (Sima) والجرانيت ذات التركيبة السيليكوألومينية (Sial) التي لا تتجاوز كثافتها 2.7. الشيء الذي أدى إلى تشكيل المظهر السطحي للأرض بين قارات يقدر فيها معدل الارتفاع بـ300 متر فوق سطح لبحر ومحيطات يبلغ معدل عمقها 4800 متر. وكأن هذا الفارق بين ارتفاع القارات وانخفاض البحار الذي يقارب الخمس كيلومترات (300 + 4800)، هو تعويض عن الفرق في الكثافة بين سطح اليابسة السميك الأقل كثافة وقاع المحيطات الكثيف الأقل سمكًا. وعلى أساس هذا التوازن الحاصل بين مرتفعات الأرض ومنخفضاتها، أرسيت معادلة التكافؤ الأرضي (Isostasy)، التي أظهرت بالتحليل الحسابي السر من وراء وصف القرآن الكريم للجبال بالأوتاد. فكيف ذلك؟

إذا كان معدل ارتفاع القارات يقدر بـ0.3 كلم على مستوى سطح البحر، وكان معدل كثافة صخورها 2.7، ثم إذا كان معدل عمق البحر يقارب 4.8 كلم، فإن سطح الأرض سيبدي لنا مفارقة بين عالمين لا يمكن استيعاب دلالاتها إلا من خلال ضبط معادلة التوازن بين قشرتي البر والبحر. فالمجال القاري يشكل كتلة صخرية تطبق على سطح الأرض قوة ضاغطة قدرها (0.3 × 2.7) أي 0.81. أما مجال البحر فيشكل كتلة مائية كثافتها 1 تطبق لوحدها على السطح قوة ضاغطة قدرها (4.8 ×1) أي 4.8. وهذا يعني إذا وقفنا عند هذه العناصر أن ميزان الثقل يميل ميلاً كبيرًا إلى جانب البحر (4.8>0.81). وعليه وبما أن الميزان لا يمكن أن يختل بهذا الشكل، فالأمر يستدعي إقحام عناصر أخرى غير مباشرة لا تتم معادلة التكافؤ بين المجالين إلا بها. وهذه العناصر تكمن في خبايا ما تحت القارات وتحت البحار. فالقارات لكي تثبت على السطح، ينبغي لها أن تغرس في قشرة الأرض الجرانيتية إلى عمق لا نعرف مداه (ع). أما البحر فهو محمول على قشرة البازالت ذات كثافة 3 التي يقارب سمكها سمك قشرة الجرانيت ناقص سمك كتلة الماء التي تعلوها (ع – 4.8) كما يبين الشكل 10. وعليه فحتى يحصل التوازن بين الجانبين، لابد لهما من التكافؤ حسب المعادلة التالية:

← (03 × 2.7) + (ع × 2.7) = (4.8 ×1) + (ع- 4.8)×3

وهذا يبين صحة ما سبق أن قلناه من كون سمك قشرة القارات يرتفع تحت مستوى سطح البحر بأضعاف كثيرة مما هو عليه فوقه. بحيث إذا استخلصنا من معادلة التكافؤ عمق قشرة القارات تحث مستوى سطح البحر (ع)، فسنجده يساوي 34.6 كلم، أي ما يقارب 100 مرة السمك الذي يطفو منها فوقه. وهو دلالة على أن التوازن لا يمكن أن يحصل بين البر حيث المرتفعات والبحر حيث القيعان العميقة، إلا إذا وجدت تحت اليابسة كتلة سميكة من الصخر يعوض ثقلها الفارق في الوزن مع المجال البحري.

فإذا فهمنا هذا المعنى، وطبقناه على جبل يبلغ ارتفاعه -مثلاً- 2000 متر فوق سطح البحر، وافترضنا عمق البحر في المعدل العام الذي هو 4800 م، فستكون معادلة التكافؤ كالتالي:

(2 × 2.7) + (ع × 2.7) = (4.8 ×1) + (ع- 4.8)×3

ويكون عمق القشرة تحت الجبل (ع) يساوي 50 كلم؛ أي ما يعادل 25 مرة مقدار ارتفاع الجبل فوق مستوى السطح كما يبين الشكل 11. أما إذا كان ارتفاع الجبل -مثلاً- هو 5000 متر، فسيكون عمق القشرة تحته يساوي 77 كلم. وهذا يعني أنه كلما ازداد ارتفاع الجبل إلا وزاد عمقه تجذرًا في الأرض.

وهكذا لا يمكن لأي جبل نُصب على سطح الأرض أن يستقر لولا انغراسه العميق في القشرة الأرضية. الشيء الذي تثبته القياسات الجيوفيزيائية التي بينت أن سمك القشرة الأرضية يزداد تحت كل جبل، بنسبة تفوق القدر الذي يرتفع به الجبل عن مستوى السطح بعشرات الأضعاف. فلئن كان الظاهر من الجبل هو ما يطفو على سطح القشرة، فإن جزأه الأكبر يبقى مغروسًا داخلها مكوّنًا بذلك كتلة صخرية توتّد الجبل في عمق الأرض. وهذا يعني أن نصب الجبال على ظهر الأرض، هو شبيه بنصب الخيام حيث تدق لها الأوتاد في الأرض لتشد الوثاق. فسبحان من وصف لنا هذا المشهد في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)(النبأ:6-7). ذلك المشهد الذي يستحق من حيث دلالاته العلمية أكثر من تحليل نظرًا لما يشكله من دعامات لحفظ توازن سطح الأرض وضمان استقراره. فالقشرة الأرضية هي عبارة عن ألواح متجاورات تطفو على صهارة لزجة وكثيفة تمور في عمق الأرض. وبما أن الأرض تدور بما تحمله حول محورها، ثم نظرًا لخضوع أطرافها لجاذبية القمر الذي يدور بدوره حولها، فإن ذلك يستدعي إيجاد آليات لتثبيت هذه الألواح حتى لا تميد. وتلك هي الجبال التي هي في واقع الأمر، نتوءات ناتجة عن ارتفاع سمك القشرة الأرضية في نقط معينة، تصل السطح بباطن الأرض في نظام محكم بجذور ثابتة، تغوص إلى أضعاف القدر من السمك الذي تطفو به الجبال على السطح. ولولا هذا النظام المحكم، لزالت القشرة من على السطح ولفقد السطح تماسكه. وهذا يظهر جانبًا مهمًّا من جوانب العمل الذي تقوم به الجبال في إرساء توازن الأرض بفعل عملية التثبيت التي تُحكم بها حركة قطع السطح، والتي لولاها لطغى جانب على الآخر ولمادت الأرض بما عليها كما نستبين ذلك من قول الله - عز وجل -: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ)(الأنبياء:31).

وهكذا كلما ارتفع الجبل فوق السطح كلما ازداد جذره عمقًا في الأرض (الشكل 12)، كشأن كتل الثلج، كلما ازداد ارتفاعها فوق الماء كلما هبطت أكثر فيه نظرًا للفارق في الكثافة بين الثلج والماء. وهذا الوضع جعل من المرتفعات الجبلية مناطق أقل جاذبية نظرًا لضعف كثافة الكتل الصخرية التي تحملها تحتها، والتي يرتفع سمكها بارتفاع هذه الجبال على سطح الأرض. الشيء الذي سبق لعالم الجيولوجيا الإنجليزي "جورج إيري" أن وضع نموذجه قبل أكثر من قرن من الزمن، حيث أعلن سنة 1865 أن السلاسل الجبلية هي في واقع الأمر كتل صلبة تطفو على صهارة من مواد أكثر كثافة، ولكي تحافظ على انتصابها كان لابد لها من جذور عميقة تغوص بها في تلك الصهارة إلى مستويات تفوق بكثير ما يطفو منها على سطح الأرض.

 فماذا لو علم هذا العالم أن ما وصل إلى الكشف عنه ببحثه العلمي ومجهوده العقلي سبق للقرآن الكريم، أن أشار إليه بأبسط العبارات الإعجازية وأدق الأوصاف البيانية، ألا وهي كلمة "أوتاد"؟

فسبحان من سبق علمه كل العلوم وحيّر وصفه كل الفهوم، فكان استفساره عن كيفية نصب الجبال تحدٍّ للعموم، ذلك الاستفسار العلمي الذي نزل به الوحي قبل أربعة عشر قرنًا مخاطبا به المجادلين في آياته، والذي جاء زمن التقدم العلمي والتكنولوجي بالإجابة عنه مفصلة على أيدي هؤلاء أنفسهم، بما كشفت عنه علومهم من أسرار جسدت لهم الجبال أوتادًا. وكأن ذلك الاستفسار كان موجهًا لهم منذ ذلك العهد، لأن المجتمع الذي نزل فيه زمنَ الوحي كان مجتمعًا بدائيًّا، ليس له من مقومات العلوم الكونية حتى أبجدياتها. فكانت الإجابة التي جاء بها التقدم العلمي لهذا الزمان، دليلاً علميًّا على إعجاز كتاب الله، وشهادة موثقة على تحقق الوعد الإلهي الذي ما جعل مشعل العلوم يطير إلى أيدي هؤلاء المجادلين إلا ليتحقق فيهم قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)(فصلت:53). وإلا فكيف كان سيظهر عليهم قوله تعالى: (سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا)(النمل:93)، وقوله سبحانه: (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)(ص:88) لو لم يصبحوا على ما هم عليه من التقدم العلمي والتكنولوجي. مما يظهر أن كل صيحة من علومهم، إنما هي صيحة للدين جاءت مدوية لهم بحيرة جديدة بين ما هم عليه من عناد وطعن في الدين، وما تظهره لهم كشوفاتهم وأبحاثهم العلمية من جديد اليقينيات الدالة على صدق كتاب الله - سبحانه وتعالى - وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وصدق الله العظيم حيث قال: (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(ق:5).

 حركة الجبال في إشارات القرآن الكريم

من المفارقات الغريبة في آيات الجبال، أن تجد الإشارة وردت إلى الجبال في مواضع من كتاب الله دالة على حركتها كقوله تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ)(النمل:88)، وفي مواضع أخرى دالة على ثبوتها كقوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)(النبأ:6-7). كما أن من الأسرار العجيبة في شأنها أن تجد كتاب الله يخاطب بجانب الطور الأيمن، علمًا بأن "الطور" جبل والجبال لا يُعرف لها أمام من خلف حتى يُحدد لها جانب أيمن وآخر أيسر. فما السر الذي تخفيه هذه الإشارات بشأن وضع الجبال على سطح الأرض؟

من خلال وقفة تأملية على تحليل مواصفات كل من الجبال والسحاب، نجد أن الجبال في الأرض يقابلها السحاب في السماء. وعليه فقد يتصور المتأمل لهذا التشبيه من خلال الآيتين، أن المقصود بمر الجبال -وهي الثابتة على الأرض- دورانها معها، كما نرى السحاب من الأرض يمر في جو السماء وهذا وارد. إلا أن المعاينة الدقيقة لهذه المقابلة تفرز عن أوجه أخرى للشبه، تتعدد بتعدد القواسم المشتركة بين السحاب والجبال. فإذا كان السحاب هو كتل هوائية من الغلاف الغازي للأرض، محمولة في شكل قطع تحركها تيارات الرياح الناتجة عن الفارق في الضغط والكثافة بين مستويات جو الأرض الغازية، فإن الجبال هي أيضًا كتل من الغلاف الصخري للأرض، محمولة على قطعه المتجاورات التي تحركها تيارات الحمل الحراري الناتجة عن فارق الضغط والكثافة بين مستويات باطن الأرض التي تمور. هذا عن الشكل، أما عن الحركة؛ فكما أن السحاب يبدأ سيره بحركة عمودية ناتجة عن تبخر مياه سطح الأرض التي تصعد في شكل كتل هوائية دافئة إلى الأجواء الباردة، ثم تتحرك أفقيًّا بعد تضائل كثافتها إلى أن تصل رطوبتها إلى درجة التشبع فتنتهي مطرًا، فكذلك الجبال تبدأ نشأتها من حركة عمودية ناتجة عن مور باطن الأرض الذي يصعّد الصهارة المحركة لقطع السطح، فينجم عن ذلك إما التواء طبقات القشرة الأرضية تحت وقع الضغوط الجانبية وارتفاع جزئها الأعلى وتلك هي الجبال البنيوية، وإما تدفق الصهارة التي تقسو على السطح بعد تبردها وتشكل نتوءات مرتفعة وهي الجبال البركانية. ثم تتحرك كل من هذه الجبال أفقيًّا مع الصفائح التي تُقلها، إلى أن تنتهي بالانصهار في باطن الأرض أو بالتعرية على سطحها، (الصورة 5).

وعليه فإن العناصر الأساسية في تحريك كل من السحاب والجبال تكاد تكون مطابقة لبعضها. ولهذا جاءت الآية الكريمة، مشبهة حركة الجبال بمر السحاب لبيان القصد من المعنى، لأن المر هو سير لمرة واحدة في اتجاه واحد صوب وجهة لا رجعة فيها كما جاء في الاصطلاح اللغوي: مرّ، أي جاز وذهب. فكان المقصود -والله أعلم- بذلك التشبيه، إرجاع أبصارنا إلى تلك الحركة التي يبديها لنا السحاب بين نشوئه ونهايته لعلنا إذا استوعبناها، وجدناها دالة بالحس والمعنى على حقيقة حركة الجبال، تلك الحركة الحثيثة التي لا نلمسها إلا بقياسات علمية دقيقة نظرًا لعظمة بنيان الجبال وطول أعمارها وبطء حركتها، مقابل محدودية أبصارنا وقصر أعمارنا وسرعة حركتنا فنحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب.

أما قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) الذي يفيد ثبوت الجبال، فقد بينتُ في الفصل السابق بالمعادلات الحسابية، أن الجبال لا يمكن لها أن تنتصب على سطح الأرض وتستقر لولا انغراسها العميق في القشرة الأرضية. وأوضحت من خلال ذلك التحليل، أن سمك القشرة الأرضية يزداد تحت كل جبل، بنسبة تفوق القدر الذي يرتفع به الجبل عن مستوى السطح بعشرات الأضعاف. فلئن كان الظاهر من الجبل هو ما يطفو على سطح القشرة، فإن جزأه الأكبر يبقى مغروسًا داخلها، مكوّنًا بذلك كتلة صخرية توتّد قطعة السطح التي تحمله في عمق الأرض. وهذا يعني أن نصب الجبال على ظهر الأرض، يقوم بدور الموتّد لقطع السطح، كما تقوم الأوتاد التي تدق في الأرض بشد وثاق الخيام، وكما ترسي الأثقال المدلية في قعر البحر السفن عل ظهره.

وهذا المعنى تكتمل صورته من خلال وقوفنا على اللفتة البيانية التي خاطب بها كتاب الله في شأن جبل "طور" الذي كلّم الله منه نبيه موسى - عليه السلام - بـ"سيناء". فذكر لنا سبحانه، لما قص علينا النبأ، جانب الطور الأيمن، وجعله في آية أخرى الجانب الغربي، حتى يدلنا من خلال تحديد المواقع على أسرار ما تخفيه المواضيع. فقال - عز وجل - في سورة مريم: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)(مريم:52)، وقال في سورة طه: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ)(طه:80)، ثم قال أيضا: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ)(القصص:44).

وعليه، فلئن كان كتاب الله - عز وجل - قد أشار إلى شاطئ الوادي الأيمن في قوله تعالى: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ)(القصص:30)، فلأن مجرى الوادي الموجه من المنبع إلى المصب بموجب عامل الانحدار الطوبوغرافي، يحدد له الأمام وبالتالي ضفته اليمنى وضفته اليسرى. أما أن يخاطب كتاب الله بجانب الطور الأيمن، والطور هو جبل، أي كتلة صخرية لا يُعرف لها أمام من خلف حتى يحدد لها اليمين من الشمال، فذلك يبقى من الأسرار التي لا يمكن فك رموزها إلا بحس علمي عميق.

هذا الحس، يمكن استقراءه من المعطيات الجيولوجية الحديثة وخاصة البنيوية (Plate tectonics) التي تبين أن سطح الأرض مكون من قطع متجاورات تشكل صفائح تتحرك باستمرار فوق صهارة باطن الأرض اللزجة. إلا أن حركة هذه القطع لا نلمسها نظرًا لشدة بطئها إذ لا تتعدى في أقصى الحالات بضع سنتمترات في السنة. وهي التي تسبب الزلازل والبراكين وما إلى ذلك. ويمكن تشبيه الواحدة من هذه الصفائح، ببساط صخري ينشأ عند حزام الصدع في مناطق الاتساع، حيث تتنافر قطع السطح وتطفو الصهارة فتلقى على جنبات الصفائح، ثم تبرد تدريجيًّا وتقسو لتكوّن تراكمات بركانية تمد الصفيحة أفقيًّا في اتجاهات محددة بحركة الصفيحة كما نجد الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ)(الحجر:19). فإذا وصل مد الصفيحة بعد ملايين السنين إلى نقطة النهاية في الجانب المعاكس حيث التصادم مع صفيحة أخرى كما أشرنا إلى ذلك من قبل، انضوى طرفها تدريجيًّا تحت هذه الأخيرة (Subduction)، وتناقص بانصهاره من جديد في باطن الأرض. وهو جانب مما يحمله معنى قوله تعالى: (أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا)(الأنبياء:44). إذن فالجبال التي تُحمل فوق هذه الصفائح، تتحرك بتحرك الصفيحة التي تحملها وفق اتجاه واحد لا رجعة فيه. الشيء الذي يحدد لها الأمام وبالتالي اليمين من الشمال.

وبذلك تكون الجبال تمر في اتجاه واحد محكوم بحركة الصفيحة التي تحملها كما وقفنا على ذلك بشأن مر السحاب. فقد رأينا كيف أن السحاب ينشأ في أماكن تبخر المياه في البحار والمحيطات، ثم يساق بالرياح في اتجاهات معينة، إلى أن ينتهي بنزوله مطرًا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ)(الأعراف:57) الذي يفيد أن السحاب يساق كما تساق مياه الأنهار من منابعها، مرورًا بالأراضي التي ترويها، إلى أن تنتهي في مصباتها، مصداقًا لقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ)(السجدة:27). وبما أن النص القرآني يقر بأن حركة الجبال هي شبيهة بحركة السحاب، وبكون السحاب يساق في اتجاه واحد كما تساق مياه الأنهار من المنبع إلى المصب، فإن المنطق يفرض أن تكون لكل من هذه الظواهر وجهة واحدة تسير إليها، انطلاقًا من نقطة البداية التي تتركها خلفها إلى نقطة النهاية التي تظل أمامها.

ولما  كانت الجبال تمر بدورها وفق هذا التوجه، مُرسية سطح الأرض بقاعدة موتّدة في القطعة التي تُقلها، فإن وجهتها تكون ألزمت بوجوب تحديد جانب أيمن وهو ما على يمين اتجاه الجبل، وجانب أيسر وهو ما على شماله. تمامًا كما للوادي ضفة يمنى وضفة يسرى، وكما للبشر يمين ويسار. فإذا كان سيدنا موسى - عليه السلام - قد أقبل من مدين قاصدًا مصر، وهو ما نجده في التفاسير، فهو يكون يتجه من طريق الحجاز الموجود إلى الشرق من سيناء نحو مصر الموجودة إلى الغرب منها. وبما أنه قصد النار في اتجاه الجبل متقبلاً الكعبة الموجودة إلى الجنوب كما قال ابن كثير في تفسيره، فهو يكون مشرفًا على جبل طور المحمول فوق الصفيحة الإفريقية التي تتجه، كما هو مسطر على الخريطة البنيوية لقطع سطح الأرض، نحو الجنوب على طول حزام الصدع الفاصل بينها وبين صفيحة الجزيرة العربية التي تتحرك نحو الشمال. وبما أن حركة الصفيحة التي تُقل جبل طور، وإن لم تكن ملموسة، تتجه نحو الجنوب، فإن الجانب الغربي للجبل المنصوص عليه في سورة القصص (الآية 44)، يكون وافق جانب الطور الأيمن كما هو مبين على الصورة 6 التي تظهر شبه جزيرة سيناء المقلة لجبل طور واتجاه حركتها نحو الجنوب.

 وبذلك يتضح لنا -والله أعلم- أن مفهوم جانب الطور الأيمن المنصوص عليه في القرآن الكريم، يعني الجانب الأيمن للجبل. فبرمزية التعبير، لمح لنا الحق سبحانه من خلال هذه الآيات إلى حقيقة حركة الجبال تلميحًا يتناسب مع تطور الفهم وتقدم المعرفة. بحيث وإن لم نقصد من خلال هذه الآية، الوقوف على هذه الحقيقة، إلا أن قراءتنا لجوانبها الخفية من خلال المعطيات العلمية الحديثة، جعلنا ندرك من سياقها هذا العمق المعنوي الذي يعطي دليلاً ملموسًا على تحرك الجبال وفق اتجاهات قطع السطح التي تُقلها. وهي الحقيقة التي لم يتنبه الإنسان إليها إلا بعد اكتشاف نظرية الألواح البنيوية (Plate tectonics) من قبل العالم الألماني "Alfred Wegner" سنة 1910، والتي اكتست مصداقيتها بعد سنة 1960 [9]، حيث مكنت كبريات الرحلات الاستكشافية لأعماق البحار من توضيح المفاهيم حول كيفية تحرك قطع السطح. فوضعت بذلك الخريطة البنيوية لسطح الأرض، وسطرت عليها الاتجاهات التي تتحرك فيها كل قطعة من قطعه.

وهكذا لما تكلمت الجيولوجيا عن زحزحة القارات (la dérive des continents)،

فإنها تكون أقرت بأن سطح الأرض ليس قطعة واحدة ولكن مجموعة قطع يحادي بعضها بعضًا كما بينّا. إلا أن هذه القطع المسماة في الجيولوجيا بـ"الألواح" أو "الصفائح التكتونية" (Plaques tectoniques) ليست جامدة، بل تتحرك كما ثبت بالقياسات الجيوفيزيائية في اتجاهات لا رجعة فيها وبسرعات غير ملموسة، مما يحدد لها الأمام من الخلف. وعليه، فبما أن الجبال هي محمولة فوق هذه القطع المتحركة، فإن وجود الجبل ثابتًا فوق القطعة، يجعله متحركًا معها، مما يحدد له هو أيضًا الأمام من الخلف. وهذا يعطي منطقًا للكلام عن يمين الجبل وشماله نسبة إلى الاتجاه العام الذي يسير فيه وفقًا لحركة القطعة التي تحمله. فإذا وجدنا في كتاب الله آيتين تكلمت عن يمين جبل، فهل تكون اختزلت في هذا الكلام معاني ما وصلت إليه الجيولوجيا من اكتشافات علمية بشأن الجبال فتكون الجيولوجيا من خلال ذلك تتكلم اليوم لغة القرآن، أم أن تلبيس كلمات القرآن مثل هذه التصورات العلمية، يبقى من قبيل التكلف في الفهم؟


[1]     مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، لفريد الأنصاري، ص:202-203.

[2]     خواطر دينية، لعبد الله بن الصديق، ص:176.

[3]

 [4]1.  Marrrakchi C. (1993): Dynamique et paléoenvironnement du bassin d’Essaouira-Agadir au passage Jurassique-Crétacé. Thèse Doct. Univ. Ecole Nationale Supérieure des Mines de Paris, p. 163.

 [5]1.  Sciences et Vie H.S. n° 237, dec. 2006, Paris, pp. 78-85.

 [6]     النهاية، غريب الأثر (2/43) (964).

[7]

 

[8]1.  Berthois L. (1975): Etude sédimentologique des roches meubles. Doin éd. p. 278.

 

[9]1.  Pichon (Le) X. Francheteau J. & Bonnin J. (1976): Plate tectonics. Elsevier Sc. Publ.  p. 311.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.