الفصل الثاني : فتح الله كولن.. الارتحال بالأمة من فقه النازلة إلى فقه النهضة

فهرس المقال

اجتهاد التأصيل والتصويب

يشكل البحث في محيط الدلالة القرآنية والنبوية، وقراءتها من زاوية سبر البعد المدنيّ التجدديّ، الذي تَشْتَحِنُ به، مَنْشطا مُهِمًّا ومَشْغلا رئيسًا في منهج الأستاذ كولن. فطالما استلهم المنظّرون أفكارهم وتصوراتهم من وحي الافتراض والتخيّل، أو استمدّوها من حقل الاقتباس والتركيب، أو أنشأوها من خلال استنطاق التاريخ ومنعطافات المسيرة الجمعية لأممهم. وكُولَن في رسمه لخطّة المستقبل، يستند على أرضية صلبة من المعطيات، تتمثل في مقررات الكتاب والسنّة من جهة، وفي بيانات السجل التاريخي كما عاشتها الأمّة في أطوارها المختلفة، وبكل ما ميّز مسيرتها من انتصارات وانكسارات.

إن استقراء توجيهات وإيعازات هذه المصادر القدسية والتوثيقية، واستدرار تبصيراتِها وعِبَرِها، هو نوع من الاستنباط الفقهي الدقيق الذي يخصّ مصير الأمّة ورسالتها الربّانية الخالدة. فهو إذن حقل تخريجي من صميم جنس الاجتهاد الشرعي الذي أهاب القرآنُ بالأمّة أن تُفرِّغ له على الدوام مَن يتكفّلُه ويتولّى مراسه: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(التوبة:122).. بل هو ذروة هذا الاجتهاد الشرعي وسنامُه الذي حرضت عليه الآية وأوجبته، لأن المناط فيه مناط جمعي مصيري.. بل إنه تطبيق عملي لدعاء المسلمين المتردد على ألسنتهم وفي قلوبهم مع كل صلاة (اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(الفَاتِحَة:6)، فاستشراف المنافذ والمصادر والطرق التي تساعد الأمة على الخروج من منسحقها، هو جهد اجتهادي وتمحيصي يهدف -في إخلاص- إلى استنقاذ الأمّة وبيان السبيل الأوفق لها، والجادة الأجدر أن تسلكها.. فهو من هذا الجانب جهاد أكبر، وفقه أكبر، حريٌّ بالأمة أن تلتفت إليه، فتُرسِّمه ضمن معارفها الشرعية الأصيلة.. ذلك لأن هذا الضرب من الترَوِّي الإسنادي قد تعاطته الأمّةُ في عهود مضت، حين تصادمت مع التمدد الصليبِي وجثُوِّهِ على ثغورها. وإن ما كتبه الغزالي مثلا، هو بعض ما حاول النيّرون من مفكّري الأمة أن يتصدوا به للعدوان آنئذ. غير أن الأمة وإن واجهت الاعتداء غداتئذ بالجهاد وبثقافة الانكفاء، إلا أنّها لم توفّق إلى تنمية فقه الاستنهاض والاستقواء.. لأن مضاعفات التراجع كانت من الفداحة بحيث تقلّصت الرؤية وانحصرت -أجل انحصرت- في مطلب البقاء الأعزل، بعد أن تدهورت الهمّة واقتصرت على الرضى بالكفاف.

وإن الاشتغال الفكري الذي يواظب عليه الأستاذ كولن اليوم، هو قمّة الحدب والتكفل الذي تمليه على الأكرمين روحُ الاحتساب والمبرة والمرحمة حيال أمّتهم ودينهم وإنسانيّتهم. ولا يمكن في هذا الصدد إلا القول أنه اشتغال موصول باجتهادات أرباب الفكر الفقهي ممن عاشوا وأفئدتهم مشرَّعة تحتضن الأمّة، وتقيل عثارها في مواطن الزلل.

فحين يستنبط المفكّر ورجل المدَنية كولن مفاتيح فلسفته من صلب معطيات ماضيه، وصميم تجارب أمسه، فإنه يسترفد التاريخ الذي كتبت الأمة صحائفه بدَمِها، ويسترشد الحضارة التي شادت الأجيال معالمها بعرقها، ولا يكون كولن في كل ذلك -قطعا- عالةً على ذلك الماضي، ولا هو منتكص صوبه لدواعي العجز والكلال، كلا، إنما الذي يحمله على القيام بمثل ذلك الاستئناس هو الرغبة القويّة في أن يستوثق للأشواط حتى لا تحيد، وللرمية حتى لا تخطئ.

داعي الأصالة والتأصيل يلحّ عليه فيزداد استمْساكًا بالأرضيّة والجذور، لقد علّمته دروس التاريخ أنّ مسار الحضارات آيل إلى طريق الانسداد ما لم تدر عجَلته على دعامة الرّوح.. بل لقد علّمه التاريخ أنه حتى المدَنيات ذات البعد الروحي والشرعي، مآلها إلى السقوط ما أن تنحرف عن الخطّ الأخلاقي، وتحيد عن النهج الالتزامي.. وإن مصير الحضارة الإسلامية في شوطها المنصرم لَناطق بهذه الحقيقة، ومؤكّد لاطرادية قاعدتها. من هنا كان الحرص على استحضار البيانات والمعطيات والاسترشاد بها في رسم الطريق إلى النهضة.

إن تِيمَة النهوض والانبعاث أضحت هي القضيّة الفقهية المركزية التي يطرحها واقع الأمّة على المفكّر كُولَن، ويعرضها لسان حالها عليه، وتستفتيه بخصوصها أوضاع الشعوب المسلمة.

لقد أرسى أئمّة المذاهب الفقهية قديما أسس ثقافة العبادة وعلوم الشعائر، وكانت تلك الثقافة التعبّدية تمثّل في وقتها واجهة المقاصد التي لا محيد عنها لوضع قواعد البناء الحضاري.. وينبري اليوم رؤساء الفكر الالمعيين (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)(ص:24) لتدشين فقه النهضة وإقامة أسس الاجتهاد في مجال اليقظة والتعمير.

المفكر النهضوي يرسم الخريطة التي تتحرّك عليها الأمّة، بتشخيص الأدواء، ووصف الأدوية، وتقدير مدّة العلاج والاستجمام، ثم يرافق بنفسه المراحل، ويصاحب الخطوات، فلكأنه مقاول ينشئ مدينة بكافّة مرافقها؛ فالأعمال تجري تحت بصره، متساوقة، لتكتمل في الإبان.

ومن فداحة النتائج التي أسفرت عنها المسيرة المؤدلجة، ومن كارثية المآلات التي انتهت إليها الأمّة وهي تلْهث وراء سراب العبث، باتت الجماهير لا تثق في حكّامها ولا في سياسيّيها. وحدهم القلةُ من الأفذاذ الذين سلخوا العمر في المنازلة والالتحام مع فئات المجتمع والشعب، أضحوا رادتها ومحلّ ثقتها، ومن تُسلِّم إليهم المقادة في حب ويقين، وتنصاع لتعاليمهم وتوجيهاتهم بلا تردّد؛ ذلك لأنها سلخت العقود وهي تراهم ملْء السمع والبصر عاكفين على العطاء، ممعنين في المناضلة ومكابدة ألوان الحرمان.. وأكبر وأقسى أصنافه انعدام العش والزوج والولد.

وتلك -لعمري- هي بالذات آية الاصطفاء، وذلك هو عنوان البسالة والتفرّد الذي جعلهم ربّانيين بلا منازع.. وإلا مَن ذا الذي يطمع في أن يصيبه بعض غبار سنابك خيلهم وهي تطوي المدى في مضمار المقامية.. رابطوا العمر كله للحق بالحق وليس لشأنٍ يخصّهم أو مطمح يستوطنهم، إنهم أهل العزْم والكمال، يجودون علينا ببعض الحظوظ الربّانية التي نالوها بالعرق والبكاء والاستماتة.

اختاروا الخلود فعاشوا ينجزون ما يضاعف الأجر ويؤهّل للديمومة.

وإن ما أحجمت الفئات عن المدافعة عنه من تحوّلات تطعن العقيدة والشرف والأصالة والانتماء في العمق، هبوا هم يساجلون دونه بكلّ ما أوتوا من قوة ودهاء، يستمدّون العون من الله، واثقين من أنّ الظفر في النهاية يكون للحقّ، مشفقين على الجماهير وهم يرونها تنقاد منكسة، تمتثل لما يصدر لها من أوامر وزواجر المستبدّين.. لكَم طفقت تدْمى أفئدتهم جراء أحوال الصغار التي كانوا يرون عليها أمّة النبي، والأجيال من أحفاد الفاتح.. لبثت أصواتهم تعلو وتهيب بالأمّة أن تستفيق وتعمل لأجل أن تنتقل إلى مستوى الكفاءة والقوامة.. كان يدحرهم وضع التخلف والحطة التي أَزْرَتْ بأمّتهم، ذلك لأنهم يعتبرون وضع التخلّف والانحدار وضْعٌ شاذٌّ لا يتناسب مع الشرط الإنساني، ولا تحتمله صفة التولية والتكليف التي أضفاها الله علينا نحن المحمّديين، "أورثَنا الانحطاطُ ليس التخلّفَ المادّي والترهل البنيوي فقط، ولكن عُقَدا استشرت وقمعت في الروح كل نزوع للانبعاث واليقظة. من هنا توجَّب العملُ الشمولي على التداوي ومعالجة الذات من عقد الحطة وتبعاتها المعنوية والأدبية".

لقد استيقن كولن أن الفريضة الغائبة هي فريضة النهوض المدَني والانتفاض المادّي. وأنه من الوفاء للموثق أن يعمل النيّرون، على تحيين هذه الفريضة، وأن يتحوّلوا في خضم التحضير لها، إلى قواطر تجرّ العربات.

ولقد أدرك أن النفاذ إلى تحقيق الهزّة التي تنتشل الأمّة من وهْدتها، وتعيدها إلى الجادة، إنما يتم من خلال تشغيل محركات الانبعاث وبناء الهوية والتي هي الدين والتاريخ والانتساب إلى شجرة الإسلام المنفتحة على بني الإنسانية قاطبة.

وإن خوض الأستاذ كولن لتجربة الخدمة هو -حقا- تدشين لآفاق نهضوية لا قِبَل للأمة بها. لقد عملت بعض الطرق، ومنها السّنوسية مثلا في القرن الماضي، على اتباع نظام الاكتفاء الذاتي فشجّعت أتباعها على إقامة مستزرعات في أماكن استقرارهم بالواحات وغيرها، سعيا منها إلى أن تضمن مستوى من التكفّل الذاتي، لكن تجربتها لم تخرج عن الجهد التمويني القطاعي، والمقتصر على منظومة زواياها ورُبَطها، وفي قسم من حاجاتها، ليس إلاّ.

إن الخدمة كما رسم لها الأستاذ كولن، منهاج يفتح في وجه الأمّة مجالات واسعة وحيوية بإمكان أهل الاستعداد أن يوظّفوا فيها فوائض أموالهم وديناميّتهم ومعارفهم وكل ما يتوفّرون عليه من إمكانات وقدرات ومن مهارات على صعيد التصور والتخيل والإبداع.

لقد تشربت مواجده وارتوى فؤاده وضميره من معين النهج النبوي وملحقاته من مآثر السلف الصالح، زيادة على ما نهل من تعاليم القرآن وضوابط الشرع. وكل ذلك حول سيرته ووقائع حياته إلى اجتهاد فقهي حي؛ إذ ساهمت الوجهة المدنية والمنهجية البنائية التي انبرى لها، في ظهور وميلاد فقه العمران والنهضة. فلأول مرة تخرج بيداغوجية الزهد والانقطاع والعكوف في الخلوة، عن نطاق مبدإ رفض الحياة والإشاحة عنها، لتنخرط بكل ما لها من إيمان غيبِيّ وحسّ أخروي، في التعمير وإقامة مشاريع التمدّن والخدمة.. تفعل ذلك تجاوبًا مع قوله تعالى (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(الْمُؤْمِنُون:115-116)، وقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزَّلْزَلَة:7-8).

لقد تصرمت العهود المتلاحقة التي ظلّ فيها قطاعٌ غير سوي من الفكر التزهيدي يشحذ في المسلمين روح الاستقالة، بل ولقد مضت عهود لبث فيها حتى العاملون من رجال الله يؤدّون من جهود الارتفاق والتعمير ما لا يتجاوز حد الضرورة، إذ ظلّت قراءتهم الغروبية للتاريخ (غروب الساعة) تصور لهم دنوّ الأجل الذي ستنتهي فيه الحياة ويتوقف التاريخ.. وبالفعل لقد تسببت رؤيتهم الأزوفية تلك في توقّف التاريخ بالأمّة في القرن الخامس، وإن أكثر ما تحقق من منجزات بعد ذلك القرن في مضمار الحضارة والفتوح، إنما كان من أثر الاندفاع الذي استمر -وبتراجع طبعًا- يفعل فعله التحريكي حينا بعد تعطل المحركات عن العمل.

لكن منهج كولن يعمل اليوم -وبإصرار لا هوادة فيه- على إعادة ضبط عقارب الساعة على التوقيت العصري، وإنه لَيشقُّ بالفئات طريق التعمير، وبما أنه طريق مستجدّ، فإن كل إنجاز يتمّ على صعيد التنمية والبناء، إنما هو اجتهاد فقهي تعميري، ذلك لأن فلسفة الخدمة -عند كولن- أدمجت التعمير في العبادة، وعادت بالرؤية المدَنية إلى صميم روح القرآن، إذ القرآن، وفي أبرز آية من آياته البينات، وأكثرها تردادا وتداولية، قد قرن الإيمان مع العمل، نقصد اللازمة القرآنية: (اَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، بل إن القرآن في سورة الماعون مثلا، -بل وفي ما سواها من مواطن قرآنية عدة- قد قدّم الجانب الاجتماعي على الجانب التعبّدي، فجاء التنبيه إلى رعاية حقّ اليتيم والمسكين سابقا في متن السورة على التنبيه إلى رعاية حق الله.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.