رسالة إلى صديق الفكر والروح الأستاذ فتح الله كولن

بسم الله الرحمن الرحيم

[1]

يا صديق الفكر، وشقيق الروح والوجدان...!

سلام من الله عليك ورحمة منه وبركات، وأقرَّ الله عينك بأحبابك مِمَّن قرأَ لك أو استمع إليك...!

وبعد:

ما كان ليستهويني من الرجال في هذه الدنيا، إلاَّ ذوي الأفكار العالية، والنفوس الصافية، والأرواح السامية.. فهم الينبوع والمعين الذي تنهل منه روح البشرية إذا ما جفَّتْ وعطشتْ، وهم النور الذي يقبس منه عقلها إذا ما ضَلَّ وأظلم.

عَرَفْتُكَ من قريب، وأُتيح لي أنْ أقرأَ روحك، وأستجلي قلبك، وأستشرف فكرك فيما تُرْجِمَ منْ كتبك إلى العربية، فأيقنت أنك بمداد الروح تكتب، وبدم القلب تخُطُّ بيمينك. فقلَمك يَنُثُّ نُورًا، ويمتح من نور، للقلب والعقل على حدٍّ سواء. أصغيتُ مليًّا لـ"ترانيم روحك وأشجان قلبك"(1) يا رجل الألم العظيم، ألم عظماء الروح حين يَمُضُّهُمْ عجز الآخرين عن فهمهم، وأسى رجال الفكر الذين يؤلمهم ألاَّ تجد أفكارهم مكانًا في بعض الرؤوس.. ولمستُ "صرح الروح"(2) وأنت تبْنيه بصبْر وجلد من حنايا روحك، ومن شطر فؤادك، وهو يزداد علوًّا وشموخًا يومًا من بعد يوم.

ومضيتُ معك أتابع خطاك وأنت ماضٍ إلى "النور النبوي الخالد"(3)، فإذا بك تترشف رشفات من هذا النور، وإذا بماء الحياة النبوية يسري في كيانك كله، ويسقي منك الشغاف، وإذا بمشاعرك تتماوج وتتمازج لتكون شعورًا واحدًا، هو شعور المحب الوامق لمحمدٍ الحبيب، حتى لكأنك وهِبْتَ حياة جديدة وَوُضِعَ في صدرك قلب جديد ليس لغير محمد (صلى الله عليه وسلم) مكان فيه، وإذا بك تتعلم منه ومن سيرته صلوات الله وسلامه عليه ما تواجه به محن الزمان، وخطوب الأيام.

[2]

لقد أودع مُصَرّفُ الأقدار نَفْسَكَ -أيها الصديق- مَنَارَ هدى يمور بأضواء الأمل والرجاء، وهاهما يشعان من بين كلمات ما كتبتَ وسَطَّرْتَ، فما من أحد يستطيع أن يخفي حقيقة روحه، وما تمور به من أفكار.. وقد آن للمسلمين -كما ترى- أن يولدوا من جديد، وأن يخرجوا من أحشاء اليأس القاتل، قاصدين شاطئ الأمل، عرايا من كل لبوس إلا لبوس الحق والإيمان بالآتي من الأيام.

فما طوتْه السنون من أمجاد هذا الدين لا يقوى على بعثها من جديد إلاّ أصحاب التمكين الإيماني، الذين يحشدون طاقاتهم كلها لتفجير نهر الزمن، والأخذ بزمام مجراه نحو مَوَاتِ تاريخنا، ليبعثوا فيه الحياة من جديد.

[3]

والحياة لا تمنح نفسها بكل خصبها وعنفوانها إلاّ لأصحاب القلوب الذكية، والعقول الواعية، الذين يأبون أن يمضوا مع قوافل الوجود في طريق الرحيل قبل أن يتركوا بصمات سجودهم على أجنحة الليالي.. أما أخدان المخادع، وسُكَارى الفُرُشِ، فأولئك أثقل من الجبال على ظهر الأرض، وأشد كربًا وحزنًا لأهل السماء، ولأهل الإيمان على هذه الأرض، إنهم العار الذي تخجل منه البشرية وتتمنى لو لم يكونوا من أبنائها.

[4]

إنَّ شيئًا ما يتوهج في قلبك -يا سيدي- ويكاد يعصره مرارة وألمًا، لهذا الذي تراه من ترديات لروح الإنسان صنيع الله تعالى، ولكونه صنيع الله فلم يخامرك اليأس منه أبدًا مهما كان شأنه وشأن تردّيه، لذلك لا تني تبحث تحت قمامات روحه عن سره المخفي وعن كنـز جوهره الإنساني الإيماني.. إنك تؤكد -من خلال كتاباتك- أنَّ نجمًا هاديًا لا يغيب في قبة سماء الروح، يمكن أن تجلوه من جديد واضحًا متألقًا من بين ما يغشاه من سواد الآثام، ومن ضباب الضلالات... وهذه هي رسالتك التي نذرتَ نفسك لها أيها الأخ الحبيب.

[5]

منذ زمن بعيد وأنا جائع ومتعطش لرجل مثلك -يا سيدي- ولمثل أفكارك النيّرة ذات الأبعاد الحضارية. وسُلَّمُ الارتقاء الذي نحاول صعوده هو السلم نفسه الذي تركتَه بين أيدينا لكي نجرب الصعود مثلك من خلال درجاته، ولكنَّ الوهن الذي أصاب أرواحنا، والعجز الذي شلَّ إراداتنا هو ما نحاول جاهدين أن نغالبه ونغلبه لتُواتينا العزيمة في ارتقاء بعض درجات سلّمك. شربنا من نبع روحك ولم نزل ظامئين، وأتينا أبواب قلبك ولكننا لم ندلف إلى الشغاف منه بعْدُ، ولا زال البعض مِنَّا ينشد أجوبةً لما يتردد في أنفسهم من "أسئلة محيرة"(4) قبل أن يُقبلوا عليك سالمي الصدور، مطمئنّي العقول.

[6]

إنه ما من شيءٍ يستطيع أن يهزَّ هذه الأمة ويوقظها من غفلتها، وينفذ إلى أعماقها ليحرك سواكن ذاتها، مثل الصرخات المؤمنة التي يطلقها المخلصون من رجالها..! فما أكثر ما حَذَّرْتَ في كتبك من أولئك الدخلاء الذين ما فتئوا يعيثون فسادًا في إيمان الأمة، وتخريبًا في عقلها.. وهمهم أن يقطعوا تلك الخيوط النورانية التي تصلها بعوالم الغيب، حيث تتلاقى تخوم الأرواح، وتتجاور أوطان النفوس المطمئنة السامية، التي ترى في الأبدية مطافها الأخير.

[7]

إني طامع بكرم أخلاقكم وبسعة صدركم لكي تتجاوزوا عن جرأتي في الكتابة إليكم -يا أستاذ فكرنا- وما ذلك إلا استجابة لدافع خفي غامض لا أعرف سببه.. ولكني أحسب أن الدافع إلى ذلك إنما هو استغراقي في أفكاركم ومشاعركم التي ملكت عليَّ نفسي، وأصبحت هاجسي في نهاري وليلي وعند نومي.. ولا أكتمكم فقد وجدت فيها رافدًا عظيمًا يرفد أفكارنا، ويخصب خيالنا، وإني لأتخيل شبابنا الغض وهم يهوون مندفعين من علٍ إلى هدف مجهول ومخيف، وإذا بك تقف إزاءهم عملاقًا بإيمانك وبفكرك وتحول بينهم وبين هذا الانحدار الرهيب، بهذا الإيمان الذي يتحطم على صلابته أعظم الأفكار غطرسةً واستعلاءً.

وفي الوقت الذي أكبّركم وأُحِلّكُم سويداء قلبي، أرجو أن تفسحوا لي مكانًا في قلبكم، والسلام.

(1) إشارة إلى كتاب: ترانيم روح وأشجان قلب، للأستاذ فتح الله كولن.
(2) إشارة إلى كتاب: ونحن نقيم صرح الروح، للأستاذ فتح الله كولن.
(3) إشارة إلى كتاب: النور الخالد.. محمد (صلى الله عليه وسلم) مفخرة الإنسانية، للأستاذ فتح الله كولن.
(4) إشارة إلى كتاب: أسئلة العصر المحيرة، للأستاذ فتح الله كولن.