الفاتح يعود من جديد

[1]

عُدْتَ يا سيّدي عُدْتَ،

أَعْلَمُ أَنَّكَ عُدْتَ...

مَا مُتَّ قَطُّ وَمَا مُتْنَا،

نَحنُ أُمَّةُ الخلود،

فَرْضٌ علينا أَلاَّ نموت...

قَدَرُنَا أَلاَّ نموت،

حتَّى لَوْ أَرَدْنا أَنْ نموت،

شيءٌ فينا يَمْنَعُنَا مِنْ أَنْ نموت،

حَتَّى لو جئنا القبورَ لكي نموت...

إِنَّهُ القرآن...

مَا مَاتَتْ أُمَّةُ القرآن،

ولن تموت..!

[2]

لا بُدَّ أَنَّكَ عُدْتَ... يقينًا أَنَّكَ قَدِمْتَ... عَبَقُ ربيعكَ يضوع في ثنايا "إسطنبول"، وصهيل فرسك يهدرُ على أمواج الأثير... ها هو يَخُبُّ بكَ في جنبات إسطنبول... تجوب الآفاق وَتَمُرُّ في كلِّ سوقٍ، وشارعٍ وزقاق... لاهثًا لاهفًا تدلف إلى كُلِّ مكان... تفتّش عن بعض نفسك بين النفوس... عن بقايا ذاتك بين الذوات... عن شطر روحك بين الأرواح... وعن صِنو قلبك الباسل بين القلوب...

[3]

وبعدَ لَأْيٍ تلتقيه... في سنان قلم... وبوارق ذهن... وشرارات فكر... وعظمة روح... وعبقرية قلب...

إِنَّهُ الابنُ والحفيد "فتح الله كولن"... رجل القلم الذي يَنُثُّ قَلَمُهُ روحًا قويًّا هو بعضٌ من قوى روحك... وينشر عزيمةً هي بعضٌ من خوارق عزائمك... في دمه اشتعال دمك... وفي روحه لهبٌ من لهيب روحك... وفي قلبه كُلُّ أشواق قلبك إلى الفتح العظيم في الأرض والنَّفْسِ والحياة!...

[4]

هواتفُ الغيبِ هي التي سَاقَتْكَ إلى "القسطنطينية"... روح أبي أيوب الأنصاري من فوق أسوارها العتيقة هي التي كانت تناديك وتتعَجَّلُ قُدُومَكَ...

والهواتف نفسها هي التي تقود خُطى هذا الرجل اليوم... فيجوب آفاقَ النفوس... ويَخُبُّ قلمه العتيد بين القلوب والأرواح... إنَّهُ يَتَسَاقطُ رذاذًا بَرُودًا على ظمأ كُلِّ روح... وَيَتَنَزَّلُ أَنداءً على جَدب كُلِّ قلب...

[5]

الأنين المتكسر من أعماق أُمَّةٍ تنازع الموت صَكَّ أُذُنَ روحه، وانغرز كنَصْلِ خنجرٍ عميقًا في شغاف قلبه، فخرج على قومه من محراب روحه باندلاع النيران في جلجلة رعود فكره، مُنَاديًا: "إِنَّ آخِرَ الدواء ليس بالكي بالنَّار، بل هو بالحُنُوِّ العظيم والرحمة السابغة، والمشاعر الثَّرَّة التي لو اعتصرت فوق الصخر الجلمود لبعثت فيه رجفة الانتفاض من العدم... ها أنذا أشتري بهذا العشق كُلَّ آلام أُمَّتِي، تاركًا نفسي بين مطرقة الزمان، وسِندان الأعداء على أن ينهض روح الأمة المنسحق سالمًا معافًى...

[6]

أَعْلَمُ أَنَّ ثَقافة "النّابِ والمِخْلَبِ" لها القِدْحُ الْمُعَلَّى في عالَمِ اليوم، غير أَنَّني سأبرهن للدنيا بأننا نملك -مع أخلاقيات الرجولة- جُرْأَةً نستطيع أَنْ نَتَقَحّمَ بها كُلَّ وَيلاتِ المفزع المرعب من الموج المتلاطم ببسالة لا تعرف النكوص من أجل أنْ يبقى البحرُ رَهْوًا أمامَ إِبْحَارِ سفينتنا نحو مجاهيل المحيطات النائية المنيعة فوق كرة هذه الأرض.

[7]

وعلى الرغم من أنَّ الشيخ فتح الله يبدو للوهلة الأولى وكأنه رجل قلب وروح فحسب، غير أن القليل من الإمعان في كتاباته ستتكشف عن رجل يمتلك حسًّا حضاريًّا، وعقلاً منظمًا، ينبئُ عن معالم مشروع حضاري يتبدى واضحا في تشكيلات فكره، من خلال كتاباته الكثيرة... إنّه بحقٍّ داعية انبعاث حضاري ينبثق من ذاتية الأمة المنطوية على بذرة هذا الانبعاث، إذا ما وجدت منْ يتعهدها ويَمُدُّها بأسباب النَّمَاء لتنشقَّ عن الإنسان الحضاري الموعود، إنه لا يكره شيئًا كراهيته لضحالة الفكر وتسطحه، ولم يكن يومًا ضِدَّ العقلانية الحضارية، ولكنه ضدَّ أن تبقى هذه العقلانية أسيرة عقلانيتها فلا تحاول الارتقاءَ فوقها لترى أبعادًا أخرى مديدة الأمداء حيث العقل الأبدي الذي كل عقل دونه إنما هو قبسة ضئيلة من قبسات نوره.

[8]

والشيخ فتح الله هو الفاتح نفسه ولكنه بِإِهابٍ جديد، إنه يحمل بين جنبيه بسالة قلبه، وقوة روحه، وصلابة إرادته، وجسارة فؤاده... سيفه قلمه، ورمحه الثاقب ذهنه الخارق، والوجدان البشري هو ساحة فتوحاته.. إنه يكتب ليرسي قواعد التثقيف الذاتي للمسلم المعاصر، مع التنويه بخصائص الانبعاث الحضاري لهذه الأمة التي كادت تفقد جزءًا كبيرًا من هويتها القرآنية. إنه بلا شك داعية العودة إلى "الذات" ليس من أجل الانكفاء عليها، والغياب فيها، بل من أجل إنهاضها من حالة الركود المملّ الذي طال أمده.. إنه يجعل من قلمه مشرطًا ليجري عملية فصد للدم الفاسد الراكد في شرايين الأمة، لكي يتجدد دمها، وتعود إليها عافيتها، فتبدأ عملية التجديد والبناء الحضاري مرةً أخرى، وما ذلك على الله تعالى بعزيز.