القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

البشرية الحائرة

وبعدُ، فإنَّ أصدق وصف يليق بحال البشرية اليومَ هو وصف "الحيرة"؛ إذ بعدما عرفت قرونا من "الوهم" و"الغرور" و"الادعاء"، وجرَّبت شتى "النظريات"، و"الأيديولوجيات"، و"الفلسفات"، تيقَّنت أنها تسير مهرولةً نحو حثفها، وتستعجل عنوةً خرابها ودمارها؛ وتأكَّدت أن لا شيء من محاولاتها البائسة يستطيع اجتثاتها من براثن الشقاء والهلاك والدمار.

فما كان من العقلاء اليوم إلاَّ أن دقُّوا ناقوس الخطر، وألقَوْا بالمنشفة البيضاء على أرض الحلبة، معلنين أنهم في "حيرة"، وأنهم ينتظرون مَن يُنقذهم، ويُخرجهم من حالهم إلى حالٍ أفضل وأحسن، وأكثر طمأنينة ويقينًا... ولكنَّهم للأسف لم يُسلِموا قيادهم "للوحي"، ولم يعترفوا بالإمارة والقيادة والهداية "للأنبياء"... وعلى رأس الأنبياء جميعِهم خيرُ الخلق محمدٌ عليه السلام.

ألا ما أشبه حيرتهم هذه بحيرة قريش أوان كان سيد الأنام في "غار حراء"، يُصنع على أعين الله تعالى، ويربَّى في صفوف مدرسة "عشق الإله، وعشق الحقيقة"؛ هنالك تعلَّم كيف "ينكر ذاته"، وكيف "يسحق أناه"؛ ليحمل همَّ "البشرية الحائرة" فردًا فردًا، بلا استثناء، في جميع الأزمنة والأمكنة، ولا يزال، إلى أن يُبعث يوم الحشر، فداه أمِّي وأبي، وهو ينادي بأعلى صوته: "أمَّتي أمَّتي".

ولقد أصدرت "منظمة المؤتمر الإسلاميِّ" ما عُرف بـ"إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام"؛ وأكَّدت فيه على أنَّ دور المسلمين اليوم هو "هداية البشرية الحائرة". ورد في ديباجة الوثيقة "التأكيدُ على الدور الحضاري والتاريخيِّ للأمَّة الإسلامية، التي جعلها الله أمَّة وسطًا، أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة، وصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان"؛ والذي يُؤمَّل هو "أن تقوم هذه الأمَّة اليومَ بهداية البشرية الحائرة، بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة"[32].

لكأنَّ إعلان الفيزيائيين عن فشل "نظرية كلِّ شيء" قبل بضع سنين، إثر سقوط "نظرية الأوتار الفائقة"[33]؛ كان عنوانا للإعلان عن فشل الإنسان في إسعاد أخيه الإنسان، واعترافا ضمنيا منه بالحاجة إلى مصدرٍ متجاوزٍ متعالٍ، يقول قوْلته، ويأخذ زمام التحكُّم من جديد.

ولقد هدَّت "الحيرةُ" الشرقَ والغربَ على السواء، فعبَّر كلٌّ منهما بطريقته وحسب ظروفه؛ وأصدق عنوان لهذا التعبير هو كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"، للمفكر المسلم، علي عزّت بيجوفيتش رحمه الله.

وفي مقال بعنوان "طويلا بكينا"، نقرأ دلالةً معبِّرة عن تكلم الحيرة، يقول فيه الأستاذ محمد فتح الله كولن: "إنَّ الغربيَّ الذي حسِبنا أنَّ لديه مصباحَ حياتنا، كان قد ارتمى على مصطبة النعش قبلنا بكثير. إنَّه مات في ذلك اليوم الذي هبَّ فيه "نيتشه" ليُردِي الإلهَ لباسَ الموت معلنًا في وهمه أنه "مات الإله".. إنَّ الميت لم يكن سوى الغربيِّ نفسه، وإنسانِنا المسكينِ معه.. إنسانِنا الذي غرق في المستنقع من حيث ظن أنه خرج من السجن ناجيًا.. إنسانِنا العابث المتفلِّت الذي تمرد على كلِّ شيء، وأنكر كلَّ شيء"[34].

وفي مقال بعنوان "تمشيط الوحش على النحو الذي يحلو به"، لـ"إنجليك دل راي"، نقرأ هذه الحسرة من تلكم "الحيرة" في قوله: "إننا نعيش حقبةً مظلمة، نختبر خلالها تناثر الممارسات والأفكار والمعتقدات التي كانت تحدِّد إلى الآن وتيرة مجتمعاتنا"[35].

ومن ثم يحسُن بنا اليومَ أن نعلن، في هذا المؤتمر العالميِّ الحاشد، وفي هذه المناسبة الفريدة، من موقع هذه المدينة العريقة[36]، وفي هذا البلد الضارب جذوره في الحضارة الإنسانية والإسلامية المجيدة[37]؛ يحسن بنا أن نعلن عن "فشل الأيديولوجيات"، وعن "موت الموت" و"موت القاتل" على إثره، وعن "نهاية النهايات"، وعن ضرورة البحث عن "ما بعد المابعد".

نعلن أنَّ الذي بقي بعد كلِّ هذه الأعاصير هو وجهُ الله الكريم: "ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام"، ثم كلام الله الحكيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجْر:9)، وكذا رسوله الرحيم: (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)(الْمَائِدَة:67)؛ ثم إنَّ الذي لا يزال ينبضُ حياةً وحركيةً هو "الإنسان"، و"المجتمع"، "والكون"، و"المعنى"، و"الإمكان"، "والمستقبل"، و"الخير"... فإذا ما التحمت هذه بتلك، وتعلَّقت هاته بهاتيك، صدق أن نتلو قول الله تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً)(الْكَهْف:46) وفي آية: (وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(مَرْيَم:76).

وبيان ذلك مفصَّلا، فيما يلي:

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.