المحاضرة الافتتاحية عقبات في طريق الإصلاح

  الشيخ أحمد الطـيب

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد،

فيسعدني في بداية كلمتي هذه أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى أ.د. نادية مصطفى على تكرمها بدعوتي للمشاركة في افتتاح هذا المؤتمر الهام، والذي يتخذ من موضوع: "مستقبل الإصلاح الإسلامي مع التركيز على حركة الشيخ فتح الله كولن في تركيا" محوراً لمناقشة الرؤى والأفكار بأقلام نخبة متميزة من العلماء والمفكرين من داخل مصر وخارجها.

وأبادر إلى القول بأن هذه الورقة المتواضعة قد لا تضيف جديداً يفـيد في قضية إصلاح العالم الإسلامى، أو قضية نهضة الأمة العربية والإسلامية، تلكم القضية التي أرى أنه أصابها قَدْر غير قليل من الغموض والاضطراب والالتباس، صاحبَهَا في نشأتها، وفي كبواتها المتلاحقة، ولا زال يتربص بها الدوائر حتى هذه اللحظة.

واسـمحوا لي -أيها السـادة العلماء- أن تجيء كلمتي هذه عامة وكلية، حتى إن وقعت في عيب الخلط بين التصورات والمفاهيم، وأولها هذا الخلط الذي لا مفر منه، بين مشاريع الإصلاح الجزئية التي حققتها نخبة من رواد العلماء المسلمين، وبين مشروع نهضة الأمة نهضة شاملة..

ولعلكم تتفقون معي في أن نجاح أي مشروع إصلاحي لأزماتنا المتعددة الأبعاد بات مشروطا بوَحدة "مرجعية عليا" ينمو في ظلالها هذا المشروع أو ذاك، ويؤتى ثماره الطيبة على صعيد الإصلاح والتجديد، والتصدي للتحديات المتراكمة في واقعنا المعاصر الآن.. ولقد مرَّ على هذه الأمة، مذ حاولت النهوض والإصلاح، قرابة قرنين من عمر الزمان، عُرفت فيها حركاتٌ إصلاحية فكرية وثقافية كبرى، لا نشك لحظة في أنها نجحت في التصدي لعواصف الاستلاب والاقتلاع من الجذور، وأَهّلت الحضارة الإسلامية وقتها لتجاوز أزمات شديدة الخطر، كانت كفيلة بالقضاء على هذه الحضارة آنذاك قضاء مبرما.. ومع ذلك، وبرغم تواصل هذه الحركات الإصلاحية حتى وقتنا هذا، فإن الظروف العصيبة التي تحيط الآن بالأمة العربية والإسلامية تعـيد إلى الأذهان الظروف نفسها التي أحدقت بهذه الأمة منذ قرنين مضيا من الزمان، وتُشكِّل -مثلما شكلت من قبل- الأسباب الجديدة الملحة لصحوة جديدة، ونهضة محسوبة جيدًا، في شتى المجالات، وبخاصة في مجال الفكر والثقافة، والمحافظة على هوية الأمة وكيانها الحضاري، بل إن ما يثار اليوم من أسئلة حضارية وثقافية يشبه كثيرًا أسئلة الأمس البعيد، ولسنا في حاجة إلى تقديم الدلائل والشواهد على هذه المفارقة المحزنة، وكيف والإعلام والصحف والمجلات والفضائيات العربية والإسلامية ونوعية الهموم التي تشغل عقول شباب الأمة ورجالها ونسائها، تثبت أنه ليس في الإمكان أسوأ ولا أضيع ولا أشد هواناً مما كان.

وهـذا ما يدعونا إلى البحث من جديد عن العلل والآفات التي شكلت أزمةً مزمنة في قلب نهضتنا الإسلامية ومشاريعها الإصلاحية، والتي لم تتوقف موجاتها حتى هذه اللحظة.. وفي رأيي المتواضع -تواضعًا حقيقيًا- أن علة العلل هي -كما قلت من قبل- فقدانُ وحدة المرجعية العليا والتقلب بين مرجعيات عديدة متباينة، ومنها مرجعيات تغريبية تم استدعاؤها من الشرق تارة، ومن الغرب تارة أخـرى، وأريد لمجتمعاتنا أن تعمل بوحي من فلسفاتها وعقائدها.

هذا وإن من تكرار القول التأكيدَ على أن المرجعية العامة ضرورة لا مفر منها في مشاريع النهضات والإصلاح، وليس صحيحًا ما يقال من أن المرجعية الواحدة تشكل تنميطًا للمجتمع أو قيدًا على تعدديته، أو عائقًا لحركته التطورية. بل العكس هو الصحيح، إذ أثبت الواقع أن غياب المرجعية الكلية في نهضات الأمم هي بيت الداء ومبعث كل العلل والأمراض التي تفتك بشخصيتها وتحيلها إلى مسخ شائه وكيان مريض لا هو حي ولا هو ميت..

ولنعتبر بالغـرب الذي نجعل منه معيارًا وأنموذجًا للخلاص والتنوير، وتبديد الظلام، إنه شديد الاختلاف والتنوع في مذاهبه وأذواقه وأنظاره السياسية والثقافية والدينية، ومع ذلك فإن هذا التباين لم يقض على نهضته مثلما قضى على نهضات الأمة العربية والإسلامية، ذلك أن تباينات الذهن الغربي استطاعت أن تتماسك وتتناغم بسبب من وحدة المرجعية الغربية المركزية، والتي فجرت طاقات المصلحين والمبدعين والمثقفين، وحشدتها في اتجاه خط حضاري ارتأته ورضيته لنفسها. هـذا في الوقت الذي آلت فيه تباينات الذهن العربي-الإسلامي إلى متواليات من التجزئة والفشل والتبعية والاستلاب.. لقد شـكل "الاختلاف" في التجربة الغربية جسرًا متينًا عبر بالغرب إلى ضفاف القوة والتقدم والرفاهية، بينما شكل في تجربتنا معول هدم وتدمير.. والفارق بين التجربتين هو أن "الاختلاف"، الذي يشبه أن يكون فطرة فطر الله الناس عليها، كان يعمل في الغرب ضمن إطار جامع وفي اتجاه محدد، أو لنقل: كان له مقصدٌ أعلى يتحرك نحوه المجتمع بكل تنوعاته وتناقضاته، أما مجتمعنا الشرقي فقد تمزق بين مقاصد شتى، متعارضة ومتصارعة إلى درجة الإقصاء والاستبعاد والنفي.

إن هذا التذبذب بين مرجعيات متصارعة، أدى -في الحالة الإسلامية- إلى ما يشبه الحديث عن مشاريع شتى للنهضة، مثلت تيارات وفصائل سياسية ومذهبية لا تعبر عن هموم الأمة بقدر ما تعبر عن انتماءاتها للداخل والخارج. ومن هنا لم يكن عجبًا أن نجد" مثقفي النهضة المحدثين([1]) يقسمون النهضة إلى نهضات: أولى وثانية وثالثة، ورابعة وخامسة، حسب التقسيمات المعروفة للتاريخ العربي المعاصر في نهاية القرنين الماضيين. وأمر طبيعي ألا يستقيم لنا -في هذه الفوضى- مشروع واحد للإصلاح أو النهضة تتحدد ملامحه وقسماته، ويشارك في صياغته السياسيون وعلماء الأديان، والمثقفون والأدباء، والكتاب على اختلاف أذواقهم ومشاربهم، وعلماء القانون والتربية والاجتماع والفنانون، وتُهَيّأ له أذهان الشباب وعقول الجماهير، وأمر طبيعي أيضًا أن تتلاشى هوية الأمة وتتخطفها المذاهب والتوجهات: ما بين توجه رأسمالي وآخر اشتراكيّ وحدوىّ، وثالث قومي، ورابع بعثي وخامس ليبرالي، مع انفتاحات شديدة الحياء والخجل، تراوح بين الحين والآخر، بين الفكر الإسلامى والقومي والاشتراكي. وهذه سلبية قاتلة تَفرَّد بها عالمنا العربى إذا ما قورن مثلاً بأوروبا أو أمريكا أو روسيا والصين، أو دول شرق آسيا أو غيرها من الدّول التي يجمعها هدف مشترك، أو اتحاد يحميها ويُمكِّنها من تحقيق أهدافها الكبرى، وذلك على الرغم من توافر كل مقومات التكامل بين العالم العربي الذي يتكلم لغة واحدة ويدين بأديان سماوية متآخية وينتمى إلى جنس واحد مشترك، ومن غياب تام لكل هذه المقومات في كثير من دول الاتحادات الكبرى كالاتحاد الأوروبي مثلاً.

وإذا كان غياب المرجعية الواحدة هو المسؤول عن تبديد جهود الرواد الأوائل للنهضة العربية والإسلامية، فإن السبب نفسه هو المسؤول أيضاً عن الانتكاسات التي تردت فيها مشاريع إحياء الثقافة الإسلامية، والتي بدأت بخطوات ثابتة في أول الأمر، ثم ما لبثت أن بدأت في العد التنازلي، حتى صار أمرها الآن إلى ما يشبه "الخواء" العلمي والفكري.

ولعـلّ اضطراب الرؤية في الثقافة الإسلامية والذي تعاني منه الأمة منذ زمن طويل هو فرع اضطراب الرؤية في الثقافة العامة للأمة أو الدولة الإسلامية، وهذه خاصة الثقافة الإسلامية التي قد تنفرد بها من بين سائر الثقافات الدينية الأخرى، حيث يمكن لهذه الثقافات أن تعمل وتزدهر في معزل عن المنظومة الثقافية العامة للدولة، لأن خطاب هذه الثقافات يتوقف بطبيعته عند الفرد، ولا يتخطاه إلى مخاطبة النظم الحياتية من سياسية واجتماعية وثقافية وفنية وغيرها من النظم التي يعيش الفـرد تحت ظلالها، وهذا الفرق بين طبيعة الثقافة الإسلامية والثقافات الدينية الأخرى، هو فرق ما بين طبيعة الإسلام وطبيعة الأديان السماوية في علاقتها بالفرد والمجتمع والتاريخ، وهو أيضًا فرق ما بين حضارة الشرق وحضارة الغرب في موقفهما من الوحي والنبوة والدين؛ فالوحي في حضارة الشرق مقدَّس ومطلق ومتعال وكاشف عن قيم الحق والخير والجمال في المجتمعات وموجه إليها، بينما المقدَّس في حضارة الغـرب هو الإنسان، وجسده ونوازعه العقلية والمادية، أما الدين فهو شأن خاص بالحرية الفردية إن استحسنته حرية الفرد فهو حسن، وإن استقبحته فهو قبيح، وقد ساعد على هذه الرؤية الانفصامية -لسوء الحظ- طبيعة الفصل المشروع في المسيحية بين ما لله وما لقيصر، الأمر الذي انتهى إلى تكريس النظام العلماني، وفصل الدين عن كل شؤون الدولة، وإقصائه بعيداً عن مراكز التأثير والتوجيه في المجتمع. وقد دفعت هذه المأساة بعض المخلصين من علماء المسيحية إلى إحداث تغييرات في تفسير الكتاب المقدس، وفي طبيعة الكنيسة ووظائفها، أملاً في أن تلتقى قيم الكتاب المقدس، وقيم المجتمع الجديد في أنموذج الإنسان الغربى المعاصر، ولكن الأمر انتهى من جديد إلى غلبةِ قيم المنفعة والمصلحة والمتعة ووفرة الإنتاج والاستهلاك.. وقال ماسكال في كتابه "علمنة المسيحية" قولته الشهيرة: "إننا بدلاً من أن ندخل العالم في المسيحية أدخلنا المسيحية في العالم.([2])

أيهـا السـادة العلمـاء!

لا ينبغى ولا يليق أن أطيل عليكم في أمور تعلمونها بأكثر مما أعلم. غير أنى قصدت إلى القول بأن تجاربنا الإصلاحية لن يكتب لها النجاح إلا إذا انطلقت من منظور مرجعية متفق على خطوطها العريضة العامة، وأن "الوحي" أو "الدين" أو "التراث الإسلامي" أو ما شئتم من هذه العناوين يشكل عنصراً أساساً في صياغة هذه المرجعية، وأنه المرجعية الوحيدة التي تحظى بشئ كثير أو قليل من القبول والرضى من الجميع بل يوشك أن يكون محل اجماع من قبل المعتدلين من غير الإسلاميين، وبخاصة بعد ما أسفر الغرب عن وجهه القبيح بعد حادثة الحادى عشر من سبتمبر المشهور، والتي أيقظت كثيرين من دعاة التغريب، وحملتهم على مراجعة موقفهم تجاه أمتهم.. وأنا لا أزعم هنا أن مرجعية النهضة أو الإصلاح يجب أن تنحصر في تراثنا العقلي والنقلي وأن توصد النوافذ ضد ثقافة الغرب وعلومه، فهذا أقرب إلى الانتحار الحضارى للعرب والمسلمين، بل هو أمر غير ممكن وغير قابل للتطبيق في الواقع المعاصر. غير أنه إذا اتفقنا على أنه لا إصلاح ولا نهضة لأمة تسقط من حسبانها ثقافة الغرب وعلومَه، فلنتفق -وبالقدر نفسه- على أنه لا قوام لأي إصلاح أو نهضة تسقط من حسبانها هوية الأمة وثقافتها ومكونات بقائها وصمودها. وإذن فالتراث بهذا المعنى وفي هذا الإطار المنصف شرط لا مفر منه لأي إصلاح حقيقى تبقى معه الأمة موجودة على قيد الحياة..

وهنا يجب أن نلفت النظر إلى سلبيات تنشأ عادة من تطبيق التراث واستلهامه في مشاريع الإصلاح والتجديد، وتسهم إسهاماً واضحاً في خلق أزمات تلقى بمشاريع الإصـلاح في مهب الريح.

من هذه السلبيات:

عدم التفرقة -على أرض الواقع- بين ما هو ثابت في الدين وما هو متغير، إذ من المسلم به عند المسلمين جميعاً أن الإسلام -بما هو دين الزمان والمكان- لابد أن يشتمل على ثوابت خالدة، وعلى متغيرات متحركة، وأنه في مجال الثوابت جاء بضوابط قطعية خالدة لا تتأثر بتقلبات الزمان ولا بحركات التطور، وهى قابلة للتطبيق في عصر الذرة وسفن الفضاء، مثلما كانت كذلك في عصر الصحراء والإبل تماماً بتمام([3]).. والأمر بالعكس في مجال المتغيرات الذي خُوطب فيه الناس "بمبادئ عامة ومجملات مرنة، وظنيات واسعة، يمكن أن تنزل على الواقع بوجوه شتى، تبعاً لتطور ظـروف الحياة وعلاقاتها، وعلم الإنسان وتجاربه.([4])

وثوابت الدين -التي لا تقبل التغيير- هى العقيدة، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما ثبت بدليل قطعى من المحرمات، وأمهاتُ الأخلاق "وما ثبت بطرق قطعية في شئون الأسرة من زواج وطلاق وميراث ومعاملات وحدود وقصاص" وهى لا تدخل تحت الحصر... وهذه الثنائية بين ثوابت ومتغيرات في رسالة الإسلام تكشف عن إعجاز هذه الرسالة، وأنها -بحق- ديـن الفطـرة لأن الإنسان -بما هو روح وجسد- كائن مواطن في عالمين، ومشدود إليهما بعلاقتين:

علاقة بالله -تعالى- وعلاقة بوسط مادي متغير غير مستقر: فما كان متعلقاً بالله من عقائد وعبادات ونظم ثبّته الإسلام، وما تعلق بالجانب المتغير راعى فيه المرونة والحركة، ولكن في إطار الأهداف العليا للإيمان بالله تعالى. من هنا جاءت نصوص القرآن الكريم، المتعلقة بالأحكام المتغيرة -مثل: الأحكام المدنية والدستورية والجنائية والاقتصادية- متضمنة " الأحكام الأساسية والمبادئ العامة، التي لا تختلف فيها بيئة وبيئة، وتقتضيها العدالة في كل أمة، ليكون أولو الأمر -في أية حال- في سعة من أن يُفرّعوا ويفصلوا حسبما يلائم حالهم، وتقتضيه مصالحهم.([5])

ويضرب علماء الفقه مثلاً للمتغيرات "البيع"، حيث تكثر مواده في القوانين المدنية كثرة هائلة، بينما لم يُذكر في القرآن منها إلا أربعة أحكام فقط. وكذلك الأحكام الدستورية لم يقرر فيها القرآن أكثر من ثلاثة مبادئ: الشورى والعدل والمساواة. ونفس الشيء بالنسبة للعقوبات والقوانين الاقتصادية وما أشبهها.([6])

هذه المتغيرات تتسع -بطبيعتها- لتطبيقات عدة، وصيغ مختلفة، كلُّها مشروع ما دام يحقق مصلحة معتبرة في موازين الإسلام ولا يصدم مقصداً من مقاصده. وليس بلازم أن تكون صيغة واحدة من صيغ هذه المتغيرات هي الصيغة المشروعة دون غيرها، وما دام الإطار شرعياً فليأت المضمون في أية صيغة يتسع لها هذا الإطار، والمتأمل في بعض الآراء الرائجة والمناهضة للتجديد الآن، يلاحظ فيها خلطًا بين هذين الأمرين، وأن صيغة معينة تكتسب -دائماً- شرعية تنفي بها الصيغة الأخرى التي تحقق ذات المقصد، لا لشيء إلا لأن هذه الصيغة كانت على صورة معينة فرضها قانون الاجتماع المدني في عصر معين. ومـن أمـثلة ذلـك أمور يشتد فيها الخلاف الآن إلى درجة التحزب والانقسام: كالفتوى بحرمة حلق اللحية، أو عدم القيام للقادم، أو الرأى الذي يروج له مؤخرًا وهو أن تعدد الزوجات من السُّنة، أو ما نعيشه الآن من أزمات "موقعة النقـاب الكبرى" التي قامت لها القيامة ولم تقعد حتى هذه اللحظة.... إلخ هذه الأمور التي رُوعيت فيها بيئة الحكم وظروف زمانِه ومكانه، ولم يُراعَ فيها المقصد الشرعي.. وأساس الإشكال في هذه الأمور أن الفتوى -فيما يقول بعض المعاصرين- قد تأخذ "السيرة الاجتماعية" للحكم، على أنها "سيرة شرعية"، وتكون النتيجة -والحالة هذه- المزيد من الاضطراب في فهم مقصد الشارع في هذه المسألة أو تلك.([7])

وقد ترتب على آفة الخلط بين ما هو ثابت ومتغير في الدين آفة أخرى، هي الخلط بين ما يُعد تشريعاً عاماً وما لا يعد كذلك. وقد فصل الفقهاء هذه المسألة بما لا يقبل المزيد، ويبيّنون أنها كانت من أسباب الاختلاف المشروع بين الأمة، وكانت مصدر رحمة ويسر في الدين، إذ كانت المسألة الواحدة يراها مجتهد شرعاً عاماً لا يتغير، بينما يراها مجتهد آخر حكمًا مصلحيًا يتغير بتغير المصلحة.([8]) وهنا يقول الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت: "ليس كل ما روى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإرشاداته يُعد تشريعاً ذا حجية ملزمة شرعاً للمسلمين.([9]) ولنا أن نتصور القفزة الهائلة لتجديد الفكر الإسلامى فيما لو طُبقت هذه القاعـدة، وتمت عملية فرز دقيق للعناصر التي يُظن أنها مُلزمة، بينما هي في حقيقة الأمر خالية من كل معاني الإلـزام. وقد نعى الشيخ عبد الجليل عيسى على علمائنا المعاصرين" عدم عنايتهم بالتحرى عن ظروف كثير من أوامره - صلى الله عليه وسلم - وإرشاداته، وهل المراد منها أن تكون تشريعًا عامًا دائمًا، أو خاصًا ببعض الناس دون بعض، أو ببعض الظروف دون بعض.([10])

ومن هذه السلبيات: عدم التفرقة بين الشريعة وبين الفقه، وإضفاءُ الشريعـة على الآراء والفهوم البشرية، واعتبارُها في رتبة النص المعصوم، والحق أن الشريعة هي نص القرآن والسنة الصحيحة، أما الفقه فهو استنباطات العلماء من فقهاء وأصوليين ومفسرين ومحدثين ومتكلمين، وهذه يجب أن يُنظر إليها على أنها معارف بشرية، أو تراث يؤخذ منه ويترك.. ولا ينبغي أن يُفهم من ضرورة هذه التفرقة أننا ندير ظهورنا لتراثنا الفقهى، أو نقلل من أقدار فقهائنا، أو أننا نستبدل به عناصر غريبة عنه تناقض طبيعته، ولكن هذا شيء، والنظر إليه بعين العصمة شيء آخر، فالتراث ليس كله مقبولاً، وليس كله مرفوضًا، وبتعبير أدق: ليس كله قادرًا على مواجهة مشكلات العصر، وليس كله -أيضًا- بعاجز عن التعامل معها، وهذه ليست سلبية يوصم بها التراث، بل هو منطق الأشياء وحقائق الأمور، فالحركة المتجددة هي خاصة هذا التراث، وتستلزم -بالضرورة- إلغاء عناصر، وإبقاء عناصر أخرى، وإضافة عناصر ثالثة حسب الحاجة والمصلحة، والتراث بهذا المعنى تيار دافق، ونهر سيال لا يكف عن الجريان، أو: هكذا يجب أن يكون، وإلا تحول إلى ما يشبه ماءً راكدًا آسناً يضر أكثر مما يفيد. والذين يظنون أنهم قادرون على مواجهة المستجدات بمجرد استدعاء الأحكام الجاهزة من تراث القرون الماضية يُسيئون -من حيث يدرون أو لا يدرون- لطبيعة هذا التراث العظيم، وهي طبيعة نادرة، ما أظن أن تراثاً آخر عُـرف بها من قبل، وأعنى بهـا، القـدرة علـى "التحـرك" لمعانقة الواقـع المتجـدد وتنزيل الخطاب الإلهي عليه، فالتراث صدى لنصوص الوحي الإلهي، مفهومةً بفهم معين في عصر معين، فإذا اختلفت طريقة الفهم في استلهام النص تحرك التراث وإذا ثبتت ثبت التراث وتجمد، وثمتئذ يكون العيب في التراث المتوقف لا في النص.

لقد أدى الخلط بين الفقه والشريعة إلى الوقوع في "التقليد" واتخاذه منهجًا ثابتًا في البحث عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة، وقد استبدت هذه الآفة بمسرح الثقافة الإسلامية -وبكل أسف- في كثير من إفرازاتها؛ فمازلنا نبحث في آراء القدماء عن إجابات لا تتطابق مع أسئلة القرن الحادي والعشرين، وربما قَصَدنا إلى الرأي الأكثرِ حرجًا ومشقة، وروّجناه بشكلياته وقشوره، رغبة في التميز والمخالفة من أجل المخالفة، وهذا الأسلوب لا يكشف عن شيء من عظمة التراث ولا حيويته، لأن حيويته رهن بقدرته على إحداث تجليات جديدة للنصوص، واستيلاد أحكام تلبى حاجات مستجدة، ليست هى بالضرورة تلك الحاجات القديمة. ومن الحق -كما يقول د. محمد يوسف موسى- "أن الاعتزاز بتراث الماضين من الأجداد والأسلاف أمر طبيعي وغريزي في الإنسان، وأنه من العبث والحمق أن نحاول التنكر لهذا التراث والاستغناء عنه (...) لكن من الحق أيضاً أن الجـمود من سـمات المـوت، وأن الـحركـة هي الخاصية الأولى للحياة، وأن القرآن العظيم نعى في كثير من آياته على التقليد والمقلدين.([11])

ومن المستغرب -فعلاً- أن تركن الأمة إلى آفة التقليد في عصرنا هذا، وتتخذ منها ما يشبه المنهج الثابتَ في علاج قضايا العصر، وهى تقرأ فيما تقرأ من كلام أئمة الفقه تحذيراً واضحاً ونهياً صريحاً عن التقليد، باعتباره طريقاً يفضى -لا محالة- إلى الجمود وقتل ملكة التفكير وشل حركة التجديد والإبداع، تقرأ كل ذلك في عبارات لا تقبل التأويل، مثل قولهم: "لا تقلدني" وقولهم: "خذ من حيث أخذوا" وقولهم: "يتّبع الرجلُ ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه، ثم هو من بعد، في التابعين، مخير". وهذه المأثورات تمثل مرويات صحيحة للإمام أبي حنيفة والإمام أحمد والإمام الشافعي، وبخاصة: مرويات الإمام مالك حين قال له المنصور: "اجعل العلم يا أبا عبد الله واحدًا! "فقال الإمام: "إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في البلاد فأفتى كلٌّ في مِصره بما رأى، وإن لأهل البلد (مكة) قولاً، ولأهل المدينة قولاً تعـدوا فيه طورهم"، ولما قال المنصور: "إنما العلم عند أهل المدينة "فضع للناس علمًا" رد عليه الإمام: "إن أهل العراق لا يرضون علمنا، ولا يرون في علمهم رأينا.([12])

أيهـا السـادة العلمـاء!

إن التجديد أو الإصلاح الذي ننتظره، يجب -في تصوري- أن يسير في خطين متوازيين:

1. خط ينطلق فيه من القرآن والسنة أولاً، وبشكل أساس، ثم مما يتناسب ومفاهيم العصر من كنوز التراث بعد ذلك. وليس المطلوب -بطبيعة الحال- خطابًا شموليًا لا تتعدد فيه الآراء ولا وجهات النظر، فمثل هذا الخطاب لم يعرفه الإسلام في أي عصر من عصور الازدهار أو الضعف، وإنما المطلوب خطاب خال من "الصراع" ونفي الآخر واحتكار الحقيقة في مذهب، ومصادرتها عن مذهب آخر مماثل.

2. وخط مواز ننفتح فيه على الآخرين بهدف استكشاف عناصر التقاء يمكن توظيفها في تشكيل إطار ثقافي عام يتصالح فيه الإسلاميون مع الليبراليين، ويبحثون فيه معاً عن صيغة وسطى للتغلب على المرض المزمن الذي يستنزف طاقة أي تجديد واعد، ويقف لنجاحه بالمرصاد، وأعنى به: الانقسام التقليدي إزاء "التراث والحداثة" إلى: تيار متشبث بالتراث كما هو، وتيار متغرب يدير ظهره للتراث، ثم تيارٍ إصلاحي خافت الصوت لا يكاد يبين. وهذا الاختلاف -في حد ذاته- أمر طبيعي وظاهرة مقبولة، لكنه ليس مقبولاً ولا طبيعيًا أن يتحول الموقف كلُّه من مواجهة خارجية إلى صراع داخلي يترك الساحة خالية لفرسان أجانب يسحقون الجميع. وقد لاحظنا في تجارب القرن الماضي أن أصحاب التيار الأول كانوا يراهنون على أن "بالإمكان العيش في إطار التقليد الضيق، الموروث عن السلف، وإيصاد الأبواب في وجه أمواج الحضارة الغربية وثقافتها المتدفقة"([13]) غير أنهم ما لبثوا أن تراجعوا دون أن يهيئوا المجتمع لأن يتعامل مع المتغيرات العالمية بأسلوب مدروس، وكانت النتيجة أن أصبح المجتمع أعزل أمام ثقافة غربية مكتسحة، والشيء نفسه يمكن أن يقال على "المتغربين"، الذين أداروا ظهرهم للتراث، ولم يجدوا في الاستهزاء به والسخرية منه حرجاً ولا حياء، وأعلنوا مقاطعة التراث شرطاً لا مفر منه في حداثة التجديد والإصلاح. وكانت النتيجة أن أدارت الأمة ظهورها لهم، بعد ما تبينت أنهم لا يعبرون عن آلامها وآمالها، وأنهم يغردون وحدهم خارج السرب، هؤلاء خسروا المعركة أيضاً، ولم يحلوا مشكلة واحدة من مشكلات المجتمع، إن لم نقل: زادوا الأمور ظلاماً على ظلام.([14])

أما التيار الإصلاحي "الوَسَطي" فإننا نحسبه التيار المؤهل لحمل الأمانة، والجدير بمهمة "التجديد" الحقيقي، الذي تتطلع إليه الأمة، وهو -وحده- القادر على تجديد الدين بعيداً عن إلغائه أو تشويهه، ولكن شريطة أن يتفادى الصراع الذي يستنزف طاقته من اليمين ومن اليسار.

وما أظن أنني بحاجة إلى التذكير -أخيراً- بأن هذه الورقة ليس من همها الدعـوة إلى التفاعل مع الغرب أو التناغم مع ألحانه، فما تزال الحكمة القائلة بأن "الغرب غرب، والشرق شرق، ولن يلتقيا" تتمتع بقدر هائل من الصدق، والواقعية، ولكن همّ هذه الورقة -والذي لا ريب فيه- هو: ضرورة التجديد، بحثاً عن الإجابة على أسئلة من قبيل: من نحن؟ ومن الآخر؟ وكيف نحاوره ونصمد أمامه. ولعل مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة يجد متسعاً في رحابه لانطلاقة موَفّقة في مجال مستقبل الإصلاح في العالم الإسلامي، والبحث في حركة الشيخ: فتح الله كولن التركية، ولعله يجد فيها المفتاح الضائع لهذه القضية المغلقة التي قـد ضلَّ مفتاحها.

شكراً لحسن استماعكم.

 



[1]  أنظر، رضوان جودت زيادة: "الأيديولوجيا المستعادة في مجلة عالم الفكر، الكويت (ص 16) العدد 33 أبريل-يونيو 2005: وأيضاً عبد الإله بلقيز في مقدمة: نحو مشروع حضاري نهضوي عربي ص 40، مركز دراسات الوحدة العربية 2001م.

 [2]  نقلاً عن: سيد محمد نقيب العطاس، مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية، ترجمة محمد طاهر الميساوي ص 31، المعهد العالمي للفكر والحضارة الإنسانية. مالـيزيا 1420هـ / 2000 م.

 [3]  محمد باقر الصدر، موجز أصول الدين، 101، 102.

 [4]  حسن الترابي، قضايا التجديد، دار الهادي، بيروت 1421 هـ / 2000 م.

 [5]  أنظر البحث القيم للشيخ عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي مرنة، مجلة القانون والاقتصاد ص 254-255، عدد 4، 5 أبريل ومايو 1945م.

 [6]  السابق الموضوع نفسه.

 [7]  السيد محمد حسين فضل الله، أثر الزمان والمكان في الاجتهاد، ضمن كتاب: مناهج التجديد، تحرير: عبد الجبار الرفاعي، ص 35-36، دمشق 1421هـ - 2000م.

 [8]  أنظر كتاب: تعليل الأحكام للشيخ محمد مصطفى شلبي: 319، القاهرة 1945 م.

 [9]  الإمام الأكبر الشيخ شلتوت، الإسلام عقيدة وشريعة، 420، القاهرة 1959 م.

 [10]     نقلاً عن: عبد الحميد متولي، أزمة الفكر السياسي: 74.

 [11]     من مقال له بعنوان: كفانا تقليداً للفقه، مجلة الأزهر، شوال 1372هـ ، يونيو 1953م، ص 1067.

 [12]    المصدر السابق، 1068؛ كفانا تقليداً للفقه، مجلة الأزهر، شوال 1372هـ، يونيو 1953م، ص 1067.

 [13]    محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، 55-60، دار الجديد، بيروت 1999 م.

 [14]    يتساءل أحد الممثلين لهذا الاتجاه عن سر التخوف من غزو العولمة قائلاً: "ولمَ التشاكي والتباكي إزاء ثورة الاتصال، وتوغل الثقافة الغربية إلى عالمنا العربي الذي ظل قروناً طويلة مغلقاً على بلادته وجموده وخرافاته وأعرافه القاتلة؟ (....) فليكن الغزو الثقافي الغربي الصدمة الكهربائية المنقذة من نهايتنا المحتومة، ولتهب علينا رياح الغرب من كل الجهات لتغزنا ثقافته، ولتستفزنا قيمه، فربما كان في ذلك خلاصنا ويقظتنا من سبات طال، وطال حتى كأنه الموت" انظر: منير شفيق، في الحداثة والخطاب الحداثي 183-186، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء 1999.

  • تم الإنشاء في