الكلمات الافتتاحية

كلمة الدكتورة نادية محمود مصطفى

 بسم الله الرحمن الرحيم

الأستاذ الدكتور / أحمد الطيب - رئيس جامعة الأزهر

الأستاذ الدكتور / مصطفى أوزجان - مستشار وقف البحوث الأكاديمية والإنترنت

الأستاذة الدكتورة / عالية المهدي - عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية

السادة الحضور من ضيوفنا الأجلاء وأساتذتنا الكرام وأبنائنا شباب الباحثين والطلبة وكل المهتمين بالقضية التي نجتمع حولها: مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي وموضع الخبرة التركية المعاصرة على خريطتها.

إلى كل هؤلاء، تحية طيبة من مركز الدراسات الحضارية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، وشكرًا وتقديرًا لاهتمامكم الكبير بهذا المؤتمر الدولي.

ليس من قبيل المصادفة أن يكون لكلٍّ مِنْ مكان انعقاد المؤتمر، وشعار المؤتمر والمحاضرة الافتتاحية مغزاه ودلالته، فبالنسبة لانعقاد المؤتمر في الجامعة العربية، فالإسلام والعروبة صنوان، ومستقبل الإصلاح في العالم العربي يقع في قلب مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، ولقد مثلت أركان الأمة (مصر وتركيا وإيران) عبر تاريخها أعراق الأمة وأقوامها المتنوعة.

ومن ثَمَّ أنوه إلى أن القاعة التي نلتقي فيها اليوم تتصدر قمتها ثلاث آيات قرآنية تقدم الكثير بالنسبة لصميم موضوع لقائنا اليوم. الآية الأولى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾(الرعد:11) وهي تتوسط الآية الكريمة: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾(آل عمران:110) وآية: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾(آل عمران:103).

إن قيمة التغير ابتداء من النفس والذات إلى قيمة خيرية هذه الأمة ليس بمجرد إيمانها ولكن بحضورها وشهودها، وقيمة الوحدة والتضامن؛ ثلاث قيم أساسية ترتكن إليها فلسفة المؤتمر وهدفه. وتقدم لنا حركة فتح الله كولن مقارنة بحركات الإصلاح الإسلامية الراهنة والسابقة، دلالات هامة بشأن كيفية تفعيل هذه القيم الثلاث المتصلة بالذات والأمة.

أما شعار المؤتمر فيضيف أمورًا أخرى حول أهداف المؤتمر وموضوعاته. فإذا كان الإسلام رسالة ودعوة للعالمين فإن مستقبل إصلاح العالم الإسلامي يمثل مدخلاً هامًا في مستقبل إصلاح العالم، بل شرطًا له وذلك على ضوء أوجه تميز النموذج المعرفي والحضاري الإسلامي الوسطي التعارفي التعددي في مقابل النماذج المادية الصراعية الاستئصالية.

كما أن حالة العالم وطبيعة من يقوده سياسيًا وفكريًا تنعكس على درجة سلامة هذا العالم ورخائه واستقراره، بل درجة ما يعكسه من قبول التنوع والتعدد الحضاري، هذا ولقد كانت مصر وتركيا ركنين أساسيين في كافة مراحل تطور وضع العالم الإسلامي وموضعه من النظام الدولي، قوة وضعفًا، صعودًا وهبوطًا، ودائمًا كانت الرموز الفكرية والدعوية والسياسية من المصريين والأتراك يقومون بأدوارهم القيادية في الحركات الإصلاحية. وها هو الشيخ فتح الله كولن، بما حققه وحركته من إنجازات خلال نصف القرن الأخير، ينضم إلى هذه السلسلة الذهبية من الأعلام والمجددين والمصلحين، الذين وإن اختلفت تجاربهم وتنوعت، إلا أنهم تركوا بصماتهم على مسار هذه الأمة.

وعلى ضوء ما سبق، يتضح مغزى حمامة السلام التي تتصدر شعار المؤتمر بتحليقها فوق رمزين من أهم رموز مصر وتركيا، ومن ناحية أخرى؛ تنجلي من وراء أشعة الضوء ملامح الشيخ فتح الله كولن.

وأخيرًا، فإن مشاركة أ.د. أحمد الطيب بمحاضرة افتتاحية للمؤتمر تعكس ما يجب أن يكون للأزهر الشريف، جامعًا وجامعةً، من دور في عملية الإصلاح في العالم الإسلامي.

السادة الحضور

لن أفيض في شرح دوافع المؤتمر وأهدافه ومنطلقاته فسيتحقق هذا من خلال الفيلم التعريفي، كما أن كتالوج المؤتمر يقدم صورة وافية عن هذه الأمور، ولكن يهمني أن أبرز أربع نقاط أساسية:

أولاً: يندرج موضوع المؤتمر في نطاق دوائر الحوارات البينية التي يهتم بها مركز الدراسات الحضارية على صعيد الحضارة الإسلامية، وذلك بعد أن اهتم المركز خلال السنوات الماضية بالحوارات بين العالم الإسلامي والغرب. كذلك فإن قضية الإصلاح في العالم الإسلامي من القضايا الحضارية، أي التي تطرح مجموعة من العوامل المتشابكة، التربوية والتعليمية والثقافية إلى جانب العوامل الاقتصادية والسياسية، ومن ثم فهي من القضايا التي تحتاج رؤى كلية وشاملة واستراتيجية يشارك في تأسيسها وبلورتها تخصصات متنوعة، ناهيك بالطبع عن أن غاية الدراسات الحضارية تتحقق بشكل أفضل من خلال النظرة المقارنة، وهذا ما يتحقق على صعيد هذا المؤتمر.

ثانيًا: إن الحوار العربي التركي من أهم دوائر الحوارات البينية على صعيد الحضارة العربية الإسلامية. وإذا كانت قضية الإصلاح في العالم الإسلامي تطرح وتثير جدالات فكرية وأكاديمية وسياسية حول نماذج متنافسة من الإصلاح، من بينها النموذج التركي، فإن مؤتمرات عالمية، انعقدت في عواصم أوروبية وفي ولايات أمريكية حول فكر وحركة فتح الله كولن، باعتبارها من أهم حركات الإصلاح في العالم الإسلامي خلال نصف القرن الأخير، ومن ثم باعتبارها من أكثر الحركات الاجتماعية والمدنية تأثيرًا على العالم في القرن الواحد والعشرين.

وبناءً عليه، فإن حركة فتح الله كولن التي أضحت ذات امتدادات عالمية وتأثيرات خارجية، انطلاقًا من إنجازات وطنية تركية، كان لا بد أن تحوز اهتمامنا في دائرة الحوار التركي-العربي، على أن يكون لاقترابنا منها خصوصية مقارنةً باقتراب المؤتمرات العالمية الأخرى.

ثالثًا: من أهم ملامح خصوصية اقتراب المؤتمر من موضوعه: التعريف بفكر كولن وأبعاد حركته وتقديمها بطريقة علمية ومنظمة باعتبارها نموذجًا من نماذج الإصلاح الإسلامي المتنوعة التي يشهدها العالم الإسلامي. وهذا التنوع والتعدد في نماذج الإصلاح من أبجديات "المرجعية الإسلامية". ويرجع هذا إلى التعدد والتنوع في تشخيص مكامن الداء ومناط العلاج ونمط عملية العلاج. ولذا تشكلت حركات وجماعات ومؤسسات واكتسبت كل منها طابعًا يعكس بؤرة اهتمامها ومنهجها. وفي جميع الحالات، يظل السؤال الأساسي المطروح هو: لماذا يعلو بُعْد من أبعاد الإصلاح على غيره لدى بعض الإصلاحيين؟ هل يكون استجابة للتحدي أم استجابة للظرف الزماني والمكاني؟

رابعًا: إن فكر فتح الله كولن وحركته الإصلاحية من مرجعية إسلامية يقدمون لنا دلالات هامة حول العلاقة بين الفكر والحركة، حول العلاقة بين القيادة والنخب والشعوب، حول العلاقة بين الإصلاح الدعوي والتربوي والاجتماعي وبين التغير السياسي الداخلي والخارجي، وأخيرًا حول العلاقة بين المنطلق الوطني التركي للحركة وبين النطاق العالمي الإنساني للرسالة الإسلامية، وباعتبار أن إصلاح حال المسلمين هو جزء من إصلاح حالة الإنسانية.

السادة الحضور

أرجو أن يكون المؤتمر ساحة لتفاعل حي وحوار بنَّاء بين تيارات الفكر حول هذه الخبرة المعاصرة التركية، وآمل أن يحقق أهداف القائمين على تنظيمه من الجانبين، التركي والمصري. فلقد عملنا معًا وبجدية طوال ما يزيد عن ثمانية أشهر، وعلى نحوٍ قدَّم تجربة فريدة من الحوار بين مركز أكاديمي في جامعة القاهرة، ومؤسسة مدنية تربوية فكرية هي وقف أكاديمية البحوث والإنترنت، ومجلة حراء، وهي أول مجلة تركية تصدر باللغة العربية من القاهرة.

وأخيرًا، أجدد شكري للسيد عمرو موسى الأمين العام للجامعة العربية والسفير هشام يوسف ومساعديه الذين بذلوا خالص الجهد لاستضافة المؤتمر.

كذلك خالص شكري للأستاذ د. أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر.

وأقدم خالص شكري وتقديري لفريق الإعداد للمؤتمر، ابتداء من التنسيق العلمي والتنفيذي الذي تولاه أ.د. إبراهيم البيومي غانم، وأ.د. باكينام الشرقاوي، وكذلك الإدارة التنفيذية مع أ.علياء وجدي المدير التنفيذي للمركز ومساعديها أ.وسام الضويني، أ.نهى طارق، وعبد الحليم محمد. وتحية من القلب للإخلاص والدأب والتفاني الذي أبداه الفريق التركي خلال الإعداد للمؤتمر، سواء من إسطنبول؛ فأشكر د. مصطفى أوزجان، وأ.جمال ترك، وأ.نوزاد صواش، وشكري أيضًا لبقية الفريق في مصر: أ.أردال، أ.إسحاق إنجي، أ.شكري، أ.سنان ومساعديهم.

 

*****

كلمة د. مصطفى أوزجان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 السيدات والسادة الحضور، المشاركون من كل أنحاء العالم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإصلاح والتجديد مصطلحان جوهريان لهما انعكاسات كثيرة في مجالات متعددة، بدءًا من الحياة الاجتماعية إلى الاقتصادية إلى الثقافية إلى السياسية. يبدأ الإصلاح والتجديد في فكر الأستاذ فتح كولن من الفرد، من تغيير الفرد وإنشائه بالاعتماد على المرجعية الإسلامية وإنشاء فرد نافع ومفيد لحضارته وللإنسانية جمعاء.

فالإنسان في ذاته قد يكون إنسانًا طيبًا، لكن ما لم يهتم بهموم البشرية، بهموم المجتمع الذي يعيش فيه، ويبحث عن حلول عما يدور حوله من مشاكل، فهذا لا يعني شيئًا. فالساعة تشير لنا إلى الوقت والانضباط، ولكنها حين تعمل غير واعية بعملها هذا، فهذا لا يعني شيئًا.

وقد ظهرت مدارس فلسفية وأنظمة فكرية متعددة عبر التاريخ وعلى مستوى العالم لكنها تناولت الإنسان جزئيًا، كل واحد منها إما ركز على عقل الإنسان، أو الجانب الروحي للإنسان، أو الجانب الجسدي للإنسان. وهذه الرؤية التجزيئية لم تأت برؤية تكاملية؛ ومن ثم لم تقدم للإنسانية السعادة المرجوة.

ربما الشيء الذي قام به الأستاذ فتح كولن هو أنه أقنع المجتمع التركي بهذه الرؤية الكلية؛ أي تناول الإنسان بكل جوانبه: عقلاً وروحًا وقلبًا وفكرًا وجسدًا، ثم أهمية البحث عن إضافة نوعية حضارية نقدمها لكل الإنسانية. وقد أقنع الأستاذ فتح كولن المجتمع التركي بهذه الفكرة.

وكذلك لفت الأنظار للقرآن والسنة وبأنهما يكفيان لتلبية متطلبات الإنسانية كلها، سواء كانت عقلية أو روحية أو جسدية، وأكد مرات ومرات بأن الله ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾(إبراهيم:19) أي إن الإنسان ما لم يجدد نفسه، ما لم يجدد رؤيته: قراءته للإنسان وللكون وللقرن وللحياة التي يعيش فيها فإنه سيدفن بين صفحات التاريخ.

وكانت توصياته دائمًا التركيز على الفكرة بدلاً من التركيز على الأشخاص، أي البُعْد عن الشخصنة. كما ركز على كون القرآن مرشدًا لكل الأجيال، وعمل على إنشاء فكرة منظمة متكاملة لنهضة العالم الإسلامي ونهضة الإنسانية كلها. ودائمًا ما ركز على الفكرة والروح والمعنى بدلاً من التركيز ولفت الأنظار إلى الأشخاص والشخصنة.

ونحن نؤمن أن العلماء والمفكرين، سواء من العالم الإسلامي والبلدان العربية المختلفة أو من دول العالم، سيخرجون من خلال هذا المؤتمر بنتائج مفيدة وناجعة لعالمنا الإسلامي ولكل الإنسانية جمعاء.

وأخيرًا أتوجه بالشكر إلى جامعة القاهرة وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأشكر الأكاديميين في هذه الجامعة، وكذلك نشكر جامعة الدول العربية لاستضافتها هذا المؤتمر. كما أشكر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب رئيس جامعة الأزهر ممثلة في شخصه وأشكر كل المشاركين والحاضرين الذين أثروا هذا المؤتمر.

 

*****

 

كلمة الدكتورة عالية المهدي

 

الأستاذ الدكتور/ أحمد الطيب - رئيس جامعة الأزهر

الدكتور/ مصطفى أوزجان - مستشار وقف الدراسات الأكاديمية والإنترنت

الأستاذة الدكتورة/ نادية مصطفى - مدير مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات

السادة الأساتذة الضيوف الكرام من خارج مصر ومن داخلها

أحييكم وأرحب بكم جميعًا في افتتاح فعاليات المؤتمر الدولي "مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي: خبرات مقارنة مع حركة فتح الله كولن التركية".

وبداية أود أن أتقدم بخالص التحية وجزيل الشكر إلى معالي السيد/ عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية لتكرمه بالموافقة على عقد هذا المؤتمر داخل أروقة جامعة الدول العربية. وفي هذا الصدد يجدر بي أن أشير إلى أن هذه ليست هي المرة الأولى التي تتعاون فيها كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مع جامعة الدول العربية. فعلى سبيل المثال، في عام 2005 شارك مركز البحوث والدراسات السياسية بالكلية في تنظيم مؤتمر دولي حول "معاداة السامية"، حظي برعاية معالي الأمين العام، حيث شارك بنفسه في حلقة نقاش مغلقة عقدت بالكلية تمهيدًا لعقد هذا المؤتمر. كما عقد في جامعة الدول العربية وتحت رعايتها ثلاثة مؤتمرات نظمها برنامج الدراسات المصرية الأفريقية بالكلية في يونيو 2005، وأبريل 2007 ونوفمبر 2008. وقبل ذلك، وكما هو معروف بين أبناء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان السيد عمرو موسى حريصًا على لقاء سنوي يجمعه بأبنائه طلبة الكلية وقت أن كان وزيرًا لخارجية مصر؛ يحاضرهم ويستمع إليهم ويحاورهم.

فبالأصالة عن نفسي وباسم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أقدم لجامعة الدول العربية العريقة وللقائمين عليها، ولشخص أمينها العام، أسمى آيات التقدير والامتنان.

السادة الحضور

إن موضوع المؤتمر الذي نجتمع بصدده اليوم وعلى مدى ثلاثة أيام، يدور حول قضية "الإصلاح في العالم الإسلامي"، بالتركيز على إحدى أكبر الحركات الإصلاحية المعاصرة في هذا العالم الإسلامي، وهي حركة الشيخ فتح الله كولن، التي بدأت داخل تركيا وامتد نشاطها وتأثيرها إلى خارج الحدود التركية، الأمر الذي يجعلها نموذجًا جديرًا بالدراسة والتحليل، وهو ما سوف تقوم به البحوث المقدمة في المؤتمر عبر محاوره التي حددتها اللجنة العملية للمؤتمر وأشارت إليها د. نادية مصطفى في كلمتها قبل قليل.

لقد ظهر وذاع مفهوم الإصلاح في أدبيات العلوم الاجتماعية عبر العقدين الأخيرين من القرن العشرين، بعد أن ظهر ما عرفت باسم "الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي" في دول العالم الثالث، والتي أعقبها نهاية الحرب الباردة وبداية عصر "العولمة" واشتراط المؤسسات الدولية المانحة -مثل صندوق النقد والبنك الدوليين- أن تمضي الدول المعنية في برامج محددة للإصلاح، تقوم تلك المؤسسات الدولية بتمويلها وبمتابعة التقدم الذي تحرزه هذه الدول بصددها.

ومع بدايات القرن الجديد كان مفهوم "الإصلاح" على قمة أجندة العلاقات بين الغرب والعالم العربى والإسلامي، واتخذ -إلى جانب بعديه السياسي والاقتصادي- بعدًا ثقافيًا، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. فقد قدمت دول غربية -وبشكل أكثر تحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية- مبادرات استقبلتها العديد من الدوائر الفكرية العربية والإسلامية بالحذر الشديد، أهمها وأشهرها مبادرة "الشرق الأوسط الكبير" التي أعلنتها الخارجية الأمريكية عام 2004. فقد استشعر هؤلاء المفكرون أن ما تقدمه هذه المبادرات من فرص وما تستوجبه من شروط ما هي إلا ذريعة لتدخل خارجي في مشروعات الإصلاح، لا سيما وأن مثل هذه المبادرات تستهدف الخصائص الثقافية والحضارية للمجتمعات العربية والإسلامية باعتبارها هي المسؤولة وحدها عما تموج به هذه المجتمعات من مشكلات يكون لها انعكاسات سلبية على العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب. وفي الوقت نفسه تغض هذه المبادرات الطرف عن مسؤولية الدول الغربية نفسها عن هذه المشكلات بسبب ماضٍ استعماري طويل وسياسات معادية في الوقت الحاضر تزيد من وطأة الشعور بالظلم وعدم المساواة لدى شعوب الدول العربية والإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي أو بالاحتلال الغربي لأراضي أفغانستان والعراق.

ولذا يشدد العديد من المفكرين والمثقفين من المنتمين إلى الدائرة العربية والإسلامية على أهمية مراعاة الخصوصيات الثقافية للمجتمعات التي تطبق فيها برامج الإصلاح، وذلك على ضوء برامج الإصلاح والتجديد التي يقدمها الفكر الإسلامي التراثي والمعاصر، وكذلك على ضوء خبرة الحركات الإصلاحية المتنوعة التي شهدها العالم الإسلامي عبر القرنين الماضيين، وتأثرت كل منها، من حيث طبيعتها ونتائجها، بالزمان والمكان.

وهنا مكمن التميز في دراسة حركة فتح الله كولن في النصف الثاني من القرن العشرين؛ فهي حركة اجتماعية ذات مرجعية إسلامية راعت مقتضيات الزمان والمكان، حيث نشأت في ظل نظام سياسي علماني ولكن ساعدت الأطر القانونية والديمقراطية في تركيا في تحقيق فعالية هيئات المجتمع المدني باختلاف مرجعياتها. ومن ثم استطاعت حركة فتح الله كولن أن تقدم في هدوء وسلاسة أفكارًا عملية نجحت في تطبيقها داخل البلاد وامتد تأثيرها إلى الخارج؛ متحدية ومتخطية المعضلة الدائمة بشأن العلاقة بين الفكر والحركة، بين النظرية والتطبيق.

الضيوف الكرام

إن لمصر دورها ووزنها في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي وحركاته المجتمعية والسياسية التي ظهرت وتبلور دورها عبر القرنين الماضيين. ومن هذا المنطلق أهتم مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتقديم هذه الخبرة المقارنة من "الواقع التركي" في إطار ضرورة تبادل الخبرات والتجارب على صعيد العالم الإسلامي، في وقت تشتد فيه التحديات التي تواجه عمليات الإصلاح فيه.

السيدات والسادة

في ختام كلمتي أتقدم إليكم جميعًا بالترحيب، وأثني على التعاون القائم بين مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ووقف الدراسات الأكاديمية والإنترنت ومجلة حراء في تركيا، وأتمنى للمؤسسات الثلاث دوام التوفيق وللمؤتمر أن يحقق الفائدة المرجوة.

 

*****

 

كلمة الأستاذ محمد فتح الله كولن([1])

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها السادة الكرام، أعضاءَ هذا المؤتمر العلمي المبارك، من باحثين وعلماءَ ودعاةٍ ومفكرين، أيها الأحبّة الأوفياء...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إن مؤتمركم هذا جدير بأن تُشَدَّ إليه الرحال. ولولا ظروف صحية تمنعني من مغادرة إقامتي، لكنت أول الحاضرين معكم، ولتربعت جالسًا بين أيديكم، مستمعا إلى عروضكم القيمة، ألتقط درر أفكاركم وتوجيهاتكم. وما ذلك إلا لأن هذا الذي اجتمعتم اليومَ من أجله هو قضية الأمة الأولى، إنها قضية الإصلاح. هذا المفهوم الذي كان ولم يزل أكبر إشكال واجهه الفكر البشري، بمختلف تصوراته ورؤاه. ورغم ما كُتب في موضوعه على المستوى الفكري الصرف؛ فقد بقيت كثير من أسئلته الفلسفية والاجتماعية معلَّقةً في أفق العقل المعاصر. والدليل على ذلك وضع العالم اليوم، المتخبطِ في متاهات الحيرة والاضطراب، بعد استهلاك كثير من نظريات الإصلاح هنا وهناك، ولكن دون جدوى.

أما بالنسبة لنا نحن معشرَ المسلمين، في عالمنا الإسلامي هذا، فإننا رغم ما نملك من رصيد تاريخي ضخم في هذا الشأن؛ إلا أننا ما زلنا نعاني في أغلب الأحوال من عدم وضوح الرؤية، وكثرة العثرات والانكسارات. وذلك لأسباب شتى، منها عدمُ ضبط مفهوم الإصلاح، كما ورد في الكتاب والسنة، وكما مارسه الأنبياء الكرام عبر التاريخ.

أيها الحضور الكريم،

إن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، كان إمام المصلحين، وقد بُعث رحمة للعالمين، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾(الأنبياء:107). ومن ثَمَّ كانت الرحمةُ هي أساسَ دعوته، وجوهرَ منهاجه الإصلاحي، حتى في أشد الظروف عنفا وشدة. فإن الإصلاح الحق هو الذي يحمله رجال مخلصون، متعلقون بأشواق الروح، منكرون لذواتهم ومصالحهم الشخصية، ينظرون إلى مظاهر الانحراف في الآخرين بعيون الشفقة والرحمة، ويعالجون جراحات الآخرين، باعتبارها قروحا تنـزف في أجسامهم هم.

إن الإصلاح تربية وتعليم، وما كان ينبغي للمعلم إلا أن يكون رحيمًا حكيمًا. ومن ثَمَّ فإن التعليم بكل أبعاده الشمولية، هو الذي يمثل جوهر المنهاج الإصلاحي، وقد ثبت في الحديث الصحيح قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا".

إن سر مركزية التعليم في العمل الإصلاحي، هو دورانه على الإنسان، مُعَلِّمًا ومُتَعَلِّمًا. ذلك أن المعلم المنخرط في مهنته بروح التعبد الخالص، يستطيع أن يصنع من تلميذه إنسانًا جديدًا، ينظر إلى مستقبل الأمة بعيون يملؤها الأمل، وقلبٍ ينبض بالمحبة والسلام. ومن ثم فإن إصلاح الأجيال، مرتهن بإصلاح التعليم، وإخراج فلسفته من ضيق المنطق الوظيفي الميت، إلى سَعَةِ العمل الإنساني النبيل، ألاَ وهو بناء الإنسان بكل أبعاده النفسية والفكرية. وإن التعليم بهذا المنطق النبوي الكريم، يستطيع أن يجدد البنى الاقتصاديةَ، والعلاقاتِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ والثقافية في البلاد، ويحدوها برفق وهدوء، نحو التآلف والتكامل والنهوض.

إن أول خطوة في مشروع الإصلاح، هي إنتاج الإنسان، الإنسانُ الذي فَنِيَ عن نفسه في قضية أمته، وتعلق قلبه بأشواق الآخرة، ثم اتخذ مهمته التعليمية مسلكا لمعرفة الله وعمارة الأرض.

وأخيرا، بارك الله في مؤتمركم.. وزكّى حواراتكم.. وجعل كل كلمة من كلماتكم   ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾(إبراهيم: 24-25).

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فتح الله كولن



[1]  كلمة مكتوبة ألقاها في المؤتمر الأستاذ/ نوزاد صواش - المشرف العام على مجلة حراء.

  • تم الإنشاء في