عودة الغريب

«بدأ الإسلام غريبًا
وسيعود غريبًا كما بدأ،
فطُوبَى للغُرباء..!»[1]

آتٍ أَنَا يا صُراخَ الإنسان المتوجع من أعماق هاوية الظلام؛ قادمٌ أَنا يا أَنَّاتِ الروح الإنساني المحترق بأَتون العذاب؛ مُقْبِلٌ أنا يا عويلَ النَّفسِ المصلوبة على أعمدة الأسى، والمعلقة على أعواد شجر هذا الخريف الحضاري الرهيب؛ عائِدٌ أَنا يا نزيف الجرح المفتوح في ضمير الإنسان على أشواك الشك والحيرة والقلق؛ مُتَسَاكِب أَنَا -كأنداء الفجر- على صحارى النفوس، وظمأ الأرواح يا لهاث الإنسانية الراكضة وراء مفاوز السراب والضياع!

لقد استفزّني صُرَاخُكُمْ -يا أبناء الأرض- واستثارَ هُتافكمُ الحار اللهيف مكامِنَ الشوق إليكم في مطاوي نفسي؛ وآلمني نضوبُ النُّورِ في أرواحكم، وجفافُ الينبوع في قلوبكم؛ وأحزنني ما اجتَاحَ نُفوسكم من نوازل، وما عصفَ في جَنَباتِها مِنْ عاصفاتٍ كاسحاتٍ اجتَثَّتْ بِقَسوَةٍ أَصالَة الإنسان فيكم، وَخَنَقَتْ بوحشية صوت الفطرة في أعماقكم، وَعَطَّلَتْ بِغَدرٍ مِشْكَاة الإيمان في قلوبكم... فَسَادَ الظلامُ، وانْسَرَبَ مَوْجُه الحالِكُ إلى أغوار النفوس؛ فإِذا الإنسان ضائعٌ في مجاهل نفسه، تَائِهٌ في صحَارى قلبه، ضَالٌّ في ليلِ روحه؛ يتعالى صوتُ حزنه، ويرتفع أنين وجدانه، وتمتدُّ يَدُ يَأْسِهِ تقرعُ كل باب، وتَنْقُرُ كُلَّ نافذةٍ بِعَطَشٍ شديدٍ إلى قَطْرَةٍ من نورٍ، وغرفة من ينابيع الضياء.

فَهَا أنَاذا -يا إنسانَ الضياع- تَهُزُّني آلامُكَ، وتشجيني أحزانك، ويحركُ صُرَاخُكَ الأليم عقْرَبَي ساعتي، ليقتربَ زمني ويُطِلَّ يومي. أنا إنسان القرآن والإيمان، أعود إليكم يا إخوةَ إِنسانيتي بعد أنْ أَنْضَجَت المِحَنُ ذاتي، وأصلبتْ صروف الأيام عُودي، وتركتْ الأحداثُ الضخام في نفسي وروحي جراحاتٍ ظلَّتْ تروي جنبات أرضكم من دمي، وتسقي ثراكم بعصارات قلبي النَّازف... فيا روعة القلب المثخن بجروحه كيف يسمو على عمود من أَنوار دمائه ليزرع الفرحَ في كلِّ قلب؛ ويا عظمة الروح المُخَضَّبِ بالنجيع كيف يتعالى على سُلَّمٍ من وَهَجِ آلامِهِ ليمسحَ أوجاعَ الحزانَى، ويواسي آلام البائسين والحَيَارى.

خائفون أنتم مني يا أشقَّاءَ روحي... صادُّونَ أنتمْ عني يا إخوةَ فؤادي... ولكنَّ شوقي إليكم يتدفق هُتَافًا حَارًا: "أنا ينبوع النور يا كُلَّ المظلمين، أنا نهر الضياء يا كُلَّ الظامئين، أنا أَنداء الفجر يا زهرات البشرية المُصوِّحَة، أنا سماء الشروق يا ليل الإنسان المحتضر، أَنا أقباس الحقيقة النيِّرة يا ركام الأباطيل، أنا ربيع الإيمان يا أشتاء الحضارات، أنا أصداء القرآن يا أَصِمَّاء."

غريب أنا بينكم يا أبناء أُمِّي؛ إنسانٌ، يلفني الغموض في زعمكم، ويلفعني الضباب في ظَنِّكُم، أُسطورة كبرى تملأ خيالكم، وترهبُ أحلامكم. صوتي غريبٌ بينكم لأنه ليس كما تعوّدتم سماعه من أصوات، نبرة صوتي مبرأة من كل مَسْخٍ وزيف، حتى لكأَنَّ الحياة بكل أصالتها وعمقها وقداستها هي التي تهتف بلساني، وتتحدَّرُ من بين شفتيَّ شلاّلَ نشيد علويّ يغسل القلوب من أدرانها، ويطهّر الأرواح من أوصابها. وفي صوتي إرعادٌ كإِرعاد قلب السماء المشحون بالأضواء في طيَّات الغيوم، وفيه إِبراقٌ كألسنة الوميض المندلعة على حواشي الليل المحلَولك السواد.

إِني أَتلألأُ -يا إخوتي- بنور الله، إني أحترق باللهب الأنوس الذي تُفَجِّرُهُ كُلُّ كلمة تتوهج على شغاف قلبي من كَلِمِ الله.. أَنَا عبد الله؛ تَوَقَّلْتُ قِمَمَ الحكمة بقلبي الجريح المتعب، وارتقيتُ بجناحيَّ الكسيرَين سلالم المعرفة، وتسلقتُ بدمي النازف خيوط الشمس المعلقة بقلب السماء، ودخلت كهف الضياء كهف الغربة الروحية والربيع الإلهي الضحيان، بحرقة قاتلة، وبظمأٍ مميت؛ لأنهلَ من منابع القرآن، وأترشّف من جداول ضيائه، وأَعُبّ من عيون أنواره، ثمَّ أنحدر بذاتٍ متوحّدةٍ لا تعرف الانقسام، وبنفسٍ يُظِلُّها سلامُ الله فلا تعرف الاحتراب، وبكيانٍ متساوق لا يعرف النشاز؛ لكي أضعَ يدي على نبض العالم المريض، وأسكبَ في قلبه بروق الوحي، وأصُبَّ في روحه المدنف إرعادَ القرآن؛ لينتفض العالم من غفلته، وتصحوَ البشريةُ من أوهامها على جلجلة صوتي الذي لن يصمت بعد اليوم؛ لأنَّ في صمته موتًا للحقيقة في قلبي، وموتًا لقلبي الذي تقتله الحقيقة المحبوسة بين جدرانه.

ومع هدأة الصفاء في صوتي، ومع موج النُّور المتساكب من أغوار كُلِّ كلمة يطلقها لساني، ومع الحرف الذي يتحدّر إلى سماء القلب المظلم ليتألق فيه كنجمة الصباح، مع صوت الصدق والأصالة والعمق، يرتفع صوت ألف "مسَيلمة" من أنبيائكم الكذَبة هاتفًا في جموعكم الحَيْرى: "طارِدوا الغريب.. أبعدوه.. ارجموا هذا الطارئ على عالمنا بالحجارة.. املأوا فمه ترابًا.. وحَصِّنوا أبواب قلوبكم دون كلامه.. وسُدُّوا منافذ نفوسكم بصفائح الظلام.. وامْلأوا مساربَ أرواحكم أمامه بمذاب الليل من أوهامكم.. واحذروا من أَنْ تقع كرة أرضكم -مرة أخرى- بين ذراعيه، فيلهب أشواقها الخامدة إلى السماء من جديد..."

أعيروني أسماعكم أيها المتشوّقون لصواعق الحق المحرقة.. فأنا سماء الحق التي تمطر أرض أباطيلكم بجمراتها، وتلهب غابات أوهامكم بحرائق من شفق أصباحها.

انتبِهوا..! فإِنَّ الروح الذي يخاطب أرواحكم مرصود للهَيمَنة على الروح الإنساني العام، ليعيد إليه نضارته، ويَسْتَنبتَ فيه من جديد شجرة الشوق إلى الله، وليرتفع بهذا الروح إلى القِمَم الشاهقة من الوعي المتفتح على عوالم الإنسان العميقة الشاسعة أو على آفاق الفكر الكوني الملتهب بشمس محبّته لله ربِّ العالمين.

أنْصِتوا جيدًا -يا بني أُمِّي- فإِنني أنشر على الأرض فجر حضارة جديدة تصحّح النفس الإنسانية؛ وتضيء ما أظلَم من معاني الحياة؛ وتصل بشريانٍ نورانيّ بين نبض العالم ونبضات الوحي؛ وتسكب في قلب الأرض المتحجر القاسي دفقًا رحيمًا من خفقان قلب سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) الأمين على أصالة الحياة وكرامة الإنسان.

[1] مسلم، كتاب الإيمان 208؛ الترمذي، كتاب الإيمان 25-53.