القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

رابعا: ما بعد المابعد

المصطلحات التي تبدأ بالكاسحة "post" والتي تعني حرفيًّا "بعدَ"، ولكنَّها تعني في واقع الأمر "نهايةً أو تَحوُّلا جوهريًّا كاملا" مثل: post-modern بمعنى "ما بعد الحداثة"، و post-industrial بمعنى "ما بعد الصناعي"، وpost-capitalist بمعنى "ما بعد الرأسمالي"؛ و post-historical بمعنى "ما بعد التاريخ" التي تعني في واقع الأمر "نهاية التاريخ".

وأحسن وصف لمدلول "ما بعد الحداثة"، مقولة رئيس الجمهورية التشيكية، الكاتب المسرحي الشهير "فاكلاف هافل"، التي وصف فيها أمله في "عالم ما بعد الحداثة" باعتباره واحدا مبنيا على أسسٍ علمية، ولكن المفارقة فيه "حيث كلِّ شيءٍ ممكن، ولا شيء مؤكدٌ تقريبا"[46].

ومصطلح "ما بعد الحداثة"، في جلِّ استخداماته يصف الاتجاهات التي يُنظر إليها على أنها نسبية، أو مضادة للتنوير، أو المناوئة للحداثة؛ لاسيما فيما يتعلق بنقد العقلانية، أو الكونية، أو العلم. كما أنها أحيانا تُستخدمُ لوصف الاتجاهات في المجتمع الذي يُنظر إليه أنه نقيضٌ للنظم التقليدية للأخلاق.

وليست كلُّ مقولات "ما بعد الحداثة" خاطئةً، بخاصَّة ما كان منها نقدا للحداثة؛ غير أنَّ أسلوب ردَّة الفعل الذي لازم إيقاع "ما بعد الحداثة" جعلها تنحرف انحرافا شديدا، فعوض أن تعالج الداء بالدواء، راحت تداوي الداء بداءٍ أشدَّ فتكًا؛ وهذا دليل آخرُ على الحيرة، وعلى العجز عن إيجاد الجواب الشافي، والترياق المعافي، لما آلت إليه البشرية منذ أمد طويل.

مِن أين المخرج؟!

تقف البشريةُ اليومَ، بشقيها الغربيِّ والشرقيِّ على السواء، أمام العديد من الخيارات:

إمَّا أن تواصل الكدح في حيرتها قرونا أخرى،

أو تبحث عن جواب (أو أجوبة جديدة) ضالَّة مضلَّة،

أو تهتدي إلى معنى "المعقولية"، و"الحقِّ"، و"الصواب"... وهو المأمول بحول الله تعالى.

ألَّف "مراد هوفمان" كتابا بعنوان "الإسلام كبديل"، ولم يكن في الحقيقة من نوع الكتَّاب الذين يوظِّفون الشعارات الكبيرة الرنانة، لمجرَّد التهويل، وإنما هو عالِم محترَم، له خصائصه الفكريةُ والحضاريةُ، وصاحب منهج علميٍّ متميِّز؛ ومما جاء في كتابه: "إنَّ الانتشار العفويَّ للإسلام هو سمةٌ من سماته على مرِّ التاريخ، وذلك لأنَّه دينُ الفطرة المنزَّل على قلب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-"[47]. وقال في موطن آخر: "الإسلام دينٌ شاملٌ وقادرٌ على المواجهة، وله تميُّزه في جعل التعليم فريضة، والعلمِ عبادة... وإنَّ صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة للغرب!!"[48].

والعالم "مراد هوفمان" يعرف أنَّ الكثيرين من الداخل والخارج على السواء، سيعتبرون هذا مجرَّد حملة دعائية، وأنَّ من المستحيل أن يعود الإسلام إلى واجهة التاريخ، ففنَّد هذا الزعم، وأشار بوضوح إلى شرط تحقُّقه، وقال: "لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادةَ العالم حضاريًّا، فما زالت مقولة: "يأتي النور من الشرق" صالحةً … إنَّ الله سيعيننا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام"[49].

كما كتب "هوستن سميث" مؤلَّفا بديعا، بعنوان "لماذا الدين ضرورة حتمية؟!"، طبَّق من خلاله منهج النفق المغلق، الذي صنعته المادية والعلموية المعاصرة، ونهايةُ النفق هي بالضرورة موصولةٌ بالوحي الإلهي، وقد اعتمد المؤلف على "البرادايمات" وعلى أسلوب "التمثُّل" ليعالج موضوعه، وهو وإن لم يؤكِّد على ديانة دون أخرى، إلاَّ أنه يشترط الوحيَ والمدد الرباني لبلوغ السعادة، وبغيرهما ستستمر البشرية في شقائها الانتحاري، وفي حيرتها اللامتناهية.[50]

أمَّا الأستاذ محمد فتح الله كولن، فيقول في مقالة "رسالة الإحياء"، من كتاب "ونحن نبني حضارتنا": "إنَّ أمَّتنا أوَّلا وبالذات، ثم الإنسانيةَ جمعاء، بحاجة ماسَّة إلى فكر سامٍ يقوِّي إراداتنا، ويشحذ هممنا، وينوِّر أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا، ولا يعرِّضنا للخيبة مرَّة أخرى. أجل، نحن بحاجة شديدة إلى أفكارٍ وغايات وأهداف سامية، ليس فيها فجواتٌ عقلية أو منطقية أو عاطفية، وتكون منغلقةً أمام السلبيات التي وسمت البشريةَ أوان حيرتها، وصالحةً للتطبيق كلَّما سمحت الظروف"[51].

إذن، ثمة اتفاق أنَّ كلَّ الظروف ملائمةٌ، وكلَّ الأسباب متوفِّرة، لأن تهتدي البشرية إلى الصراط المستقيم. لكنَّ السؤال الجدير هو: هل ستتشكَّل هذه الظروف وحدها، بلا جهد ولا اجتهاد ولا جهاد؟!

هنا يأتي دور العلم ودور العالِم على إثر السراج النبويِّ، بدلالاتٍ ومراحل، هي نفسها دلالات ومراحل ما بعد "غار حراء":

العلم: (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1).

الخلُق: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القَلَم:4).

الدعوةُ (أي قيام النهار): (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ)(الْمُدَّثِّر:1-2).

التبتل (أي قيام الليل): (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً)(الْمُزَّمِّل:1-2).

الضرب في الأرض، والجهاد في سبيل الله: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(الْمُزَّمِّل:20).

أمَّا ذكرُ الله تعالى، وتلاوة كتابه الحكيم، فملازمٌ لكلِّ المراحل، وذلك بموجب ما ورد في جميع الآيات والسور، وباستقصاء سيرة النبيِّ الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

فالسراج النبويُّ إذن، قام على هذه الركائز، وعمادُها جميعا: "الإيمان بالله"، و"اليقين في الله"، و"صبغة الله"...

فكلُّ عالِم، مهما كان تخصُّصُه، ومنصبه، ومسؤولياته، ومستواه، ومكانته... وجب عليه أن يتحرك على إيقاع هذه المعاني، وأن لا يحيد عنها قيد أنملة، وإلاَّ كان وبالا على البشرية، وزادها شقاء إلى شقائها، وحيرة إلى حيرتها.

وبناء على هذه المقدمات نحدِّد جملة من مهامِّ العالم، وأمثلة من أدواره المنوطة، على إثر السراج النبوي، وهي كالآتي:

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.