الفصل الرابع: الإبراهيميون الجدد والهجرة إلى الخدمة

 لم يُنجز فتح الله وتلاميذه من أبناء الخدمة كل تلك الفتوحات الناعمة في جبهة الجهاد الأبيض إلا بعناية الله وتوفيقه الذي منحهم الحكمة، بما فيها من استيعاب لمقاصد الشرع وسنن الكون، وحقائق المجتمع، وطبائع الناس، ومتغيرات الحياة... فقد انطلقوا من عالم "الأفكار" إلى عالم "الأفعال" عبر جسور الحكمة، بكل ما آتاهم الله من مواهب وطاقات.. فالفتوحات "الناعمة" إذًا هي ثمرة العمل "الخشن" الذي يتم على حساب راحة أصحابه وملذّاتهم، ولاسيما ما يرتبط بمفارقة الأرض والوطن والأهل والمال، والذهاب إلى شتّى أصقاع العالم بأقلّ الإمكانيات وفي مختلف الظروف، مع ما في ذلك من مكابدة للأشواق، ومعاناة من الأشواك التي تملأ طرق فاعلي الخير في هذا الزمن الأجدب.

ولما كان نبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام- ينحدر من الأرض التي تتوزع اليوم بين شمال العراق وجنوب تركيا، فقد كان أسوة مضاعفة لأهل الخدمة الذين نبتوا في بلاد تركيا في الليالي السود، وخرجوا منها كالعنقاء، حيث بدا أنهم حاولوا التأسي به واقتفاء آثاره في أمور كثيرة، ولذلك أطلقنا عليهم مصطلح "الإبراهيميّين" في هذا المقام.

إن الإبراهيمية واضحة في أفكار وأفعال أبناء الخدمة بسفورٍ شديد لمن كان له بصر أو بصيرة، فإن هذه القضية حاضرة بقوة في تكوينهم، وليست مجرد تأثر غير واع، فها هو مؤسّس ومُوَجِّه هذا التيار ومنذ وقت مبكر يلفت أنظارهم إليها، حيث تَحدّث عن بطولات الصحابة الكرام وتضحياتهم في سبيل هداية الناس، عبر حملهم رحمة الإسلام إلى العالمين من خلال فتح القلوب "بجمال الإسلام وكونه مطابقًا للفطرة والعقل"، ولا ينسى أن يلفت الأنظار في هذا السياق إلى المنهج الإبراهيمي، إذ وصف هؤلاء الصحابة الفاتحين بأنّهم: "كانوا يتمتّعون بروح إبراهيمية وفهم إبراهيمي، لذا تركوا حتى زوجاتهم ونساءهم.... بمثل هذه الروحية نظموا أيامهم وأوقاتهم وزمانهم. وعندما جاء يوم التضحية لم يتردّدوا في التضحية بكل شيء، وقاموا بعمل ما يجب عليهم على الوجه الصحيح. وقد أنعم الله عليهم فيما بعد من الناحية المادية والمعنوية بأضعاف ما ضحَّوا به آنذاك"[1].

ولقد كرر كولن دومًا أن المخرج من مشاكل أمّة المسلمين في هذا الزمن هو إعادة الصحابة من جديد، بإيجاد "الجيل الذهبي"، وفي سياق حديثه عن الصحابة يلفت أنظار المدعوين لوراثة الصحابة إلى الأخلاق الإبراهيمية القائمة على الهجرة، والتضحية في سبيل المبادئ بكل شيء.

وما فتئ يؤكد على الأخلاق الإبراهيمية ودورها في الوصول بالخدمة في تركيا إلى ربيعها المزهر الجميل، معيدًا الفضل في ذلك إلى البذرة التي وضعها بديع الزمان النورسي والذي أشار إليه من خلال وصفه بـ"المؤمن العملاق"[2].

ورغم البذل الكريم الذي اتسم به أبناء الخدمة إلا أنه حثهم على المزيد في هذا السبيل: "فالشيء المناسب لنا هو التحلي بالروح الإبراهيمي الخليلي، أي كما ترك إبراهيم الخليل -عليه السلام- زوجته وابنه وذهب دون أن ينظر خلفه، فهذا هو ما يليق بنا، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لو كنتُ متّخذًا من أمّتي خليلاً لاتّخذت أبا بكر، ولكن أخي وصاحبي»(رواه البخاري).

هكذا أحرز أبو بكر هذه المرتبة الرفيعة، فكما كان إبراهيم -عليه السلام- خليل الرحمن، كذلك كان أبو بكر  خليل رسول الله..."[3].

ومع إقراره بأن الخدمة في تركيا تعيش في ربيعها الزاهي إلا أنه يستمر في تعبئة أبناء الخدمة، طامعًا في المزيد، رابطًا كل ذلك بقضيّة الإيمان الجوهرية: "أجل فما نقدّمه من عمل ومن تضحية ومن كرم وبذل، مرتبطٌ بمدى إيماننا وبقوّة هذا الإيمان. وما بذله المسلمون حتى الآن من سخاء وكرم، يزيد من أملنا في أنهم يستطيعون إنجاز أعمال أكبر"[4].

ويؤكد لهم أن زيادة التضحيات تقرب زمن تحقق الأهداف: "أجل فكلما بذل خدّام الإسلام مما يملكون، وكلما زادت شهامتهم وتضحياتهم في هذا السبيل، كلما اقتربنا من الهدف المرسوم بسرعة أكبر وبصورة أفضل"[5].

إن المتأمّل في خصال خليل الله إبراهيم -عليه السلام- كما أوردها القرآن وكما أكّدها التاريخ الصحيح، والمقارن إياها بخصائص تيار الخدمة، يلاحظ بدون أدنى عناء وجود تشابه كبير بينهما في كثير من الموضوعات والمفردات، ويمكن إجمال أهم أوجه التشابه في النقاط الآتية:

أولاً: الانغماس في تِبْر الخدمة

ليست الخدمة جوهر التيار الذي أسّسه كولن فحسب، بل هي عنوانه منذ البداية، حيث أن حضور هذا التيار الكبير في الشارع التركي تم دون اسم كبير أو عنوان عريض، كما هي عادة الحركات والتيارات الإسلامية في هذا العصر الذي طغت فيه العناوين على المضامين، واهتم المسلمون فيه بالشعارات أكثر من الأعمال، وبالانفعالات على حساب الفاعليات، إذا استثنينا حركة الإخوان المسلمين. واكتفى مؤسس هذا التيار فتح الله كُولَن باعتبار تلاميذه خدّامًا لدينهم ووطنهم وأمّتهم وإخوانهم في الإنسانية جمعاء، ولهذا عُرف هذا التيار بـ"تيار الخدمة"، وهو أكثر الأسماء تعبيرًا عن مضمونه في هذا العصر الذي فقدت فيه حتى اللغة مدلولاتها، حيث طغت ظاهرة الانفصام بين العناوين والمضامين، أو بين المباني والمعاني، فـ"الأسماء" عادة ما تكون كبيرة، لكن "الأفعال" صغيرة، ويبرز جمال المباني فيفضحها قبح المعاني التي بداخلها.

هذا العنوان (الخدمة) بقدر ما يدلّ على تواضع كُولَن، فإنّه يدلّ على جدّيته الكاملة؛ فالسنبلة الممتلئة لا تشمخ بأنفها إلى السماء وإنما تنحني تواضعًا بعكس السنبلة الفارغة، والإناء الفارغ أكبر ضجة وأعلى صوتًا من الإناء الممتلئ.

ويبدو أن خصلة التواضع استفادها كولن من اتصاله الوثيق بالصوفية، واستمداده منها الزاد الروحي، وهي الصوفية الحقّة التي كان عليها سلَف الأمّة العظام.

روي عن أبي سليمان الداراني قوله: "مَن رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة"[6]. وكأن كُولَن أقوى مَن استوعب هذه العبارة الصوفية وجسَّدها في حياته وحركته التي حملت اسم الخدمة ومضمونها، ووصل "التفاني" في هذه الخدمة إلى حد "الفناء" فيها، لأنها أنكرت ذاتها، واحتقرت ما تقدّمه لأمّتها، بسبب إخلاصها وتركيزها الدائم على ما يجب أن يكون وليس على ما كان، أي أنهم لا يستحضرون ما فعلوا، ولكن ما يجب أن يفعلوا مما تحتاج إليه مجتمعاتهم لكي تسعد في دنياها وتفوز في أخراها.

وقد حضر أهل الخدمة بفاعلية في ميادين الخدمات التي تحتاجها مجتمعاتهم؛ سواء في الميدان الاجتماعي الخيري، أو الميدان الفكري الثقافي، أو الميدان التربوي التعليمي، أو الميدان المالي الاقتصادي، أو الميدان الإعلامي الفني، فكانوا أعلامًا مبرزين في كل هذه الميادين، مع وجود بعض التفاوت النسبي بينها، وحقّقوا أرقامًا مدهشة ومنجزات مبهرة، تفوق بكثير المدخلات التي يملكونها، لكنها بركة الإخلاص والتدقيق والشورى.

ومع أنهم لم يخوضوا غمار العمل السياسي، تاركين هذا الأمر لغيرهم، إلا أنهم لم يمارسوا السلبية في هذا المجال بتاتًا، حيث مارسوا العمل السياسي المطلوب من أفراد المجتمع العاديين، كمعاقرة الانتخابات والدفع بمن هو أصلح لتركيا إلى مقاعد المسؤولية وصناعة القرار.

فإن كولن يرى أن الاهتمام بالشأن السياسي بهذا المفهوم ذو صلة بخدمة الوطن والأمّة، حيث يقول: "من المقاييس والموازين عندنا أن القول: "إنني لا أتدخّل في السياسة، ولا تتدخل أنت في السياسة" يعني: "إنني لا أتدخل في شؤون الوطن والأمّة، ولا أتدخل في حياة وبقاء الأمّة، ولا تتدخل أنت كذلك"[7].

لقد تفوق أهل الخدمة في الفاعلية التي عُرفت عنهم واشتهروا بها، وذلك بسبب التوسع الأفقي والعمق الرأسي في هذه الخدمات، حيث خاضوا كل مجالات الخدمة، وجمعوا في كل مجال منها بين الإخلاص الدعوي والإتقان المهني، ولذلك تسابق الناس على الاستفادة من خدماتهم مع أن عددًا من هذه الخدمات تأخذ رسومًا مقابلها، كالخدمات التعليمية والطبية، فقد قدّمت خدمة راقية تفوّقت فيها على المحترفين وأهل الصنعة والخبرة والدراية فيها مع قلّة الرسوم المطلوبة فيها، بجانب حضور الحسّ الرسالي والنَّفَس الروحي والذي لا يفصل أي أمر دنيوي عن الآخرة، ولا يُخرج أي خدمة أو متعة من دائرة العبودية لله تعالى.

إن حجر الزاوية في هذه الفاعلية التي اتّسم بها أهل الخدمة وتفوَّقوا بها على نظرائهم هي اليقين بأن الخدمة جوهر العبودية التي خُلق من أجلها الإنسان، ولهذا ظل كولن يوصي أتباعه بأهمية ووجوب "الاستجابة للحق في خدمة الخلق". وظل يحثّهم على استحضار هذه النية، جاعلاً إياها فيصلاً بين "من يهدف إلى خدمة الإنسان وبين حياة المتوحشين البدائيين المملوءة بكل الرغبات الجامحة"[8].

وللأهمية البالغة لهذه الخدمة في مضمار العبودية الكاملة لله تعالى، وهي بدورها تمثل الطريق الوحيد لاستعادة الأمّة أمجادها وتحقيق التمكين الحضاري المنشود، فإنه يجعل الخدمة الخالصة من المنافع والشوائب هي الغاية العظمى التي لا يمكن التفريط بها، ولهذا فإن دستور رجل الدعوة يتمحور حولها.[9]

إنه يعد أهل الخدمة أصحابًا للروح المثالية والقلوب الكبيرة "وهم مثل ملائكة الرحمة وملائكة الحفظ والصيانة في المجتمع الذي يعيشون فيه، يتصارعون مع مصاعب المجتمع ومصائبه، ويتصدون للرياح وللعواصف ولإطفاء الحرائق، وهم على أهبة الاستعداد لكل طارئ"[10].

ويمدح كولن أهل الخدمة بكل ما يحتويه قاموسه الضخم من مفردات الجمال والجلال، فهم الثمينون الذين لا يمكن شراؤهم بملء الأرض ذهبًا وجواهرًا، وهم "كأمثال الغيوم المحملة بالأمطار، محملون على الدوام بالمبادئ العالية وبالفضائل السامية. وسواء أعَرفوا ذلك أم لم يعرفوا فكل أرض يطأوها تخضرُّ من بعدهم"[11].

ويعتبر كولن أن همة كل شخص وشهامته تكون حسب درجة علوّه، ولا يمل من التأكيد على الأهمية البالغة للخدمة في كل المناسبات، حيث ينطلق من القاعدة المبدئية التي وضعها لأتباعه في هذا المجال والتي لخّصها بقوله: "والطريق المؤدّي إلى الإنسانية يمر عبر تفكير الإنسان بالآخرين واستعداده إن اقتضى الأمر لإهمال نفسه في سبيل الآخرين"[12]، ولاهتمامه بتقديم الخدمة لكل بني الإنسان مهما كانت أديانهم، فإنه لا يبخل بها حتى على الغربيين الذين غزوا بلاد المسلمين وتركوا فيها جراحات غائرة ومرارات طافحة، ومع ذلك فإنه لا يرى في الغرب دار حرب أو دار كفر، بل "دار خدمة".

ومع جمال وعظمة ما قاله كولن عن الخدمة، إلا أن ما أنجزه في هذا المجال هو أجمل وأعظم، حيث نزل أبناء الخدمة بكل ما يملكون من مواهب وطاقات إلى المجتمع التركي لخدمته منذ السبعينيات، وبعد عقدين انطلقوا إلى وسط آسيا، حيث تفانوا في تقديم الخدمات المتنوعة لإخوانهم الذين خرجوا من الاحتلال الروسي لبلدانهم والذي استمر عقودًا طويلة فصلتهم عن ثقافتهم وتاريخهم وأمّتهم، ومع دخول الألفية الثالثة وَلَجوا إلى رحاب العالمية بخدمات تربوية وإعلامية وإغاثية وفكرية.

إنهم دائمو النزول إلى المجتمع، دائبو العمل لتقديم الخدمات لهم، لكن وصية أستاذهم لا تبارحهم في عدم نسيان رسالة الهداية وواجب الارتفاع بالناس إلى المستوى اللائق بإنسانيتهم كما قرر ذلك الإسلام، فقد ذكر أحد تلامذته في أحد المؤتمرات أنه قال لهم: "إذا ظللتم تنزلون إلى مستوى الناس فستنتهون؛ لأنكم سترتطمون بالأرض"!!

وبسبب عشق كولن للخدمة ودخوله إلى رحاب العبودية من أبوابها الواسعة، وحرصه على تحلي تلاميذه ومحبيه وكل المسلمين بما يحبّه لنفسه ويحرص عليه، فإنه ما برح ينقي العقول والقلوب والسلوكيات من الشوائب التي تُشَوِّه جمالها، وتقيّد حركتها وانطلاقها، ولهذا فهو يكره الأنانية ويُحذِّر من الوقوع في دوامتها،[13] ويدفع نحو الإعلاء من قيمة الإنسانية في النفس، بحيث يحب كل أحد للآخرين ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لذاته،[14] ويحث على التلقائية والبساطة والتحلي بخلق التواضع الجمّ،[15] ويدعو إلى الخروج من شرنقة الذات والتّمحْور حول الأمة بالسعي الدائم والدائب لجلب المنافع لها، ودفع المضار عنها،[16] واستحضار المشتركات ونقاط الالتقاء والاتحاد مع الآخرين، والتعاون معهم لتحقيقها من أجل الصالح العام.[17]

وفي ذات السياق دعا إلى الإعلاء من قيمة الصداقة والإخاء،[18] وحثّ على خدمة حقوق الوالدين وحقوق الأطفال، كواجب ديني وأخلاقي وواقعي،[19] وحَضَّ على اجتذاب الشباب بأفضل السبل وأنجع الوسائل، من أجل تربيتهم ودفعهم إلى الخدمة،[20] واهتمّ اهتمامًا بالغًا بتربية الكوادر، التربية التي تصقل إنسان الخدمة، وتؤهله للتضحية بوقته وطاقته وماله في سبيل الآخرين، رغبة بما عند الله من الثواب العظيم.[21]

الجدير بالتذكير أن نبيّ الله إبراهيم -عليه السلام- مثل سائر الأنبياء والمرسلين، إنما جاؤوا لخدمة الخلق ورحمة من الله بهم، فإن كل الرسالات السماوية جاءت من أجل الإنسان لتوفير معاشه الدنيوي وسعادته المادية، وتحقيق فوزه الأخروي الذي لا يتم إلا بإشباع حاجاته الروحية والنفسية في الدنيا، غير أن إبراهيم -عليه السلام- تفوَّق على أكثر الأنبياء في هذا الأمر؛ لأنه أحد أولي العزم الخمسة من الرسل، فكيف لا وهو خليل الله، ويعرف تمامًا أن الطريق إلى الله يمرّ عبر خلقه؟!

وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى من نقاط التشابه بين نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وتيّار الخدمة الذي انغمس في خدمة الخلق، لكن ذلك لم يشغله عن الانغراس في التربية والتعليم، لأن الخدمة لا تفرق بين قبضة الطين ونفخة الروح، بين الماديات والروحيات، ولا تفصل بين الدنيا والآخرة، وهذا هو مضمون الفقرة الآتية.

ثانيًا: الانغراس في ثغور التربية والتعليم

خليل الله إبراهيم -عليه السلام- هو أب الأنبياء ومرسي دعائم ملّة الإسلام الحنيفية، فقد دعاه الله إلى الإسلام، فاستسلم على الفور، واعتنق الإسلام بكُلِّيته: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)(البَقَرَة:131). وعلى الفور دعا إبراهيم -عليه السلام- أهله وأحباءه ومعارفه إلى هذا الدين وربّاهم عليه: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(البَقَرَة:132).

وما بعث الله النبيين إلا مبشرين ومنذرين، معلمين ومربين: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النَّحْل:36)، فكيف بخليل الرحمن -عليه السلام- وأبي الأنبياء؟!

ولم ينحصر الاهتمام التربوي عند إبراهيم -عليه السلام- على من عاصرهم، بل كان مهمومًا بالأجيال القادمة التي يراها من وراء حجب الغيب، حيث دعا الله بأن يهيّئ لها من يدعوها ويعلمها ويربيها، قال تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(البَقَرَة:129)، وتلاوة الآيات هي الدعوة والهداية، وتعليم الآيات من الواضح أنه التعليم، أما التزكية فهي التربية، لأنها تشمل مرحلتي التربية، وهي التخلية والتحلية، فالتزكية تأتي بمعنى التطهير وبمعنى الزيادة.

أما بالنسبة للإبراهيميين الجدد فإن شغلهم الشاغل هو التربية والتعليم، ولخطورة هذا الأمر فإنهم يجعلونه الفيصل في تحديد مستقبل بلادهم وبلدان المسلمين، كما يقول الأستاذ فتح الله كولن: "وإذ ندخل إلى عتبات القرن الحادي والعشرين، فإن مستقبل بلادنا والبلاد المرتبطة بشؤوننا منوط بعُقبان النور ذات أجنحة الضياء الذين يُعَدُّون ممثلين سامقين للعلم والفضيلة والأخلاق في أيامنا، والذين نذر أكثرهم نفسه للتربية والتعليم. وستكون هذه الأجيال المباركة الرائدة -إن شاء الله تعالى- أصواتًا من النور وأفكارًا من الضياء تصفي حساب شعبنا مع العصر، زيادة على ريادتها في اكتساب قيمنا التاريخية مجددًا"[22].

ورؤية كولن للتربية عميقٌ غورُها، فهي الوسيلة الرئيسة لتخلية الفرد من شوائب الطين ووافدات الأفكار الدخيلة على فطرة الإنسان المسلم وثقافته الأصيلة، ولهذا نجده يحث على تفعيل التربية في مواجهة الإلحاد الذي غزا تركيا في عقود خلت.[23]

ومن يقرأ أدبيات هذا المربّي العملاق حول التربية يعتقد أنها الإكسير الذي سيعيد الحياة إلى هذه الأمة العليلة.[24]

ومع الأهمية البالغة للمعرفة والقراءة إلا أنها لا تغني شيئًا بدون تربية، يقول كولن: "مع أهمية انتشار القراءة والكتابة ودورهما الكبيران في رقي المجتمعات إلا أنه إن لم يتم تربية الأجيال بثقافتها الذاتية وحسب اتجاه معلوم فمِن الصعب نيل النتائج المرجوّة"[25].

ولهذا صارت التربية والتعليم الشغل الشاغل لأبناء الخدمة داخل وخارج تركيا، سواء عبر الأطر النظامية ممثلة بالمدارس والجامعات أو عبر الاجتماعات التربوية التي يسمونها "صُحْبة" وهي تشمل كافة أبناء الخدمة، أما المموّلون الذين يتولون الإنفاق على مشاريع الخدمة فإن اجتماعاتهم لها طابع تربوي روحي أيضًا.

وقد تفوَّق أبناء الخدمة في التربية والتعليم، مما أدى إلى انتشار مدارسهم وجامعاتهم في شتى مناطق تركيا بل وكثير من أصقاع العالم. وقد وصل عدد المدارس إلى ألفي مدرسة متوزعة على مائة وستين دولة في العالم، يتسابق عليها الطلاب، ولا يدخلها إلا الفائزون في مسابقات صعبة، نظرًا لكثرة الراغبين في ارتيادها، حيث حققت مراكز مرموقة في كثير من المسابقات الدولية والإقليمية والوطنية، ولا تخلو أي مدرسة منها من الكؤوس والميداليات والدروع والجوائز التي تؤكد تفوق طلابها ونبوغ أساتذتها، ونجاعة مناهجها، ورسالية القائمين عليها.

ويسير أبناء الخدمة في نفس الدرب بالنسبة للجامعات التي وصلت إلى أكثر من خمس عشرة جامعة داخل تركيا، وهناك غيرها في بلاد البلقان وفي أواسط آسيا، وينطلق هؤلاء من "استراتيجية" تغُذُّ الخطى نحو إيجاد خمسين جامعة خلال السنوات القليلة القادمة، ونرجو أن يتحقق هذا الهدف "الكمي" الكبير دون أن يؤثر على "الكيف" والنوعيات المتفوقة التي تصنعها هذه الجامعات.

ولكل مدرسة في تركيا من مدارس الخدمة ثلاث توائم: واحدة في نفس مدينتها، والثانية في شرق تركيا، وهي منطقة كردية تتسم بالفقر مقارنة ببقية تركيا، والثالثة تكون في بلد خارج تركيا؛ هذه التوأمة تؤدّي إلى تحقيق التكامل في الخبرات والمنافع، وإلى تمتين أواصر الأخوة والتعاضد، حيث تدعم المدارسُ الغنيةُ المدارسَ الفقيرة.

ومن خلال معرفتنا بهذه المدارس، فقد بدا واضحًا للعيان أن نقطة تفوقها الجوهرية هي امتلاكها للكادر الرسالي، الذي لا يؤدي عمله كمهني متخصص فحسب، بل كصاحب دعوة ورسالة أيضًا، حيث يعتبرون هذه المدارس محطّات لبثّ أنوار الهداية، ومصانع لإعادة بناء الإنسان، ويتولى إيجاد الجيل الذهبي، الجيل الذي ينتشل أمّته من "الهامش"، معيدًا إياها إلى "متن" الحضارة وصناعة الحياة.

ثالثًا: التفاني في الدعوة والجهاد الأبيض

كان الخليل إبراهيم -عليه السلام- نبيًّا ورسولاً، وكان داعية كبيرًا ومصلحًا عظيمًا، مارس الجهاد بكل صوره السلمية البيضاء، تحمل المسؤولية نحو الناس، وبدأ بالأقربين، كأبيه الذي أصرَّ على كفره، فحاول معه مرارًا، مستخدمًا كل الأساليب المؤثرة التي تبرز مدى حبه له وإشفاقه عليه، كقوله تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا)(مَرْيَم:41-45).

وقد تفانى إبراهيم -عليه السلام- في دعوته إلى ربه تعالى وجهاده في سبيله في بلاد الرافدين رَدْحًا من الزمن، حتى ضاق قومه به ذرعًا، وطغى عليه ملِكُهم النمرود بن كنعان، فتمالؤوا عليه وأوقدوا له نيرانًا عظيمة، ورموه فيها، لكن الله أنجاه منها، فرحل بعدها من العراق، وهاجر إلى فلسطين، وتنقَّل بين طرفي الأرض المقدسة: مكة وبيت المقدس، وبنى الكعبة المشرفة مع ابنه إسماعيل بأمر من الله،[26] وبعدها بأربعين عامًا كما جاء في الحديث الصحيح بنى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وخلال هذه الفترة سافر إلى مصر، وكانت له قصة مع فرعونها.

وصفوة القول إن إبراهيم -عليه السلام- كان أحد أولي العزم من الرسل، فمارس كل أنواع الدعوة وكل صنوف الجهاد الأبيض حتى أتاه اليقين، وببركة دعوته وجهاده أفاض الله على آله بالنبوة والملك وهما خيرا الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا)(النِّسَاء:54).

واقتداء بالخليل إبراهيم -عليه السلام-، تولى فتح الله تعليم تلاميذه التضحية في طريق نشر النور، ولاسيما في العقود الأولى من دعوته، إذ كانت ظروف تركيا الكمالية لا تسمح إلا بالقبض على الجمر، فحملوها ليضيئوا العتمة للأتراك، فكانت النار لهم والنور للشعب، ونالهم "الغرم" خلال سنوات العلقم ووزعوا على الناس "الغُنم"، وقد أعانهم على القبض على الجمر يقينهم أنها ستنجيهم من جمر الجحيم وسوادها، وستدفع بهم نحو الولوج إلى جنان الله الوارفة الظلال.

وقد مرت تركيا بظروف عصيبة ومحن سوداء، حيث شاعت العلمانية المتطرفة التي أوصلت كثيرين إلى لُجَّات من الإلحاد، وأمام موجات الإلحاد أجاد كولن صناعة قوارب النجاة لاستنقاذ المؤمنين من الغرق فيها، حاملين إياهم إلى جزر الإسلام وشواطئ السلامة واليقين.

وكان يحث تلاميذه على ممارسة الإصلاح والبناء، فها هو يخاطبهم قائلاً على سبيل المثال: "ولننتبه إلى هذا أيضًا: أننا إن لم نملأ هذا الفراغ ولم نصدع بالحق بوجه الإلحاد والإرهاب والفوضى بأعلى صوتنا ولم نقل لهم: هذا الطريق مسدود لا يمكنكم عبوره، فلا يبقى أي معنى للجهاد الذي بذله أجدادنا لصدِّ الروس واليونان والفرنسيين والإنجليز وأمثالهم من فرق الصليبيين عن حدود البلاد"[27].

هذا الجهاد السلمي الأبيض هو من أعظم الجهاد في سبيل الله، لأنه يقوم بحراسة ثغور مهمة وخطيرة، ولهذا واصل كولن حث أتباعه على المرابطة في الثغور التربوية: "نعم "المرابط" الذي نذر نفسه في سبيل الحق، ولا يفكر في شيء غير دعوته، وجعل غاية حياته سد الثغرات التي قد تتسرب منها المهالك والمخاطر إلى بلاده، ويعدّ تبليغ ما منّ الله عليه من يُمن وبركة إلى الآخرين أعظم وظيفة"[28].

وما فتئ يبين لتلاميذه أن القاعدة التي يقوم عليها هذا الجهاد الشامل والثقيل هي القلب، ومن ثم ركز على إصلاحه وتنقيته وبنائه بناءً سليمًا.[29] كما فعل إبراهيم -عليه السلام- الذي جاء ربه بقلب سليم.

ومن مواصفات القلب السليم أن يكون شديد اليقظة والحساسية إزاء ما يعتمل في بلاده: "فإنْ كنا لا نسارع للجهاد من أجل إعلاء الدين الإسلامي المبين أو لا نستطيع ذلك، وإذا كنا لا نصاب بالأرق من جراء انسحاقنا تحت صولة الكفر ومن جراء غلبة الباطل على الحق ولا نحس بألَم عميق.. فليس هناك من يجب إلقاء اللوم عليه إلا أنفسنا. لذا يجب على كل منّا أن يعيب نفسه ويتهمها"[30].

والجهاد بهذا المفهوم هو رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهو الذي بلّغ الإنسانية جمعاء نظرة الإسلام في "أن الحفاظ على العرض والشرف وعلى الوطن والأمة وحراستها والكفاح في سبيلها جهاد، وأن الجهاد أسمى ذروة في سلّم أداء وظيفة العبودية لله تعالى"[31].

وبسبب اختلاط الكثير من المفاهيم والتباسها في هذا العصر بسبب التخلّف الفكري وضغوطات الاستبداد السياسي والقمع العسكري، فقد شدد كُولَن على وجوب التفريق بين الجهاد والإرهاب، والتأكيد على أن البلاغ يقوم على احترام الحرّيات وليس على القَسْر والإكراه والإرهاب، حيث قال: "تؤدّى هذه الوظيفة المقدسة ضمن منهج الأفراد والأمم والدول، إذ المسلم عنصر أساس في نظام العالم، فكما لا نظام في عالم ليس فيه مسلم، كذلك لا إرهاب ولا فوضى في المواضع التي يوجد فيها مسلم. وهذا منوط بقيام المسلم بوظيفته وأدائها حق الأداء"[32].

ولأهمية المساجد في الدعوة، فقد أمر الله تعالى نبيه إبراهيم -عليه السلام- وعهد إليه ببناء المساجد وتنظيفها وتهْيئتها للقيام بهذه الوظيفة (كما في الآية 125 من سورة البقرة)، وهذا ما يحث عليه كُولَن في محاضراته وخطاباته وكتاباته، فهو ينظر إلى المساجد على أنها أماكن لتناول المسائل القرآنية، وللتذاكر، وأماكن مباركة للعلم والعرفان، ولممارسة الذكر والفكر ومراسيم العبودية، وأنها مجالس للشورى بين رجال الدولة، ومناقشة المسائل التي تنظم حياة المؤمنين.[33]

وبسبب هذه الوظائف الجليلة والخطيرة للمساجد، فقد جعل الله تعالى تعطيلها من أجرم الجرائم وأظلم الظلم، كما في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البَقَرَة:114)، وهذا ما يؤكد عليه كُولَن في تعليقه على هذه الآية القرآنية.[34]

وقد أرسى القرآن الكريم قاعدة الدعوة إلى الله بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النَّحْل:125)، وهذا موضوع الفقرة الآتية.

رابعًا: اعتماد منهج الحوار في سبيل الحق والخلق

أبرز القرآن الكريم خليل الله إبراهيم -عليه السلام- في مجال محاورة قومه ومناظرتهم، بحيث فاق كل الأنبياء في هذا المجال، إذ استخدم الحجج العقلية والأدلّة الفطرية والمشاعر القلبية لإقناع الخصوم والمجادلين بما يريد إيصاله إليهم من وحدانية الله، ووجوب الإيمان به وعبادته.

ومن ذلك محاججته لأحد كبار الطغاة في تاريخ البشر، ممن ادّعوا الألوهية صراحة، وهو النمرود بن كنعان، قال تعالى معجِّبًا نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(البَقَرَة:258).

ولأهمّية الكلمة الطيبة، ولتفوُّق إبراهيم -عليه السلام- فيها واستخدامه لها ببراعة كاملة في المناظرات وإقناع الخصوم، فقد نوَّه الله في سورة "إبراهيم" بقيمة الكلمة الطيبة وشبَّهها بالشجرة الطيبة،[35] وحذَّر من الكلمة الخبيثة، وشبهها بالشجرة الخبيثة.[36]

وهذا ما سار عليه فتح الله كولن، فقد ظلت الكلمة عدَّته الثمينة، فهي سهمه الأخطر الذي نَفَذَ به إلى القلوب، وسلاحه الأقوى الذي دمّر به الموانع التي حالت دون اهتداء كثير من الجوعى إلى بستان هذا الدين.

وقد اهتمّ كولن بالأدب، وبالغ في مدحه، وحث على الاستفادة منه في الجهاد الأبيض ومعركة التبليغ وإيصال رحمة الله إلى الناس.[37] وكذلك الشعر كوسيلة من وسائل البلاغة والبيان وإيصال الهداية عبر قوالب الكلمة الجميلة الساحرة.[38]

ويمكن معرفة اعتداده بالشعر من خلال تعريفه له، حيث يقول: "الشعر هو حركة قلب وانفعال روح ودمعة عين. والحقيقة أن دموع العين ليست إلا شعرًا صافيًا تحدت الكلمات. الشعر زهور وورود لا تذبل للشاعر، وعطر لهذه الزهور والورود منتشرة حواليها، فإذا كانت تربيتها صالحة وماؤها نقيًّا وبذورها معلومة فلا يمكن للإنسان أن يشبع من ألوانها وعطورها"[39].

ولأن الكلام سلاح ذو حدّين، فإنه يُحذر من الثرثرة والكلام غير النافع، ويحث على الصمت إن لم يكن الكلام مفيدًا.[40]

وعلى العموم فإنه يولي الكلمة عناية فائقة، حيث يقول عنها: "الكلمة أهمّ واسطة لانتقال الأفكار من ذهن إلى آخر، ومن قلب إلى آخر. والذين يحسنون استعمال هذه الواسطة من أرباب الفكر، يستطيعون جمع أنصار عديدين للأفكار التي يريدون إيداعها في القلوب والأرواح، فيصلون بأفكارهم إلى الخلود"[41].

وقد عُرف عن كولن إتقانه للغة، وتفوّقه في سائر آدابها وفنونها؛ فهو خطيب مُصْقِع، ومتحدث بارع، ومحاور مقنع، وكاتب أخّاذ. ودرّب تلاميذه على التفوّق في هذا المضمار، مع التحلّي بآداب الحوار، والتسلح بالتواضع، وعدم الاقتراب تحت أي ظرف من الشجرة الخبيثة التي تسمى "احتكار الحقيقة"، ودفعهم إلى إيجاد مؤسسات في هذا السياق.

وفي هذا الدرب قام كُولَن بزيارة الفنّانين والرياضيين ومشاهير المجتمع وصُنَّاع الوعي فيه ابتداءً من عام 1990م، ومحاورتهم في كل ما يهمّ المجتمع التركي، ثم قام بدعوة هؤلاء المتنافرين إلى موائد الطعام في بيوت تلاميذه، وهناك بدأ الحوار يتم بين مختلف الفرقاء، وفي عام 1994م قام بتأسيس "وقف الصحفيّين والكتّاب" بالتعاون مع مجموعة من الكتاب والصحفيّين والأكاديميين لكي يكون محضنًا ثابتًا ومنظمًا لمثل هذه الحوارات، ومن رحم هذا الوقف الولود وُلدت حتى 2010 تسعة منتديات حوارية متخصصة في القضايا التي تهم المجتمع التركي ثم الإقليمي ثم الدولي.

وقامت هذه المنتديات بأنشطة حوارية ضخمة، جسَّدت ثقافة الحوار وكرّست قيم التعايش والتسامح، منها عشرات المؤتمرات ومئات الندوات والمحاضرات، إضافة إلى إصدار الكتب والصحف والمجلات والدوريات التي تخدم ذات الهدف، وكذلك الأفلام الوثائقية والسينمائية التي بدأت بالظهور خلال السنوات الأخيرة.

وأوجد أبناء الخدمة محضنًا آخر للحوار، وتبادل الرؤى، وتلاقح الأفكار، وهو وسائل الإعلام، إذ امتلكوا عددًا كبيرًا من وسائل الإعلام ذات التأثير الجماهيري العريض كالقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت والصحف العامة، بجانب الصحف المتخصصة في قضايا: المرأة، والطفل، والمعوقين، وكذا الصحف والمجلات العلمية والأدبية والفنية والرياضية والمهنية.

ورغم حداثة التجربة الإعلامية للخدمة نسبيًا إلا أنها أبهرت المتابعين للشأن الإعلامي داخل تركيا وخارجه، ولاسيما أن بعضها نجح في تجاوز القومية إلى العالمية، كجريدة "زمان" التي تجاوزت المليون نسخة في اليوم، وتُطبع بعدد من اللغات في نفس الوقت في خمسة عشر مركزًا داخل وخارج تركيا.

ويزيد من غرابة تفوُّق هذه الجريدة على مثيلاتها، عندما نعرف أنها تمثل تيار الإصلاح والبناء والإيجابية، وهو -كما نعلم- تيار فكري اجتماعي حضاري وليس متخصصًا في العمل السياسي، وقد يكون هذا عامل قوة، لا عامل ضعف كما يُفترض؛ لأنها تتبنّى قضايا المجتمع، وتصبح محلّ ثقة مختلف أطراف العمل السياسي.

وفي لقاء لنا عام 2010م في مقر هذه الجريدة مع مستشار الجريدة ورئيس تحريرها السابق أعاد أهمّ عامل في نجاح هذه الجريدة واحتلالها المركز الأول في تركيا بدون مُنازع إلى تبنّيها لقضايا الناس مقابل تبني الصحف الأخرى لنفسها أو أحزابها وجماعاتها.

مما يجدر ذكره أن كُولَن أوصى تلاميذه بالانفتاح على الجميع، حيث نقلوا عنه وصيّته لهم بأن لا يستثنوا أحدًا في الحوار.

ولما كان الحوار المؤدَّب، والتعامل الحسن مع الآخر، والصبر الجميل عليه إذا تجاوز أو أخطأ، بحاجة إلى ثروة أخلاقية كبيرة، فإن هذه الأخلاق هي نقطة التشابه الخامسة بين أبناء الخدمة وخليل الله إبراهيم -عليه السلام-.

خامسًا: التحلّي بالفضائل العابرة للقلوب

كل الأنبياء اصطفاهم الله، وأدَّبهم فأحسن تأديبهم، وكانوا منارات سامقة في الأخلاق، وخليل الله إبراهيم -عليه السلام- من أعظمهم في هذا المجال؛ ففي خلق الطاعة دَلَفَ إلى محراب التضحية، فاستجاب لرؤيا منامية تأمره بذبح فلذة كبده "إسماعيل" الذي جاء في خريف العمر بعد انتظار طال أمده، حيث اسْتَلَّ ولَدَه من حضن أمّه وذهب به إلى الرمال الحارقة خارج مكة، وأعدَّ كل شيء لإتمام عملية الذبح، حتى إذا هوى بسكّينه فوق رقبة ابنه الوحيد وتأكد نجاحه في الابتلاء، جاء الفداء الربّاني بكبش "عظيم"، كما أورد القرآن، ليكافئ تلك التضحية "العظيمة".

ومع الابتلاءات التي تقلَّب فيها بين السّرّاء والضّرّاء، فقد كان صابرًا محتسبًا في الضراء -كما أسلفنا آنفًا- وصار شاكرًا لأنعُم الله في السراء، كما وصفه ربه بقوله تعالى: (شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(النَّحْل:121).

وعن خلق الكرم، قال تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ)(الذَّارِيَات:24-27).

ورغم عدم تفصيل الآيات للحدث إلا أن المتدبر يلمس الكرم طافحًا من ثنايا التعبير القرآني، فقد:

•   استقبلهم بحفاوة رغم أنهم منْكَرون بالنسبة له أي غير معروفين عنده.

•   تسلل خفية عندما خرج من جانبهم للمجيء بالطعام، حتى فاجأهم به مسرعًا.

•   قدَّم لهم عجلاً سمينًا وهو أفخر اللحم وأغلى الطعام، رغم فقره، إذ كان يعيش في بيئة فقيرة الموارد.

•   استخدم أقصى درجات الحفاوة والتلطف معهم، حيث لم يدْعُهُم إلى الطعام، بل عرض عليهم الأمر بأدب: (أَلاَ تَأْكُلُونَ) بعد أن أصبح العجل أمامهم بالفعل. وعن كرمه -عليه السلام- روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف.

أما عن حلمه -عليه السلام-، فقد وصفه الله بالحلم في موضعين من القرآن، وأورد عددًا من قصص حلمه وعطفه على الناس حتى لو كانوا كافرين، ومن ذلك مراجعته للملائكة الذين مرّوا عليه قبل ذهابهم إلى قوم لوط -عليه السلام- لإنزال العذاب الاستئصالي بهم بعد كفرهم وفسادهم، وكذلك دعاؤه لمن سيأتي بعده من ذريته، ومن الطبيعي أن يكون فيهم الصالح والطالح. وفي المقابل فقد بشّره الله بغلام حليم كما في سورة الصافات [الآية: 101].

وقد فاق حلمُه على أبيه كل حلم، حيث ظل يدعوه ويدعو له، ويستغفر الله من أجله، مع مداومة المحاولة لاستنقاذه من الكفر بشتى الوسائل والأساليب العقلية والعاطفية، ومع ذلك واجهه أبوه بالصّدّ والتجهم والتهجم، بل والتهديد، كما في قوله تعالى على لسانه: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(مَرْيَم:46)، ومع ذلك كان ردّه بلْسمًا: (قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)(مَرْيَم:47).

وبالجملة فإن دين إبراهيم -عليه السلام- كله مجموعة من القيم التي ورثها محمد -صلى الله عليه وسلم- عنه، كما قال تعالى: (دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأَنْعَام:161)، وزاد الله عليها ما يتناسب مع خلود الإسلام إلى قيام الساعة.

ومن يتمعن اليوم في الدعوات الإسلامية المتعددة، ومع أنها تنهل جميعها من ذات المنهل الإبراهيمي المحمدي وهو منهل الإسلام بأخلاقه الرفيعة، إلا أن أكثرها قربًا كما بدا لي هي دعوة الخدمة التي تقدم اليوم أفضل تجسيد لأخلاق وقيم الإسلام، مما مكَّنها من الولوج إلى قلوب الملايين خلال فترة زمنية وجيزة.

فالأخلاق عمومًا عند فتح الله كولن "هي التي تُحوّل الصدئ.. إلى معدن ثمين ومفيد كالذهب"[42].

وحول الأخلاق سطَّر أحرفًا من لؤلؤ وصاغ كلمات من ذهب، كما في خلق المسامحة والصفح والعفو،[43] حيث يقول مثلاً: "وفي الحقيقة ليس أمام الشفقة والرحمة باب مسدود لا يمكن فتحه. فجبال الثلج التي لا تُذوَّب بالشفقة والرحمة لا يُذوِّبها شيء قطعًا"[44]، وحتى لا تكون التعابير الجميلة مجرد إنشاء لا يستقيم عوده، ولا يصير له ظل من الحقيقة، فقد أوضح مقياس العفو والسماح وحدودهما عند المسلم.[45]

وعند تفسيره للآية 45 من سورة المائدة، جسَّد كولن منهجه التسامحي العظيم، الذي يجمع ولا يفرق، ويضمّ ولا يشتت، وبدا من كلامه أنه عمل جاهدًا كي يصوغ حركةً تُجسِّد قيم الحب للمؤمنين، والذل بين أيديهم، والسعي لخدمتهم، بحيث تكون ممن عنَتْهم، وبشرتْ بهم هذه الآية.[46]

ولأنه مهموم بالمستقبل، فإنه يعرف أن عالم الضياء الذي ينشده لا يمكن أن ينشأ إلا في ظل التآلف والتسامح ولا يمكن أن يكون إلا ثمرة الحب، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه، فإنه يعرف أن هذا العالم الوضيء لا يمكن أن يُنشئه إلا المحبّون، ولذلك وصف الساعين لبناء هذا العالم الجميل بـ"فدائيّي المحبة"[47]. فالمحبّة تحتاج إلى تضحية وفداء.

ومما نقله عنه أبطال المحبة -أي تلاميذه- وسمعناه منهم قوله -وهو يربيهم ويعلمهم في بستان الحب-: "لِيَجِد الجميع كراسي لهم في قلوبكم كما هم"، "وجدنا أن الرحمة تذيب جليد الأحقاد"، "لا بد أن نتنَفَّسَ محبةً"، "ينبغي أن تخصّصوا مقعدًا في صدوركم لكلّ أحد. هذا هو الإكسير الذي يمكن أن يطفئ نار جهنم"!.

هذا بالنسبة للعطاء العاطفي والروحي، أما بالنسبة للعطاء المادي، فإنه سبب رئيسي في النجاح المادي لهذه الدعوة ومراكمتها لتلك الإنجازات الضخمة في مجال التعليم والتطبيب والإعلام والاقتصاد والعمل الخيري والإغاثي، مما يحتاج لميزانية تفوق ميزانية بعض الدول الفقيرة.

إنه منذ البداية يربيهم على العطاء ويقتل فيهم الشُّحَّ والزهد الأخرق، ففي تفسيره لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ)(الْمُؤْمِنُون:4)، فإنهم ينقلون عنه تفسيرًا أبلغ من التفسير المعروف الذي يعني أنهم يؤدون الزكاة، فهو يرى أن أهل المحبة والدعوة يعملون بجد لتحصيل الأموال التي تؤهلهم لإخراج الزكاة، بمعنى أنهم زاهدون في ذواتهم، ويكفيهم القليل وهو دون النصاب المطلوب لإخراج الزكاة، لكن حرصهم على إخراج الزكاة هو الذي يجعلهم يَجِدُّون ويجتهدون ويطرقون أسباب الرزق الحلال، داخلين عليه من كل باب.

وفي جلسات جلسناها مع بعض كبار التجّار الذين تربّوا على يديه، وأصبحوا من "المتولّين" لمشروعات الخدمة أو ما يسمونهم بـ"الآبِهَات" أدركنا أنهم تحلَّوا بأخلاق المتّقين، الذين وصفهم الله بقوله تعالى: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(الذَّارِيَات:19)، فهو حق مطلق وليس معلومًا كالزكاة، فقد أقنعهم بأن الزكاة التي تساوي 2,5% هي عطاء البخلاء، أما الكرماء الأسخياء فإنهم كالصحابة الكرام، فيهم من ينفق ماله كله أو ثلثَيه أو نصفه أو ثلثه أو ربعه أو نحو ذلك.

وقد علَّل كولن ذلك بأنهم يعيشون الفترة المكِّية، ومن ثم لا بد لهم أن يشدُّوا الهمم ويطبّقوا أحكام الإحسان، وهو الذروة العالية من الإيمان، ولهذا يُسمُّون فترات جمع الأموال والتبرعات بـ"مواسم الهمَّة"، والمجلس الذي يُجمع فيه المال للدعوة يسمى "مجلس هِمَّة"، والتسابق بين التجار غالبًا ما يكون على إعطاء المنح الدراسية وبناء المساكن الطلابية. وفي تنافس كبار التجار الذي يتكرر مرات في العام الواحد، لا يقل نصيب الواحد من هؤلاء عن تسع وتسعين منحة، تبركًا بأسماء الله الحسنى.

وبجانب ذلك سمعنا قصصًا عجيبة عن الإنفاق من إملاق، وعن ترقي المنفقين في دنيا المال حتى صاروا من كبار التجّار ورجال الأعمال على مستوى إسطنبول وتركيا، وعلى أثرها ذهب بعض العرب إلى أنها تُذكِّرهم بقصص الصحابة.

والسر في ذلك أن كُولَن لا يكتفي بالحثّ والحضّ، ولا يتوقف عند البكاء ومخاطبة شغاف القلوب مع أهمّية ذلك، بل يدرّبهم تدريبًا على العطاء حتى يتذوّقوا طعم الإنفاق اللذيذ. وفي هذا السياق ذكر أحد التجار في لقائنا معه ذات مرة أنه أخرج في أول الأمر بضعة آلاف من الدولارات مكرهًا، نتيجة حيائه من الحضور، وشعر حينها كأن قطعةً قد نُزعت من جسمه، لكنه بعد التدرب والترقّي في هذا الطريق صار يتلذذ بالإنفاق، وذكر أنه وأمثاله لو دعاهم كُولَن لإنفاق أموالهم كلها لما ترددوا!

تقول حقائق الواقع إن الأسخياء سادة الدنيا حتى لو لم يكونوا مؤمنين، فكيف بمن مزجوا ذلك بمحاسن الأخلاق، وأوْغلوا في التبسط والنزول إلى المجتمع وخدمته، والتذلل بين يديه، والتنفس محبة في وجهه، أفلا يوفر ذلك كله جوازات مرور لهم إلى قلوب الناس؟!

سادسًا: التغرُّب والرحلة لخدمة الخلق

من المعلوم أن خليل الله إبراهيم -عليه السلام- عندما عجز عن تعبيد الناس للحق وخدمة الخلق في بلاد الرافدين، أطلق صيحته المدوية، كما سجّلها القرآن الكريم بأحرف من نور: (إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ)(الصافّات:99)، هذا الذهاب هو الهجرة في سبيل الله إلى بلاد الشام وجزيرة العرب، وهو ما عبَّرت عنه الآية القرآنية التي تقول: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(العَنْكَبوت:26).

وعند هجرة رسول الله إبراهيم -عليه السلام- من بلاد الرافدين لا شك أنه شعر بعلقم الفراق وقساوة الحرمان، وفي الشام بدأ دعوته من جديد دون أن يكون له أي نصير، ولذلك وصفه الله بأنه أمة، قال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(النَّحْل:120).

إن فتح الله كُولَن صاحب فكر عالمي ينافس العولمة الغربية التي تقوم على الأثرة والجباية والاستغلال، وعلى الإكراه والقسْر والإلحاق، تحت شعارات برّاقة مخاتلة.

وبسبب هذا الفكر الثاقب الذي أحسن قراءة الإسلام وأجاد تمثله، ولمعرفته بتشابك العالم، وحاجة الناس إلى كثير من الكنوز التي يمتلكها الإسلام في عصر الجدب القيمي والإدقاع الروحي، فإن كُولَن شديد الحرص على إيجاد ما يسمّيه بالتوازن العالمي، حتى وهو يقرأ قصة الملك الصالح -ذي القرنين- في سورة الكهف.[48]

وبسبب ما يعانيه البشر من ويلات وخاصة المسلمين، فقد استشعر كولن المسؤولية، وأعد تلاميذه الإبراهيميّين للمساهمة في بلْسَمة الجروح، ورَتْق الفتوق، وجَبْر الكسور، وتربية العقول، وإصلاح مناهج التفكير، وإصلاح ذات البين، وإغاثة الملهوفين، ومساعدة المحتاجين، وإيواء المشردين، ومداواة المكلومين.

لهذا كله هاجرت كتائب الخدمة من تركيا إلى أكثر أصقاع العالم، يحدوها الأمل في أن تساهم في الإجابة عن أسئلة الحيارى، وفي البحث عن مخارج للمآزق الاجتماعية المختلفة، وفي تبديد الظلمات الحالكات بمصابيح الهدى وقناديل الإيمان.

ورغم تغرب أبناء الخدمة عن بلدهم الجميل في مجاهل آسيا وأدغال إفريقيا، وفي صقائع أوربا ومفاتن أمريكا، إلا أنهم لا يشعرون بالغربة. فقد علَّمهم أستاذهم أن الغريب ليس الذي ابتعد عن وطنه وبيته وأصدقائه وأحبّائه، بل هو الذي لا يفهم الناسُ مَبادءَه العالية وتضحياته الغالية، والذي يقع كثيرًا في تناقض مع قوانين مجتمعه؛ بسبب همّته العالية، فيتعرض للأذى واللوم والاستنكار.[49]

وقد قرر كُولَن بهذا الصدد أن "من كانت هِمَّتُه أُمَّتَه فهو لوحده أُمّة". ولذلك لم يجد عشرات الآلاف من ورود تركيا غضاضةً في الانتقال إلى بلدان مليئة بلأعاصير وبالأشواك من مختلف الأصناف، وأقل هذه الأشواك مكابدة الأشواق.

الجدير بالذكر أن تيّار الخدمة يعمل في الولايات المتحدة في إطار أنشطة مدنية عديدة لخدمة الأتراك خصوصًا والمسلمين عمومًا، وبعضها لخدمة الأمريكان أنفسهم. ومنها قنوات فضائية ومدارس ومراكز بحث وجمعيات إغاثة ومؤسسات حوار، وتكفي الإشارة إلى وجود أكثر من ثلانين مدرسة في ولاية تكساس وحدها، كما ذكرت د. باكينام الشرقاوي في محاضرة لها في إحدى الورش الفكرية عن فتح الله كولن في مدينة إسطنبول (في شعبان 1432هـ).

وتمثل هذه الخدمة انعكاسًا أمينًا لفكر كولن الإسلامي الأصيل، فهو ينظر إلى الغرب كشريك لا كنقيض، ويرى أنه دار خدمة وليس دار حرب أو كفر، مؤكدًا أن رؤيته هذه مأخوذة من صميم الإسلام الذي وصفه أنه مفتوح ومناهض للانغلاق.

ولكن ما هي أهم الخدمات التي يقدمها مهاجرو الخدمة إلى الناس في أصقاع العالم التي هاجروا إليها؟

هي خدمات كثيرة ومتنوعة، يمكن اختصار أهمها على النحو الآتي:

1- الخدمات التعليمية

سبقت الإشارة إلى التعليم، وكيف أن مدارس الخدمة وجدت محاضن دافئة لها في مائة وستّين دولة في العالم، حيث وصلت في عام 2011م إلى حوالي ألفي مدرسة، وخاصة في وسط آسيا ومنطقة البلقان ثم أوربا عمومًا.

وبدأ الأمر ينتقل إلى الجامعات التي بدأت بالظهور في بعض البلدان، كألبانيا وأسيا الوسطى، فضلاً عن تقديم جامعات الخدمة في تركيا لمئات المنح سنويًّا لطلاّب من شتّى بلدان العالم.

وبفضل النماذج الراقية التي قدّمتها مدارس الخدمة، وبفضل الروائح الزكية والسمعة الطيبة التي حققتها في تلك البلدان، فقد ظهر منافسون جدد في تركيا على هذا المشروع، حيث أصبح افتتاح المدارس التركية خارج تركيا مشروعًا وطنيًّا يتسابق عليه كبار رجال الأعمال وشركات مشهورة، من كافة الاتجاهات.

ووصل الحماس بمموّلي مشاريع الخدمة إلى الهجرة لبلدان بعيدة؛ لمباشرة مشاريعهم بأنفسهم ومتابعتها عن كثب، كما فعل أحدُهم عندما سافر إلى جنوب إفريقيا بهذا الشأن، بعد أن قدّم خدمات جليلة للتعليم في تركيا، وافتتح هذه الخدمات بواحدة من أروع مدارس الخدمة في إسطنبول وتقع في تلة "تشاملجا" المطلّة على ضفاف البسفور الساحر.

2- الخدمات الإعلامية

بجانب إعلام الخدمة المنغرس في تركيا، والذي استطاع بعضه أن يعبر القارات، كالقنوات الفضائيّة والمواقع الإلكترونية، وصحيفة "زمان"، هناك وسائل إعلام ظهرت في تلك البلدان، كقنوات "أَبْرُو" في الولايات المتحدة الأمريكية، وقناة "دُنْيا" باللغة الكردية، وقناة أخرى في شرق إفريقيا وبالتحديد في كينيا، بجانب قنوات أخرى يتم الإعداد لها بلغات عدّة ومنها اللغة العربية.

وهناك صحف ومجلات تصدر بعدد من اللغات في بلدان المهجر أو تصدر في تركيا بغير اللغة التركية وتوزع في بلدانها، كمجلة "حراء" الصادرة باللغة العربية في إسطنبول، وهي المجلة التي انتصبت جسرًا معلّقًا بين تركيا والوطن العربي.

وتوجد مجلاّت بعدد من اللغات الأخرى، أهمّها الإنجليزية والروسية والألمانية والفرنسية وغيرها.

3- الخدمات الثقافية

يمتلك أبناء الخدمة مؤسّسات وأقسامًا للترجمة والتأليف والنشر والتوزيع للكتب باثنتين وأربعين لغة حيّة، ومازال يحثّهم كُولَن على المزيد، حيث قال لهم: "لا تكبحوا على الفرامل، فهناك لغات عالمية كثيرة بحاجة إليكم"؛ ولهذا فإنهم يطمحون بالوصول إلى مائة لغة.

وقد ترجمت وصدرت بالفعل مئات الكتب بعشرات اللغات الحية، ومنها أكثر من خمسين كتابًا بالإسبانية. أما كتب "فتح الله كولن" و"بديع الزمان النورسي" وبعض الكتب التراثية فقد تُرجمت إلى عشرات اللغات.

وقد حرص أبناء الخدمة على توسيع مساحات الوعي في أوساط المسلمين في الغرب، وعلى سبيل المثال عندما جاؤوا إلى بريطانيا وجدوا الجاليات المسلمة تتسابق فقط على بناء المساجد حتى زاد عددها عن ألف وخمسمائة مسجد، مما يعني أنه صار لكل ألف وخمسمائة مسلم مسجد، غير أن أبناء الخدمة لفتوا أنظار المسلمين إلى أهمّية المدارس، وبدؤوا ببنائها وتشغيلها، وأسهموا بفاعلية في توفير المفاهيم الإسلامية الصحيحة التي تخلّصهم من الغثائية، وتجعلهم فاعلين كما أراد لهم الإسلام، لا التقاليد المغلوطة والتدين المغشوش.

4- الخدمات الاقتصادية

مثَّلت المدارس بداية عالمية الخدمة، وقد أطلق عليها كُولَن "جُزُر السلام"، وأطلق عليها تلاميذه النوابغ: "جسور التّجارة"؛ لأنها ساهمت بقوة في الترويج للتجارة بين تركيا والبلدان التي وُجدت فيها هذه المدارس.

وبعد سنوات من هذه الخدمات والأنشطة التجارية المصاحبة لها أو المتسببة بها، ظهر رجال أعمال كثيرون ينتمون إلى الخدمة أو يحبّونها، وقد اجتمع هؤلاء وكوّنوا أكبر جمعية رجال أعمال في تركيا وتضم حوالي خمسين ألفًا من رجال الأعمال، وتسمى بالتركية "تُوسْكُون"، وهي تقدّم خدمات اقتصادية جليلة لتركيا وشركائها، بجانب اشتراكها في أنشطة الخدمة التعليمية والخدمية الأخرى.

5- الخدمات الإغاثية

تتبع تيار الخدمة إحدى أكبر المؤسسات الإغاثية في تركيا، وهي مؤسسة "هل مِن مُغيث؟ّ"، وقد خرجت من إطار المحلّية إلى العالمية قبل سنوات، وصارت بصماتها الإيجابية واضحة في كثير من الكوارث الطبيعية والحروب الأهلية.

وبدأت الخدمة العابرة للحدود والقارات بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي عام 1990م، حيث بدأت الجمهوريات الإسلامية بالتحرر من القبضة الحديدية للشيوعيين، واتضح أن أبناءها يعانون من مشاكل جمة، مما دفع بـ"كُولَن" إلى إصدار صرخة وقيادة حملة لإغاثة "أخوّة الدم والدين"، وأفتى المَيْسُورين بأن إنفاق المال لإغاثة المحتاجين هناك أولى من تكرار الحج والعمرة؛ فاتجهت قوافل من الحجاج والمعتمرين إلى هناك لإغاثة الملهوفين ومساعدة المحتاجين.

وحضرت هذه الجمعية العالمية في إغاثة المسلمين في بلدان كثيرة، كالسودان، وإندونيسيا، وأفغانستان، وقرغيزستان، وأوزبكستان، وغيرها، إضافة إلى إغاثتها لغير المسلمين، كما في زلزال اليابان وعواصف الفيليبين.

وهكذا، فإن أبناء الخدمة مقابل تضحياتهم واغترابهم عن بلدانهم، استفادوا من خبرات ومعارف كثيرة، واستفادوا من إيجابيات الآخرين دامجين إيّاها في مشروعهم الحضاري، كما فعلوا مع الغرب، حيث استفادوا منه الكثير، ومما يبدو لي أنهم استفادوه من الأمريكيين فكرة صغيرة، لكن آثارها على المدى البعيد ستصبح كبيرة، وهي فكرة "الزائر الدولي" التي تتولى الولايات المتحدة الأمريكية تنظيمها سنويًّا للآلاف حول العالم إلى أمريكا على حسابها الخاص، من أجل التعريف بثقافتها ومنجزاتها، وهذا ما أصبحت تفعله كثير من مؤسسات الخدمة التي تستضيف سنويًّا الآلاف من شتّى بقاع العالم، حيث تقوم بتعريفهم بمنجزات الخدمة ومؤسساتها، فيعودون منبهرين، ويعود بعضهم متعاطفين مع المشروع.

سابعًا: الترقي في معارج الأُسْوة الحسنة

مازال الخليل إبراهيم -عليه السلام- يرتقي سُلَّم المثابرة حتى وصل إلى ذروة الفاعلية، ومازال يترقى في معراج الصلاح حتى وصل إلى قمة الأسوة الحسنة، ولذلك صار أسوة حسنة للمسلمين أجمعين حتى قيام الساعة، قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)(الْمُمْتَحَنَة:4).

وقد عاب الله حدوث انفصام بين الأقوال والأفعال، بقوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(البَقَرَة:44)، وعلَّق كولن على هذه الآية، فقال: ".. الحال والقال أو القول والفعل لغة بجبهتين لنصرة الحق وتمثيله. فإن تكلّمت هذه اللغة ذات الصورتين والمظهرين باسم الحق وصرخت به كان تأثيرها عظيمًا؛ لأنه يجب على الإنسان أن يطبق على نفسه أولاً ما يدعو الآخرين إليه، وألا يكون هناك تناقض بين أقواله وأفعاله، وبين مظهره ومخبره"[50]. وعلَّل السر في فاعلية أقوال من يُطبق ما يقول، فقال: "لأن الله تعالى ربط -لحكمةٍ ما- قوة تأثير ما يقال بطراز تصرّف القائل (...)، لذا كان على الواعظ وعلى الناصح والمرشد والمبلِّغ والكاتب والمبرمج أن يكون جادًّا في الأعمال التي يقوم بها لكي يؤخذ مأخذ الجد ولكي لا يلقي أي ظل من الشك على المواضيع التي يتناولها ويقدمها، وألا يبقى -بتصرفاته العوجاء في مجال الإرشاد- مغلوبًا على أمره أمام الكلمات المنمَّقة للداعين إلى طريق الضلالة"[51].

ويؤكد هذا الأمر قائلاً: "إن الأفكار التي لا تجد مجالاً لتطبيقها على صاحبها، لا تجد القبول المطلوب لدى الناس مهما كانت جاذبة وضرورية للحياة؛ إذ الكلمات لم تنطلق من وجدان القائل، ومن المحال طلب استقرار فكر لم يستقر بعدُ في وجدان صاحبه"[52].

ويعيد عدم تأثير النصائح في هذا العصر على الناس كما كانت تفعل في الماضي إلى عدم تطبيقها وتمثلها والعيش بها في هذا الزمن.[53]

وقد نقل عنه تلاميذه الكثير من الدرر والجواهر في هذا السياق، ومن ذلك قوله: "الآذان شبعت والعيون جَوْعَى"، أي أن الناس بحاجة إلى رؤيةِ سلوكياتٍ تتجسّد في الواقع، وليسوا بحاجة إلى مزيد من الأقوال والتنظيرات والنصائح.

وقال: "الجوعة الشديدة عند الآخر ينبغي أن تلتقي مع التمثيل الراقي للإسلام، وهذا لم يحدث بعد"، وقال أيضًا: "أَرُوني شخصًا أَسْلَمَ عشرةٌ بسبب سلوكه، وسأُقَبِّلُ قدميه".

ولهذا ظل يدعو بحرقة إلى تجسير المسافة بين الأقوال والأفعال في كل شيء، فالدولة -مثلاً- لا يمكن أن تكتسب التوقير والاحترام والمهابة إلا إذا كان موظّفوها قدوة حسنة.[54] والمصلحون الذين يحاولون إصلاح العالم لا يمكن أن يجدوا آذانًا صاغية ما لم يُصلحوا أنفسهم أولاً.[55]

واجتهد في تأصيل هذه القضية وربطها بقضية العبودية لله، فقد رأى أن القرآن رسم صورة مثالية للمؤمن بحيث "أن الإيمان وحدةُ القول والعمل وتكاملهما. والمحافظة على هذا التوازن سبب مهم للتأثير"[56].

وفي تعليقه على قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(فُصِّلَتْ:30)، اختزل الاستقامة في تطبيق الأوامر واجتناب النواهي،[57] وهذا التطبيق هو الجسر الذي يردم الهُوَّة بين الأقوال والأفعال، ومن ثم ينقل الإيمان من قمقم المبنى إلى فضاء المعنى.

وللأهمية البالغة لتطبيق الأقوال وتجسيد الشعارات، ودور ذلك في صناعة الأسوة الحسنة، فقد شن الغارة على من لم يقم بذلك من الدعاة وخاصة العلماء، ولهذا أطلق على العلماء الذين لا يتمثلون ما يقولون مصطلح: "الثقوب السوداء"، وهو مصطلح علمي مستعار من علم الفلك، حيث توجد ثقوب سوداء في الفضاء تبتلع الضوء؛ وعلَّل تسميته لهؤلاء العلماء بـ"الثقوب السوداء" بأنهم لا يعكسون نورًا إلى شيء "فلا يُستفاد من طاقاتهم الضوئية"[58].

وبفضل هذا التركيز الشديد على المزاوجة بين الأقوال والأفعال نجح كُولَن في إيجاد مشاريع عظيمة لتيّار الخدمة، أهمّها المشروع التربوي لإيجاد الإنسان الجديد الذي بفضله سيتكوّن "الجيل الذهبي" وهو جيل التمكين الحضاري المرتقب، وبهذا نجح في تجسير المسافة بين الأقوال والأفعال، بين الشعارات والسلوكيات، بين العناوين والمضامين، مما أكسب حركته قدرًا كبيرًا من الفاعلية رغم عملها الإصلاحي الهادئ المتدرج.

ولنجاحه في تحويل المعرفة إلى سلوك بشكل ملفت للنظر، فقد اهتم المفكر الجزائري د. محمد باباعمي بدراسة الطرائق المحققة لذلك في فصل كامل تحت عنوان: "المراحل السبعة لتحويل المعرفة إلى سلوك في البراديم كولن" في كتاب له عن كُولَن، والمراحل هي: معرفة الحق سبحانه حق المعرفة، انتقال المعرفة من المداخل إلى المخارج عبر العقل، حركية من اللسان مباشرة إلى الجنان والقلب، تحرُّك آلة السلوك والجوارح، تحوُّل السلوك والأحوال إلى لسان ناطق بتصديق الحق، بُدُوُّ ذلك في الأسلوب الإيماني الإيجابي للفرد والمجتمع، ميلاد حضارة إسلامية هي حضارتنا الذاتية.[59]

ومن عجائب هذا العصر أن المجتمع الأكثر علمانية في العالم الإسلامي هو الذي صار يُعلِّم العرب اليوم كيفية تجسير الهُوَّة بين الإيمان وعمل الصالحات، رغم أنهم الحاملون الأصليّون لهذا الدين، وهم أكثر الأمم الإسلامية رفعًا لشعارات الإسلام والدعوة إليه، لكن هذا الخلل جعل تديُّن كثيرين منهم يبدو كأنه تديُّن "لاهوتي" يتمحور حول حقوق الله وبعض الواجبات الفردية المتعدية، بينما اهتم الأتراك بالتدين "الناسوتي" الذي يقيم حقوق الإنسان في شتّى ميادين الحياة.

لقد أثبت هذا العصر أن العرب يتحدثون عن الإسلام، بينما يتمثله الأتراك بصمت وبدون شعارات، ومن الطرائف التي تُجسد هذه المفارقة أننا كنا في ورشة فكرية في إسطنبول لدراسة فكر فتح الله كولن، فأصرَّت د. باكينام الشرقاوي -الأستاذة في جامعة القاهرة- على ضرورة اختيار اسم واحد يعبر عن كل مناشط تيار الخدمة في الولايات المتحدة وأوربا، فَرَدَّ أحد أبناء الخدمة بالقول: "نحن سنعمل وأنتم تُسَمُّون"، ويقصد هنا بالطبع العرب.

ولا شك أن تيار الخدمة بهذا الصنيع قد ارتقى مرتقىً صعبًا يدل على نضجه ورشد أبنائه، وهذا ينقلنا إلى الفقرة الآتية.

ثامنًا: النضج الفكري والتأهُّل لعَطِيَّة الرشد

هذه هي النقطة الثامنة من نقاط التشابه بين الخليل إبراهيم -عليه السلام- وتيار الخدمة بفكره الثاقب وآرائه السديدة وأفعاله الرشيدة.

قال تعالى عن إبراهيم -عليه السلام-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)(الأَنْبِيَاء:51)، والرشد هو عكس الغيّ كما قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)(البَقَرَة:256)، وقد فسَّر القدامى الرشد بأنه: "إصابة الخير"، و"الدليل على الهدى"، وأنه "الإيمان المخالف للغيّ".[60]

والذكْر من أهم المداخل إلى الرشد، قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)(الْكَهْف:24). ولما كان كُولَن قد تربّى في أحضان الصوفية المستنيرة، فقد ظل دائم الذكر لله تعالى مما ورَّثه هذا الرشد، ومما قاله في تفسير هذه الآية: "وهكذا وبمثل هذا الذكر لله والوصول إلى المستوى الرفيع لأصحاب الكهف المشحونين بذكر الله يظهر -بلطف من الله تعالى- أقصر طريق للوصول إلى وجدان المجتمع، ويدخل النجاح ضمن دائرة الصلاح وهذا ما تشير إليه خاتمة هذه الآية"[61].

ومن الرشد رعاية الأسباب دون الركون إليها، وهذا ما اتسم به الخليل إبراهيم -عليه السلام-، فقد كان يعبد الله من خلال رعايته لهذه الأسباب، ولذلك عندما بشره الله بالغلام وكان قد بلغ من العمر عتيًّا وكانت زوجته عقيمًا؛ استغرب هذا الأمر، كما في القرآن الكريم.[62]

وهذا هو ديدن كُولَن وتلاميذه، فإن ارتباطهم الوثيق بالصوفية، وروحانيتهم العالية جدًّا لم يؤثرا بتاتًا على معانقة الأسباب، مما أبرز الوجه الراشد لهذا التيار وأبناء الخدمة.

ولاهتمام تلاميذ كُولَن بالأسباب مع مداومة التوكل على الله، فإن مفكرًا من الخدمة يؤكّد باختصار أن العمل التربوي للخدمة "لا توجد فيه أسرار بل أسباب للنجاح".

ويؤكد المفكر في هذا التيار أ. مصطفى أُوزْجان نفس الرؤية، فقد تحدث في إحدى المحاضرات بأن الشعارات لا تُغْني شيئًا بدون الاجتهاد في عالم الأسباب، وضرب المثل برجل فتح محلاً سمّاه "الإخلاص"، فإن هذا الاسم لا يمكن أن يأتي بالإخلاص في الواقع، ما لم يجتهد صاحبه في تحري الإخلاص، ومثْلُ هذا العنوان "الإحسان" وسائر العناوين والمفاهيم والقيم.

وكان الإكسير الذي نجح كُولَن بواسطته في إحياء تيار ضخم في واقع شتوي قارس، هو نقله لتلاميذه من الإيمان الغيبي العاطفي إلى الإيمان الواقعي العملي، عبر ترجمة هذا الإيمان إلى أعمال صالحة تُحيي الإنسان وتعمر الأرض، من خلال مؤسسات كثيرة شملت سائر مجالات الحياة، عبر عملية عريضة يمكن عَنْوَنتُها بـ"مأْسَسَةُ الإيمان".

وأوْلى كولن في هذا الصدد اهتمامًا خاصًا بالقوانين الاجتماعية: "المسألة الأساسية هي إنشاء التجديد على أساس من المبادئ السليمة والقوية التي لا تشيخ ولا تهتزّ. لأنه إن لم تُعرف القوانين الاجتماعية حق المعرفة، وإن لم يتم العلاج بشكل علمي، فإن كل شيء سينقلب رأسًا على عقب63

ويمكن ملاحظة امتلاك كولن للرؤية الراشدة من اهتمامه بالتدقيق والتخطيط، وبالعلوم والتكنولوجيا، وسائر القيم الضرورية لإقامة نهضة شاملة، كما في قوله على سبيل المثال: "إن قضيتنا وغايتنا في الصيرورة والتواجد لا تماس لها ولا تلامس مع القوة العمياء مطلقًا. فنحن بملاحظتنا لحكمة وجود القوة المستسلمة للحق، لنا مفهوم لإحقاق الحق يتفق مع فكرنا الذاتي الرحب، ومتلقياتنا الفنية الأنْفَس من النفيس، وتدقيقنا الأدق الذي يشطر الشعرة أربعين شطرًا. هذا إلى جانب احترامنا لضرورة التكنيك والتكنولوجيا، وألْزَمية الصناعة وعاجليتها، وعلو قيمة العلم فوق القيم، وإيماننا بالأهمية المطلقة لتغذية وطننا بكل ذلك، وبضرورة تحفيزه وإعانته في هذه المهمة الصعبة. ولذلك نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى مرشدين ذوي أدمغة متأهلة وأفكار رحيبة وآفاق واسعة، يقيمون هذه الموازنات لإنساننا، ويرتقون بشعبنا إلى ذرى الفكر، ويقودوننا إلى جذور معنوياتنا الذاتية، ويطلقون أرواحنا المشتاقة إلى المعالي نحو اللاّنهاية"[63].

ويمكن القول إن الرشد هنا يرادف معنى الحكمة، فقد اتصف هذا الرجل بالحكمة وتحلّت حركته بالرشد، مما دفع بالدكتور محمد بابا عمي إلى تأليف أحد كتبه تحت عنوان: "البراديم كولن: فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد"، حيث أصَّل لنموذج الرشد والمنظومة المعرفية الرشيدة، ثم درس فكر الخدمة وسلوكياتها في ضوء نموذج الرشد، مبرزًا الوجه الراشد لتيار الخدمة في دائرتي الفكر والفعل، لتظهر دعوة كولن وتيار الخدمة في أبهى صورة وأجمل حُلَّة.

ومن رشد تيار الخدمة حبه لوطنه وأهله والناس بدون تعصب، كما هو مضمون الفقرة الآتية.

تاسعًا: عشق الوطن وحب الناس

هذه هي النقطة قبل الأخيرة من نقاط التشابه بين الخليل إبراهيم -عليه السلام- وبين أتباعه من أبناء الخدمة الذين انحدروا في هذا الزمن من ذات الوطن الذي انحدر منه الخليل إبراهيم -عليه السلام-، وتأسّوا به في حب الوطن والناس.

والوطن هو الناس بالدرجة الأولى، مع ترتيب الناس حسب الأولوية، فالأقربون أولى بالحب، ولهذا سجلت آيات عديدة من السورة القرآنية التي سميت باسم "إبراهيم" مشاهد من حبه للناس وعشقه للوطن.

لقد دعا خليلُ الله إبراهيمُ ربَّه بأن يجعل وطنه -البلد الأمين مكة المكرمة- بلدًا آمنًا وأن يجنّبه وأبناءه عبادة الأصنام [الآية: 35]، وبيَّن أن هذه الأصنام أضلّت كثيرًا من الناس، وبقدر ما دعا لأبنائه وأحفاده بأن يُجَنّبهم عبادة الأصنام فإنه يدعو الله -بطريقة غير مباشرة احترامًا لوحدانيته- بأن يغفر لهؤلاء ويرحمهم: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(إِبْرَاهِيم:36).

ويدعو بعد ذلك لذرّيته جيلاً بعد جيل بصلاح الدين عبر إقامة عموده وهو الصلاة، وصلاح الدنيا عبر إيجاد التجمع الذي هو مظنة الأمن ثم سَوْق الثمرات الذي هو مظنة الشبع (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(إِبْرَاهِيم:37).

ولشعوره بنعمة الولد ودور هذه النعمة في إشباع شهوة الأبناء وتحقيق الاستقرار العاطفي، فقد شكر الله على هذه النعمة: (الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)(إِبْرَاهِيم:39). وعاد للإلحاح على ربه بأن يوفّقه هو وذريته لإقامة الصلاة (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)(إِبْرَاهِيم:40). ثم ختم بدعوته تعالى بأن يغفر له ولوالديه بل ولعموم المؤمنين يوم يقوم الحساب (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)(إِبْرَاهِيم:41).

وتكررت مشاهد في سور عدة تشي بمدى حب إبراهيم -عليه السلام- لوطنه وأهله، حيث دعا لهم بصلاح الدين والدنيا، مثل قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)(البَقَرَة:126).

أما عن وطنية فتح الله كولن قولاً وفعلاً فإنها ستتضح في ثنايا هذا الكتاب، وهي تتجسد في مؤسسات عملاقة قدمت خدمات جليلة لتركيا إنسانًا وأرضًا، اجتماعًا واقتصادًا، ثقافة وفكرًا إعلامًا وأدبًا.

وما فتئ يُذكِّر بأمجاد الوطن التركي أيام السلطنة العثمانية التي اعتزت بالإسلام وأعزت الأتراك، وما برح يُظهر حبه لسلاطين هذه الدولة وخاصة محمد الفاتح وعبد الحميد الثاني، ولمدن هذه الدولة ولاسيما العاصمة إسطنبول ذات الأربعة آلاف مسجد.[64]

ولتأكيد حب كُولَن لوطنه وأهله وأمّته والإنسانية جمعاء سنكتفي بنقل هذه العبارات المغموسة بالحب والموشاة بالذهب: "إن رجل الفكر بطلٌ للحب قبل كل شيء. فهو يحب الله حبًّا كحبّ مجنون، فيحس في ظل أجنحة الحب هذا بوشائج وثيقة تربطه مع الكائنات. فيحضن بشفقة كل إنسان، وكل شيء.. ويضم إلى صدره إنسان الوطن بحب يبلغ حد العشق.. ويداعب ويشم الأطفال كبراعم للمستقبل.. وينفث في الشباب الاستحالة إلى إنسان مثالي، إذ يباريهم في بلوغ المقاصد السامية.. ويُشرِّف الشيب بأخلص التوقير والاحترام.. ويفتح سبيلاً للحوار مع الجميع.. ويقارب بين شرائح المجتمع المختلفة بمد جسور مبتكرة فوق المهاوي السحيقة الفاصلة بينها، ويضطرم حرًّا من أجل الملائمة التامة بين الشرائح المتوافقة نسبيًّا"[65].

وقد تُرجم هذا الحب إلى تضحيات ضخمة انغرست في تربة الوطن والأمّة والإنسانية، فنمت أشجار باسقة ودوحات عظيمة، آتت أطايب الطعام وأينع الثمار، مما انتفعت به البلاد وتمتّع به العباد، ومما أسلفنا في ذكر بعضه في مقامات عدة.

عاشرًا: تحوُّل نار العلمانية إلى برد وسلام

اقتضت مشيئة الله أن لا يُضيع أجر مَن أحسن عملاً، وأن المقدمات الطيبة لا بد أن تثمر نتائج طيبة، وأن المدخلات الحسنة لا بد أن يكون حصادها حسنًا، حتى ولو تدخلت كفُّ القدر عندما تقْصُر الأسباب عن تحقيق النتائج المرجوة.

ونحن في مسك الختام لهذه المقارنة الطيبة بين سيرة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وواقع أبناء الخدمة في تركيا المعاصرة، فإن من المعلوم أن الأنبياء وهبوا طاقاتهم وأوقاتهم وأموالهم لطاعة الخالق في خدمة خلقه، وضحّوا في هذا الطريق بكل غال ونفيس، ومع ذلك وُوجه الرسل جميعُهم بالصدّ والكيد والختل والمحاربة، لكن عناية الله اكتنفت رسله دائمًا ووقفت بالمرصاد لأعدائهم.

وهذا ما حدث لخليل الله إبراهيم -عليه السلام- الذي واجه واحدًا من أشرّ وأشرس طغاة الأرض وأكثرهم تكبرًا وتجبرًا، وهو النمرود بن كنعان الذي أمر بجمع أكوام من الحطب وإضرام النيران فيها، ثم أمر بقذف إبراهيم فيها، لكن كفَّ اللطف الرباني تَدَخَّل عبر "كُنْ" الإلهية التي توقف الأسباب وتُبطل خصائص الأشياء، قال تعالى: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ)(الأَنْبِيَاء:69-71).

وفي العصر الحديث لقي الدعاة والمربّون والمفكرون الكثير من صنوف العنت وصور الإيذاء، على أيدي أنظمة الجور وسلطات الطغيان، ولما كانت تركيا من أكثر الدول تطبيقًا للعلمانية المتطرفة، ومن أكثرها شراسةً في دفع قطار تركيا بعيدًا عن سِكَّة ماضيها المجيد، فقد سُلطت نيران الإيذاء على أبناء الخدمة وأستاذهم فتح الله، لكن رحمة الله وعنايته بهذا الدين جعلت من هذه النيران بردًا وسلامًا على تيار الخدمة، حيث ساهمت في إنضاجه وامتلاكه البوصلة الفكرية السليمة.

لقد تحولت نيران العلمانية إلى برد وسلام بفضل العناية الإلهية واللطف الرباني، حيث وضعت في لُبّ "المحن" عددًا من "المنح"، يمكن إجمالها أهمها في هذه النقاط:

1- التخلص من الشوائب، وتقارب الذَّرّات

من المعلوم أن البشر مخلوقون من الطين قبل أن ينفخ الرحمن فيهم من روحه، ولذا فإن تكوينهم المادي يشتمل على كل عناصر الأرض ومعادنها الرديئة والثمينة، ومن ثم فإن تسليط النيران على هذه الكتلة المتنوعة يذيب المعادن الرديئة ويكشف عن العناصر الأصلية ويهيل التراب عن معدن الإنسان النفيس.

وقد أدّت نار العلمانية المتطرفة إلى تطهير تيار الخدمة من الشوائب الطبيعية، ومكّنته من الوصول إلى الرؤية المستبصرة والمراجعات القوية.

وبجانب إحراق النيران للزوائد التي تمنع ائتلاف الصفوف، فإنها أذابت الفوارق غير الطبيعية، وأدى ذلك إلى تقارب أبناء الخدمة، وائتلافهم على الحب وحبهم للائتلاف.

وهذا وذاك ساهما بقوة في تحقيق النضج الفكري وتسهيل الترقي في عالم الفاعلية وصناعة الحياة.

2- اكتشاف الذات وانتزاع المستقبل

إن كثرة المحن وقوة النقم عندما تنزلان على كيان ما، فإن ذلك يؤدي إلى استفزاز طاقاته الكامنة، واستثارة مشاعره العميقة واستخراج فاعلياته المخبوءة. ويرى علماء الحضارات أن التحدي المناسب أحد الشروط الرئيسة لحدوث أي نهضة. وهذا ما فعلته العلمانية بتيار الخدمة إلى حد كبير.

وسنترك كولن يشرح بنفسه دور "محن" العلمانية في استنزال هذه "المنحة"، حيث يقول: "والآن هناك الكثير من الضغوط وأنواع من الإكراه والظلم والتحكم والاستبداد، مما يسَّر لنا إمكانية اكتشاف ذاتنا. أجل!.. فكما يشعر من يحمل في كل عضو من أعضائه جرحًا أو ألمًا شعورًا قويًّا وحادًّا من الألم، أي يشعر بالألم في كيانه كله، كذلك حالنا نحن الذين نعيش منذ سنوات عهدًا من الظلم والتحكم والطغيان والغدر، فقد أدّى هذا إلى انتشار وعي صامت ولكنه عميق.. وعي تدريجي ولكنه مستمر وقوي ومتصف بالعزم بأن الحق لا يُهدى ولا يُتفضل به، ولا يُتصدق به من قبل أحدهم. لذا نمدّ إلى شهر رمضان أيدينا في جوّ من الإشراق الروحي لكي يفتح لنا بابًا نحو أيام جديدة مضيئة للمستقبل، ولكي نتوجه ونرجع إلى ذاتنا وهويتنا بشكل يشبع العين والقلب، وبصمت الأنهار الجارية بهدوء وبمهابة، وبرقة النسائم المنعشة التي تهبّ بكل رفق"[66].

3- تقوية جهاز المناعة وتعظيم الفاعلية

من المعروف علميًّا أن المضادات الحيوية التي تصنعها شركات الأدوية لتقوية جهاز المناعة الطبيعي في جسم الإنسان ما هي إلا مجموعة من الجراثيم التي تُدخَل إلى جسم الإنسان بكميات مقدَّرة حتى تستفز الدفاعات الكامنة في جسم الإنسان، فتنهض من مكامنها لتدافع عن الجسم أمام غزو الأمراض.

ولأن الكائنات الإنسانية تُشْبه الكيانات الاجتماعية في أشياء كثيرة، فإن كثرة التحديات التي أطلقتها العلمانية ضد الخدمة في تركيا أدّت إلى انطلاق جهاز المناعة للعمل بأقصى إمكاناته، مما أبرز فاعلية كيان الخدمة، فقد مضت سنن الحياة -التي أوجدتها مشيئة الله- بأن لكل فعل ردّ فعل مساو له في القوة ومضاد له في الاتجاه.

ومن هذا الباب فإن الشيطان في عداوته للإنسان يقوم بمثل هذا الدور، ويرى فتح الله كولن في هذا السياق أن الشيطان "لا يُنكَر أثره في توسيع الكثير من قابليات واستعدادات الإنسان وتطويرها، وفي تصفية المعادن الصلبة الموجودة في فطرة الإنسان وفي ظهورها، بل حتى في بقاء الروح والقلب على أهبة الحذر والاستعداد على الدوام"[67].

ووضح أن الشيطان ينشر بذوره السامة في نفوس الناس، ويحاول جعلها مزرعة للآثام، وأمام هذه الجهود المبذولة "تستيقظ المشاعر المعنوية لدى الإنسان، وتصبح في حالة تأهب، تمامًا مثلما تتأهب وسائل الدفاع في الجسم ضد الجراثيم (...)، وكم أدى هذا إلى تصفية معادن ثمينة وظهور أولياء أبطال مجاهدين للنفس"[68].

وهذا هو بالضبط ما فعلته العلمانية بكُولن وتلاميذه من تيار الخدمة، حيث خلقت فيهم روح التحدي، وأطلقت فاعلياتهم، وَهَدَتْهم إلى أقوم السبل وأرشد الأفكار، ودفعتهم إلى إيثار العمل الهادئ، والحذر من الوقوع أو الاصطدام أو الانحراف.

ولأن التحدي كان قويًّا فقد كانت الاستجابة قوية، فإن "المغارم" القوية تثمر "مغانم" قوية، وهذا ما أشار إليه كولن وأكّده بقوله: "لأننا في الوقت الذي نستطيع فيه تجاوز هذه المصاعب تكون مكاسبنا كبيرة بنفس النسبة"[69].

4- تمتين البناء

عندما يصبح أي مبنى عرضة للاعتداء من الخارج، فإن هذا لا شك يدفع أصحابه إلى تمتين البناء الداخلي، حتى يصمد أمام أعتى الرياح وأقسى الأعداء، وذلك بسد الثغرات، وغلق الفجوات، واستبعاد اللبنات الضعيفة أو تقويتها بالوسائل الممكنة.

وعندما أوجد كولن تيار الخدمة، كانت تتوزع جهودَه الكثيرُ من الجبهات والجهات التي تحتاج إلى عمل، وقد استغرقت المواعظ التي استهدف بها عامة الناس جزءًا كبيرًا من وقته وطاقته، ولا شكّ أن هذا سيكون له بعض التأثيرات غير المستحبة على تلاميذه الحقيقيين الذين سيُكوِّنون مدماك هذا التيار ويتحملون أعباءه الجسام، وقد لا يستطيع بعضهم حمل المسؤولية بمنتهى الكفاءة، فيتعثر أو يسقط.

ولهذا "مَنَحَ" الله هذا التيار فرصة لتمتين البناء، وجاءت الفرصة على صورة "محنة"، عندما حدث الانقلاب العسكري سنة 1980م تحت قيادة الجنرال كنعان إيفْرِين، فقد كان كولن أحد المطلوبين للقبض عليه، لكنه اختفى بين تلاميذه، فتفرَّغ لتنميتهم وتزكيتهم، والعروج بهم في سماوات الفاعلية، طيلة ست سنوات كاملة.

5- تركيز الطاقات وتحديد الأولويات

لقد خلق الاستهداف العلماني الشامل عند أبناء الخدمة قدرًا كبيرًا من اليقظة والحذر والتَّوثُّب، وإلى هذا يشير كولن بقوله: "... نقوم نحن بإنشاء بناء لبنة لبنة وحجرًا حجرًا، كما نقوم بحراسة الجزء المشيد من البناية"[70]. قال هذا الكلام بعد شرحه لما يلقونه من صنوف الإيذاء والحرب التي تلاقيها دعوتهم من الأوضاع المنحرفة التي خلقتها العلمانية المتطرفة.

ورغم اقتران العلمانية عادة بالديمقراطية التي يتفق جوهرها مع إطلاق الحريات إلى أبعد مدى، إلا أن العلمانية التركية أوجدت قوانين جديدة وجائرة ضد الدين والمتدينين، هذه القوانين خفضت سقف الحركة المسموح لهم بالتحرك تحته، وربما شكَّل هذا الأمر دافعًا لأبناء الخدمة لتركيز طاقاتهم -التي كان يمكن أن يتوسعوا بها أفقيًّا- على تعميق حضورهم الرأسي، مما أدّى بهم إلى الانغراس في قلب العصر وفي عقول ووجدان الأتراك.

وتركزت هذه الطاقات مرة أخرى في ميادين المعاني أكثر من المباني، وفي الألباب أكثر من الأشكال، وفي المضامين أكثر من الأسماء، ولهذا لم يجدوا فراغًا للحديث عن الإسلام، إذ سخَّروا كل الطاقات المتوفرة من أجل العمل بالإسلام، والدعوة إليه بالسلوكيات المستقيمة وصناعة الأسوة الحسنة.

6- تنزيل اللطف الإلهي

إن المحن تستجلب المنح، والنقم تستمْطر النعم، واشتداد البلاء يرفع الدرجات ويضاعف الأجور.

لقد تعرض المسلمون الأتراك لضغوطات تنوء عن حملها الجبال، فصبروا وفازوا، فإن الأجواء المملوءة بغيوم الابتلاءات وأعاصير المحن تستنزل أمطار اللطف الإلهي.

وهذا ما أكده تاريخ الخدمة في تركيا بلسان الحال، بل ما أكده كولن بلسان المقال: "لذا يتعرض الذين تعهدوا هذه الوظيفة الجسيمة -أي التبليغ- في يومنا هذا إلى مضايقات ومشقات أشد ممن تعرضوا لها في العصور السابقة. فهذه الظروف العسيرة جدًّا هي التي تؤهل مرشدي عصرنا ومبلِّغي الدعوة فيه أن يسبقوا الذين أتوا من قبلهم، ونأمل أن يتسنموا موضعًا خلف الصحابة الكرام مباشرة. فالنفس مهما كانت أدنى من الكل إلا أن الوظيفة أسمى من الكل. واللطف الإلهي سبحانه يَرِد بقدر حاجة الناس. وعندما تُقسم الرحمة الإلهية إلى الناس كافة توزع على الأغلب بنسبة متعاكسة مع اقتدار الشخص؛ فمن كان أعجز وأضعف فالله سبحانه أرحم به"[71].

وهكذا أحال الله تعالى بلطفه وكرمه "رزايا" العلمانية التركية إلى "مزايا" لتيار الخدمة، فكانت نيرانها بردًا وسلامًا على أبناء الخدمة، كما كانت نار النمرود بردًا وسلامًا على إبراهيم -عليه السلام-.

 


[1]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:299-300.

 [2]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:302.

 [3]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:301.

 [4]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:303.

 [5]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:303.

 [6]     الرسالة القشيرية، أبو القاسم القشيري (تـ/465هـ)، ص:84.

 [7]     الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:173.

 [8]     الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:131.

 [9]     انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:136.

 [10]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:138.

 [11]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:147.

 [12]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:243.

 [13]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:51-53.

 [14]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:57، 58.

 [15]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:54-56.

 [16]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:95، 96، 142.

 [17]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:79-94.

 [18]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:60-62.

 [19]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:63-66.

 [20]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:104-107.

 [21]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99-101.

 [22]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:124.

 [23]    انظر: أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:25.

 [24]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:99-101.

 [25]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:116.

 [26]    ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾(البَقَرَة:125).

 [27]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:47.

 [28]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:61.

 [29]    انظر مثلاً: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:161.

 [30]    أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:316.

 [31]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:161.

 [32]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:176.

 [33]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:265.

 [34]    انظر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:74، 75.

 [35]   ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾(إِبْرَاهِيم:24-25).

 [36]    ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾(إِبْرَاهِيم:26).

 [37]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:148-152.

 [38]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:153-157.

 [39]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:155.

 [40]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:148.

 [41]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:148.

 [42]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:110؛ وعن حثّه على التحلي بالفضائل، انظر: ص:112-114.

 [43]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:24-26.

 [44]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:159.

 [45]    انظر: أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:238-240.

 [46]    انظر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:145-150.

 [47]    انظر مثلاً: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:137.

 [48]    انظر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:233-235.

 [49]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:134.

 [50]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:61.

 [51]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، نفسه: ص:62، 63.

 [52]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:123.

 [53]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:249.

 [54]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:166.

 [55]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:138.

 [56]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:130.

 [57]    انظر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:329-333.

 [58]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:92.

 [59]    راجع تفاصيل هذه المراحل في: فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد، د. محمد بابا عمي، ص:89-105.

 [60]    فتح الله كولن ومشروع الخدمة على ضوء نموذج الرشد، د. محمد بابا عمي، ص:92.

 [61]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:228.

 [62]    سورة الحجر، 53-56.

 [63]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:124، 125.

 [64]    عن حبه لإسطنبول، انظر: أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:291؛ وعن دفاعه عن السلطان عبد الحميد وحبّه له، انظر: أسئلة العصر المحيّرة، فتح الله كولن، ص:194-199.

 [65]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:128، 129.

 [66]    ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:185.

 [67]    أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:52.

 [68]    أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:52.

 [69]    أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:175.

 [70]    أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:171.

[71]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:25.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.