القسم الثاني: فصول ذاتية موضوعية

بَايْكَان"، أو نمط "الثالث الموضوع"

قد يبدو العنوان غريبا في شقِّيه: الأوَّل "بايكان"، والثاني: "الثالث الموضوع"؛ وما ذلك إلاَّ أنه وُلد مِن رحم غيرِ المألوف لدينا، وعُصِر من صلب الغرابة في عُرفنا الفكريِّ واليوميِّ. ولكنَّني سأحاول ضمن "نظرية الوعاء الحضاري" أن أجلِّي معناه، وأؤسِّس لمبناه، وأصوغ معالمه، وأشرع في اختبار قدرته التفسيرية؛ فهو إذن "مصطلح جديد"، وهو بالتالي مدخل لمفهوم جدير.

الأصل اللغوي والاصطلاحي

أمَّا في أصل الكلمة، فإنَّ "بَايْكَان" هو اسمٌ لشركةٍ، تصنع المدافئ المنزلية والصناعية في تركيا، علامتها تكتب بالحرف اللاّتيني "Baykan"، ودلالة اللفظ لغويًّا لم أجدها في القاموس المترجِم، ولعلَّه اسمٌ لعلَم؛ لكنَّ الشقَّ الأوَّل من المصطلح، بالحرف الصغير "bay"، يعني "السيّد"

وأمَّا عبارة "الثالث الموضوع" فهي من قبيل المشاكلة لمبدأٍ في المنطق، يعرف بـ"مبدأ الثالث المرفوع" وهو من المبادئ الأولية، ومعناه: "إذا صدقتْ إحدى القضيّتين المتناقضتين، كذبت الثانية، والعكس بالعكس، ولا ثالث بينهما".

قصَّة ميلاد المفهوم

وقصَّة ميلاد المفهوم، هي أنَّني منذ نزولي أرض الأناضول مقيمًا،[1] وأنا أحاول توصيف المجتمع والعلاقات الاجتماعية في تركيا، وفي المحيط الذي أتحرَّك ضمنه بالخصوص: فهل هو من نوع "النمط التعاقديِّ"[2]، أم هو من نوع "النمط التراحميّ"[3]؛ باعتماد ما صاغه المفكِّر عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- من خصائص للنظامين والنمطين، في مشروعه الفكري الجادِّ.

علما أنَّ المصطلحين من إنتاج علماء الاجتماع في الغرب، وأنَّ عمل المسيري لم يقتصر على مجرَّد النقل، بل أضاف وأبدع، واستطاع أن يوجد أبعادا وتطبيقات أخرى، من خلال تجربته وحياته الشخصية في مذكراته المعنونة بـ"رحلتي الفكرية"، ومن خلال دراسته للرؤية الكونية للجماعات اليهودية، وبخاصة باعتماد "الجماعات الوظيفية" نموذجا للتحليل، في "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية".

ولم يكن من اليسير عليَّ التسرُّع في الحكم، ولا اختزال التصنيف، وبخاصَّة مع "حالة تركيا"، وبالأخصِّ مع محيط "الخدمة".

فقدَّر الله "قصَّة المدفأة"، ثم جاء الجواب على أنَّه نمط "ثالثٌ موضوعٌ"، وليس "مرفوعا"، أي هو ملتقى للنظامين، ومجمع للمنهجين، وتناغم بين النمطين، حتى وإن بدا أنَّهما متناقضان ظاهرا؛ إلاَّ أنهما غير متناقضين عقلا وواقعا. كيف ذلك؟

المدْفأة[4] الملهِمة

في يوم باردٍ، كان الثلج يؤذن بالهبوب، دخلتُ المنزل بعد نهارٍ طافح بالعمل، فإذا المدفأة قد تعطَّلت، وأنا الغريب في بلد غريب، ولا أعرف ما يحمله الليل من أمر غريب؛ ثم إنَّ البرد قد لا يرحمُ، ومعي فلذاتٌ زغبٌ، وتحت مسؤوليتي بناةٌ أمرَ بهنَّ الرسول الكريم وأوصى![5]

ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الخلاص؟

لو كنتُ في محيط "النمط التعاوني"، لاحتميت بالجوار، وبالأقربين، ولأعلنتُ لهم ما أنا عليه؛ ولحُلَّ المشكل بالمرحمة، والتعاون، والإيثار... على أيِّ شكل من الأشكال كان.

ولو كنتُ ضمن "نمط تعاقديٍّ"، لأعملتُ آلة العقود، والتدخُّل السريع، والنظام المحسوب؛ ولحُلَّ المشكل بهذه الطريقة فقط.

ولكنني، فجأة وجدتُني في "نمط تراحمي - تعاقدي"، بكلِّ الخصائص التي قد تبدو متناقضة، أو أنها لا تلتقي في مجتمع ما. وهو ما أطلقتُ عليه اسم "نمط بَايْكَان"، أو "نمط الثالث الموضوع".

بايكان، أو الثالث الموضوع

من جهةِ "التراحم"، لم يمرَّ وقت سريع، وقد سألتُ أحد الإخوة الباحثين مجرَّد سؤال عن طريقة إيجاد مَن يُصلح المدفأة؛ حتى جنَّد صديقا آخر، فجاؤوا بالسيارة مِن بعيد، وتركوا مهامَّهم ومشاغلهم، متدثرين بمعنى "التفاني في الخدمة"، التي وُطِّئوا ووُطِّنوا عليها، وما إن وصلوا البيت، حتى تجنَّدوا لإصلاح المدفأة، بلا تكلُّف ولا تردُّد؛ وكان صديقٌ ثالث يهاتفني كلَّ ساعة، ويتابع القضية، ويُبدي تألمه وتخوُّفه، ويقترح الحلول؛ ويخشى أن تبيت البنات على البرد -حسب تعبيره-، أو أننا نفتقد الماء الساخن للوضوء... فكان قلبه الرحيم يدقُّ على إيقاع مشكلتي البسيطة، حتى غمرني بالحبِّ وبالعطف من حيث يدري أو لا يدري.

ومن جهةِ "التعاقد"، هاتفَ الصديقان، وهما في البيت، شركة "بَايْكَان"، وكان من الجهة الأخرى للهاتف موظِّفة، تُدير محاولات الإصلاح الأولى عن بعدٍ، لعلَّها تكون سهلةً، ولا يتكلَّف ذلك انتقالُ فريق الصيانة، ولا يكلِّف صاحب المدفأة مزيدا من الدفع، أو يحمله إلى فقدان الثقة في "الماركة المسجّلة" للشركة.

وبعد أمدٍ، تبيَّن أنَّ الخلل لا يمكن تصليحه إلا بحضور الخبير، فعقدَت الشركة موعدًا ليوم غدٍ، على أن تتَّصل بالصديق ليريها المكان؛ وما أسرع الغدُ في مثل هذه الظروف، حيث كنتُ في البيت، وكان الصديق يسيِّر العملية بالهاتف، من بعدٍ... حتى رنَّ جرس الباب، ودخل الشاب الحرفيُّ، في بدلة محترفة، وبسمتٍ هادئ، بينه وبين صديقي الهاتف المحمول، لأنني لا أتقن اللغة التركية طبعا...

اجتهد الشاب المرسَل من الشركة، حتى أصلح الخلل؛ وهاتف الشركة، فعرف أنَّ الضمان قد انتهى منذ زمن؛ ثم غيَّر قطعة الغيار، وعيَّن المقابل، فقبلتُ، وكان بين يديه جهازان، أحدهما موصَل بالإنترنت، والآخر طابعة صغيرة، بحجم اليد، لطباعة الفاتورات.

سلَّمني الموظَّف الخبير الفاتورةَ، وأخذ نسخةً منها، وبها: تاريخ الإخبار عن العَطَل، والساعة والدقيقة: 2012/10/01/ - 18:50، ثم تاريخ الإصلاح والساعة والدقيقة: 2012/11/01/ - 17:50، واسم موظف الإصلاح، ثم نوع الإصلاح بالرموز، ثم ثمنُ العملية وقطعة الغيار... فدفعتُ المقابِل، ودفِئت واطمأننتُ؛ ولكن ما كان يحدث في العقل والقلب من فوران، فاقَ الحال المادية اليسيرة، وغطَّى على الحرارة الشتوية المطلوبة، والتي استعدتُها بحمد الله تعالى: إنها الحيرة من هذا النظام البديع، ومن هذا النمط الجديد!. ويوم غد، التقيتُ بصديقي "المتراحم"، صاحب الهاتف، فقال: "هاتفتْ الشركةُ "المتعاقدة"، لتتأكَّد مِن تمام الإصلاح، ومِن أنَّه لم يحدث خلل بعد العملية".

هل عايش المسيري هذا النمط الجديد؟

لو كنتُ ضمن "نمط تراحمي"، في الجزائر مثلا، سأجد الحلَّ "التعاوني" بسهولة، وسأجد من يساعدني ويعينني، ولكن هيهات أن أجد "الخدمة الواضحة"، و"العقد الصريح"، و"الصيانة الفعالة"، بهذه الجودة وبهذه السرعة. واسأل الناس -إن شئتَ- عن "أصحاب الحِرف"، تجدْ أنَّ لكلٍّ منهم قصَّة مع حِرَفيٍّ، فإن لم تكن هذه حالهم جميعا، فهي حالهم غالبا. ولعلَّ البعض منَّا عدَّها "قدرا مقدورا" لا فكاك عنها إلى يوم الدين؛ ولقد كان الجاحظ في ذكره لمثالب "أصحاب الحرف" ممن يعتقد ذلك.

ولو كنتُ في سياق "نمط تعاقديٍّ"، في كندا مثلا، فإنَّ آلة "التعاقد والنظام"، و"الصيانة السريعة"، و"الوضوح في الحقوق والواجبات"، ستعملُ بلا هوادة، وستوجِد لك الحلَّ العمليَّ بسرعة، وقد تكلِّفك رزنامة ثقيلةً من "التفاصيل"؛ لكنك يقينا ستفقد "الدفء القلبي"، و"المرحمة الإيمانية"، والجهة التي تغمرك "بالحبِّ والحنان"... وقد تتراكم البرودة عندك، فتكون برودتين: برودة مادية، وأخرى معنوية. وهذا الوضع إن لم يكن عامًّا، فهو الغالب طبعا.

أمَا وإنك في "تركيا"، وللناس أصول وجذور لا تخفى، ودماثة الخلق سمة غالبة، وطبيعةٌ في الناس؛ وداخل تركيا أنت في محيط "تربَّى على يد مجدِّد مصلح"... فالتراب، والماء، والهواء، والشمس... جميعها قد تكاثف للعناية "بشجرة الحياة" هنا... إنها شجرةٌ أصلها ثابت راسخ، وفرعها شامخ سامق "في السماء"، وهي بحمد الله (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)(إِبْرَاهِيم:25)...

أمَا وإنَّك كذلك، فإنَّ النمط لن يكون أبدا تعاقديا غربيا؛ ولن يكون أبدا تراحميا شرقيا... وإنما هو "خلطة عبقرية ذكية" جمعت إلى خصائص الشرق مميزات الغرب، ومزجت حركيات الغرب بروحيات الشرق؛ فالنمط إذن هو "تعاقدي رحيم"، أو هو "تراحمي منظَّم بالعقود"[6]...

وفي تقديري إنَّ الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، لم يعايش مثل هذا النمط الجديد، لكنه كان ضمن "نمط تراحميٍّ مفرط" في مصر، ومثله في أيِّ بلد عربيٍّ آخر؛ ثم انتقَل إلى "نمط تعاقديٍّ صارم" في أمريكا، ومثله في كلِّ بلد غربيٍّ أوروبيٍّ؛ فهو لم يذق طعمه واقعيا، ولم ينعم به في حياته اليومية؛ غير أنَّه تصوَّره نظريا، ودعا إليه فكريا؛ ذلك أنه نمط يعود بنا إلى "الفطرة السليمة"، وهو أصلا الحال السنَنية التي أرسى الإسلام قواعدها، وصاغ القرآن أسسَها، فتمثَّلها رسول الرحمة والعهود، محمَّد عليه أزكى السلام؛ ثم تلقفها منه الصحابة الكرام، واقتفوا أثره؛ حتى جاء الأعراب، بعد قرون، فاختلط عليهم الأمر، وسرت الفوضى في حياتهم.

للتمثيل لا للحصر

الحقُّ أنَّ حادثة المدفأة ليست الوحيدة، وإنما لها العشرات من مثيلاتها في تجربتي القصيرة هنا بتركيا؛ ولكنَّ "التصورَ والحكم والموقف" قد اكتمل بهذه المناسبة، وفي هذه الحادثة، فكانت بمثابة "لحظة أرخميدس". وإلاَّ فالواحد منَّا يعايش يوميا هذه القدرة على "المرحمة التي لا حدَّ لها"، وكذا "النظام والانضباط الذي لا يحيد ولا يحابي"...

وفي كلِّ ذلك، أدعو الله وأسأله أن يقدِّرنا "ضمن وعائنا الحضاري" في دوائره المنداحة، على الوصول إلى مثل هذا المقام العليِّ؛ ذلك أنَّ الكثير من الوقت، والطاقة، والمال، والعلاقات، والفكر... يُهراق ويُغتال، ويقع ضحيَّة أخطاءٍ وتصرُّفاتٍ نصِفها أحيانا بالتراحم، وبالأخوة، وبعدم التكلُّف... وقد نستغرب لو أنَّ أحدا من الأقارب -مثلا- ذكَّرنا بعقد بيننا وبينه، ولقد نعتبر ذلك فقدانا للثقة، فنعاديه، ونعلن أنه "لم يعد من جماعتنا"، فهو من "خارج السرب".

والتحقيق أنَّ المولى جلَّ وعلا يقول: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)(البَلَد:17)، في آية.. ويقول في آية أخرى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(العَصْر:3).. وفي آيةٍ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(الْمَائِدَة:1)...

فبهذا، وبذاك، تجد الحياة سبيلها إلى السعادة والراحة واليسر؛ وبغياب أحدهما، أو كليهما، تكون الحياة جحيما، ونصلى نارها جميعا. وما جمال المعنى إلاَّ في الجمع بين "التواصي بالمرحمة، وبالحقِّ، وبالصبر"؛ وفي "الوفاء بالعقود"، استجابة لأمر ربِّ الأسباب والمسبِّبات، سبحانه، وهو إله النتائج والمقدِّمات، أكرم به من إله عزيز حكيم.

من الفكر إلى الفعل

هذا الفصل، ليس للتسلية، ولا هو لمجرَّد سرد المعلومات، وإنما هو إحلال للفكر والفطنة أولا، ثم محاولة لإرساء الحركية والفعل، ثانيا؛ وعلى كلِّ قارئ تحريكُ مقدَّراته ومواهبه، واستثمارُ عواطفه ومعارفه، لتصحيح ما يمكن تصحيحه، وبناء ما يجمل بناؤه؛ لعلَّ الله تعالى ينظر إلينا بعين الرحمة، ونحظى بالسعادتين في الدنيا: "سعادة طاعته، وسعادة عنايته"... ثم ننال "السعادة الأبدية"، يوم لقائه، ثمرةً "للوفاء بالعقود"، وكذا نتيجة "لرحمته بنا وحبه لنا"؛ وهنالك في الجنة سيسود نمط واحدٌ، لا نمطان، ولا ثلاثة: النمط التراحمي المطلق. وعلى الله قصد السبيل.

من الأنصاريِّ إلى الأنصار، رحلة إلى المغرب

تنادت الجموع أنَّ المغربِ اليومَ فتحت القلب قبل العين، وفرشت الأرض حريرا ودمقسا، وأرسلت الوفود إلى بطون البلد، تهدي عِلية القوم وعلماءه دعوات لزيارة مباركة، ليست كباقي الزيارات: إنها مجلّة "حِرَاء"، ستحل ضيفا على المغرب، وستنظم جامعةُ محمد الخامس، ملتقى دوليا، لقراءة وتحليل كتاب "ونحن نبني حضارتنا" للأستاذ فتح الله كولن.

ولقد تلقت هيئة التنظيم حوالى خمسين ورقة ومداخلة ومحاضرة، فعمدت إلى الغربلة والاختيار، لا على أساس المستوى فقط، وإنما بالنظر إلى مَن يمكن أن يؤثِر بسهمه لغيره، مِن أهل الدار، ومن المقربين إلى الجامعة الأبرار.

قال أمير الركب: "ستكون معنا، ضمن وفْد حراء، وستكون حلقةَ وصل بين المغرب والجزائر"؛ فاستجبت، وشمرت على الساعد، فأتممت محاضرة بعنوان "نظرية كلِّ شيء، بين عجز الفزياء وتألق الوحي، فتح الله كولن نموذجا"، وسلّمتها للمنظِّمين، ثم بُرمجت...

وما هي إلاَّ أيام حتى كان لنا موعد، بُعيد الصبح، في مطار إسطنبول"؛ يممنا منه شطر المغرب، فكانت لنا بها أيام، ازددتُ فيها التحامًا بالأخيار، ومما ينسب لعمر -رضي الله عنه- أنه قال لرجل ادّعى أنه يعرف رجلا: "هل سافرت معه؟!، هل تعاملت معه بالدينار والدرهم؟!" قال الرجل: "لا"، قال عمر -رضي الله عنه-: "ما أراك تعرفه".

ولقد زاد فتح الله، من محض تجربته، في إحدى كلماته، سؤالا هو: "هل سُجنتَ معه؟!".

وها أنا اليوم أسافر مع أبناء "الخدمة"، وأكتشف خفايا خصالهم الجميلة، وخبايا خلالهم الحميدة، أستسقي البركات من روحهم التواقة، وعقلهم الحصيف.

ولقد آليت على نفسي أن أكتب مقالا لحراء حين العودة... وفي الطائرة، حين الإياب، اعتصرتُ كلمات، أودعتها مقالا بعنوان: "مِن الأنصاريّ إلى الأنصار"، نشر بعد ذلك في "حراء"[7]؛ أضعه بين يدي القارئ لهذا السِّفر، لأنه مغروز في دلالة الفصول الذاتية الموضوعية، المقربة لصورة المشروع أكثر وأكثر.

مِن الأنصاريّ إلى الأنصار.. شتان... شتان

مَن قال إنَّ ما يسِم الحياةَ من أحداث هو وليدُ صدفة؟!

مَن قال إنَّ ثمَّة فوضى تحكم نسق الحياة، وتصبغ عالَم الشهادة؟!

من ذا الذي يصدِّق أنَّ شيئا ما، أيَّ شيءٍ، حتى وإن كان وقوعُ ذبابة على صحن أحدٍ منَّا، هو مجرَّد حدث لا معنى له في منطق المعنى؟!

نعم، إنَّ غلوَّ تصوُّراتنا، وشطَط أحكامنا أحيانًا؛ لا تعني أنَّ المدرَكات تابعةٌ أو هي موشور لإدراكنا القاصِر. فشتان بين الشيء وظلِّ الشيء، وشتَّان بين الحقيقة وشبح الحقيقة.

فريد الأنصاريُّ، شمس تسطع من المغرب

مِن هذا المقام السامق، الذي لا يجد للعبثية والفوضى مكانا، أقرأ العلاقة بين المفكِّر العبقريِّ "فريد الأنصاري" رحمه الله؛ وميلادِ "جيل الأنصار" حماهم الله، من رحم المغرب الحبيب.

"فالأنصاريُّ" لم يمت، ولم يغادر، إذ لا تزال أنفاسه الطاهرة تعبق في كلِّ بقعة من بقاع الأرض الطيِّبة، ولا تزال كلماته الصادقة توقظ الضمائر، مع كلِّ حنين وأنين، وفي كلِّ وقت وحين...

إنَّ "الأنصاريَّ" قد وهب الحياة لأهله وذويه، وفدى بنفسه لبلده وقومه؛ فكان -اليومَ- مغربُه مشرقًا، ولقد كان -قبل ذلك- مشرقُه مغربا.

كيف ذلك؟

إنه -رحمه الله- يوم أشرق فجرُه الصادقُ على المغرب، اختفت الخفافيش، وكفَّت البوم عن زرع الشؤوم، وارتفع الريح الصقيع -مِن تلكم الربوع- ومعه الشتاء الفظيع؛ فحلَّ محلَّهما النسيمُ العليل، والربيع الجميل.

أشرق على الناس بقلبه المؤمن الموقِن، وبعقله الذكيِّ الأصمعيِّ، فصدَق أن يقال فيه، ما قاله الدكتور عبَّادي في وصفه: "إنه اكتشف عرف القرآن، فسما إلى مقام الملائكة وأهلِ الجنان"، ثم لقي القبول في السماء، ونزل غيثا هامعا على أهل الأرض، هدية ورحمة من ربِّ الأرض والسماء.

ثم إنَّ "الأنصاريَّ"، رحمه الله، يوم فارق الحياة، واستجاب لنداء الأزل، وأفلَت شمس روحه الزكية... حينها، أشرق على المغرب يومٌ يذكِّرنا بيوم الفتح، أو إن شئت فقُل: هو أشبه ما يكون بيوم الحديبية: بدت فيه أمارات الخير، ولَمَّا تكتمل بعدُ تمثُّلاته؛ حاشا في أفئدة الملهَمين، وعلى أرواح الواصِلين، هؤلاء رأوا جماله، وتملَّوا حسنه، رأْي العين، بل عين اليقين.

المهاجرون والأنصار

"الهجرة" حركةٌ بعد سكون، وطاقةٌ بعد كمون، ووعيٌ بعد غفلة، وجهادٌ بعد غفوة... والمهاجِرون هم جميعُ من اتَّخذ الهجرة سبيلا، فلم يبخل ولم يذلَّ ولم يتقاعس...

أمَّا "النصرة" فأبرز أركانها: القلبُ المحبُّ، والعقل النافذ، والساعد الكريم، والسيف الصقيل، والخلق المتين؛ وأمَّا الأنصار فهم كلُّ من جعل تلكم الصفاتِ أرضه وسماءه، وصبغ بها ليله ونهاره؛ ولم يتردَّد طرفة عين، ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر.

ومن ثم، كان لكلِّ زمان مهاجروه وأنصاره، تماما كما أنَّ لجميع الأحيان صحابته وأتباعه؛ ولذا وجب على كلِّ مسلم أن يكون صحابيَّ وقته، أو تابعيَّ زمانه، وأن لا يكون ثالثهما فيزيغ. يجب على كلِّ مؤمن أن يجعل الهجرة والنصرة منتهى آماله، ومطلق أحلامه.

واليوم، كانت الهجرة من سفوح الأناضول، وجاءت النصرة من شواطئ المغرب: في الدار البيضاء، والرباط، ووجدة، وفاس، ومكناس... وليست جميعُ الشطآن محاذيةً للبحار والمحيطات.

هنالك، في جامعة محمد الخامس، بالرباط، رباطِ الفتح، رأيتُ بأمِّ عيني "أنصارًا": منهم رجال ومنهم نساء، منهم فقراء ومنهم أغنياء، منهم طلبة علم ومنهم علماء... جميعُهم، جاء ليعبِّر عن حبِّه وولائه، ويعلن عن وفائه وصفائه، ولقد سمعتُ صوتا أجشَّ يقول: "إن أتاكم الناس بدلائهم، أو حتى ببحارهم وأنهُرهم، فلستُ أملك سوى قِربة واحدة، جفَّت منذ أمدٍ، ولا أعرف هل ستحمل الماء، أم أنها ستهريقه أرضا... حسبي أني جئت بقربتي، وأنشدت مع الشاعر:

ذي قربتي يا أخي في الحبِّ أرسِلْها
إلى الحبيب، فهل يُرضيه متَّسمي؟"

ثمَّ يمَّم بنا الوفدُ شطر وجْدَة، فاستقبلنا على مشارفها "رجال جبال"، من طينة المصطفى، ومن روْح المجتبى؛ قاسمونا قلوبهم وعقولهم، فأطعموا وآووا، ونصروا وانتصروا... ولم تطُل الزيارة كثيرا؛ لكأنَّها نسمة من ريح الجنَّة هبَّت، ثم انقطعت، لتعود ولو بعد حين...

ومِن عادة الناس أن يلحِقوا ذكرَ فاسٍ بمكناس؛ ولكنَّا اليوم -لحاجة في النفس لا تباح- بدأنا بمكناس، ثم ولينا شطرَ فاس؛ وفي مقبرتها الهادئة، تقطَّعت بنا الأنفاس، واختنقت، فكانت العينُ كاشفةً سرَّ الكوامن؛ ذلك أنَّا وقفنا على قبر "الأنصاريِّ"، رحمه الله، ونحن نعجب من شبر ترابٍ يأوي قلبا وعقلا ومعنى، في حينٍ يعجز الكون برمَّته عن حمله؛ ومما زاد الدمع سخونةً والكبد تمزقًا، أنَّ قبر العالم الفذِّ غير مجصَّص، ولا مبلَّط... وحسُن أن نقول: إنَّ القبر عرف بالأنصاريِّ، ولم يُعرف هو بالقبر؛ لكنَّ الكثير من القبور في العالمين، لا يعرَف مَن ينزلها، لولا أنَّ العلامات والكتابات، والجصَّ والرخام، تذكِّر بساكنيها... رحمك الله يا أنصاري برحمته الواسعة، وأسكنك ربوع جنانه الفسيحة...

في فاسٍ ألفى فتحُ الله قلوب الناسِ منشرحة، والعقول منهم مفتَّقة، والأيدي مبسوطة، وهي تقول بملء فيها: ها نحن نستقبلكم، ونقاسمكم كلَّ ما نملك من معنًى ومبنًى، فلا تحرمونا عِطر "الأنصار" ولا تفوِّتوا علينا فرصة "الانتصار".

ولقد كان للوفد لقاء حميميٌّ علميٌّ في جامعتها، فلم تتَّسع المقاعدُ للحاضرين، وذلك ليلا بعد العِشاء، وليس من العادة أن يؤمَّ الناس حرَم الجامعة حين الظُّلمة إلاَّ أن يتيقَّنوا أنَّ ثمة نورا حقيقا، وفكرا دقيقا، وقلبا رقيقا.

ولقد كانت "الدار البيضاء" محطَّ الرحال، وعنوان الجمال والجلال؛ منها البداية وفيها النهاية، فما شبعت العينُ، وما ارتوى القلبُ، ولا رضي العقل... ذلك أنَّ لها أسرارا لم تفصح عنها بعدُ، وأنَّ في كنفها جواهر أجَّلت بيانَ رونقها إلى أمد... كأنها تغازلنا بوجوب العودة، بل لكأنها تتمنَّع، والتمنع في الحبِّ أقسى أنواع الحبِّ... لو يتذوَّق المتذوِّقون...

أنا لا أبغي تخصيص اسم من الأسماء، فهم مئاتٌ وهم ألوفٌ، ممن حضَّر وحاضر، وممن آوى ونصر، وممن بكى وأبكى، وممن دعا وألح في الدعاء... والوسم قد يُخفي المحاسن، وقد يبعِّد القريب، ويقلِّل من شأن ذي الشأن... فقصاراي أن أقول، وجميعُ هؤلاء الأنصار في قلب القلب... حسبي أن أقول: "إنَّ المغرب اليوم قِبلة، وعلى جبينه الأغرِّ نلقي قُبلة"،

ثم نردف ونقول: "مهلا أخيَّ، أصِخ أذنك، وألقِ السمع، فها عقبةُ، وابن سعدٍ، وطارقٌ... يحيُّون الفاتح، والرومي، والنورسي... أمَّا اليوم فقد انبرت المغرب عن بكرة أبيها لتحيِّي فتْح الله، وها قد جاءت من كلِّ حدب وصوب لإعلان البيعة، بيعةِ النصرة والانتصار... ولقد كان الأنصاريُّ أمير هذا الركب، فها قد رحل وترك أهله على المحجَّة، أوفياء بررة، ما بدَّلوا وما غيَّروا... لكنهم آووا ونصروا...

سأل السائل، وهو يحترق شوقا، في لحظات الوداع الزكيِّ:

هذا دور الأنصار قد تمَّ، فما هو دور المهاجرين يا ترى...؟!

ولكن.. كلُّنا في الهم شوقُ

هي قصيدة عصماء لأمير الشعراء أحمد شوقي، لكأنه ترنّم بها اليومَ، بقلب مَكلوم مَحزون على حال عالمنا الإسلامي إجمالاً، وعلى حال دمشق تخصيصًا، معانيها لا تزال متلألئةً لا تبهت... قال في مطلعها لا فضَّ فوه:

سلام من صبا "بَرَدى" أرقُّ
ودمعٌ لا يُكفْكَف يا دمشـقُ
ومعذِرة اليــــراع والقـوافــــي
جلالُ الرَّزْءِ عن وصف يَدِقُّ

نعَم، يموت الرجل فيخلُد المعنى دفَّاقًا... ويفنى الجسم فيبقى الروح خفَّاقًا... أمَّا الكلمة الصادقة التي بُذرت في تربة الحق، وأينعت في عالم الخلق... أمَّا هذه الكلمة، فأصدق وصف لها قولُ رب البيان، ومعلِّم القرآن، جل جلاله وتعالى حُكمه: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)(إبراهيم:25)؛ إنها لِطيبها تعانق عالَم الملائكة برفقٍ، فتسقي العقول الفطِنة كلَّ آن، وتُحيي القلوب المحبة آنًا بعد آن.

ولقد أبدع شاعرنا ثانيةً حين قال، في ذات القصيدة الفيحاء، وهو يحرّك منَّا المواجد، ويُلهِب فينا الأشواق:

نصحتُ ونحن مختلفون دارًا
ولكنْ، كلُّنا في الهمّ شرقُ
ويـجمعــنا إذا اختـلفــت بـــلادٌ
بيـانٌ غيـرُ مختلـــفٍ ونُطْـقُّ

غير أني أستميح فصيحَ العرب شوقي عذرًا، إذا تجرَّأتُ عليه؛ لا لأخطِّئه، فذلك مما لا ينبغي لمثلي أن يدِّعيه على مثله، لكن لأبشِّره أنّ نصر الله تعالى بدَا حاجبُه في الأفق؛[8] إنه قاب قوسين أو أدنى، لأجل ذلك تشجَّعتُ فحوَّرت في رائعته معنيين، وله الفضل سابقًا ولاحقًا:

أولاهما أنّ دلالة "الهمِّ" قد نمت وتطوَّرت، فبعد أن كانت سلبيةً قاتمةً: سلبيتُها من سلبية الفرد المسلم يومئذ، وقتامتُها من قتامة حال الأمَّة حينئذ؛ ولقد كنَّا أوان نسج القصيدة[9] نئنُّ تحت كلكل ضعفنا وهواننا، ونرزح تحت نير الاستعمار؛ يذبِّح أبناءنا، ويستحيي نساءنا... أمَّا اليوم فيصدق أن نقول: إننا "نرى رفرفة خمائل القضيةِ في كل صوب وناحية منذ الآن بوفاء كوفاء الفجر، وعلى مرغمة كل عائق، وبفضل الذين حفّزوا الخارطة الروحية للوطن بخفقات قلوبهم، ولوّنوها وسقوها بدموعهم... ولئن جاز العديد من خداع الفجر الكاذب، فإنَّ شهادة أصدق الشهود على شروق الشمس قريبًا هو الفجر الصادق في الأفق نفسه"[10]. ولذا تفتَّح معنى "الهمِ" على عالَمٍ أكثر رحابة وإيجابية وسعة، ليعني "التوتُّر الروحيَّ"، و"الشدَه المعنويَّ"، و"الألم من أجل الأمَّة"... مِن هنا جاز لنا أن نعدِّل في البيت مُنشدين:

نصحتُ ونحن مختلفون دارًا
ولكن، كلُّنا في الهمِّ شوقُ

إنه لشوقٌ لغدٍ متفتِّح الأكمام، وإنه لَتوقٌ لمستقبل باسم الثغر؛ (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي)(يونس:53)، (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(الذاريات:23).

ثانيهما أنّ الذي جمعنا اليوم ونحن نرفرف في سماء الشرق، هو "الله تعالى" جلَّ شانُه، و"كتابه الكريم" سما بيانُه، ثم "رسوله الحليم" شرح الله صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره... فلم تجمعنا -إذن- اللغةُ، ولا النطق، ولا اللسان، ولا العرق... إلا أن يعني الشاعر "بالبيان والنطق غيرِ المختلف" كلامَ الله المبين، وكتابَه المتين؛ فهنا فقط، نوافقه ونذهبُ مذهبه، ونردِّد على إثره:

ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌبيانٌ غيرُ مختلفٍ ونُطْقُ

سمعتُ صوتًا خافتًا، من هنالك، يهمس في أذني قائلاً: "إن يكن هذا إجمالاً، فأين التفصيل؟ وإن يك اختصارًا، فأين الإطناب؟ وإن قصدت الإلغاز، فأين مفتاح الشفرة، ورمز الأحجية؟".

قلتُ: نعَم صدقتَ، لكن رويدًا لا تستعجل ولا تختزل، واسمع قول ربنا العظيم لنبيّه موسى الكليم: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى)(طه:83).

قال الذكيُّ الفطِن: لكن يا هذا، تنبَّه إلى جواب الرسول الملهَم، وقد حماه ربُّه بكرمه ورعاه على عينه وعلَّمه من علمه؟

قلت: ماذا تعني؟

قال: ليست كلُّ العجلة ندامةً، وإنما العجلة إذا كانت ابتغاء رضوان الله، فهي عنده مبرَّة ومكرُمة. ألم تسمع جواب سيدنا موسى الحكيم: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)(طه:84). كذلك أنا، عجِلت إلى سماع الخبر، ابتغاءً لرضا ربي، وأملاً في فرج يحلُّ عاجلاً على أمتي، وترقُّبًا  للفجر الجديد والعهد الوليد! فهل يقنعك هذا يا هذا؟

قلت: نعم، أصبتَ... ذلك المبتدأ إليك الخبر، وتلك المقدِّمة دونك المتن، وهذا الشاطئ فلنغص في البحر متوكِّلين على الله محتسبين:

بيانُ ذلك أنَّا سمعنا من أقصى الشرق مناديًا ينادي أنْ توافدوا لإحياء ذكرى "النور الخالد، مفخرة الإنسانية، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام"... وقد يسَّر الله تعالى على يد عبده المنيب[11] تأليف هذا السفر الفريد، ولقد تُرجم من قبلُ إلى خمسٍ وثلاثين لغة، وها اليوم يفتح الله تعالى بترجمته إلى اللغة الأندونيسية، لغةِ أكثر البلاد الإسلامية مددًا وعددًا.

نعَم، من هنالك، في الطرف الشرقي لمحور "طنجة-جاكارتا"، أو إن شئتَ فقل لخطِّ "مراكش-جاوا"[12]؛ من هنالك، من جاوا، وجاكارتا، وبانودنغ، وسومطرة... جاءت دعوةٌ كريمةٌ، تفضَّل بها مأجورًا كرسيُّ "الأستاذ فتح الله كولن" في "الجامعة الإسلامية الوطنية"، فاستجاب ثلَّةٌ من المثقّفين والمفكرين، من المغرب والمشرق، وأسْرَوْا ليلاً وجهة آخرِ نقطة من جغرافية الشرق. فيسَّر الله لهم أمر السفر، ثم فتح لهم من رحمته، كيف لا وقد استجابوا لأمر ربهم الحكيم: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا)(الأنعام:11)، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)(الملك:15).

وهنالك، في جاكارتا، عاصمة الجزر الأندونيسية، هنالك استُقبل الوفد بحفاوة يعجز اللسان عن وصفها؛ بورودٍ في المطار، ثم بإقامةٍ في منزل أنعِم به من منزل، وتوالت الزيارات إلى الشخصيات البارزة، والوجوه الطيبة، والعائلات السخيَّة، والمؤسَّسات البديعة... في هذه البلاد العامرة الطاهرة، التي نزل بها "المهاجرون" من شباب "الخدمة" أوائل التسعينيات من القرن الماضي، فبذروا فيها "المحبَّة" و"التسامح" ومعنى "أن تعيش للآخرين"، ودفنوا لأجل ذلكم "أنانياتهم" في تراب الخمول، موقِنين أنَّ "ما نبُت مما لم يُدفَن لا يتمُّ نتاجُه".

ولقد قال أحد وجوه البلد في كلمة بديعة قُبيل وجبة عشاءٍ دعانا إليها عن طيب خاطر: "إن فتح الله قد أعاد الاعتبار إلى الأخلاق الحميدة، في منظومة الأوامر والقيم الشرعية، هذه الأخلاقُ التي تشغل جلَّ نصوص الشارع الحكيم، ولكنها -للأسف- تكاد تغيب من واقع المسلمين اليوم"، ثم أردف قائلاً: "لم نعرف الخدمة إلا من خلال أخلاق شبابها، التي تذكِّرنا بأخلاق الصحابة، عليهم شآبيب الرحمة، ويليق بنا أن نعترف أنّ هؤلاء هم الصحابة الجدد، صحابةُ هذا العصر، بحول الله تعالى، ولا نزكِّي على الله أحدًا".

ويذكر التاريخ أن "أهل حضرموت-اليمن" نشروا الإسلام في هذه الربوع اليافعة، ولا يزال لهم هنا ذكر وأثر ومحمدة، بل وعِرقٌ حي نابض، ممن أصله من اليمن السعيد، يمنِ الحكمة والفخر والبطولة... أمَّا اليوم، فيسجِّل التاريخ بصوتٍ جهُورٍ صادقٍ، أنّ "أهل الخدمة" أحيَوا لحمة الدين من جديد، وأزالوا هواجس الفُرقة، وذكَّروا العالمين أنّ "الإسلام دين أمن وأمان"، وأنّ الخيرَ كلَّه في الإقبال عليه، وأنّ الشر جميعَه في الإعراض عنه. ألم يقل المرشد الخرّيت: "رجاؤنا الوطيد المنتظَر أن نشهد قريبًا -إن لم ننقض عهد الوفاء مع الله تعالى- معاني سورة النصر بعظمتها وهيبتها كرّة أخرى... وأن ترفرف رايات الإيمان والأمل والأمن فالاطمئنان والحبور، في ظلّ الإسلام مَرّة أخرى... وأن تتعرف البشرية في الأرض كلِّها على نظامٍ عالمي جديدٍ فوق ما تتخيَّل، وأن يستفيد كلُّ إنسان، بقدر ما تسع فطرته وأفق فكره من تلك النسائم المنعشة"[13].

ولقد شهدنا -عيانًا ويقينًا- مدارس شامخة عتيدة، بلغت الذروة جودةً وإتقانًا، أغلبها من سخاء أهل البلد الذين آمنوا بدرب العلم مَخرجًا وفرجًا، ثم زرنا دُورًا للطلبة وأخرى للطالبات، مفتوحةً على العالم مبنى، ومتصلة بالسماء معنى، يصدق أن يُتلى عند بابها دعاءً وابتهالاً قوله تعالى: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا)(الكهف:16).

وإن للتجارة والصناعة هنا لمكانة أيُّ مكانة، غير أنها ليست لكنز الأموال الطائلة، ثم تبذيرُها في الملاهي واللوثات، أو إسرافها في الرِّءْيَا أو في الأثاث، وإنما هي للسخاء سحًّا، استجابةً للحق ونفعًا للخلق، وهي للإنفاق في سبيل الخير والبرِّ، والبذل في طريق العلم النافع والعمل الصالح... ألم يقل نبينا المكرَّم، فداه أمِّي وأبي: «يا عمرو، نعم المالُ الصالح للرجل الصالح»(رواه البخاري).

ولقد مرَّت الأيام كلمح البصر إلى أن جاء موعد الملتقى، فجمع المئات من المحبِّين الـمَشوقين الـمَشوفين، كلُّهم جاء ليشنِّف أسماعه بذكر الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في هذه البلاد التي تستمرُّ الاحتفالات فيها بمولد البشير شهورًا وشهورًا.

كانت البداية بوجبةٍ سخيةٍ مع عشاء طيب المذاق، تحفُّه الملائكة، حيث يتعارف الناس من مختلف الأمصار، بوجوهٍ مسفرة وأخرى ضاحكة وثالثة مستبشرة... وإنك لن تصادف -في هذا المقام الإيماني المحمدي- وجهًا عبوسًا قمطريرًا، ولا وجوها عليها غبرة ترهقها قترة... وإنما هي الرحمات حين تنـزَّل من رب رحيم ودود كريم.

فشنَّف الأسماع مجوِّد من أهل البلد كهلٌ، غير أن صوته لا يزال غضًّا طريًّا، وظني أن سيدنا الحبيب المصطفي لو سمعه، لقال له ما قال للصحابي الجليل أبي موسى الأشعري عليه رضوان ربي: «لقد أوتيتَ مزمارًا من مزامير آل داود»(رواه مسلم)؛ ولقد اتفق العلماء الأفذاذ أن المزمار دلالةٌ على الصوت الحسن.

ثم انبرت فرقة "النور الخالد" للأناشيد والمديح بأصواتها الناعمة الشجية المليحة الصافية النغم، فقامت تردِّد بحنين وأنين، مدائح وأناشيد عن المجتبى الحبيب، بلغات أربع، تتراوح بينها في سلاسة، تنسيك القيود والحدود، وتذكِّرك أن اللغات جميعها آية من آيات الله تعالى، قبحها من قبح محتواها وجمالها من جمال فحواها.

وعلى القاعة تنزَّلت غمامةٌ، فطارت القلوب طربًا واعتصارًا، لِشاعرة تُخاطب رسول الأنام بلسان قومها، فتبكي القلوب الضارعة وتدميها، وتذرُ الأفواه فاغرة والآذان مُطرِقة، وهي تنادي بأعلى صوتها: "يا رسول الله... يا رسول الله... يا رسول الله".

وكان للضيوف والأعيان كلماتٌ للترحيب، ونصائحُ كالجواهر تتنزَّل على الجموع وضيئةً ناصحةً ناصعةً... وما ذلك إلا أنها نبتت في أرض الشوق، وسُقيت بماء العشق، ونمت تحت سماء الوصل، ثم أثمرت خيرات وبركات، وغمرت الأرواح ظلاًّ ظليلاً، وأحلَّت الوجوه نورًا وضيئًا.

وأخيرًا، جاء بيت القصيد، عَبرات وعبارات في محاضرات وانطباعات حول "النور الخالد"، ولقد زالت جميع أسماء الخلائق وقتها، إلا اسمٌ واحدٌ فريدٌ هو اسم سيد الثقلين محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولقد صدق الله العظيم القائل وهو يبشر نبيه وينذر شانئه: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ )(الشرح:1-4)، (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)(الكوثر:1-3).

وحتى اسم "فتح الله" قد ذاب في بوتقة الحبيب القريب. وكُلِّي يقينٌ أن رجاء الأستاذ قد تحقَّق، وهو الذي يكره الأضواء، ويعشق الظل، ويتفنَّن في "تصفير الذات"، وفي درء المدح والمحمدة... فيختفي عن الأنظار، وينهى عن نسبة أيّ عمل له، ويبكي لربه ليل نهار: "يا ربِّ، لا تُرني ربيع عملي، وانفع به غيري، ولا تجعل حظّي من عملي في دنياي، وادَّخِر لي الأجرَ ليوم لُقياك... آمين يا رب العالمين".

وما أروع المناجاة التي يتفطر على إثرها القلب المحبُّ للمصطفى، وتزول في ساحها الحروف والكلمات والأصوات، لتترك الصمت أبلغ معبّر، والشده أقوى برهانٍ، والهمَّ أصدق بيانٍ... إنها لمناجاة عاشق ولهان متيم، لم يخطب يد "ليلى" يومًا ولا رجاء له فيها، وإنما ليلاه "أمته ودينه". وهو لذلك يناشد "سلطان القلوب" -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يا أيها النبي المبارك المحلق في الأعالي أبدًا... أنت روحُ الروح لنا، ورسالتُك دواء لأدوائنا المزمنة، نرجوك أن تأتينا كرة أخرى، فلا تدعْنا بلا روح... نرجوك أن تتكلم مرة أخرى، فلا تَدَع عبيدك في مضض الهموم... في طريق مسيرتنا كثير من المتربصين بنا الداوئر، وعظائمُ من نيران الفتن تَغشي آفاقنا بدخانها... ونحن نكدح في السير مهما كان، نسعى مرة، ونكبو أخرى!.. فاجعل معيتك علامة لنا في طرق سيرنا، وأَشعِرْ قلوبنا بطمأنينة دلالتك وهدايتك إلى سواء السبيل... وإذا لم تنادنا من فوق قمم القلوب، فلم نسمع نحن -بدورنا- مِن آفاق أرواحنا أنفاسَك المُحْييَة، فسنصفرُّ كالأوراق التي يلتهمها الخريف، ونصير سببًا لهبوب أنسام الحزن في أفقك. وكم كنا نتمنى ألا نتطاير أشتاتًا مع الخريف، وألا نكون وسيلةَ حزن يطرأ عليك... لكن هيهات هيهات"[14].

وقف الصحفيين والكتّاب: من إسلام القوَّة إلى قوَّة الإسلام!

حول مائدة الفطور، في ضيافة "وقف الصحفيين والكتَّاب"، كنّا نستذكر، رفقة مدير المعهد، يومَ زرنا الوقف مع مديري "المدارس العلمية"، ولقد مرَّ على الحدث عام كامل؛ ولقد شاء الله تعالى أن يصدر كتاب "البراديم كولن" في تلك الأيام، فكانت إحدى أولى النسخ هدية لمدير الوقف؛ ويومها قال لي: "هل يمكنك أن تشرِّفنا يومًا ما لعرض كتابك على الباحثين والدارسين؟"، فأجبت بالإيجاب طبعا.

وها قد حلَّ الوقت المناسب، ونظِّم عرض على ما يزيد من ثلاثين باحثا وأستاذا جامعيا، جاؤوا من مختلف أنحاء تركيا، ومن أبرز جامعاتها، أغلبهم من تخصص "الإلهيات"، لهم باع في البحث والتأليف، بالخصوص في فكر الأستاذ فتح الله كولن؛ ولهم العديد من المؤلفات والمقالات العلمية الجماعية.

بغية اكتمال الصورة عند القارئ، أجد من المناسِب استذكار ما كتبت عن الوقف، ضمن سلسلة "مقالات فاتح القسنطينية"، التي نشرت في موقع فييكوس تباعا، ثم نشرت بعد ذلك ملحقا في كتاب "البراديم كولن"، ثم بعد ذلك أعرض المشروع الذي قدمته للإثراء والمناقشة، بعنوان: "ماذا ينتظر المثقَّف العربيِّ من فكر الأستاذ فتح الله، ومن مشروع الخدمة؟". وألحِق ذلك بملاحظات عن مجريات الندوة، والأجواء التي سادتها.

أولا- وقف الصحفيين والكتّاب: من إسلام القوة، إلى قوة الإسلام

مع مرور الوقت، وأثناء التأمُّل في النصوص التأسيسيَّة للإسلام، والنظرِ في حقيقة المسلمين عبر تاريخهم المشرق، ومقارنة ذلك بواقعهم اليومَ في عهد النكسة والنكبة؛ تأكَّد لي بما لا يدع مجالا للشكِّ، أنَّ الإسلام نزل للكبار، لا يفهمه إلاَّ الكبار، ولا يستطيعه إلاَّ الكبار...

نعم، اقتنعتُ أنَّ الإسلام لا يأبه بالصغار، ولا يعتني بالأصفار، ولا ينفعُ من آثر سُكنى الغار، وإضرامَ النار، وملازمة الفار...

فكلَّما أخلد إنسان، أو أمَّة، إلى الأرض، صار الإسلامُ أبعدَ عنه -عنها- من بُعد مشرق الكون عن مغربه؛ أي إنَّ الملايير من السنوات الضوئية تحول بين الإسلام الحقِّ وبين المتخلِّفين المنتكسين المرتكسين...فلا إسلام بلا قوَّة، ولا قوَّة بلا إسلام، هما وجهان لعملة واحدة، واسمان لحقيقة واحدة؛ دع عنك العملات المزوَّرة، والأسماء المحرَّفة... فاليوم وجب علينا أن نتحوَّل من "إسلام القوة" إلى "قوة الإسلام" إيمانا بهذا البعد الحركي العالمي الحضاري لديننا الحنيف.

كان نبي الرحمة -وهو في أعلى مقام من مقامات قوَّة الإسلام- يحاور المشركين، والمنافقين، والملحدين، والمتمرِّدين... ويدعو الجميع إلى الاحتماء بالدليل، والجدل بالبرهان: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البَقَرَة:111)؛ بل إنَّ الحوار عند رسول الرحمة لا ينطلق من مبدأ: أنا على صواب، يقينًا...وأنت على خطأ، يقينًا! بل على قاعدة: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ)(سَبَأ:24).

مِن هذه النافذة أطلَّ علينا "وقف الصحفيين والكتَّاب"؛ وهي مؤسَّسة خيرية، جمعوية، يدل عليها وصفُها بالوقف، ذات مقاييس عالمية عالية؛ أنشئت بتشجيع من الأستاذ فتح الله كولن سنة 1994 م، بل هو الذي خطَّ لها خطواتها الأولى بأناة، ورسم لها مخطَّط السير بروية؛ فكانت البداية من تركيا، وفي تركيا، لأجل تركيا؛ ثم ما لبثت أن صارت عالميةً بكلِّ المقاييس.

كان التشنُّج سيِّدَ الموقف في تركيا بداية الثمانينيات، وكان الناس يتقاتلون فيما بينهم، يقتل الواحد منهم الآخر لمجرَّد كونه من الجهة الأخرى، حتى إنَّ الناس لا يخرجون من بيوتهم ليلا، وإذا صادف أن خرج أحد فإنَّ احتمال أن يُغتالَ أو يؤذى قائم وممكن؛ وهنالك تأمَّل الأستاذُ في الحال والمآل، فرأى أنَّ المثقفين والكتَّاب والصحفيين والسياسيين... وكلَّ من له أتباع ومستمعون ومهتمون، هم الأصل في المسألة، فإن تسامحوا تسامح الناس، وإن تناحروا تناحر الناس، ووجد أنَّ الإسلام هو دين السلم والسلام، بلا منازعٍ، وأنه دين الرحمة والمرحمة، بلا مثيلٍ، بل هو دين التواصي بالصبر والحبِّ...فشرَع هو نفسُه في محاورة كلِّ الجهات، حتى التي يبدو أوَّل وهلة أنَّها أعتى أعداء الإسلام والمسلمين، فكان يزورهم ويدعوهم لزيارته، ويدعو الناس في "الخدمة" إلى كسب قلوب كلِّ من يعرفونه من أبناء البلد، مهما كان دينهم، وحزبهم، وإيديولوجيتهم، وسلوكهم...

يقول مديرُ المركز: "علَّم الأستاذُ كلَّ واحد منَّا أن يعتزَّ بإسلامه، ويثق في دينه، ويخلص في عبادته، ويحاور كلَّ أحد، بلا اسثناء".وكان يقول لنا: "إذا مرض أحد ممن تختلفون معه، فيجب أن تزوروه في المستشفى، حتى إذا فتح عينه لم يجد سوى أهله وأنتم... هكذا كان رسول الرحمة يفعل".

ولقد استجابت لدعوة الحوار كلُّ الجهات، مِن أعلاها إلى أدناها، وشارك فيه أكبر أسماء البلد، إذ كانوا جميعا مبهورين من كونه جاء مِن "عالم دينٍ"، ومصطلح "عالم الدين" له دلالة تقليدية سكونية، وليست حضارية ولا حركية، غير أنَّ كُولَن خالف النموذج المعتاد، وغيَّر البراديم الكلاسيكي، وأظهر شكلا جديدا، غير مألوف في تركيا يومها، للعالِم المسلم، بما آتاه الله من مواهب فطرية، ومن قدرات علمية، ومن آفاق معرفية، ومن رؤى مستقبلية...

اليوم، على إثر هذه البدايات تأسَّس وقف الصحفيين والكتّاب، وهو يحوي سبعة منتديات تعنى بالحوار، هي:

  • منتدى أبَانْت (Abant platform) وهو منتدى عالمي للحوار بين الحضارات، وبين الديانات، وبين التيارات الكبرى... وقد نظَّم الكثير من الملتقيات العالمية، من أوراسيا إلى أمريكا... إلى الكثير من مناطق الصراع في العالم.
  • منتدى الفنِّ والثقافة (Culture and art platform) يشارك فيه أكبر المثقفين والفنانين، والشخصيات الشهيرة، من أمثال لاعبي كرة القدم، والمغنّين... أي كلُّ من له شعبية في مجال الإعلام، ويتناقشون قضايا التسامح، والحوار، وغرس قيم الحبِّ، والصداقة، والمعاشرة الحسنة، ونبذ سلوك العنف والإقصاء والتصادم... الذي يودي بالبلد إلى المهالك لا محالة.
  • منتدى الصحفيين (Medialog platform) وهو خاص بالصحفيين من كلِّ وسائل الإعلام، ومن كلِّ الاتجاهات، يطوِّرون فيما بينهم أسلوبا صحفيا هادئا مسؤولا، ويزيلون فتائل الجدل الخانق، ويهجُرون أسلوب التعيير والشتم والسبِّ غير المبرَّر، وكلَّ ما يشوِّش على القيم والأخلاق وعلاقات المواطنة...
  • منتدى حوار الأديان والثقافات (Intercultural dialog platform) وهو شبيه بمنتدى "أَبَانْت"، لكنه يهتمُّ بداخل تركيا، وينظِّم حوارات بين المسلمين والمسيحيين، وبين المسلمين والمُوسَويين، وبين المسلمين فيما بينهم، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم... ويزيل الوهم والتهمة التي تقول: "وراء كلِّ فتنة وعنف في العالم تقف الديانة سببا"، بل يُظهر أنَّ الدين بريء من هذا، وإنما المصالح السياسية، والحسابات الضيقة، والفهم الخاطئ، هو السبب والدافع والباعث لكلّ عنف وشدَّة.
  • منتدى المرأة (Women’s platform) للحوار بين النساء، من مختلف المشارب والمضارب، حول اهتماماتهنَّ، بعيدا عن الادعاءات، والحسابات الضيقة، وبذلك يمنعن توظيف المرأة كشعارات ذات حساسية مرهفة وبالغة، من قبِل المغرضين والفتانين...
  • منتدى البحث العلمي (Research platform) وهو منتدى للبحث العلمي، والطروحات النظرية والفكرية والعلمية العميقة، وهنا تتمُّ مناقشتها بدون خلفيات إيديولوجية أو حسابات لا أخلاقية.
  • منتدى أَوْراسْيا (platform Eurasia) وهو منتدى يدور حول قضايا أوراسيا (روسيا، وبيلوروسيا، وكازاخستان، وقرغيزيا، وطاجيكستان، وأوزبكستان)، ويشارك فيه أبناء هذه البلاد؛ يُسهمون في نزع فتيل الخلاف بين أبناء الأرض الواحدة، والتاريخ الواحد، والحضارة الواحدة؛ لصالح نموهم ورقيهم، ولأجل وضع أكثر سلاما وأمنا وتقبلا للآخر.

ولقد أصدر "وقف الصحافيين والكتاب" العشرات من الكتب والمؤلفات، بمختلف اللغات، كما أنَّه يُصدر مجلات دورية وشهرية، حول قضايا الحوار، بالتركية والانجليزية، راقية الإعداد والطبع، وواسعة النشر والتوزيع.

وقد أنشئ حديثا "مركز بحوث فتح الله كولن"، ضمن الوقف، وهو المسؤول عن البحث، وعن تنظيم مؤتمرات عالمية، لمناقشة فكر الأستاذ كولن، فقد نظَّم ملتقيات في أرقى الجامعات العالمية: في أمريكا، وروسيا، والسويد، وألمانيا... وغيرها.أمَّا عن الملتقيات المنظَّمة في العالم العربي -مصر، اليمن، الأردن...- فهي بإشراف مجلَّة "حراء" الغرَّاء.

ولقد كان سؤالي لمدير المركز عن مدى الاستفادة من هذه الروح أولا، ومن الفكرة ثانية، ومن المؤسَّسة ثالثا، ومن الخبرة رابعا... وخامسا، وسادسا... فكان الجواب أنَّ "قلوبنا وعقولنا مفتوحة لاحتضان أيِّ تعاون في هذا الشأن، من مثل استقبال أساتذة من العالم العربي، أو عقد منتديات حوار على هذا الأساس في أيِّ بلد عربي...". لكن ثمَّة حساسية وصعوبة، لم يُخفها المسؤول عن المركز في شأن البلاد العربية.

هكذا، يكون الإسلام: مبادئُ كبرى، تجد أفعالا كبرى، من رجال كبار، وبالتالي تحقِّق إنجازات لا حدَّ لها، وتنشر خيرا عميما لا مثيل له، فيصير المسلم في عالَم اليوم هو مَن يقود قاطرة الحضارات، ولا يبقى في ذيل الأمم والمدنيات، يلهث وراء السراب؛ يلعق دماءه وجراحاته، فيثير الشفقة عند القريب، ويستوفز الشماتة عند البعيد...

الإسلام حضارة، والإسلام عمارة... الإسلام حركية وفكر، وعلم وعمل، وتخطيط وتنفيذ، وإبداع وريادة...هكذا لنكن، أو لا نكون...أمَّا ديننا فهو أعظم، وأرحب، وأوسع...وصدق الله العظيم: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)(المائدة: 3).

ثانيا- ماذا ينتظره العالم العربي من فكر الأستاذ فتح الله، ومشروع الخدمة؟

هذه الورقة لا تتجاوز السؤالَ والإشكالَ، إذ تعتقد أنها تتلمَّس المعالم الأولى "للبراديم كولن"، وهي بذلك تتشوَّف للإفادة من تجارب الباحثين والدارسين لفكر الأستاذ، ولمشروع "الخدمة"، من الداخل الحركيِّ أو اللغوي أو المعرفي، التركيِّ بالخصوص.

تتوجَّه هذه الورقة إلى "وقف الصحفيين والكتّاب" برسالة مفادها:

"إنَّ العالم العربي اليومَ، من خلال المثقف العربي، لا ينظر إلى البراديم كولن على أنه "موضوعٌ" للدراسة، أو "تجربةٌ للوصف والتحليل"، أو حتى "نموذج في الفكر الإسلاميِّ المعاصر" للاطلاع عليه بغرض الفضول والمقارنة... لكنَّ الأمر مختلفٌ تماما، إذ السياق الزمنيُّ، وحالُ الأمَّة، والأزمةُ المعرفية والثقافية والحضارية، والبحثُ الجاد عن "المنفَذ"، وعن "المنقِذ"، وعن "النموذج الفكري الممكن" و"المثالِ العملي الحضاري الناجح"... كلُّ ذلك يجعل مهمَّة الغوص في هذه التجربة "واجبا شرعيًّا"، كذا نقلُ التجربة، مع تكييفها حسب سياق الزمان والمكان... أي، إنَّ المثقف العربي ينظر إلى الأستاذ من منظور "المجدِّد" و"الإمام"، لا من نافذة "العالِم"، و"المنظِّر"... ومن ثم يكون لزاما عليه "اتباعه"، والعمل وفق "مخطَّطه وبرنامجه"، ففكر الأستاذ ليس "حكرا" على وطنٍ، أو مجتمع، أو بيئة جغرافية... وإنما هو "كلٌّ حضاريٌّ" للمسلمين، بل للعالم أجمع.

ولا ينبغي الانسياق وراء دعوى "الموضوعية السلبية المتلقية"، ولا اعتقاد "الحياد" تجاه الموضوع المدروس، ولا أنه "نهائيٌّ وعلميٌّ"؛ بل المطلوب، في سياقنا الحضاري المعرفي، هو "ذاتٌ: متفاعلةٌ، فاعلةٌ، صادقةٌ... غير متعصِّبةٍ، ولا مغلقةٍ، ولا إقصائيةٍ"، وقصارى الباحث في الأخير أن يقول: "هذا هو اجتهادي وأعتقد أنه أكثر تفسيريةً، وأرجو أن تقوموا باختبار ما توصلت إليه". وهذا ما يقوله الجهد الذي أنا بصدده، دارسا، باحثا، منقبا، سائلا...

والباحث في جميع ما كتب، ينطلق من سؤال صغير كبير، وهو:

"ما العلاقة بين العلم والعمل؟ وكيف نحوِّل الفكر إلى فعل"؟

هذا السؤال ذاته هو عنوان "الأزمة المعرفية"، في الفكر الإسلامي المعاصر؛ ومن ثمَّ كان "النموذج المهيمِن" عاجزا عن الإجابة عنه، رغم العديد من المحاولات، بمختلف المسمَّيات: الإصلاح، النهضة، الحداثة، الثورة... الخ.

ومعلوم أنَّ الإجابة عنه، باصطلاح نظرية المعرفة، تعتبر "نموذجا بديلا" أو "براديما بديلا" (Alternative Paradigm)، وذلك بأن يمرَّ عبر مرحلة "تحوُّل البراديم" (shift paradigm). وهو ما تحقق فعلا، في فكر الأستاذ فتح الله، ومن خلال تمثله في الواقع؛ ولذا جاز أن يصطلح على هذا البراديم البديل اسم: "البراديم كولن".

ولقد آثرت هذه المقاربة، رغم ما فيها من مخاطر، لأنها -في تقديري- الأكثر دلالة على واقع "فكر الأستاذ والخدمة"، وإلا فالمنهج المتَّبع عادة يميل إلى "الوصف"، أو إلى "التأريخ والاسترداد"، أو حتى إلى "المقاربة الكمية الإمبريقية"، وأحيانا يعتمد "نظرياتٍ نفسية أو اجتماعية" قد لا تلائم طبيعة الموضوع بالضرورة؛ ولا أشجب هذه المقاربات، فلها محاسنها ولها مساوئها، بالطبع؛ لكنني أفضِّل المقاربة بالنموذج، ذلك أنَّ للنموذج "قدرةً تفسيرية عالية، تساعدنا في الخروج من الثنائيات الاختزالية: الأستاذ والأتباع، القمَّة والقاعدة، التخطيط والتنفيذ... فهو يحلُّ بديلا عن هذه الثنائيات صورا شاملة كونية مركَّبة، تلج إلى النصوص بعمق، وتستنطق المؤسَّسات بروية، وتتخطَّى السرد الزمني النمطيَّ؛ فمشروع "كولن" -في تقدير هذا البحث- ليس مشروعا كلاسيكيا تقليديا معتادا، ولذا يكون من الظلم حشره في هذه الخانة وضمن هذا الإطار، ويستحيل فهمه من هذا المنطلق وبهذه المقدِّمة".

ومن أبرز ما عالج الباحث في البراديم كولن:

  • مشكلتا التصنيف والحدِّ الفاصل: بتحليل "الصور الذهنية"، و"العبارات الموجزة" في فكر الأستاذ، ضمن نتاجِه باللغة العربية؛ ثم "التصرفات العفوية، والسلوك الواعي" للمنتمين إلى "الخدمة".
  • البعد الحركي للدلالة والتعريف: تبيَّن من خلاله أنَّ "الألفاظ والمصطلحات عند كولن لا تسكن ولا تخمد عند دلالة واحدة، وإنما تنمو وتتطوَّر، وتولَد وتكبر وترشُد، وتحتكُّ بمختلف العلوم والمعارف، وتلج أغوار القلب لتتمرَّغ في عالم الروح والوجدان، ثم تصَّاعد إلى فضاء العقل لتكتسي الصفاء والمنطق والمعقولية...ثم تتنزَّل إلى أرض الواقع تختبره ويختبرها... وتعيد الكرَّة تلو الكرَّة مسافرةً بين القلب والعقل والواقع، فَتِيلُها مغروس في زيت القرآن والسنَّة الشريفة، لا تنحرف عنهما قيد أنلمة، وهواؤها ممزوج بالتجارب البشرية الغابرة والحالية، وأفقها ممتدٌّ إلى سماء المستقبل والبصيرة والفراسة الصادقة... فتغدو هذه الألفاظ وتلكم المصطلحات بعد عملية التعريف "كيانات حية نابضة بالحياة"، تهب الحركية والتمكين بفضل الخالق الوهَّاب....
  • ولقد دعوت حينها إلى "بناء قاموس معرفي لمفاهيم البراديم كولن"؛ ولعلي اليوم قد خطوت الخطوة الأولى في هذا السبيل... يبقى أنَّها ترتطم بالعديد من الإشكالات، على رأسها: النسبة الضئيلة لما ترجم إلى العربية من فكر الأستاذ.
  • المراحل السبعة لتحويل المعرفة إلى سلوك، في البراديم كولن: عالج الفصل عمق العلاقة بين الفكر والفعل، وأنه عند كولن ليس إجراءً عفويا ساذجا، وإنما هو إبداع لا نظير له. لا يدعي الباحث أنه استوعبه، وإنما يدعو إلى الغوص فيه، ولعلَّ "نموذج المنطاد" يكون بحول الله مواصلة لدراسة: الإدراك، والمدركات، والفعل والحركية... وكلِّ ما يمت إلى هذا الموضوع الشيق الشائك، بصلة.
  • أسباب الرشد وموانعه: وهي ليست أسبابا من نمطٍ واحد، وإنما تنقسم إلى أسباب "قلبية إيمانية"، وأخرى "عقلية معرفية"، وأسباب "دعوية حضارية"، ثم "فنية جمالية". وقد تم التمثيل لكلٍّ منها بمثالين؛ لعلَّ البحث في كتابته لـ"نظرية كلِّ شيء" ودفاعه المستميت عن أطروحة "الفكر الشموليِّ الكونيِّ عند الأستاذ"، يواصل الحفر في مقدمات هذا الفصل، الذي قد يحتاج إلى مراحل أخرى، وإلى جهود تترى... لمَّا تبذل بعدُ، في تقدير الباحث.

وأخيرا، أودُّ أن أقول: إنَّ "نموذج الرشد" الذي طوِّر عبر سنوات من البحث، وألِّف فيه العديدُ من المقالات، ثم أجرِيتْ حوله محاضرات وملتقيات؛ كان أوَّلُ مصدر مكتمل لاختبار قدرته التفسيرية، هو كتاب "البراديم كولن"، ثم رواية "بوبال"... هذا النموذج لا يزال طور المراجعة والتنقيح، وهو يقوم على أسس ثلاثة أساسية، هي:

1. ذاتية اتباع الأسباب

2. حركية الفكر والفعل

3. سداد المسلك، في العلل

أقول: في كلّ عمود من نموذج الرشد يتبدَّى مشروعٌ علميٌّ جماعيٌّ في "فكر الأستاذ فتح الله"، ولعلِّي أنتهي بالدعوة إلى تجاوز "عقبة اللغة"، وإلغاء "عقدة الآخَر الثقافي"، والكفِّ عن شعار "الموضوعية الساكنة" التي لا تتناغم مع حقيقة ديننا الحنيف، والخروجِ من "الفردية العلمية" التي طالما حذر منها الأستاذ نفسه، وأخذِ القضية بجدية لائقة... -بعد كلِّ هذه الإجراءات- أرسِلُ دعوة صادقة إلى أخي الباحث، والعالم، والمفكر... إلى بناءِ "جماعة علمية"، بمقاييس "علم اجتماع العلوم" أو أدقَّ منها وأعمق، "جماعةٍ علميةٍ" مختصَّة في فكر الأستاذ فتح الله، وفي مشروع الخدمة... بين الفكر والفعل.

وإن تكن هذه "الجماعة العلمية" قد تأسَّست، بهذه المعايير أو بأقوى منها، فالرجاء إشراك "الباحث العربي" فيها، إذ لا شكَّ أنه المؤهَّل الأوَّل لفهم الأستاذ، لأسباب يطول شرحها.

ثالثا- ملاحظات حول مجريات الندوة

تميزت الندوة بجملة من الخصائص التي تجعلها مثالا للقاءات العلمية المثمرة، من ذلك نذكر:

  • التنظيم الجيد، وتوزيع المشروع على الأساتذة قبل موعد الندوة.
  • ضبط الوقت، والتحكم في تقسيم الفترات، بين المداخلة والحوار.
  • التسجيل والتصوير من قبل مؤسَّسة إعلامية محترفة، لكلِّ مجريات الندوة، بغية نشرها وتنزيلها كتابيا بعد ذلك.
  • عمق القضايا المطروحة، والصراحة المتناهية من قبل الأساتذة.
  • الخلُق الجميل، والاحترام المتبادل، مع الصراحة والدقة العلمية. مما يؤكد مبدأ "الثالث الموضوع"، فلا تعارض بين الأمرين.
  • الصدق، والنقد، وقبول النقد، والبحث عن الواجب من قبل كلِّ طرف... فالكلُّ يسأل عن "دوره هو"، وعن "مظاهر تقصيره"... ولا يجهد نفسه في إلقاء اللوم على الآخرين.
  • الاحترام الشديد للعالم الإسلاميِّ عموما، والعربيِّ بالخصوص؛ واعتقاد أنَّ اللحمة الإيمانية فوق كلِّ اعتبار.
  • الاحترام البين لعلماء المسلمين عموما، وذكرهم بما هم أهل له، بلا تعصب ولا ادعاء.
  • الكلمة الطيبة، والابتسامة الصافية، والأريحية والهدوء، سمات لجميع الحضور بلا استثناء.
  • احترام التنظيم، والمنظم، والالتزام بالشروط والقواعد، فلا أحد يطلب الاستثناء، أو التمديد في الوقت، أو مراعاته بخصوصية ما.
  • النزعة العلمية، التي تطغى على الحوار، فالكل يبحث عما يجب فعله، وعما من شأنه أن ينجز ولم ينجز، وعن أوجه التقصير في الفعل... بغية تحويل ذلك إلى مشاريع، أو خطط، أو خطوات...
  • بدا جليا مشكل اللغة، وأنه يقف حاجزا أمام تراث الأستاذ وفكره، في تحوله إلى العالم العربي؛ ولعل ضعف وتيرة الترجمة تلقي بكلكلها على القضية، فتحرمنا الخير العميم. من هنا ركز المشاركون على وجوب اتخاذ مبادرات متبادلة من كلا الطرفين، للترجمة أولا، ولتعلم التركية ثانيا.
  • يؤكد الحضور، أنَّه "علينا تبليغ فكر الأستاذ بمستوى يفوق المستوى الجامعي، من خلال مراكز متطورة متخصصة عالمية؛ وإلا فلا ننتظر الكثير، ولا نتفاءل بأنه سيبلغ مقصده، وسينال الأثر اللائق به، من الناحية الفكرية على الأقلِّ".
  • وينتهي الحوار في كلِّ مرة بالسؤال والجواب عن "الخطوة العملية"، وهذا متوافق مع طبيعة النموذج، حسبَ طرحه، أي "تحويل الفكر إلى فعل، والعلم إلى عمل".
  • يُجمِع الكلُّ أنَّ مصطلح "البراديم" لائق وموفَّق، وأنه يؤدي الغرض، مع بعض التحفظات من اختزال فهمه لدى غير المتخصصين.
  • ويبقى البحث أحوج ما يكون إلى نقد عميق، بخاصة لو ترجم إلى اللغة التركية، وقرأه المتخصِّصون، وتعمَّقوا فيه؛ لا شكَّ أنهم سيفيدون المؤلف إفادة كبيرة.

[1] كان ذلك أواسط الشهر العاشر من عام 2011م. ولقد سبق لي أن أقمت صائفة كاملة بها، وألّفت بحثا بعنوان "البراديم كولن". كذا توالت الزيارات العلمية والعملية منذ عدة سنوات.
[2] تتميز العلاقات في المجتمعات التعاقدية بـ"النفعية، والحياد، والترشيد، والحوسلة". فالعلاقة نفعية واحدية واضحة صلبة مُصمَتة مادية، ليست مركَّبة أو متعدِّدة الأبعاد. لا تتسم بأي إبهام، فهي علاقة تبادُل بسيطة يُفتَرض فيها أنَّ الهدف واضح، وتحدِّدها شروط مسبقة واضحة مفهومة تمامًا للطرفين "بشكل واع أو غير واع. وما يضمن استمرار العلاقة هو استمرار المنفعة".
[3] "التراحم" يعني "وجود أبعاد غير مادية في العلاقات بين الأفراد، وأنها علاقات إنسانية شخصية لا تقوم على المنفعة وحدها، ومن ثمَّ فهي ليست علاقات عقلانية مجرَّدة، أو تعاقدية نفعية محضة، بل هي علاقات عضوية مركَّبة، فالتراحم بهذا ينظم مجموعة من المفاهيم الأخلاقية كالترابط والتعاون والإيثار".
[4] هي مدفأة وسخان للماء في آن واحد؛ يسميها البعض بالدارجة "الكُومْبِي"، وأصله بالانجليزية "combine" أي "الضمُّ والمزج والجمع" بين وظيفتين.
[5] أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالبنات، وأمر بالعناية بهن، وحذر من الإشقاق عليهن، وذكر أنَّ فاعل ذلك محروم من الجنة، داخل إلى النار، والأحاديث واردة في ذلك، منها حديث عن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "جاءتني امرأة ومعها ابنتان لها، فسألتني فلم تجد عندي شيئا، غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئا، ثم خرجت وابنتها، فدخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحدّثته حديثها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من ابتلى من البنات بشيء فأحسن إليهن، كنَّ له سترا من النار».
[6] حاول معتز الخطيب أن يعطي مفهوم "التراحم" بعدا أوسع من بعده "الاجتماعي الأنتروبولوجي"؛ فلمفهوم التراحم في الإسلام "ظلال أوسع تخرجه عن حدود المفهوم الأنتروبولوجي الضيق، وتميِّزه عن النموذج التراحمي في المجتمعات التقليدية غير الإسلامية" وقد وفِّق في هذا الطرح والتأصيل؛ إلاَّ أننا يجب أن نلاحظ أنَّ دلالة التراحم في المجتمعات الإسلامية في مرحلتها الأخيرة، أي ما بعد الاستقلال، وفي حالة "التخلف وما بعد الحضارة"، هي أقرب إلى النمط التقليدي القبلي منها إلى النمط الإسلامي الشمولي العميق. وبتعبير الدكتور أبو سليمان: "تغلَّب الأعراب على الأصحاب".
[7] مجلة "حراء"، العدد: 29 (مارس-أبريل 2012).
[8] إشارة إلى قصيدة "بدا حاجب الأفق"، للأستاذ فتح الله كولن، مطلعها:
أوشك السفر على الانتهاء،
وبدا حاجب الأفُق
ذاك الربيع الذي كان مخضرًّا بكل أشكاله،
أصبح اليومَ مصفرًّا...
[9] عاش أحمد شوقي أحلك أيام المسلمين، وعاين سقوط الخلافة، وتكالُبَ الاستعمار الغربي على البلاد المسلمة، وضعف المسلمين وهوانهم وخورهم حينها، وذلك ما بين 1868-1932م.
[10] "القضية الكبرى لشعبنا"، للأستاذ فتح الله كولن، وهو مقال نشر في كتاب "ونحن نقيم صرح الروح"، ص:105.
[11] "النور الخالد"، للأستاذ فتح الله كولن، وقد طُبع طبعة راقية بديعة، وبيع منه في مولد هذه السنة فقط، باللغة التركية، حوالي مليوني نسخة، إضافة إلى ملايين النسخ التي بيعت من قبلُ، باللغة الأمّ، وبشتى اللغات التي ترجم إليها، علمًا بأن الهدف هو تبليغ صوت الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى جميع سكان العالم بجميع لغات البشر.
[12] محور "طانجا-جاكارتا" بتعبير مالك بن نبي، ومحور "مراكش-جاوا" بتعبير فتح الله كولن.
[13] دنيا في رحم الولادة، للأستاذ فتح الله كولن، وهو مقال نشر في كتاب "ونحن نقيم صرح الروح"، ص:12.
[14] "وخاتم المنبئين عن الغيب"، للأستاذ فتح الله كولن، وهو مقال نشر في كتاب "ونحن نبني حضارتنا"، ص:144.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.