الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة

فهرس المقال

مبدأ تداول المشترك الإنساني

يؤمن كولن بمبدإ الحق للبشر في تداول المشتركات التجهيزية والإنجازات الإنسانية، وبكونها ثمرة ومكسبا لا ينبغي التقصير في الأخذ به والتمرس عليه، لاسيما في الحقل العلمي وفي المجالات التطبيقية، إذ بتوسع المعرفة الإنسانية يتحقق التطور، والتطور حين ينبني على مسطرة من أخلاق النزاهة والحيادية، ينعكس بثماره على الإنسانية جميعا، إذ إن أي اكتشاف علمي أو صناعي أو صحّي أو ما إلى ذلك، إنما تترجح فائدته المادية والأدبية -حتى بالنسبة لمكتشفيه ومُنْجزيه- على قدر ما يتسع تداوله ويروج استخدامه. ذلك أن الأخذ بأسباب التطور -عندما يسير في الاتّجاه الصحيح- لا يعني إلا أن الآخذين بتلك الأسباب إنما يسكنهم إلى جانب وازع الترقية التجهيزية، وازعٌ معرفي مُلِحٌّ هو الحرص على الوصول إلى المستوى الذي يتمكّنون فيه هم أيضًا من استكمال الاستعداد والتهيّؤ للإسهام بدورهم في حركة الكشوف والإبداع، فيغدون من ثمة متحكّمين في التقانة، مولّدين للعلم التجديدي، مصدّرين للخبرة، ومزوّدين للسوق العالمي بالمنتوج الذي صنَّعته أيديهم، وبالتقنية التي تفتّقت عنها عبقريتهم.

لا ينطلق كولن في هذا التصور من فراغ، إنما هو يستند إلى معطيات التاريخ، إذ إن العثمانية التي رادت الأمة في بناء حضارتها الإسلامية ردحا مديدا من الزمن، قد سجّلت على مدى القرون صفحات من السبق المعرفي والظهور الإنجازي، بحيث لبثت طيلة العصر الوسيط مَصْدَرا باثًّا للقيم الحضارية والمدنية، وموئلا مستقطبا للخبرة العالمية، ومثابة مستقبلة لأهل القرائح والإنجازات من كل صدد وصوب.

بهذا الوعي يرى كولن أن مرحلة الاقتراض المدَني لا تعني الاستنامة للعجز الإنتاجي، بل عليها أن تكون جسرا تعبر الأمة من فوقه إلى طور التصنيع الشامل، وتتجاوز وضع العقم الذي صير مجتمعاتنا المسلمة أسواقا تستجلب إليها البضائع، وجعل جموعنا البشرية مجرد كتل تستهلك ولا تكاد تنتج شيئًا. إن رصيدنا من الناجز الحضاري الإسلامي، مرجع حيوي لتغذية القريحة وشحذ الهمّة وتحريك مفاعيل العمل والبناء، والانطلاق من جديد في صناعة المستقبل وإقامة الصرح.

فالخلفيّة التي تستند إليها الانبعاثة النهضوية، مشحونة بالمآثر والصفحات البيض التي ستشكل أرضية الفتوح العلمية المنتظرة وأساس التنمية المنشودة. إن اقتحامنا للرهان التصنيعي والتثميري لا ينبغي أن يكون مجرد مغامرة تفتقد إلى شروط الأهلية والاستحقاق، بل عليه أن يكون يقظة يسوغها وضع الانسحاق الذي نعيشه منذ أمد. من هذه الاعتبارات يرى كولن أن النهضة هي في واقع الأمر توبة شرعية ومدنية تستدرك بها الأمة ما اقترفت من إثم التفريط والتقهقر والإخلال بموثق الائتمان.

واستمداد المدنية الراهنة وتلقّي نتاجاتها ومنجزاتها لا يكون مفيدًا وإيجابيًّا إلا إذا رافقه وعي يستصفي شوائب تلك المستوردات؛ إذ إن العقل الذي صاغها واستنجزها عقل لا يهتمّ بالبعد الشرعي في المصنوعات، لأن التأثيث المادي هو غايته فلا غرو أن نرى قطاع الألبسة مثلاً لا يفتأ يمعن في التهتك والسفورية وتخطي حواجز الاحتشام. ذلك لأن ضوابط حضارة "الموضة" ليست شرعية إنما ماركوتنغية، ربحية. والأمر نفسه نجده في ميدان التغذية والتموين والتطبيب وما إلى ذلك، إذ يغيب البعد الشرعي في صناعة الأطعمة والمواد الدوائية، فلا تراعى المحظورات. إن حضارة الراهن الغربية حضارة لائكيّة، مادية، اختلاطية، فهي من ثم تقتضي من المتداولين لابتكاراتها، أن يصطنعوا نظام "فَلْتَرَة" وتصفية مانع للأذى، صونًا للقيم الأصلية من الأضرار.

وإن نظام النهضة المأمول لن يكون أصيلا، ولن يجسد كماله ونموذجيته إلا إذا راعى الطابع المعياري الشرعي في سائر مبتكاراته وتداولاته. ولقد بين الأستاذ كولن في كتابيه "ونحن نقيم صرح الروح"، وكذا كتابه "ونحن نبني حضارتنا" الاستراتيجية التي تصلح لتنفيذ رهان الوثبة النهضوية والأسس الواجب توفرها في الفواعل (رجال الخدمة بمختلف مسؤوليّتهم التمويلية والإنجازية)، وفي التخطيط والوسائل والأهداف والتكييفات والمتابعات.. ولا اعتبار لنهضة تجعل من تقليد الآخر واستلهام معاييره ومقاييسه سقف رهانها ومنتهى عزمها.

إن الممايزة -بالنسبة إلى رؤية كولن- شرط مدني يَفْرُقُ بين مقومات الـ"أنا" الجمعي الإسلامي ذي البعد الروحي الراسخ، وبين ما سواه من أنماط التمدّن التي تعول على المواضعات المادية والنظم الصماء.

الدين مجال استلهام وترشيد، وليس كما يزعم المخترقون والضالون، أنه -فحسْب- تكؤة يستند إليها القصر وضعيفو النظر، وهزيلو الخيال.

إن ما يبدو لأولئك الجاحدين من سعة يُتيحها النظر المتحلّل من الضوابط، ومن انفساح في الرؤية يكفلها الانخراط في أجواء الحرّية المطلقة والتحرر اللامحدود، هو وهْم وبيل؛ إذ لا يغنم الإنسان من أجواء التحلل والتهتّك إلا التسكّع المجاني، والعود على بدء، وإنهاك الروح من غير طائل؛ إذ جماع ما تُحصِّله الإنسانيةُ من جرْيها وراء سراب الانطلاق والتحلل من عقال الشرع، هو مظاهر صورية تستجيب للحس أكثر من استجابتها للعقل، وتلبّي الحاجة التهتّكية والتمتّعية العابرة أكثر من تلْبيتها لما يخدم البشرية. وإن المتع الحسية غذاء الأجساد، والعقل غذاؤه الحقائق الألماسية الصلبة التي لا ينال منها الزمن.

الضوابط -حتى الأرضية- تحُول بين الكائن وبين الميوعة، فكيف لا تكون وقاء لا يبلى حين تكون ضوابط صادرة عن السماء؟!

إن القوى الاحتكارية (والأقلّيات) الباذخة، المستهترة، الباحثة عن المكاسب، هي مصدر التمييع الثقافي، والجري وراء الشكلية الجوفاء، والتفسّخ المقيت الذي يستهدف العالمين، وهتْك الحرمات وضرْب المقدّسات.

وإن مساحة الزيف ضيّقة وإنْ توهّم المتوهّمون لا محدوديّتها، إذ هم لابثون في الدوارن حول وتد الشهوة والأهواء، والإفتان (والافتتان) الرخيس، والتضليل التعيس، أشبه بثور مربوط إلى حلقة.

إن الممايزة تعني الاستئناف المؤصَّل الذي يتجسد على أرضية الواقع من حيث الإبداع والعمل وتحقيق الكفاية والفائض عن الكفاية. حتى الاستنساخ الذي تمارسه الأمم بتخطيط في نقل معارف بعضها من بعض يعكس مستوى من الأصالة ونمطا من الذاتية التي تضفيها -حتما- تلك الأمم الناقلة على نقولها، ولو من حيث إظهار قدرتها على المحاكاة والتمهر في الاحتذاء؛ إذ الاحتذاء -إذا كان مؤسّسا على حسّ التجاوز ووازع التأصل- هو عتَبة مهمّة لكسب المهارة والخبرة والثقة التي هي شرط أساس للتحول إلى الابتكار الفذّ والتفرد المميز، إذ لا ننس أن معطيات المكان والبيئة والواقع الاجتماعي المتحرّك، تنتهي بفرض ختمها وخصوصياتها على المنتوج (ولو كان مقلّدا)، لأن الحاجة التداولية هي الموجِّه الحاسم لجهة طبع الناجز، أيًّا كان ميدانه، ونوعيّته، حتى الناجز الذهني والفكري والأخلاقي، فضلاً عن الناجز المادّي والتأثيثي، إذ جميعًا تحكمها ضغوط الحاجة العملية والتجهيزية المُوَلِّدة لها.

وبالنسبة لرهانات النهضة الإسلامية -كما يترسّمها كولن- فإن رصيدها التاريخي، وعمقها المدني، وتراثاتها العريقة في شتّى الميادين، هي أرضية ومرجعية أساسية ينطلق منها أي انبعاث إحيائي تعميري.

إن الوجدان الجمعي للأمّة لا يزال مشحونًا بأصداء جذلى لتاريخيّة حافلة باليقينيّات والمآثر وسجلات التفوّق والمعنويات الكامنة والاستعدادات المهيّأة للنهوض واستعادة العزّ والكرامة.. فالأمّة ذات العراقة لا تكون مراحل تراجعها وتعطلها إلاّ بمثابة استراحة المحارب الذي لن يستغرقه القعود وإن طال، فهو سينهض لا محالة، وسيستأنف نزاله واستبساله؛ لأن روحيته جبلتْ على السير والطراد.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.