القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

لسان القلوب

يقول فتح الله: "القلْب مصدر للخزائن، بحيث إنَّ الله تعالى الذي لم تسعه السموات والأرض يتجلَّى في هذا القلب. لا الكتبُ ولا العقول ولا الأفكار ولا الفلسفات ولا البلاغة والفصاحة ولا السموات والأرض ولا الكائنات بأجمعها تستطيع الإحاطة بالله -سبحانه وتعالى-، بل تعجز عن التعبير عنه؛ القلب فقط يستطيع أن يكون -ولو بمقياس صغير- ترجمانًا له. أجل، للقلب لسان لم تسمع الآذان بيانًا مثل بيانه، وبلاغة مثل بلاغته. إذن، فعلى الإنسان أن يقطع المسافات في قلبه، وأن يبحث فيه عن مبتغاه، فيصل إلى ربه هناك، ويفنى في حبه، علمًا بأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- إلينا من أجل هذا"[21].

ولقد أوتي رسولنا الحبيب مفاتيح القلوب، فهو الذي يتربَّع على عروش قلوب الناس وأرواحهم، ولذا ناداه العارفون، وخاطبه المنصفون، بقولهم: "أنت -يا رسول الله- في قرار قلوبنا أبدًا، تعزُّزا ودَلالاً وإن غبت عن العيون. فإنْ كانت قلوبنا ما زالت تنبض بالحياة فإنَّما هي من الإكسير الذي سقيتها أرواحنا. وإنْ كانت صدورنا مفتوحة لك، فهي بفضل جاذبية رسالتك واستيلائها على الألباب. وإذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْيِيَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، ونصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. وكم كنا نتمنى ألا نتطاير أشتاتا مع الخريف، وألا نكون وسيلةَ حزن يطرأ عليك... لكن هيهات هيهات!. ولقد جئتَ لتنفخ الروح في القلوب الميتة، ففعلت وأديت ووفيت بما اعتمدتَ عليه من منبع المدد والعناية..."[22].

ولقد صفَّ مؤلِّف "النور الخالد" جملة من الأسئلة الكونية، قال عنها: "لا أستطيع إهمالها ولا الهرب منها"، وهذه الأسئلة جاءت على صيغة التقريع والتأنيب للذات وللضمير، وعلى شاكلة المحاسبة المضنية التي ألِفها المقرَّبون، وحمل فتحُ نفسه عليها في كلِّ حين؛ ومما جاء فيها:

أنَملك قلبًا لائقًا بسلطان القلوب هذا؟

هل هذا السلطان مستريح في مجلسه من القلوب؟

هل قلوبنا مفتوحة له على الدوام؟

أنلاحظه في قيامنا وقعودنا، في أكلنا وشربنا؟

أنلاحظ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بقلوبنا في جميع حركاتنا وسكناتنا؟

أنسير في جميع شؤون حياتنا على الخط الذي رسمه لنا؟"[23]

هي أسئلة تقريعية لا تنتظر الجواب، لكنها تبحث عمَّن يتلحم بها وتلتحم به، فيتخذها ديدنه بكرة وعشيا، حين الصحَّة وأوان المرض، بل في جميع الظروف والأحوال؛ فتكون بذلك "وقودا" لقلبه وعقله، ومحرِّكا لفكره وفعله.

ينقل فتح الله -في هذا السياق- عن نبيّنا الأواب الأواه، وعن رسولنا الأسوة القدوة، أنَّه -صلى الله عليه وسلم- "تحمّل عِبْئًا كبيرًا وثقيلاً مثل عبء النبوة ثلاثة وعشرين عاما، وقام بإيفاء حقِّ وظيفته بنجاح منقطع النظير؛ لم يتيسّر لأي صاحب دعوة آخر... وبمثل هذا الروح، وبهذه المشاعر المضطرمة بحب الله، كان يتقدَّم ويقترب من الهدف المنشود ومن النهاية المباركة...لقد أدّى مهمَّته بحقٍّ، وقام بالتبليغ على أفضل وجه. لذا فقد كان مستريح الضمير، مرتاح النفس، مطمئنَّ القلب، وكان يتهيأ لملاقاة ربه... كان إنسان مراقبة للنفس مراقبة حسَّاسة جدًّا، لذا فقد قضى حياته كلَّها في إطار هذه المراقبة الحسَّاسة يسائل نفسه: هل استطعت أن أبلِّغ رسالتي كما يجب؟! وهل عشت لتحقيق الهدف الذي من أجله أرسلني الله تعالى إلى الناس؟!"[24].

فداك روحي ومهجتي يا سلطان القلوب، إني أشهد في موكب الشاهدين "أنَّك بلَّغت الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونصحت الأمَّة، وكشفت الغمَّة، ومحوت الظلمة، وجاهدت في الله حقِّ الجهاد، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد".

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.