الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة

فهرس المقال

تركيا من دور الحاضن إلى دور المنقلب

بانهزام العثمانية أمام القوى الكبرى ظهرت تركيا قطرا منهوك القوى، منتهك السيادة، لا تملك طليعته العسكرية والسياسية إلا أن تمضي في طريق تم التمهيد له خارجيًّا، ورُسمت معالمه، وهُيّئت له المخططات ورُصدت عدة التنفيذ.. وهكذا ظهرت -على المسرح- الدولة الحديثة التي كانت تلميذا نجيبا لأيديولوجة الانتكاس والحيدة عن الدين والانسياق الأعمى لروحية التغرب والانسلاخ عن الأمة.

سلكت الأيديولوجية الجديدة الطريق السهل، إذ حسبت أن خروجها عن هويتها الملية، سيمكّنها من تحقيق الانتساب إلى حاضرة الغرب. ولمّا كانت حسابات الدهاة الغربيين ترى في تغريب تركيا نجاح خططها في تعقيم القطر الذي شكل على مدار القرون رأس الحربة والجبهة التي لا يزال خطر المداهمة يتهددهم من صددها، انبروا يعملون بكل جهد على تهجين تركيا، وتدجين نخبها، وصولا إلى تحويل الشعب عن مشرقيّته، تأبيدا للسيطرة على أمة الإسلام، وسيادة العالم.. وهكذا طفقت دوائر التنويم والتوريط تساند النهج التغريبي الذي دشنَته القوى السلطوية، وراحت تلك الدوائر تعمل على تقوية عَرَّابي ذلك التوجه بالكيفية الغريبة التي تستبقي الأتراك في وضع معلق، بحيث لا يسعهم أن يتقووا فيلحقوا بمستوى تقدم وتطور الغرب، ولا أن يستيقظوا فيتفطّنوا لحالهم، ويجددوا صلَتهم بالأمة. لقد جعل الغرب الاستعماري من تركيا سيزيف العصر، بحيث لبثت تمضي وعلى عاتقها صخرة العذاب، تتجشمها بلا هدف، تصعد وتنحدر، وكاهلها ينوء بوصمة لحقتها جراء نكوص طائفة من الأبناء عن الموثق، وتفريطهم في المجد الذي كسبوه على مدى القرون المتلاحقة باحتضانهم راية الإسلام.

مأساة الأمة التركية أنها عاشت البلاء الروحي الماحق، والدمار المعنوي الكاسح، على يد لفيف متسلط من أبنائها، حادوا عن الأصل، ونهجوا بالوطن والشعب سبيلا يناقض جوهر كينونتها.

عرفت الأقطار المسلمة أنواعا متفاوتة من السيطرة والاحتلال الأجنبيَين حين زحف الغرب على جغرافية الأمة، وصادر تاريخها، وارتهن مستقبلها، إذ راهن على أن يستبقي الأمة في حالة تخدر، يستنزفها روحيا، ويبتزها ماديا، ويقضي عليها وجوديا قضاء مبرما، ذلك لأنه ظل يتمثل فيها الخطر المحتمل الرئيس الذي يتهدده، والعائق الأكبر في وجه ترسيخ سلطانه على البسيطة، وتخضيع العالمين لإرادته، واستغلال مقدرات الأمم لصالح ازدهار حضارته.

وخرجت العثمانية من سجالها الطويل غير المتكافئ ضد الغرب وقد تحطمت واجهتها الجيوبوليتيكية، إذ أضحت قطرا خسر ما كان له من اعتبار استراتيجي وأدبي، وتقلص -إلى درجة مذهلة- ما كان لها من شساعة قارية وامتدادت بحرية، فلم يسع لفيف السلطوية التي آل إليها الحكم إلا أن تضع نفسها، أو لِنَقُلْ إلا أن تنساق وراء مخطط التغريب الذي هيأه لها الغرب الاستعماري.. وبذلك دخلت تركيا في مرحلة هدم الذات، فمضت النخب المستلبة، وخلال عقود متلاحقة، تتنافس في اتخاذ الإجراءات والتحولات والترتيبات التي تجعل من تركيا شعبا متغربا، قد قطع كل أسباب الارتباط مع ماضيه وأمته وعقيدته. ولقد كان أمرا طبيعيا في خضم ذلك المنحدر "نحو الهاوية" أن تتركز الجهود التغريبية على التشريع والقانون، إذ بتغيير القانون والتشريع تأخذ الأوضاع العامة والخاصة المنحى النكوصي، وتتلبس مجالات الحياة في شتى قطاعاتها الاجتماعية والثقافية والفكرية، بالمظهر التحللي الذي جعل الهدميون من أمر بلوغه، هدفهم ومناط رهانهم.

في ذلك المسار الانغماسي الفظيع، كان -حتما- على الأمّة التركية المنكوبة أن تقوم بردّ فعل على ما كان يمارس عليها من برامج تضليل وسياسيات تشويه ومخططات تضييع، فبرز من بين الصفوف علماء تصدوا للنكبة، واستماتوا في الاعتراض، واسترخسوا الحياة في سبيل الدفاع عن العقيدة وصون الهوية والأصل.

لقد كان على علماء تلك المرحلة أن يقابلوا سياسة التتْريك بكل إيمان واستبسال، فكان قدرهم أن يدفعوا أرواحهم لقاء تمسكهم بالعقيدة، وهكذا لبثت الشوارع والحارات في المدن والأرياف -طيلة ذلك العهد الانحرافي المذهل- تشهد أجساد الصادقين من علماء الدين والشرع والتصوف، تتدلّى في المشانق، معروضة ترهب الناس وتنذرهم بسوء المنقلب إن هم عارضوا نهج التفسخ.

كانت مهمة العلماء المصلحين في تلك المرحلة، مهمة اعتراضية، استنقاذية، تهيب بالأفراد والفئات والجماعات أن يستمسكوا فلا ينساقوا لدعاية وسياسات التهجين.

ومن المؤكد أن من بين رموز الإصلاح في تلك المرحلة الزلزالية، نَجِد المجاهد الفذّ النورسي يحتل الواجهة، إذ قضى العمر كله في منازلة السلطويين المؤدلجين وفي وضع اللبنات التي ينتظم بها الجدار الروحي العازل والمقاوم للردة. لقد بَسطَتْ أمامنا سيرتُه تفاصيل عن ذلك النزال المحتدم الذي خاضه رجال الله ضد التيار، ولقد دلت وقائع تلك السيرة أن الحقبة الجديدة قد ذهبت في الانقلاب على الذات والموثق مذهبا لا هوادة فيه، وأنها قطعت في خيار نهج التغرب بخطة لا رجعة عنها.

في جو المقاومة المريع ذاك، وضمن ظروف التجريف الشامل تلك، ظهر فقه الاستعصام بالله، وراجت فتوى جواز التكتم على الإيمان، واستسرار العقيدة. واتبع المصلحون طرقا شتّى في المقاومة، حيث سلكوا سبيل التوقي وسبيل المعالنة حسب الاجتهاد، ونوّعوا في الكيفيات الترشيدية، ولبثت آلة الاستئصال تستحصد الأعلام، وتبدد حلقاتهم، وتخنق صوت الحق من خلال تصفية أهل الإيمان والاحتساب.

في هذا المسار الليلي الحالك، شب فتح الله كولن طفلا تربى على بيداغوجية المدافعة الإيمانية، ودرج يافعا يتغذى على قيم التأصل والتصلب والمعاركة الروحية، واستوى شابا يتقحَّم ساحات الدعوة ويبارز في خطوط الاستنقاذ الأمامية.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.