الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة

فهرس المقال

في أزمنة الردة تتحول سيرة العالِم إلى "فتوى-إِطار" في تفاصيلها وكلياتها، إذ كل مسلك منه يصير موضوع تلقي واقتداء الأتباع، ذلك لأن تصديه للنكوص يغدو بالنسبة إليه فرض عين للاعتبار الأدبي الذي يجسده، بكونه من ورثة النبوة.

النورسي حين أيقن بوقوع الردة على مستوى قيادة بلاده، سارع إلى الاعتراض بما رآه لازما وعاجلا من المواقف والأحكام، فطلق النظام عملا بقوله تعالى (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (الْمُجَادِلَة:22)، ثم كف نفسه وجمّد دائرة تعاملاته بالانعزال، وتجنّب كل ما من شأنه أن يتسبب في دعم الوضع الارتدادي الجديد.. فانعزاله عن الحياة سبق حال الحجر التي فرضت عليه لاحقًا.. ثم تصدى في سيرة الانقطاع التي عاشها يرسم خطة التحصين، فكان أن ألهمه الله الكتابة والتدبر في كوامن القرآن، الأمر الذي نتج عنه ظهور رسائل النور، وهي في بعض جوانبها مستحضر لحمية ترياقية ذات نجاعة باهرة في الوقاية من أدواء الروح والقلب والتحطم النفسي وفقدان المناعة الايمانية.

كان مرتكز الفتوى والاجتهاد عند النورسي هو الثبات عند عتبة "لا إله إلا الله محمد رسول الله".. إذ إن التجريف كان يستهدف استئصال روحية التوحيد تفريغا للنفوس من محمول الإيمان فيها، تمهيدا لملئها بالريح العقيم.. وسارت تجربة الرسائل على هدى الدعوة المحمدية، بسيطة، محدودة الأتباع والقراء، ثم مع الزمن استطاع الطلائع الصادقون من التلاميذ والأتباع أن يوسعوا نشرها في الآفاق، الأمر الذي هيأ تيارا مضادا لواقع الحال التغريبية التي كانت السياسة دائبة على تعزيزها بشتّى الاتجاهات والمستويات.

سد النورسي باب الاجتهاد مخافة أن تغدو الفتوى أداة يسخرها الأذيال خَدَمَةُ النظامِ، فيضللوا بها المؤمنين، ويسوغوا لهم الاغتراب الذي كانت أمواجه العاتية تزحف عليهم من بين أيديهم ومن خلفهم.

رغم سد باب الاجتهاد ظل النورسي يقظا، يُفَعِّلُ الأحوال والتقلبات بما يراه يناسب كل ظرف طارئ وكل تحول مستجد، فقراءاته التي طفق يفسر بها القرآن وتعليماته للأتباع والمتعاطفين والتزاماته التي قررها لنفسه ولخاصته، شكّلت جميعها مدونة فقهية سلوكية سماها "الفقه الأكبر"، مانعت بكل استماتة وجابهت المد التغريبي.. وإن مميزات تلك السياسة الانضباطية التي تعهد بها النورسي نفسه وألزم بها صحبه وسائر الأتباع يومئذ، لهي من صميم الفقه، فقه الاعتراض والمواجهة.. إذ النازلة لم تكن آنذاك محصورة الأذى والضرر في حالة مفردة أو فئة بعينها، بل كانت النازلة من الفداحة بمكان، لأنها كانت انقلابا روحيا، شاء أن يحول المجتمع عن دينه وأصالته وحضارته.

في ظل تلك الشدائد التي كان الإسلام يواجهها بتركيا، نشأ فتح الله كولن، وشب في كنف أسرة قرآنية محافظة، استطاعت بتشبثها الروحي المستميت أن تنهض بمسؤوليتها إزاء أفرادها وإزاء محيطها، وأن تصون دينها بما تهيأ لها من جو تقليدي ومن تعاليم فقهية وصوفية وأخلاق ريفية صلبة ساعدتْها على الثبات على الخط، والشد على الجمرة، في مناخ مكفهر من الترصد والتجسس والتضييق الخانق على كل من تشتمّ منه رائحة القرآن والإيمان.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.