الفصل الرابع: فتح الله كولن وفلسفة البناء بلا عنف

فهرس المقال

أرسى داعية الإيمان فتح الله كولن أسس الخدمة الدعوية، وفتح آفاقها الحيوية، وأعطاها الطابع النهضوي المناسب لروح العصر، بعد أن خرج من العراك المرير متوّجا بالنصر، حائزا على اعتراف الجماهير، بل واعتراف الخصوم الذين اضطرتهم جلائل الأعمال التي طفقت خدمته تدشنها على مستوى تركيا وأقطار أخرى تركمانية وإسلامية أولا، ثم بما أخذته من أبعاد توسعية عبَرَت إلى بقاع عدة في القارات، وهي لا تزال تتوسع بحركة دينامية ذاتية وضع كولن خطتها، ويرابط يتابعها، بحيث باتت التدشينات تتضاعف بوتيرة مباركة، وتشمل مجال قطاعات التربية والثقافة والإنشاءات الاجتماعية والتجهيزية المختلفة فضلا عن بث الدعوة ونشر السلام.

منهج خدمة فتح الله كولن يُعَدُّ فلسفة انفتحت على اجتهادات بنائية كثيرة؛ إذ التفت كُولَن إلى سجل وطنه مستلهما همة الأسلاف الأفاضل من بني عثمان، آخذا في الاعتبار شتّى المنجزات التي حققوها كاملة أو جزئيّا، وتحسس الأماني التي تاقت إليها الأجيال وطمح إليها الرجال المصلحون، فتبنّاها، وأضاف إليها ما هدته إليه عبقريته التأطيرية من استشرافات وتفتيقات في مجال النهضة.. ثم انبرى يصنع الفجر، وينسج الملحمة من خلال ما أرسى من مجمَّعات تنوير، وما ركّب من مرافق خدمة، وما أقام من شبكات تأثيث متعددة الأداءات، فاسحا الطريق في وجه الطاقات الخيرية لتباشر عهدا ميمونا من العطاء والإثمار والإحسان.

لقد هيّأ كُولَن الشروط التي تستقطب الأفواج والطوابير من أولي المحظوظية، ليحقّقوا معنى الذات الفاعلة، ويعرفوا كنه الوجود الحق، ويتذوّقوا الشهد الذي تُولّده رهانات الخدمة وينتجه البذل (الجهدي والمالي) في سبيل الله.. لقد شقّ كولن طريقًا سيارا يتسابق فيه أهل اليسار والوسع، فيكتتبون لأنفسهم في سجل الخيرين الذين اختاروا أن يستثمروا في حقل مثمر، فيُقرضوا اللهَ قَرضا حسنا يضاعفه لهم.

أقل ما يسوغ التنويه به إزاء منجزات كُولَن، أنه انتهى بجولة العراك إلى المنتهى الذي استخزت به قوى الشر، حيث ألقت أسلحتها وانجحرت في أشنع مظاهر الاندحار، ناكلة عن المضيّ في المكابرة والمخادعة وتغليط الجماهير بصلاحية سياساتها الضالة.

من طيّ ظلمات الردة والتغريب، بزغ كُولن فتحا دعَويا مبينا، يكفل للجماعات والجماهير المهيّأة للعمل الخدمي والدعوة إلى الله، أن تشق الطريق، وتسدد نحو النهضة التي تولّد المرافق الروحية والمؤسسات الاجتماعية والمجاميع التكوينية والتنويرية التي ينهض صرح الإيمان على أرضيّتها من جديد، ويستأنف مساره نحو العالمية.

القطاعات الواسعة من ذوي الإحسان كان الضلال الأيديولوجي يكبّلهم ويسدّ الطريق في وجوههم أن يسهموا في البناء، بدعوى أن الدين ينافي التقدم، ويوقع الجماهير في التخلف.

الباعث الأبرز الذي جعل الخصوم يُقْصُون أهلَ الإيمان عن الحلبة، هو يقينهم من أن إمكانات المؤمنين لا تجارى، وأهليتهم لا تبارى.. إذ ليس مَن يقف نفسه على طاعة الله ومحبّة رسوله، ويعيش الإيثار والتعفّف والبذل لأجل مرضاة الله، كمَن يعيش الأثرة والضلال الروحي والعجز والقصور في مجال القيادة والإستراتيجية والسير بالأمة على طريق النهوض.

ها عقود وعقود سلخناها نسير في ركاب المضللين، فإذا بالبلاد خراب، والإفلاس على الأبواب، وأحوال من التصحُّر في القيم والمثل الإنسانية تشمل المجتمع.. قد زايلتنا المكارم التي كانت فيما مضى من العهود عنوان النخوة والكمال، بعد أن حدا بنا حداة سوء، زيّنوا لنا التخلّي عن العقيدة التي كانت أساس تفوّقنا، وعلّة استقطابنا للأمم من حولنا.

أمام ما حقّقته ولا تزال تحققه رؤية كُولن من جلائل الأعمال والفتوحات، انخذلت قوى الضلال، وتصاغرت كثير من الجهات التي طفقت تتوشح بشعارات الإسلام لمقاصد بعيدة عن خدمة الإسلام.

وإنه لمعطيات مبشرة أن ينفسح المجال أمام المسلمين، وتزول كثير من عوائق الكبح التي كرّستها أنظمة متسلطة ائتمرت بأوامر الغرب، وسارت في اتّجاه مضاد للتاريخ وقدسيّة الرسالة التي ائْتَمَنَنَا عليها الإسلام، ولَحمتْنا بها لواحمُ التكوين ووشائج النسب والانتماء العضوي.

يمكن القول إننا اليوم -في وتيرة ثوْرات الربيع العربي[1]- نحيا طفرة الانتقال من وضعية ردّ الفعل والمدافعة من موقع الانحباس تحت طوائل العسف والقهر، إلى رحاب الفعل وممارسة السياسة، بعيدا عن أي عائق إلا عائق الأهلية؛ إذ انعدام الأهلية أو بالأحرى قابلية البناء، هو الخطر الذي يهدّد الرصيد النضالي والمكاسب السياسية المستحصلة بالمعاناة والمجاهدة.

فليس أشنع ولا أسوأ من أن نرى الأجنحة الإسلامية تستلم الراية وقيادة الجماهير في هذه البلاد التي اجتاحتها الثورة الشبابية، ثم لا تلبث أن تنتكس وتخور -لا قدّر الله- وتعجز عن قيادة الجماهير على درب الإيمان والتعمير وبناء النموذج المدَني الكامل والقمين بشد الأنظار إليه.

إن كل إنجاز في مجال المدنية والإيمان يحقّقه المسلمون في مجتمعاتهم، لمن شأنه أن يكتسب قوة الرمز ويتلبَّس صبغة الإشهار العالمي الذي يلفت البشر إلى حقيقة الإسلام. إن العالم بات قرية، وإن أقطارنا الإسلامية هي مجرد حيّ من هذه القرية، وكل تشييد ينجز على صعيد حيّنا، سيستقطب السابلة ويحرك فضولها للتعرف على مكامن الفضل فينا.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.