الفصل الثاني: سمات الحكمة "الكولنية" في التجديد الحضاري

إن ما أنجزه فتح الله كُولَن لا يمكن قياسه بعمر الأشخاص؛ لحكمته البالغة حيث يعرف كيف يضع كل شيء في مكانه وزمانه المناسبين، ومن خلال قراءتي لكتبه المترجَمة إلى العربية، ومشاهدتي لمنجزاته في الواقع العمَلي، واقترابي من هذه التجربة بعد زيارتي لتركيا وحضوري لعدد من المؤتمرات والندوات التي كان كولن عنوانها، أستطيع أن أجزم أنه مجدّد تركيا في هذا العصر، ولاسيما في مطلع الألفية الثالثة، والتجديد الذي تبوّأ كولن مكان الصدارة فيه، يتميّز بعدد من السمات أهمها:

أولاً: الانطلاق من الإسلام والدعوة العمَلية إلى مقاصده

عرفنا أنّ فتح الله انحدر من أسرة متديّنة، فقد كان جدّه شامل آغَا مثالاً للتديّن والمحافظة، وكان أبوه رامِز أفَندي إمامًا لعدّة مساجد، وكانت أمّه مثالاً للصلاح وعمل الخير، وهذا انعكس على تربيتهما لأبنائهما، وهذا واضح حتى في الأسماء، رغم تشديد العلمانية على معاداة الأسماء الإسلامية والعربية، وقد كان لفتْح الله عدد كبير من الإخوة والأخوات هم على الترتيب كالتالي: نور الحياة، فضيلة، "فتْح الله"، صبغة الله، المسيح، فقير الله، حسبي، صالح، ثم فضيلة -الأخرى بعد موت الأولى-، نظام الدين، قطب الدين.[1]

كان شديد التديّن وهو صغير، واتّسم بالورَع منذ نعومة أظفاره، وحمل بين جوانحه حبًّا جامحًا للرسول r ولهذا الدين، وظل شديد الشعور بالمسؤولية عن هذا الدين، وتنقّل في مرحلة الإعداد لذاته بين كل مَن يعرف أو يسمع عنهم لطلب علوم الشريعة وعلوم اللّغتين العربية والفارسية، إضافة إلى التركية.

ومن خلال هذه اللغات أحاط بعلوم الإسلام، مفرقًا بين الثوابت والمتغيّرات، الثوابت التي عضَّ عليها بالنواجذ، محافظًا على أصالتها؛ والمتغيرات التي سعى لتطويرها وتجديدها من خلال رؤاه الخاصة التي كانت ثمرة لاستيعاب مقاصد الإسلام والانفتاح على حضارة الغرب وثقافته بما فيها من علوم ورؤى وأفكار وإنجازات، ومثالب ونواقص، ولهذا امتلك غربالاً ميَّز بواسطته بين الحسَن والقبيح، وبين الغثّ والثمين.

وقد أحسن كولن استمطار سحب القرآن من خلال التدبّر الواعي، والتنْزيل الجديد للقرآن على مشاكل الأمّة والتحدّيات التي تواجهها، فأحسن معرفة الداء، وتوصل إلى وصفات عميقة في معالجة هذا الداء (التخلّف الحضاري) وما نجم عنه من علل وآفات.

وعلى سبيل المثال في قراءته لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(الْمَائِدَة:54)، تحدّث عن (قَوْم) التي وردت نكرة، ليشير إلى أنّهم غير معروفين عند الصحابة آنذاك، ولذلك عندما عجز الأمويّون عن حمل الأمانة، حملها العبّاسيّون، وعندما عجزوا حَمَلَهَا السلاجقة، ثم العثمانيون.. وركز على صفاتهم، بحيث يبدو لمن عرف تيّار الخدمة الذي يقوده أنّه يُعدّه ليكون القائم بحمل الأمانة بحيث يكون أفراده أهلاً لمن سيأتي الله بهم ويستبدل بهم غيرهم، ولاسيما ما يرتبط بالحب لله والذلّة على المؤمنين، والجهاد في سبيله، مع مراعاة أنّ معنى الجهاد أوسع بكثير من معنى القتال.[2] ولأنّ حركته إسلامية، فقد حدّد أهدافها بـ"إعلاء كلمة الله، والخدمة، والتضْحية في سبيل الآخرين، ونذْر النفس للحقّ تعالى وللخلْق". وهي أهداف دينية واجتماعية.[3] يقول فتح الله كولن: "إن أساس حياتنا المعنوية قائمة على الفكر الديني والتصوّرات الدينية. ولقد حافظْنا على وجودنا حتى اليوم بهذا الأساس، وكانت وثباتنا أيضًا منطلقة منه، فإن جرّدْنا أنفسنا منه، فسوف نجد أنفسنا متخلّفين ألف سنة إلى الوراء."[4].

ولهذا تميّز كولن بشدّة الإخلاص والتقوى والورَع، وحثّ تلاميذه ممن يريدون أن يكونوا ورَثة الأرض على تَخْلية قلوبهم من كلّ ما سِوى الله، وتعهُّد هذه القلوب بالرّعاية، وتزكيتها من الشوائب بدوام المراقبة والمحاسبة والمجاهدة، وركّز على هذه القضية في كل كتبه تقريبًا، لكنّه أفرد لها كتابه الرائع في مبناه ومعناه، وتتضح روعته حتى من العنوان، وهو "التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح".

ويعرِّف الإخلاص بأنه: "صفاء القلب، واستقامة الفكر، والبعد عن الأغراض الدنيوية في العلاقة مع الله، وإيفاء العبودية حقّها.."[5]، وينقل عن أستاذه النورسي ما يؤكّد القيمة الكبيرة للإخلاص: "لأن ذرّة من عمَل خالص أفضل عند الله من أطْنان من الأعمال المشوبة"[6].

ويؤكّد كولن أن "الإخلاص أصدق وثيقة اعتماد يمنحها الله القلوب الطاهرة، فهي وثيقة سحرية تجعل القليل كثيرًا والضحل عميقًا والعبادات والطاعات المحدودة غير محدودة. حتى يستطيع الإنسان بواسطتها طلب أغلى ما في سوق الدنيا والآخرة. ويتمكّن بفضلها أن يقابَل بالاحترام والتوقير رغم كثرة الطالبين"[7]. ورأى أن أهل الكهف حصلوا بالنّية الصالحة على أجور عبادة ثلاثمائة وتسع سنوات.[8]

والإسلام عنده ليس شعارًا يرفع، أو دعوى تدعى، أو عنوانًا يجذب الجماهير، بل هو إيمان قلبي، يثمر أعمالاً صالحة، بحيث يرتقي صاحب الخدمة من درجة الإسلام إلى درجة الإيمان.

ثانيًا: التجدُّد بالإيمان وتجديد الحياة به

وفقًا لسنن الله، تغيَّر المسلمون في القرون المتأخرة، فغَيَّر الله حالهم من وحدة إلى تفرّق، ومن قوّة إلى ضعف، ومن عزّة إلى ذل، ومن غنى إلى فقر، ومن علم إلى جهل، ومن تقدم إلى تخلف.

وبعد أن وصلت أمّة المسلمين إلى قاع الانحطاط الحضاري، فإن كثرة الصدمات التي تعرّضت لها، جعلتها تُراجع نفسها حتى بدأت تصحو، وبدأت هذه الصحوة تتحول عند بعض التيّارات إلى يقَظة كما هو حال تيار الخدمة في تركيا.

فقد ارتفعت هذه الحركة فوق مستوى الصحوة، ووصلت إلى درجة اليقَظة، حيث أصبح الإسلام مسمى لا اسْمًا، وانتقلت الحركة من الانفعال بالإسلام إلى الفاعلية به، من خلال ترجمة الإيمان إلى مشاعر تُجدّد الذات، ومشاريع تجدّد المجتمع، أي أنها انتقلت من الحديث عن الإسلام إلى الحياة به.

ولا يمكن أن يصير الإسلام طاقة تُجدّد الذات وتعمر الحياة، ما لم يصل أبناؤه إلى درجة الإيمان، وهذا ما يُميِّز حركة فتح الله كولن، رغم أنها تعيش في وسط بيئة صنعت بعناية لمعاداة الإيمان، لكن الإيمان العملي المنتشر في شعاب الحياة يثير الإعجاب حتى عند العلمانيين، ولاسيما إذا جاء تحت مسميات وعناوين عصرية أو وطنية أو اجتماعية أو إنسانية.

إن الإيمان هو الذي يصنع ورَثة الأرض، وورثة الأرض هم الذين يُجيدون قراءة الشريعة القرآنية، والشريعة الفطرية (آيات الأنفس والآفاق)، وهذا يعني القراءة العصرية للقرآن، مما يؤدّي إلى إظهار ثماره، واستثمار سنن الله التي ترفع من فاعلية الإنسان، وتساعد على استثمار طاقت الكون في عمارة الأرض.[9]

ويرى كولن أن الديمقراطية التركية ساهمت في رفع القيود عن التجديد الإسلامي، سواء في دائرة الفقه أو الفكر أو التصوف أو التربية والتعليم، وأن التجديد والانبعاث المأمول في الحاضر إنما يتحقق بالجمع بين كل هذه الدوائر، مع ضرورة: "الانسلاخ من القالب إلى اللبّ، وترك الشكلية والتوجه إلى الجوهر والروح، في كل مسألة. ويعني أيضًا التوجّه إلى اليقين في الإيمان، وإلى الإخلاص في العمل، وإلى الإحسان في الحس والفكر"[10].

وبعد أن يصف أهمّ علل العالم الإسلامي يقول كولن: "لذلك نؤمن بضرورة توجيه العالم الإسلامي جميعًا إلى التجدّد بكل أجزائه في فهم الإيمان، وتلقيات الإسلام، وممارسة الإحسان، وإثارة العشق والشوق، وتحكيم المنطق، وتعديل طريق التفكير، وأسلوب التعبير عن الذات، بمؤسساته ونظمه التي تكسبه هذه الأحوال..."[11].

"إن المجتمع الإسلامي بحاجة إلى انبعاث جديد"، وإصلاح جاد في ملكاته العقلية والروحية والفكرية، وبتعبير أكثر حيَوية، إلى "إحياء".. إحياء يستجيب لمتطلبات جميع أصناف البشَر، ويحتضن الحياة كلّها، في كل زمان ومكان، بقدْر السعة والعالمية التي تتسع لها مرونة النصوص، مع السعي الجاد للحفاظ على أصول الدين"[12]. وهكذا، فإن هذا التجديد ينطلق من الإيمان، ويستفيد من أرصدته وطاقاته في تعمير الحياة، وهو مع ذلك يمتلك البوصلة التي تسمح له بالسير الآمن في مجاهل الفكر والفقه، لأنه يحمل الخارطة التي تفرق بين الثوابت والمتغيرات.

وهكذا، فإن إحدى سمات التجديد عند كولن هي إعادة الحياة إلى الإيمان، بحيث يبقى شجرة مثمرة، تتوزع ثمارها على كل شُعب الحياة وميادينها، ويبقى وثيق الصلة بعمل الصالحات، وهذا يقودنا إلى سمة جديدة.

ثالثًا: النـزعة العملية وتحرّي سبل الفاعلية

في طريقه لإحياء الصحابة، وإيجاد صفة ورَثة الأرض في أتباعه، فإن فتح الله كولن لم يقف عند الوعظ والكتابة والتنظير، ولا عند إقامة الشعائر التعبدية، بل انطلق مع أصحابه لعمارة الحياة وفق منهج الله تعالى، وما وفّره العصر والتقدّم العلمي من وسائل وأساليب وخبرات، وفق حاجات المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، وهم بهذا يدركون تمامًا سرّ ربط القرآن في العشرات من آياته بين الإيمان وعمل الصالحات.

ويبدأ طريق العمل الطويل، ببناء الذات وتحريرها من اللذّات، وانطلاقها لتطبيق كل ما تقوله وتدعو إليه. وفي سياق تعليقه على قوله تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(البقرة:44)، أكّد فتح الله على وجوب تطبيق الإنسان أولاً ما يدعو الآخرين إليه "وألا يكون هناك تناقض بين القول والقائل"، إذ أن العيش بالإسلام عبادة وتبليغه عبادة أخرى "فمن لم يطبق كلَيهما حمل ذنبين وابتعد عن قوة التأثير بخطوتين، ومن لم يطبّق أحدهما حمل ذنبًا واحدًا وابتعد عن التأثير خطوة واحدة"، ولهذا "كان على الواعظ وعلى الناصح والمرشد والمبلِّغ والكاتب والمبرمج أن يكون جادًّا في الأعمال التي يقوم بها لكي يؤخذ مأخذ الجدّ ولكي لا يلقي أيّ ظل من الشكّ على المواضيع التي يتناولها ويقدمها"[13].

وفي هذا السياق، سياق العروج بالأعمال نحو الفاعلية، حثّ على استنفاد الأخْذ بالأسباب في مواضع كثيرة من كتبه،[14] ورأى أن المعجزات نفسها -وهي خرق للقوانين والأسباب- لم تخل من نصيب للأخذ بالأسباب، وذلك في معرض شرحه لقصّة حمل مريم من دون زوج، وحمل زوجة زكريا -عليه السلام- وهي في خريف العمر، بل وكانت عاقرًا، إذ دهش الطرفان عند البشارة لارتباطهما بعالم الأسباب التي هي جزء من منهج العبودية لله، مع إدراك أنها لا تعمل خارج إطار إرادة الله وفاعليته المطلقة.[15]

ولا يفتأ يربط كل الشعائر بفريضة العمل، ويشقّ الطرق نحو الفاعلية وصناعة الحياة؛ ففي ذكْر الله في القتال -مثلاً- يرى أنه صيحة متكررة: "الله، الله، الله. هذه الصيحة مهمّة لأنها تؤثر سلبيًّا على معنويات العدو، وتزيد من معنويات جبهة المسلمين حيث تبعث فيهم الشوق والحماس"[16]. فالذكر ليس عبادة غيبية عدمية إذًا، إنما هو مرتبط بعمارة الأرض بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

وهكذا، فإن رؤية كولن للإسلام رؤية عملية، فالمرء يجد -كما يقول- "إمكانية ترجمة أفكاره -التي يؤمن بها ويضحّي في سبيلها- إلى الحياة، في أثناء أدائه هذه الوظيفة، فضلاً عن أن ما يحمله من إيمان لا يبقى فراغ؛ إذ الإسلام حقيقة هو معايشة وحياة، فلا يُفهم ما لم يكن معيشًا"[17]. وهو -أي الإسلام- "نظام إلهي يربط العلم بالعمل ربطًا محكمًا، ففي إحدى جانبيه الإيمان، والجانب الآخر تحويل هذا الإيمان إلى عمل وفعالية... نعم، الإسلام إيمان وعمل، فالذين يتكلّمون عن العمَل الإسلامي من دون أن يدركوا أن الإسلام إيمان وعمل كلامهم هذر ليس إلاّ"[18].

ورغم النزعة العملية الشديدة في حركة فتح الله كولن، إلا أن عملها ليس صاخبًا، بل هو عمل هادئ، حيث يرى كولن "أن كل نشاط يجب أن يجري في سكون وصبر يحاكي سكون وصبر المرجان الذي يتكاثر بهدوء ودون ضوضاء في أكثر الأماكن هدوءا أو بعدًا عن الأنظار"[19]. وهذا ينقلنا إلى السمة الرابعة، حيث العمل الهادئ الذي لا يجلب الأنظار، ولا يستفزّ طاقات الخصوم أو يجلب الأعداء.

رابعًا: الإصلاحية الأفقية التحتية

بالتأكيد أن القارئ من خلال ما سبق قد لاحظ أن حركة فتح الله كولن حركة إصلاحيّة وليست ثورية، أي أنها تعترف بوجود إيجابيات كثيرة في المجتمع وتبني عليها، ولا تسعى لإحداث تغيير جذري وشامل للأوضاع. وفي ذات الوقت فإن عملية الإصلاح هذه تبدأ من تحت وليس من فوق، ولذلك ليست لها أيّ اهتمامات سياسية، وإنْ كانت تدعو أفرادها إلى أن يكونوا إيجابيّين في القضايا الرئيسية الهامة، وخاصة في الانتخابات، من دون تخندق أو تعصب، بحيث يختار كل فرد ما يراه مناسبًا لمنطقته ووطنه وعمله الدعوي والحركي، بل ومصلحته الشخصية إذا كانت جزءًا من المصلحة العامّة للمجتمع.

هذه الرؤية قادت حركة فتح الله إلى الانفتاح على المجتمع التركي برمته، بكل ما فيها من طوائف وتيارات وأقلّيات عرقية ودينية، فضلاً عن الانفتاح على عامة الشعب "فهي تهدف إلى التلاؤم مع هذا المجتمع وإلى الإسهام فيه، وتدعو إلى الأخوّة الأبدية"[20].

إنّ حركة فتح الله كولن تؤكّد، من خلال مُنظِّريها ومن خلال سلوكياتها وتصرفاتها في الواقع، أنها حركة قاعدية تحسن الظن بالجماهير، وتسعى لتجسير الْهُوَّة العملية بينهم وبين إسلامهم العظيم وتأريخهم المجيد،[21] بحيث تكتشف طاقاتهم لتصقلها وتوظّفها، وتكتشف ثغراتهم ونقاط ضعفهم لتسددها وتعالجها، ولهذا فهي تقوم بالبناء من تحت، ولا تحاول البناء من فوق، لأن هذا يتصادم مع نواميس الله وسننه في هذا الوجود.

وفي هذا الإطار انتقد فتح الله كولن الحركات التي لا تعمد إلى إصلاح الأوضاع من تحت، حتى قال: "وأما انتظار الدّولة والسلطة فهو سلوان كاذب لا يقوم على سند. فلا يمكن أن تتحقق الدولة والسلطة إلا بالقصد إلى فكر سام يمنحها الحياة في المجتمع، ويغذّيها، ويبرمج كل شيء بموجبه، والالتفاف كخيوط المغزل حوله.."[22].

ويستدعي التغيير التحتِيّ القيام بجهود جبارة في مجالات التربية والتعليم وترميم البنى الاجتماعية المادية والمعنوية، وحراسة الثغور في جبهات عدة في آن واحد عبر جهادٍ يَعْبُرُ إلى كل الدوائر سوى دائرة العنف والقتال، ويستخدم كل الأسلحة سوى السلاح العسكري، ويستثمر كل الوسائل سوى ما يتعارض مع الإسلام وقوانين البلد وأخلاق المجتمع، وهذا بالضبط ما فعله تيار الخدمة داخل تركيا وخارجها.

خامسًا: الخدمة الاجتماعية والجهاد الأبيض

استخدم القرآن مصطلح الجهاد في القرآن المكي، مثل قوله تعالى عن القرآن: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)(الفرقان:52)، أما القتال فلم يُشرع إلا في المدينة المنوّرة عندما قامت دولة المسلمين، وحاولت الحراب أن تتناوشهم من هنا وهناك، عندها نزلت آية الإذن بالقتال في السنة الثانية للهجرة، وهذا يعني أن دائرة الجهاد واسعة جدًّا، وهذا ما أبرزه فتح الله كولن في كتابه "روح الجهاد وحقيقته في الإسلام".

في بداية هذا الكتاب ناقش كولن مفهوم الجهاد، وبعد أن عرَّفه من الناحية اللغوية رأى أنه -أي الجهاد- يجري في جهتين اثنتين: الأولى موجهة إلى الداخل، والأخرى موجهة إلى الخارج، ثم قال: "إن بذل الجهد إلى الداخل عبارة عن عملية إيصال الإنسان إلى ذاته وإلى ربّه. أما الجهاد الآخر المُوَجَّه إلى الخارج فهو عملية إيصال الآخرين إلى ذواتهم وإلى ربّهم. ويطلق على الأول "الجهاد الأكبر" وعلى الثاني "الجهاد الأصغر"[23].

ومن خلال قراءة حركة الخدمة فكرًا وممارسة، يجد المرء أنها حركة جهادية من طراز رفيع رغم أنها لم تطلق طلقة واحدة، ولم تُرِقْ قطرة دم واحدة؛ إذ أنها تتحرك في إطار الجهاد الأبيض الواسع وتستهلك كل طاقتها هناك، وتنجز كل عام عددًا من الفتوحات المدنية الناعمة في جبهات التربية والتعليم، عبر بناء ما يزيد عن ألفي مدرسة نموذجية في تركيا وفي مائة وستين دولة في العالم؛ وبناء أكثر من خمس عشرة جامعة ضخمة، أهمّها "جامعة الفاتح" في إسطنبول؛ وإيجاد المئات من المدن والمباني السكنية الجامعية، بحيث يمكن القول أن هناك مليونين من الطلاّب الذين يستفيدون من خدمات هذا التيار أو من جهاده الأبيض الذي يدرأ به فتنة الجهل والفقر والفرقة عن أعداد كبيرة من المسلمين كل عام.

"فالجهاد الأصغر إذًا هو تنفيذ أوامر الدين عمليًّا وأداء ما كلف به الإنسان؛ أما الجهاد الأكبر فهو إعلان الحرب على جميع العقبات والعوائق الكامنة في النفس الإنسانية التي تعيقه عن الكماليات من حقد وحسد وأنانية وغرور وكبْر وفخر وأمثالها من الأمور التي جُبلت عليها النفس الأمّارة بالسوء. فهذا الجهاد عسير وشاق، ولهذا سمي بالجهاد الأكبر24

وفي هذا الدرب مارس تيار الخدمة إلى جانب الجهاد التربوي التعليمي، الجهاد الإعلامي، إذ عبر عشرات المجلاّت، وعشرات من دور النشر التي تطبع ملايين النسخ من عشرات الكتب سنويًّا، ويكفي أن نعرف أن صحيفة "زَمان" تطبع يوميًّا مليون نسخة، وهي الأولى على مستوى تركيا، وتوزّع في عدد من دول العالم، ولاسيما في أوربا وأمريكا ووسط آسيا.

ويركّز فتح الله -في مخاطبته للمسلمين عمومًا وأتباعه خصوصًا- على توجيههم إلى الفتوحات الناعمة والجهاد الأبيض، حيث يقول على سبيل المثال: "فمَن كان يريد إحراز لقب الفاتح فليفتح قلعة النفس أوّلاً، ومن استعصى عليه فتح الداخل لا يمكن أن يفتح شيئًا من الخارج"[24]. وبهذا يصرف طاقات الشباب نحو بناء الذات وإعمار الحياة، ويَحول بهذا بينهم وبين الانجراف نحو الإرهاب المتدثر بدثار "الجهاد". فالإرهابي عند كولن ليس مسلمًا، والمسلم لا يمكن أن يكون إرهابيًّا. وهذا الاستخلاص جاء نتيجة قراءة دقيقة لمقاصد الإسلام ولحقائق الواقع.

ويؤصّل كولن لبناء الذات فيقول: "إن أمّة ترزح تحت الذل والهوان لا يمكن بحال أن تمثّل الحقائق السامية، فكيف لها أن تعرض هذه الحقائق إلى غيرها؟ وأنّى لغيرها أن تتقبّل منها وهي تعاني الذلّ والهوان. لذا ينبغي أن نثبت قوّتنا وطاقاتنا على أعلى مستوى في جميع مرافق الحياة الأساسية التي توقف الأمة على قدمَيها قويّة عزيزة"[25].

وفي عمليات الإصلاح التحتي الشامل التي يقوم بها تيّار الخدمة، فإن الرؤية تنطلق من أنّهم يقومون بوظيفة الجهاد، ولهذا يستخدم كولن أحيانًا المصطلحات القِتالية في التعبير عن عمليات الجهاد المدَني وحلقاته، كما يقول مثلاً: "واليوم هذا النفير التربوي بأسمائه وعناوينه المتنوعة، وهذا الجهد المنصرف إلى الحب والتسامح والحوار، همّة مهمة في سبيل لملمة شعث المجتمع وتحريك مصادر قوته المعنوية"[26]، فاستعار مصطلح النفير من الميدان العسكري إلى الميدان التربوي.

وفي معرض توصيفه لإنسان الفكر والعمل الحركي الذي يريده، قال كولن: "إنه وليّ الحقّ اللدنّي، الذي يُعِدّ "قادة أركان" الروح ومهندسي العقل وعمّال الفكر، بدلاً عن استخدام القوّة المادية لفتح البلاد ودحر الجيوش، وينفخ بلا كلل نَفَس البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشد أعوانه إلى سبل عمران الخرائب"[27].

وهكذا، فإن لبّ هذا التيار هو الجهاد المدَني الأبيض الذي يقدم الخدمات التربوية الاجتماعية والإعلامية والاقتصادية لكل أبناء المجتمع وفْق المستطاع، ومن هنا جاءت تسمية هذه الحركة بحركة -أو تيار- "الخدمة".

ومن المعلوم أن كلّ هذه الخدمات التي يقدّمها هذا التيار للمجتمع التركي، ثم لمجتمعات العالم الإسلامي، ثم إن استطاع للمجتمعات الإنسانية عامّة، لا يمكن أن تقوم إلا على عمود التضحية وهي القاسم المشترك بين أفراد الخدمة.

ونشير إلى مثال واحد وهو التربويون في هذا التيار، فهم متوزّعون في مائة وستين دولة -كما أسلفنا- بعضها دول متخلفة جدّا، وبمرتبات عادية إن لم تكن متواضعة، مع أن أغلبهم من أصحاب الدرجات العالية في الثانوية وكان بالإمكان إدخالهم في أرقى الكلّيات والوصول بهم إلى أرمق الوظائف وأرقى المراكز، ومع ذلك ضحّوا واستمرّوا. ومثلهم التجّار، والإعلاميون، والعمّال.. ولهذا فإن كولن يُطلق على هؤلاء مصطلح "الإبْراهيميّين" لأنهم هاجروا في سبيل الدعوة كما فعل إبراهيم -عليه السلام- 29

يقول فتح الله عن أهل الخدمة والتضحية: "ونرغب دائمًا إلى إشغال مكان بين الذين يتلقّون الحرائق بصدورهم ويولّون للمنافع الذاتية أدبارهم. وبدهي أن الطبع الأخلاقي في سلوكياتنا وتحرّكاتنا موصول بهذا النمط من الشعور بالمسؤولية المغروسة عروقها عقيدة في أرواحنا"[28].

ويخاطب أتباعه في موضع آخر، داعيًا إيّاهم إلى المزيد من التضحية، فيقول بأسلوبه الأدبي الآسر للقلوب: "نحن في انتظار أن ينشقّ النهار في أمّتنا.. نعم تقيمون الليالي الطوال وتقتحمون المصاعب والعسير من الأمور، وتَعْبُرون أنهار الدماء، وتدَعون وراءكم أمثال أحُد من الجبال ثم تنعمون بفتح مكّة والنصر في واقعة "جَالْدِرَان". ثم سيموت كلّ ذلك بعد شتاء قارس، وبعد ليل بهيم، بعد اختلاج آلاف الأوجاع واجتراع آلاف الآلام. ولا جرم أن لكل ولادة مخاضًا، فالذين يريدون أن يذوقوا لذّة الولادة عليهم أن يرضوا بآلام المخاض"[29]. ولأهمّية التضحية ضمن آليات حركة فتح الله وديناميكيتها الداخلية، فإنه كثيرًا ما يحثّ أتباعه عليها، ويصفهم بأوصاف التضحية المثالية، مثل قوله عن رجل الخدمة بأنه "كالجَواد الأصيل الذي يعدو حتى يكاد أن ينشقّ صدره، أو كالنسر الذي أفرد جناحيه للطيران"، وهكذا.[30]

ولكن هل تكفي التضحية للعروج الحضاري المنشود؟ أم أنها بحاجة إلى متطلبات أخرى؟

سادسًا: العروج الحضاري بجناحَي العقل والقلب

لا شكّ أنك -عزيزي القارئ- من خلال الدعوات الإسلامية التي قرأت عنها، قد وجدت حضور العقل أو القلب في أكثرها، ولا بد أنك صادفت بعض الدعوات التي جمعت بين العقل والقلب، ولكن لا أظنّك وجدْتَ التوازن الدقيق بين الجَناحين كما هو الحال في دعوة فتح الله كولن.

صحيح أن الإسلام يقيم هذا التوازن الدقيق، ولكن في تديّن المسلمين النسبي وتفاعلهم الكسبي، كثيرًا ما يكون التعمّق في المفردات العقلية على حساب القلب والروح، وكثيرًا ما يكون التوسّع في الشؤون الروحية على حساب العقل، مع وجود فوارق نسبية بين مختلف الحركات والتيارات والشخصيات.

أما في دعوة فتح الله كولن، فإن حضور الروح فيها يُظهرها لأول وهلة كأنها حركة صوفية بحتة، حيث يتّسع الحديث عن الروح أُفُقيًّا، ويتعمّق رأسيًّا في كتاباتِ ومحاضراتِ وخطبِ ومناشطِ كولن، وهذا واضح حتى من عناوين كتبه المترجمة إلى العربية، مثل: "التلال الزمردية: نحو حياة القلب والروح"، "ونحن نقيم صرح الروح"، "القلوب الضارعة"، "أضواء قرآنية في سماء الوجدان"، "ترانيم روح وأشجان قلب".

وأما مكانة الفكر في دعوة فتح الله، فهو من القوّة بمكان، بحيث يجعلها اهتمامها بالفكر حركةً فكريّة من طراز رفيع، ولاسيما أن صاحبها قام بحرث الأرضية الثقافية للفكر الإسلامي، مستخرجًا منها نقاط القوة لتعزيزها وتجسيدها، ونقاط الضعف لتجاوزها أو تقويتها إن أمكن، وركز على الموضوعات التي يكثر فيها اللبس، ويشتد الفهم المغلوط فيها، مثل موضوع القدَر الذي ناقشه في كتاب كامل: "القدَر في ضوء الكتاب والسنّة"؛ وموضوع الجهاد الذي تحوّل إلى برميل بارود عند أعداد غير قليلة من المسلمين، بسبب سوء الفهم، حيث عالجه بطريقة راقية في كتاب رائع سمّاه: "روح الجهاد وحقيقته في الإسلام"؛ ولما كانت الداروينية هي الأرضية التي مكّنت لموجات الإلحاد التي انتشرت في أوساط شباب تركيا في العقود القليلة الماضية، فقد ألّف كتابه القيم: "حقيقة الخلق ونظريّة التطور" وناقشها نقاشا علميًّا مستفيضًا.

أما الأسئلة القلقة والموضوعات الملتبسة فقد ناقشها كولن مع تلاميذه، وجمع بعض تلاميذه خلاصة كلامه في هذه المسائل في كتاب عنوانه "أسئلة العصر المحيِّرة".

ولأهمّية القرآن في إرساء الفهم الفكري المستنير والموقف الروحي السليم، فقد ظل كولن يدارسه مع تلاميذه، ومرة أخرى جمع تلاميذه بعض ما سجّلوه في كتاب خاص اسمه "أضواء قرآنية في سماء الوجدان"؛ وفعل شيئًا من هذا القبيل في كتابه الآخر "طرُق الإرشاد في الفكر والحياة"، وقريب منه كتاب "الموازين أو أضواء على الطريق".

وفي كل هذه الكتب، وفي كل المقالات والخطب والمحاضرات، نجِد الدمج الكامل بين الروح والعقل، بين الأفكار والمشاعر، بتوازن دقيق أثبت نجاعته وفاعليته، فالعقل يوضح الطريق والقلب يوفر الزاد للمسير، وكلاهما يؤدّي إلى العروج في سماء الرقي الحضاري بفاعلية مشهودة.

ونتيجة تخوف كولن من حدوث اختلال في مقادير العقل والقلب، وما ينتج عن ذلك من تداعيات، فإنه يلحّ على الدمج بين الأمرين، بحيث يجعلهما وجهين لعمْلة واحدة، بل يجعلهما جناحَين لبُراق الرقي الحضاري، ولو قرأنا كتابه "الموازين أو أضواء على الطريق"، لوجدنا مثل هذا التأكيد في عشرات المواضع.[31]

وهكذا، نجح كولن في إيجاد ميزان دقيق لحركته بين العقل والقلب، بين المعرفة والعرفان، فتشكّل لهذه الحركة جناحان طارت بهما إلى آفاق العلو، وهي ما تزال تصعد بقوّة، متجاوزة العديد من الحركات التي سبقتها بسنوات طائلة. والسر الجوهري هو التوازن في كل شيء، بما في ذلك الأزمنة الثلاثة.

سابعًا: التوازن بين الأزمنة الثلاثة

من أهمّ سمات التجديد في حركة الخدمة التي أرسى دعائمها فتح الله كولن، التوازن بين الكثير من الدوائر الثنائية، كالتوازن بين الدنيا والآخرة، والتوازن بين المادة والروح، وكذلك بين المثالية والواقعية، وبين السببية والتوكل.

وفي هذه السمة التجديدية سنفرد الحديث عن التوازن بين الأزمنة الثلاثة في أفكار وأفعال هذه الحركة، فهي حركة سلَفية من حيث المناهج (الزمن الماضي)، وحركة عصرية (الحاضر) من حيث البرامج؛ سلَفية في الثوابت وعصرية في المتغيرات، تستظلّ تحت "راية" السلَف، وتستنير بـ"آراء" الخلَف، تعتزّ بالانتماء إلى الآباء وتنفتح على الغرباء لتستفيد وتفيد، لتأخذ وتعطي؛ تحسن قراءة الماضي، وتبني الحاضر، وتخطّط للمستقبل... وبالجملة فهي حركة سلَفية حداثية في آن واحد، استطاعت أن تمسك بأزِمّة الأزمنة الثلاثة في آن واحد، وبتوازن عجيب.

يقول فتح الله كولن: "نعم، نحن نجلب عناصر حياة الغد من ماضينا، فإن استطعنا أن نَعْجِنها في معاجن ثقافتنا الذاتية بنور الدين وضوء العلم، نكون قد جهّزنا خميرة أبَديّتنا"[32]. هذا المزج بين الأزمنة بمقادير دقيقة هو الذي نجّى هذه الحركة من الاغتراب التاريخي (التقليد) أو الاغتراب الجغرافي (التغريب)، وأعطاها خميرة الأبدية؛ لانغراسها في الحاضر واعتزازها بالماضي وسعْيها نحو المستقبل.

ويضيف كولن: "إن تماسك أجيال الغد وقوامها وسعادتها، حاصل من حواصل الأرواح والأنفس المضحّية هذا اليوم. وإن انتظار مستقبل متكامل ومنظّم من ركام البشَر الضجر الشريد السادر في الراحة والرخاوة، ليس إلا مَحْضَ وَهْمٍ وسلوان كاذب. المستقبل يتطوّر إلى براعم في رحم اليوم، ويربو برضاع اليوم، ليتماسك قوامُه. وكما يحمل وجودنا اليوم سمات أمسنا، بخيرها وشرّها، كذلك يكون الغد نسخة من اليوم بصورتها المطوّرة والموسعة، والمتحوّلة من الفردية إلى الاجتماعية"[33].

ولهذا يبدو لنا أن هذه الحركة تسير وفق خطة حكيمة مدروسة، وقد وصف كولن "الأجيال المثالية" بأن أفرادها: "ينشغلون بحساب الغد، ويجدون في حناجرهم غصص نقل الأيام الحاضرة إلى الأيام القابلة.. يبتلعون حسابات هذا النقل غصة بعد غصة، لأن حل عقدة المعضلة مرتبط بتجاوز الزمن الحاضر، بل بالتحرر من قيود الزمان.. إلى درجة النظر إلى الماضي والحاضر والقابل، والقدرة على تحليله وتقويمه، بالصفاء والنقاء نفسه. هذا الفكر الرحيب الذي يعني احتضان الغد منذ الآن، وفهم محتوى المستقبل روحًا ومعنى، سَمِّهِ إن شئت "مثالية"[34].

والمؤمن الحق، كما يرى كولن، لا يجوز أن يقع في التشاؤم، بسبب قلّة الإمكانيات لديه، وعليه أن يكون حكيمًا في استعمالها استعمالاً دقيقًا: "أي يقوم بـ"ضرب عصفورين بحجر واحد" كما يقال في المثل الدارج! أجل على المسلم أن يخطط على الدوام ويبرمج كيف يضرب بحجر واحد مئات العصافير، مثلما نرى في العديد من الإجراءات الربّانية". فكما نحصل من بذرة واحدة نبذرها في الحقل على سبع، أو سبعين أو سبعمائة من البذور، علينا أن نخطط في كل خدمة نريد تحقيقها في سبيل الإيمان وفي سبيل الملّة للحصول على سبع، أو سبعين أو سبعمائة ضعف"[35]. وإضافة إلى ذلك فإن التخطيط يجعل الكائن فاعلاً لا منفعلاً، يتحرك بإرادته لا كردّ فعل على تحركات الآخرين.[36] وقد وصف كولن تدقيق أصحاب الخدمة -أو ما ينبغي أن يكون- بأنه الذي "يشطر الشعرة أربعين شطرا"[37].

وبفضل هذا التوازن بين الأزمنة الثلاثة، فإن تيّار الخدمة أجاد قراءة الماضي دون عودة إليه، وأجاد عمارة الحاضر دون غرقٍ فيه، وأجاد استشراف المستقبل دون أن يصاب بالرُّهاب، وهكذا بين استقراء الماضي واستشراف المستقبل تمتدّ جسور الحاضر التي أجاد كولن بناءها بعقله المستنير وقلبه الرحيم ودمعه الغزير وكلماته القوية.

ثامنًا: الوحدوية والحسّ الأخوي

من يقرأ فكر فتح الله كولن يُحسّ بحَدْبِه نحو المسلمين بل نحو الإنسانية جمعاء، فهو يعتبر جميع المسلمين إخوة في الدين، وينظر إلى جميع البشر بأنهم إخوةٌ في الإنسانية، إذ ينتمي الجميع إلى آدم وحواء، ومن هنا تأتي سمة الوحدوية في فكره وبروز الحسّ الأخويّ والجمعي في مناشطه وممارسات تيار الخدمة الذي يجسد فكره على الواقع.

إنه رجل جمَع الله شمله فانعكس ذلك على فكره الموحد، ولذلك جاءت حركة موحدة حتى ولو لم تكن حركة منظّمة كالتنظيمات المعروفة في هذا العصر، إذ حث تلاميذه على التوحد مع بقاء التنوّع، وعلى التحابب مع بقاء التعدد، بحيث تكون آراؤهم تحت راية الوحدة، وبرامجهم وفق منهج واحد.

ففي تنظيره للخطوات التي يجب أن يسلكها وارثو الأرض جعل الخطوة السادسة: التنظيم، إذ أن طبيعة التحدّيات التي تواجه الفكر الإسلامي في هذا العصر، تُحتم وجود تيار موحد مع اجتماع أصحاب التخصصات فيه، يقول كولن: "ولن يقتدر على ذلك في هذا الزمان إلا جماعة تتحمّل دعوة مشبعة بالدهاء. وفي الواقع كانت هذه الأمور العظام تمثل في أفراد دهاة في الماضي. لكن كل شيء اليوم توسع في التفريقات توسعًا يعجز الفرد الفريد عن حمل العبء، فحلّت الشخصية المعنوية والتشاور والشعور الجمعي محلّ الدهاء"[38].

لكن الوصول إلى هذه الدرجة من الشعور الجمعي لا يحتاج بالضرورة إلى تنظيم وتحزب، بل إلى تآلف القلوب، وظهور الاستعداد عند الكل لقبول الجميع، ولذلك يقول: "فالطريق الوحيد للتحول من الفردية إلى الجماعة، ومن قطرة إلى بحر، وبلوغ الخلود بهذه الوسيلة، هذا الفناء والذوَبان في الآخرين، والاندماج بهم بالانصهار فيهم، من أجل إحيائهم والحياة معهم"[39]. وأكّد كولن على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنه حث على وجوب إقامة مؤسسات منظمة للقيام بهذا الدور، محذّرًا من أن الله سيجعل المجتمع الذي لا يقوم بذلك عاليه سافله، وأن أي أمة لا تقوم بهذا الأمر إلى زوال ولا يمكن أن يدوم لها البقاء.[40]

وفي طريق إنشاء الحس الجمعي، حذّر كولن من ادّعاء أي أحد امتلاكه الحقيقة المطلقة، حيث قال: "الاحتكار الفكري وادعاء صاحبه بأن الحق دائمًا معه، ليس إلا تعبيرًا عن عبادة الوسيلة وإشارة إلى غياب الهدف. وإلا كيف يمكن تفسير مشاعر الحقد والنفور والكراهية عند بعضهم نحو أناس يشاركونهم العقيدة والمبادئ نفسها؟!"[41].

ولفت الأنظار إلى العلل النفسية التي تجعل المرء يعجز عن رؤية الهدف، ومن ثم يندفع لادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتسفيه الآخرين، كالكبرياء وتجاوز الحد والخطأ في زاوية النظر، وتزكية الذات، والانصراف بطاقات النقد كلها إلى الخارج دون عالمه الداخلي.[42]

ولا يمكن أن يتم الوصول إلى هذا الهدف، ما لم تتسيد قيم الرحمة والتسامح وثقافة الإعذار بين المؤمنين، أي أن يصير المؤمنون أذلة لبعضهم، بحيث "لا يقابل الشتم منهم إلا بالسكوت، ولا يقابل عدوانهم إلا بالصبر، أي يضع رأسه تحت أقدام المؤمنين"[43]، ويرى أن الارتباط، وبروز هذه الصفات، والتحلي بهذه الأخلاق، هو الذي سيجعل الجماعات الإسلامية تتّحد كأعضاء في جسم واحد.[44]

وفي دأبه المستمر من أجل خلع الفُرقة ومحاصرة الحروب بين البشر، وتجسيد رحمة الإسلام، فإن كولن ما فتئ يدعو إلى نشر المحبة والشفقة: "إن إنساننا في هذا الوقت أحوج ما يكون إلى المحبّة والشفقة والكلام الطيب والصوت الأَنوس الحنون، بدلاً عن القسوة والعنف والضرب والقتل. فالمنتظر منّا اليوم خفض جناح الرحمة والشفقة على الجميع حتى نسمع أنّاتهم في قلوبنا، ونستشعر قلَقهم واضطرابهم في نفوسنا، فنشاركهم في الأفراح والأتراح... ومتى ما تحقق هذا، فقد تحقق إذًا عمل مهمّ تنتظره الإنسانية"[45].

ويعتبر كولن أن المؤمنين فدائيّو محبّة، وهم: "الذين نذروا أنفسهم لتحبيب الله إلى الإنسانية جميعًا. لا همَّ لهم إلاّ إيجاد سبل تحبيب الله للناس وتمهيد طرق الوصول إلى الحياة الخالدة"[46]. وما فتئ يحبب إلى تلاميذه قيم الشفقة والرحمة والهوادة واللين، جاهدًا لفتح قلوبهم لها، وإقناع عقولهم بها، حتى يقول: "وفي الحقيقة ليس أمام الشفقة والرحمة باب مسدود لا يمكن فتحه. فجبال الثلج التي لا تذوب بالشفقة والرحمة لا يُذوِّبُها شيء قطعًا. لذا إن كنتم تريدون ربط الناس بعضهم ببعض بمحبة دافئة، عليكم أن تطووهم تحت جناح الرحمة والشفقة أولاً"[47].

والحقيقة أن هذا المنهج قد أخضعه كولن للتطبيق، وأثبت نجاعته الأكيدة، فقد أوصدت العلمانية المتطرّفة في تركيا كل الأبواب أمام الإسلام، لكن بالحكمة والشفقة والمداومة، استطاع "فتح الله" فتح الكثير من هذه الأبواب بتنظيراته الحكيمة وتطبيقات تلاميذه السديدة.

ومن أجل تحقيق هذه الغاية اهتم كولن بإبراز مكانة الآخر في الفكر الإسلامي وفي فكر حركة الخدمة، واهتم بالجوانب ذات الصلة بإشاعة الحوار، واحترام آدابه، وإتقان فقه الحوار والاختلاف.[48]

هذه أبرز سمات التجديد في فكر فتح الله كولن وممارسات حركة الخدمة. وهناك سمات أخرى لا تسمح طبيعة الكتاب بالإتيان بها، وهي: الذاتية والاستقلال،الدائرة العالمية والتشبع بالأخلاق والقيم الإنسانية، التحرك في كل الدوائر، ابتداءً بالدائرة الوطنية (تركيا) ثم الدائرة القومية (بلدان الأتراك وسط آسيا) مرورًا بالدائرة الإسلامية "العالم الإسلامي" وصولاً إلى الدائرة الإنسانية الرحيبة (العالم أجمع).

ولما كانت أكبر أمّة في الأرض وأقواها بل وأقربها إلى الإسلام والمسلمين هي الأمة المسيحيّة، فقد ركّز عليها كولن، إذ أقام عدة مراكز لحوار الأديان والحضارات، وأقيمت عدة مؤتمرات للحوار بين العالمين الإسلامي والمسيحي، بل قام فتح الله كولن نفسه بزيارة بابا المسيحيين في الفاتيكان، وناقش معه الكثير من القضايا التي تهم العالمين الإسلامي والمسيحي.

 


[1]     أورد هذه الأسماء، د. فريد الأنصاري في كتابه الروائي: عودة الفرسان، ص:193.

[2]     انظر شرح هذه الآية في كتابه: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، ص:145-150.

[3]     فتح الله كولن: جذوره الفكرة واستشرافاته الحضارية، محمد أنَس أركنه، ص:326.

[4]     ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:27.

[5]     التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن، 1/112.

[6]     التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن، 1/113.

[7]     التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، فتح الله كولن، 1/114.

[8]     أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:222.

[9]     انظر: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:14-19.

[10]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:29.

[11]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:24.

[12]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:26.

[13]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:61-63.

[14]    انظر مثلاً: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:24، 25؛ أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:108؛ الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:158، 212، 215.

[15]    انظر: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص: 68، 115، 116.

[16]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:177.

[17]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:22.

[18]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:94.

[19]    الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:20.

[20]    فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنه، ص:111.

[21]    انظر مثلاً: فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنه، ص:103، 292.

[22]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:118 (بتصرف يسير).

[23]    روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، ص:21.

[24]    روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، ص:84.

[25]    روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، ص:94.

[26]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:122.

[27]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:72.

[28]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:97.

[29]    روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن، ص:88.

[30]    بتصرف كبير عن: فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أركنه، ص:338.

[31]    انظر: الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:71، 80، 99، 100، 115، 126، 128، 158، 169، 195، 198، 204، 209.

[32]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:148.

[33]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:133.

[34]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:126، 127.

[35]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:254، 255.

[36]    انظر مثلاً: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:65.

[37]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:124.

 

[38]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:48.

[39]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:98.

[40]    انظر: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، ص:69.

[41]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:29.

 [42]    انظر مثلاً: أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:131؛ الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:81، 82.

 [43]    أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:148.

 [44]    انظر: طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:109.

 [45]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:30.

[46]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:32.

[47]    طرق الإرشاد في الفكر والحياة، فتح الله كولن، ص:159.

 [48]    انظر مثلاً: فتح الله كولن: جذوره الفكرية واستشرافاته الحضارية، محمد أنس أَرْكَنَه، ص:42-45، 54، 240، 241، 247.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.