الفصل الثاني: البحث عن الذات

أفراح العقول

بعض الأفكار الجديدة والمبتكرة التي تجود بها قرائح المفكرين المجددين، تحتلُّ من أرواحنا المكان الأسمى، وتقوم في عقولنا المقام الأرفع، فنهتزُّ لها ونحفل بها، ونبتهح بها ابتهاجنا بالمولود الجديد بعد تعسُّر شديد.

والأستاذ "فتح الله كولن" -بإجماع الدارسين- رجل التجديد والتحديث الديني على كافة المستويات في هذا العصر، فهو لا يني يتحف قرَّاءَ "حراء" ببوارق فكرية وروحية لم تشهد آفاق الفكر الديني الحديث مثيلاً لها من قبل، وهو يريد بهذا تحريك الساكن العقلي، والهامد الروحي، لاعتقاده بأنَّ هذه الأمة تظلُّ في همود وخمود ما لم تشتعل أرواح أبنائها بنيران الأشواق إلى الله تعالى، وما لم ينزع أفرادها عن عقولهم أنماط التفكير المتسطح الضحل، وتستبدله بالأعماقية النهضوية المغامرة والمقتحمة.

فالأستاذ ينفي أن يكون الخطأ والانحراف عن الله تعالى أمر سرمدي لا يمكن للإنسان أن يتخطاه، بل المشكلة الأساس هي اكتشاف سبل الوصول إلى الإنسان واعتماد فطرته السليمة غير الملوّثة في المخاطبة والتبليغ لكي يساعد نفسه في الانطلاق إلى أمام دون قيود ومعوقات موروثة تجعله يراوح في مكانه فلا يتقدم بل كثيرًا ما يتأخّر.

فالأستاذ يحاول توتير دواخل الإنسان المسترخية والمستنيمة، ويحفز قواه التنشيطية والتفكيرية، فيشعل فتائل إرادة الفهم والإدراك والمبادرة إلى التخيير والتغيير. فإنسانية الإنسان لا تستقيم وتظهر على حقيقتها ما لم يكن وراءها إرادة تحرك فيها عجلة التغيير والخروج من الساكن المميت إلى الحركي المحيي. وإنه ليسعى جاهدًا لكي يكون المسلم ذا روح إنفعالية شديدة الرهافة بحيث تكون على استعداد دائم للتأثر بالإشارات الكونية والقرآنية، والتلقي عنهما والانفعال بهما والتناغم معهما.

فيغدو بذلك مركز إشعاع كوني المركز ومنار إرشاد إنساني التوجه. وهذه هي المهمة الأساس التي يريد الأستاذ "فتح الله" تذكير المسلم بها، واستنهاضه لها، وحفز إرادته للعمل من أجلها؛ فمن غيرها يكون المسلم قد تنكر لمسؤوليته الأخلاقية، وفَرَّط في الأمانة التي اؤتمن عليها من قبل خالقه.

والأستاذ "فتح الله" لم يكن في يوم من الأيام صاحب فكر مجرد، ورؤى حافية لا أرجل لها تمشي بها وتشق طريقها عليها بين الناس، بل هو صاحب رؤى كثيرًا ما تتجسَّمُ في نماذج بشرية عالية الثقافة، ورفيعة الفهم والإدراك، تستلهم من رؤاه، وتنحت من أفكاره أمثلة منظورة محسوسة، وقائمة بين الناس في أسواقهم ومحالهم ومكاتبهم ومدارسهم، وجامعاتهم، وفي كل مكان يدرج فيه الناس، وتتحرّك بهم المعايش والأرزاق.

إنَّ عالم المسلم اليوم عالم منهوك القوى، مشلول الفهم، أعرج الروح، هَشُّ البناء، مهزوز الاعتقاد، يقطنه مسلمون متعبون، منهوكون حائرون ووجلون، فهم في أمسّ الحاجة إلى عقليات جديدة فتية لتخرجهم مما يعانون وتستنهضهم للقيام بواجبهم الديني والأخلاقي، وإلاَّ فمتى كان الضجرون من أنفسهم، والهاربون منها، والتائهون عنها، أصحاب قدرة على استصلاح عالم اليوم الذي يشكو الخواء الروحي والانحسار الفكري، والهبوط الإيماني والأخلاقي.

فعلينا أن نقرَّ بأنّنا نعاني عسرًا عقليًّا، وخلطًا روحيًّا وحضاريًّا أفسد قدراتنا على التفكير السليم، وشلَّ ضمائرنا عن الإدراك الصحيح، فنحن في حاجة اليوم إلى "الكلمة المبصرة"، تلك الكلمة ذات التوافق الأبيد، والجامع الشديد بين السنن الكونية والقرآنية، فثمة صلات وعلاقات لانهائية تربطنا بهذا الوجود القائم، ونحن وإيَّاه في تعاشق لا ينتهي ولا ينقطع، فوجودنا يشكّل أعظم أجزاء التوازن الكامن في خفايا الوجود، بحيث إذا ما حان أجل الإنسان وغاب عن هذا العالم، فإنَّ وجود العالم سينتهي معه كذلك.

إنَّ أفكار "كولن" أفراح للعقول، ومواسم أعياد للأرواح، وأَهِلَّة بشرى  للصابرين على لأواء العذاب، وندى تتنزَّل بالسواء على القلوب القاحلة، وعلى نيران الحجيم التي تأكل الأرواح وتسوط العقول بشواظ من نار؛ إنها تستنبت في أراضي النفوس الجُرد الحقولَ النضرة، والرياض الباسقة..

فأفكاره عالم واسع من الغبطة الفكرية لا يسعك معها إلاَّ الإطباق عليها بحواسّك الخمس، وبكل قوى مشاعرك ووجدانك، لأنها توفر لنا إحساسًا شديدًا بأننا أصحاب منهج فكري وروحي عظيمي الاتساع، عميقي الأغوار، وأنَّ عوالم ما "بعد الوراء" غدت في متناول أيدينا، وقبالة أنظارنا..

إنها -أي هذه الأفكار- تسمو بنا إلى عالم مثالي يأخذنا بقوة إلى التفكير بأمور عظيمة ذات شأن عظيم، تتعلّق بمآل البشرية وبمصيرها، وتجعلنا ننظر إلى الحياة على أنها الجدُّ فوق كل جدّ، وأنها كفاح ونضال من أجل أن يسود الإيمان والحق والعدل والخير والجمال العالمَ الذي نحن جزء لا يتجزأ منه، وإننا -لا قدّر الله- لنفجع البشرية بأعزّ ما تعتز به وهو "الإيمان"، إذا نحن تخلينا عن مهمّتنا، وأسأْنا استخدام ما عندنا من تراث روحي عظيم يسع العالم كله، ليطلق قواه الإيمانية الخفية التي لا زالت حبيسة في فكر البشرية وروحها..

فالتضحية بالنفس في سبيل هذه القيم العالية الشأن هو أشرف ما دعت إليه السماء أهل الأرض.. فهذه القيم تظلُّ حية لا تموت، لأنها انعكاس عن جوهر الحقيقة الكبرى التي إليها تعود كل حقائق الوجود، وربما مات وذهب جسم كل حقيقة، ولكنَّ روحها يبقى حيًّا مضيئًا مشعًّا يلفت إليه بشعاعه الأرواح والعقول، وحينما يغيب روح الإنسان أو يتعامى عن إبصار مثل هذه الإنارات فإنه يغيب معه الإدراك والفهم، وهذا ما لا يريده الإنسان لنفسه ولا أحدَ يريد له ذلك.. فإذا لم يمتلك الروح شيئًا من هذه الإضاءات الجوهرية، فإنه يبقى فاقدًا للحسّ بشرف الجوهر الإنساني الذي ينطوي عليه، وهذا الفقدان هو سبب مأساة الإنسان اليوم.

فالفكر الجديد المتحرك يفصل ما بين ماضي الفكر المتراكم عن مستقبل الفكر اللانهائي، إنه يتقدم بلا هوادة مخترقًا البعد الزماني مشكلاً قاعدته الصلبة لِمَن يريد أن يجرب عقله من جديد ويستهلَّ به عصرًا فكريًّا جديدًا، وإلى هذا المعنى يشير الحديث الشريف عن المجدد الذي يأتي على رأس كل مئة سنة، إنه نوع من التضامنية الفكرية التي تنتظم عالمَ الفكر منذ "آدم" -عليه السلام- وإلى أن تقوم الساعة، إنها قفزات فكرية متعاقبة يحدثها المفكّرون المجدّدون جيلاً بعد جيل.

فالأستاذ "فتح الله" إنما يبني بأفكاره التجديدية هذه قاعدة انظلاق للمفكّرين المجددين الذين سيأتون من بعده، وذلك ببنائه الجسور القويّة بين رجال الأدمغة الكبيرة، والأرواح العظيمة، ويمحق الخرافة اللعينة التي تقول: إنَّ جذور الأمّة التاريخية والروحية تشكّل غلاًّ للعقل، وحجرًا على الفكر، وهذا ما كان يحزنه ويؤرقه.

البحث عن الذات

"أعطني يدك لنمضي معًا بصحبة فتح الله كولن

نحو الأعماق الفوَّارة واللآليء الوضَّاءة،

فقد مللنا سواكن الغدران ورواكد الخلجان".

 كثيرًا ما أستيقظ في جوف الليل خائفًا مرعوبًا، يتملكني إحساس غريب ومذهل بأنّ شيئًا ما في داخلي إمّا أنه قد مات، أو أنه في ساعة النوم العميق تركني ولاذ بالفرار، فتاه وضاع بين المسالك والمذاهب والطرائق، وعليَّ أن أركض وراءه وأبحث عنه لأمسك به وأعيده إلى مكانه من صميم كياني ووجودي، وإلا سأبقى لا أعرف من أنا ومن أكون، وكيف إذا كنتُ سأكون.[1]

فالنوم أخو الموت، وكما يفقد الميت مقومات وجوده الحي، فكذلك النائم يفقد في نومه عمقه الوجودي والحياتي، لذا يستحب للنائم إذا انتبه من نومه أن يقول: "الحمد لله الذي أحياني بعد أن أماتني وإليه النشور" كما جاء في الحديث الشريف.

وهذا الذي يعطيني قوة الإحساس بوجودي، وباستقلالية كياني، وبكوني حيًّا غير ميت، إنما هي هذه "الذات" التي هي جوهر الكينونة البشرية، فبقدر زيادة معرفتي بها، والحفاظ عليها، وعدم السماح بهروبها أو مسخها أو تلويثها، فبقدر ذلك يكون امتلائي بالوجود، وبقوة حياة هذا الوجود، أما إذا ماتت هذه "الذات" أو ضاعت أو مسخت أو تلوثت لأي سبب من الأسباب، فيعني ذلك التلاشي التدريجي والذوبان ثم الموت والاندثار.

ومن أخطر ما يصيب "النفس الإنسانية" من أمراض إنما هو مرض فقدان ذاكرة الذات، أو ضياعها، أو أحيانًا موتها إلى الأبد، ومرض فقدان ذاكرة الذات أو ضياعها كما يصيب الأفراد فإنه يصيب كذلك الأمم والشعوب، وهو اليوم أخطر ما يعاني منه المسلم كفرد وتعاني منه الأمة كمجموعة أفراد.

ومنذ مجيئي إلى "إسطنبول" قبل ما يقرب من عشر سنوات وأنا في حالة بحث مكدود عن ذاتي الضائعة لعلي ألتقيها في مرايا فكر جديد، أو تجليات روح عظيم، أو من خلال عمل بطولي سامي البطولة، أو في نموذج إنسان راق يزاحم الملائكة في رقيها، لأن المسلم مرآة أخيه -كما في الحديث الشريف- يرى فيها نفسه، ويستقرئ ذاته في ذاته، ويستجلى روحه في روحه.

ولاشك في كوني محظوظًا إذ ساقني القدر إلى التعرف على الأستاذ "فتح الله كولن" من خلال قراءاتي لكتبه ومقالاته المترجمة إلى العربية، فببركة هذه المعرفة وجدت شيئًا من ذاتي في ومضات سريعة وخاطفة كانت تتراءى لي من بين السطور.

ومن خلال المعاني والأفكار التي أخذت تنثال على واعية ذهني انثيال الغيث على الأرض الجدباء، فأدركت عندئذ أن الرجل قد وضع إصبعه على مكمن الداء في الفرد والأمة، حيث يرى إننا حين نغفل عن استدعاء "ذاكرة الذات" في أوقات الأزمات الفكرية، والانفلاتات الحضارية والعقدية لتعيننا على الاستمساك بمحور وجودنا الأخلاقي والعقدي، نكون بذلك قد ساهمنا مع أعدائنا بالقضاء على وجودنا الفكري والحضاري المتفردين، وأجهزنا كأمة على ما نتميز به من خصائص التفرد الأخلاقي والديني اللذين هما من معالم هذه الأمة وعلامة من علامات حضورها الدائم بين الأمم الأخرى.

إنَّ واحدًا من جملة أمراضنا الروحية زيادة شعورنا بالانهزام العقلي تجاه التفوقات والوثبات العقلية في الجانب الغربي من عالم اليوم، وقد أورثنا ذلك شيئًا من وهم الاعتقاد بأن ذلك هو النهاية المميتة لكل ما نحلم به من إمكانية العودة إلى ذلك المجد الفكري والحضاري الذي كنا ننعم ونستدعي الآخرين لكي ينعموا به معنا، وإننا في طريقنا إلى التلاشي كما تتلاشى الأحلام عند مطلع الفجر.

إن شعورنا المرضي بالعجز عن اللحاق بأمم الحضارة، جعلنا نمتلئ غيظًا وشعورًا بالإحباط، فشرعنا نبحث عما يدين هذه الحضارة ويصمها بالمعايب والقصور، تمامًا كما يفعل خاطب الحسناء عن التفتيش عن معايب حسنها حين يعجز عن امتلاك قلبها. فبدل أن تهتز غيرتنا الحضارية، وتستيقظ أذهاننا لهذا التحدي الحضاري للتعرف على عوامل تقدمها، أخذنا نمطرها بوابل من اللعنات، ووصمناها بالحق وبالباطل بكل ما يعيب ويفرغها حتى من مضامين ما لديها من إيجابيات في الفكر والحياة.

كل الحضارات تمرض، ونحن على علم بأمراض هذه الحضارة المهيمنة على العالم اليوم، غير أنها لم تبلغ بعد سكرات الموت النهائي. إن ما تحتاجه هذه الحضارة ونحتاجه معها للإبلال من المرض، إنما هو روحية دينية عميقة تسري في العروق، وتستحوذ على الضمير، وتنفذ إلى الجوهر الإنساني المطمور تحت أطباق من ركامات القوى التسلطية والتشكيكية التي تريد إفراغ الذات الحضارىة من أهم مقوماتها الإنسانية والرحمانية.

إنَّ شيئًا حيوانيًّا غضوبًا بمخالب وأنياب يكمن في بعض جوانب هذه الحضارة، وهو يحتاج إلى اللجم والترويض والتمدين، وهو ما يسعى إليه عقلاء هذه الحضارة ومفكروها، وإلاَّ فإن انهيارها سيكون وشيكًا وسقوطها قريبًا كما يقرر ذلك الكثير من مفكريها والقائمين على عقلها وروحها، إنهم يطلعوننا كل يوم على أشكال مختلفة من حدوث السقوط، أو مما هو آيل للسقوط منها.

وعلى الرغم مما ينخر في جسد هذه الحضارة من عوامل السقوط والانهيار إلاَّ أنها لازالت محتفظة بقدرتها على استلاب ذاتيات الأفراد والأمم، وإفراغها من محتواها القيمي والحضاري والديني، ثم العمل على تشكيلها من جديد بملئها بقيمها وأفكارها وحتى دينها إن استطاعت، وهذا الاستلاب الخطير هو ما كان يتعرض له المسلمون أفرادًا وجماعات وأممًا منذ عدة قرون، وهو نفسه الذي يتعرض له اليوم عالم الإسلام بأفراده وشعوبه وأممه، يعينها على ذلك أقوام منّا تتلمذوا عليها، فهم لا يرون في تغيير الذات والهوية خطيئة أو خطرًا، بل على العكس من ذلك فأنهم يريدون هذا الاستلاب، ويعينون عليه، ويسعون إليه ويباركونه، ويعدونه من مصلحة الأمة ومن أسباب رقيها وتقدمها.

فالعودة إلى "الذات" حصن المسلم الحصين من الشكوكية المدمرة، والاستلابية، والمسخية، كما يرى "كولن"، فبقليل من رهافة السمع يمكننا أن نسمع بأذن الروح، وبمسامع القلب، صوت الذات وهي تردد كلمة "بلى" الفطرية التي أقرت بربوبية رب العالمين وهي بعد في "عالم الذر" قبل الخلق الأول عندما خاطبها رب العالمين آخذًا منها العهد والميثاق: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(الأَعْرَاف:172)، (قَالُوا بَلَى).. فــ(بَلَى) هذه هي جوهر الذات الإنسانية، من أجلها صار للإنسان وجود، وقام له كيان، وأصبح له "أنا". وأصداء "بلى" لا زالت تتردد في فضاءات العالم وفضاء الأنفس والعقول، يسمعها من يريد سماعها، ويغفل عن سماعها من يريد أن يصم أذنيه عنها، و"كولن" برهافة سمعه الروحي يقول: إن كل ذرة من وجودي وكل قطرة من دمي لا زالت منذ ذلك اليوم تنادي وتقول "بلى" فأسمعها كما أودعتها سمع الوجود والأكوان والعوالم حين قلتها وأنا في عالم الذر قبل أن أتخلق إنسانًا كامل الخلقة وفي أحسن تقويم.[2]

والأستاذ فتح الله يرى أنه إذا كان الهدف الذي يهدف إليه المصلحون هو بعث الأمة من جديد، فينبغي إذن أن يتوجه المجتمع برمته إلى "قيمه الذاتية"، لأن يد التخريب كانت قد امتدت إلى كل ما هو "ذاتي" في الأمة ليكون "قابلاً للاستعمار"[3] فقد توالت عليه "عوامل التعرية الروحية" وإن كانت الجموع بدأت تستشعر أهمية تحريك "عواملها الداخلية" من أجل "وجود ذاتي جديد". فهذا مؤشر جيد على أن الأمة بدأت تخطو نحو الاستمداد من ذاتها الكبرى أسباب النهوض والبعث.[4]

فإذا صحت "الذات" صحت الكينونة البشرية، وصح الروح، وصحت الارادة، وتنبه العقل، وعلا الذهن، واستقام الفكر، وأمّا إذا غابت عسر على الإنسان التماسك في مهبِّ رياح التغيير، وغدا ملعبًا للريح، ودار رأسه، وفقد نصف عقله، وضاق صدره، وتبلد شعوره بنفسه، والإحساس باستقلالية شخصيته، فلا هو هو، ولا هو غيره، وبات كغثاء السيل لاينفع لشيء، ولا شيء ينفعه.

"فما لم تخل الساحة -وهي ليست خالية- من شجعان مخلصين للجوهر والذات، مالكين لارادة التجديد، قادرين على احتضان العصر، فلابد أن يتحقق هذا التجدد والتغير"[5].

فالتجديد إذن -كما يقول "كولن"- ليس القفز من فوق "الذات" بل بالوقوف عند "الذات" واكتناه أسرارها، وتثوير مكنوناتها، والإفادة من كنوزها، كما هو الشأن في ما قام من حضارات، واستجد من نهضات في الشرق والغرب.

وهو يحذر من "الذهول" ومن "تفحم الفكر" و"عقم التجديد" التي "غزت المجتمع بكل أصنافه وطبقاته"[6] ويدعو كذلك إلى "أن نراجع ماضينا المجيد باستمرار" و"نلجأ إلى قيمنا التي جعلت أمسنا زاخرًا بالعظمة"[7] ويقول "ونقتبس من مُثلنا الروحية" و"سنأخذ من إبداعات عصورنا البيضاء "في الفكر الفلسفي كما في الحقيقة الصوفية" وهو يؤكد على "إنسانسة الحرية" و"العودة إلى الذات" و"محور المنطق" و"روح الوحي في فننا وفلسفتنا" وجعل "القرآن والسنة محورًا للطريق الموصل إلى الهدف والغاية"[8]. فـ"الذات" عند المسلم "لا زمانية الأبعاد" لأنها كانت موضع السؤال الإلهي في "عالم الذر"، وفي معرض الشهود والأشهاد (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟، (قَالُوا بَلَى). فـ(بَلَى) هذه تمثل التحدي الأكبر لكل عوامل الزيغ والإضلال، ومهما سهت ونسيت وتاهت غير أنها بقليل من التذكير، وبقليل من التحفيز ، تعود من جديد لتحتل مكانها الأساس من كيان المسلم.

ومن أجل هذه العودة كتب "كولن" ولازال يكتب، هاتفًا داعيًا وأحيانًا صارخًا، لكي يخرج المسلم من "لاحقيقيته". إنه يدق الأبواب، ويكسر القيود والأغلال، ويمسح التراب، ويرش ماء الحياة على موات الذات، لتتنبه لنفسها، وتخرج من قمقمها، وتكشف عن إشراقة وجهها.

الذات المحمدية

العالم اليوم إنما هو حصيلة أزمنة تتابعت، وتواريخ تشكّلت، وحضارات كانت وبادت، وحضارات لم تكن ثم كانت، وأيام من عمر هذه الدنيا تألقت وشعَّت وأنارت، ثمَّ خَبَتْ أنوارها وانكسفت شموسها.

وبعض هذه الأيام والتواريخ إذا ما قلّبنا صفحاتها اليوم فاجأتنا بأنها لا زالت على قيد الحياة.. ففيها نبض ينبض، وقلب يخفق، وحرارة تشع، ووهج يضيء، على الرغم من مرور عشرات القرون عليها.

فتاريخ أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تضافر على صنعه دين عظيم، وإرادات خارقة، وبطولات سامية، وعقول كبيرة، وأرواح عظيمة، هو أكثر هذه التواريخ حرارة وحياة ووهجًا، وأوضحها حضورًا في ذاكرة الأمة، ليغذو مخيلتها، ويمدَّ عقلها، ويشعل وجدانها بحوافز النهوض لبدء دورة حضارية جديدة.

وشعور الأمة بالحاجة إلى العودة إلى ذاتها التاريخية لتستمدَّ منها دوافع الصيرورة المستقبلية، يعني أنها تكون قد قطعت نصف الطريق من "وجود بلا ذات" إلى وجود ذي ذات عميقة الجذور في أرض الحضارات، فيلتقي معها ويتوحد بها.

فالذات التاريخية لهذه الأمة لم تكن لتظلَّ حيَّةً لو لم تستمدَّ قوام حياتها من حياة "الذات المحمّدية" على امتداد الزمان، لأنها ذات نشأت على عين القرآن وفي كنفه.. فأسباب هذه الذات موصولة بأسباب "الذات القرآنية" المستمدة من "الذات الإلهية"، فهي حياة من حياة من حياة الحي القيوم، خالق كل حياة وربِّ كل حياة.

فهذه الذات الشريفة إنما هي مزيج نوراني من "الجوهر الإنساني" و"الجوهر الكوني". فكما تشكل الذروة لجنس الإنسان، والقمة الارتقائية التي يطمح إليها كُلّ بشري طموح، فهي كذلك للأكوان نجم جديد تنزَّل من "عالم الأمر" ليكون قيمًا على وجدان الكون النابض بآيات الله تعالى، والمرآة العاكسة لشؤون الأرض والسماء على حد سواء، وهي بعد ذلك المصدر اليقيني الأصدق لما يعتري العقول من شكوك في حقيقة العالم "الماورائي". فما يؤكد حقيقيته مِئة وعشرون ألفًا من الأنبياء والرسل،[9] ومئات الملايين من خيرة البشر، لا بد وأن يكون موجودًا في مكان ما.. فلو لم يكن الطفل الرضيع يحسُّ مسبقًا بوجود لبن في ثديي أمّه لما الْتصق بصدرها، ولما راح يفتّش عن هذا اللبن في حلمة هذين الثديين.

ففي كتابه "النور الخالد" يتتبَّع "فتح الله كولن" بحرارة العاشق الشغوف مسيرة "الذات المحمدية" بين صفحات السيرة النبوية الشريفة، وعبر تألقاتها في الأحداث التي مرَّت عليها، ومعالجاتها المبتكرة لشؤون الإنسان وقضاياه الكبرى في هذا العالم، وهي قضايا الشمولية لعالمي الغيب والشهود، والجزء والكل، والإنسان والكون، وأعمار الأفراد والشعوب والدول والحضارات وعمر الأبدية: "أجل فقد عقدتُ نيّتي على محاولة القيام بمعرفة هذه الذات السامية. فما أسعدني إن استطعتُ قدح شرارة واحدة من حبّه في قلب هذا الجيل"[10] الذي لم يسعفه الحظ للتعرّف عليه ومحبّته. فقد بلغ عشقه لهذه الذات الشريفة حدًّا جعله يقول: "كم تمنّيتُ أنني خُلقْتُ شعرة ببدنه، فأكون بهذا القرب من هذا الشخص الذي كان مظهرًا لمثل هذه الدرجة من اللطف الإلهي الخاص.."[11].

إنَّ قلبه قبل قلمه هو الذي يكتب عن هذه الذات الشريفة، وروحه قبل عقله الأقدر على سبر غور هذه الذات المتفردة حتى بين ذوات الأنبياء عليهم السلام من قبله. إنه هنا لا يكتب، بل يتحدث.. وروحه هو الذي ينطق بلسانه، إنه يجلس عند قدميه الشريفتين يهرق دموع أشواقه بين يديه، ويسكب ينابيع ولهه لتغسل رجليه: "إنه بيننا على الدوام بروحه، وحسب بعضهم بجسده النوراني"، "أجل، إنه لم يمت بالمعنى الذي نفهمه من الموت، بل غير أبعاد وجوده فقط"[12].

فكما أنّ الحياة في الكائنات الحية حيوات وليست حياة واحدة، ودرجات ومستويات وليست على درجة واحدة أو مستوى واحد، فليست كل حياة ككل حياة.. فدرجة حياة النملة مثلاً ليست كدرجة حياة الفيل، ودرجة حياة القرد ليست كدرجة حياة الإنسان. فكذلك الموت، ليس هو موتًا واحدًا، وليس كل ميت ككل ميت، فالموت درجات ومستويات.. كما النوم درجات ومستويات؛ فليس كل نائم ككل نائم، فأصحاب النوم الخفيف توقظهم الهمسة، والنأمة واللمسة، أما أصحاب النوم الثقيل فلا توقظهم قرقعة الطبول، ولا فرقعات الرعود.. فالموت كذلك، فموت الساميين من البشر المرهفي الروح، الطاهري الأبدان، المتسامين بأرواحهم وأفكارهم، ليس كموت الذاهبين في الآثام والغارقين إلى الأذقان في ماديات الدنيا وشهواتها. فأصحاب السُّموّ الروحي والفكري إذا ماتوا كان بينهم وبين الحياة مقدار سمك شعرة، فيتظاهرون أحيانًا لأحبتهم بأبدانهم النورانية -بتعبير كولن- وكأنهم أحياء يُرزقون.. كما يؤكد هذه الرؤية العيانية جَمٌّ غفير ممن حصل لهم مثل هذه الرؤية لأحباب لهم كانوا قد ماتوا وربما من زمن بعيد، فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام، فإنه ليس بمستغرب إنْ هم تراءوا لعشّاقهم ومحبّيهم بأرواحهم وحتى بأبدانهم النورانية عيانًا جهارًا.

فـ"كُولن" يكرس هذا الكتاب في حب "محمد -صلى الله عليه وسلم-" وفي دواعي هذا الحب وبواعثه وأحقيّته، فلكي يلامس هذه الذات النورانية بعض الملامسة قدَّم بين يديها وفي حضرتها تولهات نفسه، وشغوفات روحه، وعصارات فكره، فكل الأقلام توارت خجلاً وتصامتت وتكسرت أسفًا وتحسرًا إزاء هذه "الذات" سوى قلم واحد جعل دواته القلب العاشق المكلوم، ومداده الدم النازف المطلول وهو قلم "كولن".

فالحوم حول قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-، هذا القلب الذي بلغ من العلوّ والسعة اللانهائية ما وجدت فيه سماوات القرآن ومجرّاته ونجومه وشموسه الأفق الوسيع الذي تشرق منه على العالم، فهذا الحوم لا يطيقه إلا أصحاب القلوب الكبيرة والأرواح العظيمة، وهذا ما سنلمسه من خلال سطور هذا الكتاب.

لقد كان حبّه لمحمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم حوافزه للسيطرة على آلام روحه، وما تحتويه من أوجاع النضال الفكري والروحي الذي كان يخوضه من أجل تجلية عظمة هذه الذات الشريفة لجيله وللأجيال القادمة.. وبدلاً من أن تشكل عاملاً تيئيسيًّا وتثبيطيًّا لجهوده المضنية غدت عاملاً تأجيجيًّا لآماله وانبعاث أحلامه في مستقبل أفضل لأمته وأسعد.. إن هذا الحب هو الروح العظيم الذي يعيش به ويعيش لأجله، وإنْ شئت فاستمع إلى قوله: "عندما مَنَّ عليّ الله بزيارة الأراضي المقدسة لكي أعفر وجهي بترابها بدت لي بلدة رسول الله مضيئة ونورانية إلى درجة أنني ذقت معها سعادة روحية غامرة وفرحًا لا يُوصف، بحيث أنني شعرت بأنه -على فرض المستحيل- لو فتحت لي حينذاك أبواب الجنَّة كلها، ودُعيت للدخول إليها... أجل، لو تم هذا، فصدّقوني بأنني كنت سأرفض دخول أي باب من أبواب الجنة، بل كنت أختار وأفضّل البقاء هناك..". إلى أن يقول: "والحقيقة إن الجنة أملنا جميعًا، ومن الصعب تصورا أنَّ هناك مسلمًا واحدًا لا يرغب في الدخول إليها... ومع اعترافي بهذا وقبولي له، فإنه لو عرضت عليّ تلك المرتبة العليا، ودُعيت لها، لربّما استأذنت ربنا أن يسمح لي بالبقاء في الروضة الطاهرة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-"[13].

إنَّ من أسباب حضور "محمد -صلى الله عليه وسلم-" في تاريخ أمّته هذا الحضور الذي يغطّي التاريخ كله من مبدئه إلى قيام الساعة، يعود -كما أظنّ- إلى سببين اثنين: أما السبب الأول فلكون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- نال الأحقّية الوجودية في عالمي الغيب والشهادة من "الحق تعالى" الذي كلّ حق منه يفيض، وإليه يعود.. والسبب الثاني يرجع إلى إحساس التاريخ البشري نفسه بانجذابه إليه لقوة ما يتمتّع به من ذاتية جاذبة ودافعة وطاغية على كل ما عرفه التاريخ من "ذاتيات" عظماء العالم.

إنّ هذه الخاصية الجاذبة -شأنها شان الجاذبية الكونية التي تحفظ أجزاء الكون من الانفلاتات العشوائية في الفضاء- تحفظ المسلم من الانفلاتات الجحودية والكفرية، وهي نفسها التي أسبغت على تاريخ العالم نوعًا من سموّ المعنى والغاية والهدف مصداقًا لقول الحق تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(الأَنْبِيَاء:107).

فمحمد -صلى الله عليه وسلم- راصدًا لحركة الزمن، وإدراكًا منه لطبيعته الاندفاعية والانحسارية، فقد حذر المسلمين من أزمنة الانحسار الذي سيحيق بهم في بعض قرون من تاريخهم، كما أنه في الوقت نفسه بشرهم بقدوم أزمنة الاندفاع والاندياح لدينهم إلى آفاق قصية ما كانت لتخطر لهم على بال وقتذاك، فلم يفتأ -صلى الله عليه وسلم- ينذر ويبشر، فهو النذير البشير كما يصفه القرآن الكريم، فهذا الانحسار كم أهرق من دموع وأثار من أحزان، وكبت من غصات عند "كولن"، وإننا لنستذكر اليوم تلك العبارة المنطوية على أعظم المعاني: «لو تعلمون ما أعلم، لبكيتم كثيرًأ ولضحكتم قليلا» (متفق عليه). ولكن وعلى الرغم من كثافة دخان الأحزان الذي يغطّي مساحات الأمة غير أنه يبقى السقف المثالي الذي يتمُّ تحته استثارة الهمم من أجل الخلاص من هذه الانحسارات التي تطبق على خناقنا.

ويسرد "كولن" في كتابه "النور الخالد" بعضًأ من البشارات التي بشر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وكذلك تحذيرهم من أخطار ستحيق بهم في أزمان الانحسار والنكوص على الأعقاب، ولعلَّ أعظم هذه البشارات فتح القسطنطينية تصديقًا لإخباره عليه السلام: «لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا، وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ»(رواه الإمام أحمد). ثم يمضي "كولن" واصفًا بعض وقائع هذا الفتح فيقول: "تسلّق أُولُوبَاطْلِي حَسَن أسوار إسطنبول،واستطاع أن يثبّت العَلَم العثماني على أسوارها على الرغم من أن جسمه قد أثخن جراحًا. وبعد قليل كان محمد الفاتح بجانبه، فرأى ابتسامة عريضة ترتسم على وجه هذا البطل المسجّى على الأرض، سأله بِحَيْرة: "ما هذه الابتسامة على شفتيك يا حسن؟" أجابه: "لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتجول هنا... لقد شاهدت وجهه الجميل... هذا سبب سروري". وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- بنبأ هذا الفتح قبل تسعة قرون... وها هو في يوم الفتح يتجول بين أبطال هذا الجيش الفاتح". ثم يردف قائلاً: "وأنا أقول دائمًا استنادًا إلى هذا، بأنه لو اجتمع ثلاثة أنفار معًا بإخلاص قلب وصفاء نية لخدمة الدين، فلا بد أن روحانية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستكون معهم وتباركهم"[14].

يمكننا أن نقرأ "الذات المحمدية" بامتداداتها الكونية وسعتها السماوية، من خلال ما تنفرج عنه شفتاه عليه السلام من كلام ينمُّ عن عظمة هذه الذات، وقدسيتها بين الأنام، فنكاد نلمس "أنفاس الرحمن" في كل كلمة من كلماته الحية والمحيية والمفجِّرة لينابيع الحياة في النفوس الموات، والمثيرة للانفعالات الإيمانية في الأرواح الساكنة، والعقول الجامدة. فقد ظلَّتْ قوافل المؤمنين تحث الخطى في طريق الرحيل تتزود من كلامه بالنور الهادي إلى سبيل السلام الأخروي. يقول "كولن": "كان -صلى الله عليه وسلم- يدرك أهمّية ما خصَّه الله من ألطاف ونعم إدراكًا واعيًا.. فكان لا يرى بأسا من إعلانها تحديثًا بنعم الله عليه، لذا نراه يقول: «أنا محمد النبي الأمي»(رواه الإمام أحمد)، «أُوتيتُ فواتح الكَلِم وجوامعه وخواتمه»(رواه الإمام أحمد)، «إنما بُعثت فاتحًا وخاتمًا وأُعطيتُ جوامع الكلم وفواتحه»(متفق عليه)". ثم يمضي "كولن" فيقول: "كان ببيانه الذي يشع نورًا وضياء يعلن أنه سيد خطباء الأولين والآخرين". ويردف: "كان سيد الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- بأنفاسه التي تحيي النفوس بلْبلاً يشدو في روضة الحق... كلماته الرقيقة الشبيهة بأكمام الورود النضرة وزهوره المتفتحة على أنداء الصباح لم تكن تشبه زهور الآخرين"[15]. ويزيد فيقول: "وعندما كان يجيش قلب هذا العندليب صاحب المكانة السامية ويغمره الوجد والهيام يبدأ بالشدو بأرقّ الألحان وبالغناء بأرقّ النغمات... هنا كانت الألسن الأخرى تصمت... والأرواح تنصت... والقلوب تهيم... والنفوس تذهل أمام قطرات معاني كلماته البليغة الساحرة"[16].

فالعشق الذي يكنّه "فتح الله كولن" لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، والذي شرع يفصح عنه في هذا الكتاب أثار أحاسيسه ومشاعره الفنّية والأدبية، فجاءت كلماته مرهفة رائعة تشعّ ومضات الجمال، والْتماعات الأدب والفنّ، إن كلماته إنما هي خفقات قلب، ونبضات وجدان، وخشوع إجلال.

ولئن كانت نفسه قد آدتها أحزان المسير، وكباوات الألم، فتأتي بعض كلماته مضمخة بالدمع وبحرارة اللهف، وسحائب الغموم، إلاّ أن حزنه قبس من حزن محمد -صلى الله عليه وسلم-. حافز للقوى، ومجدد للنفس، ومنعش للروح، ومُطْلِقٌ من القيود، ومفجِّر للطاقات، حتى غدا إرادة لا تتكاءدها عقبات، ولا تصدها عن غاياتها صعوبات. فها هو يمضي مع "الحبيب -صلى الله عليه وسلم-" خطوة بخطوة، يتابع مسيره، ويستطلع أحواله، ويستقرئ شؤونه، مع زوجاته وآل بيته وبناته وبنيه وأحفاده، فإذا هو الرحمة كل الرحمة، والإشفاق كُلَّ الإشفاق، والرعاية، والتربية أقوم من كل تربية.. إنه يهيؤهم -كما يقول كولن- ليكونوا المثال الأطهر والأجمل والأقرب إلى الله في الدنيا، ويهيّؤهم ليكونوا جديرين بأن يكونوا ملوكًا في الآخرة، يلبسهم ربهم تيجان الرضى والقبول، ويسكنهم أعالي الجنّة وفراديسها، بالقرب من محمد عليه السلام، النبي المجتبى، والأب المفدَّى، والزوج المحبوب، والجدّ الحاني والملهوف...

 بستانيُّ القلوب

منذُ آثر "فتح الله كولن" القلب الإنساني بالاهتمام وهو يدلف إليه بين الحين والآخر ليرعى بستانه، ويتفقد شؤونه، ويُعنَى بحاجاته، ويطلع على مراتع أشواقه، ويتلمس رهيف مشاعره، ويستثير دَقيق أحاسيسه، إنه بحق "بستاني القلوب" يثير الأرض، ويسقي عطاشها، وينكت تربتها، ويودعها بذور الحياة، وأسباب النضارة والرواء، وهو دائم السعي إلى إحاطة هذا القلب بسياج أخضر يحفظه من تلك الزحوف الصحراوية الساعية بتصحرها إليه، وامتصاص ماءِ الحياة منه، وأكل خضرته، واغتيال زهره وثمره، لتستنبت فيه بدلاً من ذلك شجر الشوك والصبير والحنظل..

ولأنّ هذا القلب تنزَّل من "عالم الأمر" إلى صدر الإنسان، فهو يخفق وينبض بحراك ربّاني، لذلك تعجز قوانين الطبيعة من أن تحدَّ من انطلاقاته وتحليقاته في سماوات كُلٍّ من عالمي الغيب والشهادة "فيتمكن القلب في جوّه النيِّر من التفسح تمامًا فينمو ويتطور، والروح إنما يحلق بأجنحة وارادته فيعلو إلى عرش كماله (كمال الروح).. يعلو إلى أنْ يربط كُلَّ شيء بـ"سلطنة القلوب".."[17].

و"كولن" في جهاده الفكري المستمر "يحاول أن يكسر الأقفال على ألسنة القلوب... وبعث مواجيدها وإذكاء نيران عشقها لمعالي الأمور"[18]. وهو -أي كولن- بكثرة تعهده لهذا القلب يريد أن يجعله مستعدًّا لقبول ما يتهاطل عليه من إلهامات وواردات وأفكار... ورسائل لتوكيد المعاني، أو تقرير الحقائق، أو توسيع آفاق النظر، أو التمهيد لابتداء جديد، أو ابتداع كبير، أو خصب خيال، أو جيشان عاطفة، أو استلهام البديهيات، أو الانفتاح على الأبديات..

و"كولن" وهو لا يني يستنفر كُلَّ إمكاناتنا الذاتية والتاريخية والحضارية ليجنّبنا السقوط في هوة التلاشي والاضمحلال الأممي الذي سبق أن تردَّت بها أمم كثيرة من قبلنا، فتوارت واختفت إلى غير رجعة..

كما أنّ وجودنا -كأمّة- كما يرى "كولن" قمين بمدى ما يعتمل في أعماقنا من شوق إلى "الحقيقة" -أيًّا كانت هذه الحقيقة- فهذا الشوق إلى الحقيقة يشعرنا بأننا أمّة موجودة حقًّا، وتمارس أبعاد وجودها في الطول والعرض، وأنها تحيا في بؤرة الحياة الحيّة، ولبِّ الوجود القائم وكما يريده لها دينها، فمدابرة هذه اللباب الحياتية والوقوف من الحياة عند شطئانها الميتة والضحلة يعني أننا أمة مهيّأة لتعاود السقوط مرةً بعد مرَّة، وأنها قد استمرأت حياة الدون ولا تبتغي عنها بديلاً. صحيح تمامًا أنّ "كولن" مفكّر تركي بالأساس، كتب أفكاره بالتركية، وهو كثيرًا ما يستشهد على بعض ما يريد قوله بأمثلة من التاريخ التركي المحلّي، أو "الملية التركية" كما يعبّر، ولكن هذا لا يعني أنه مفكر إقليمي محدود الأبعاد. فالفكر لا وطن له، وإنْ كان ينشأ في وطن، ويتحدث بلغة هذا الوطن، غير أنه سرعان ما يسري إلى كل الأوطان وكل اللغات، فـ"شكسبير" مثلاً كتب مسرحياته بالإنكليزية، وعالج من خلالها قضايا الأمة الإنكليزية التاريخية والفكرية، ولكن من السذاجة بل من الحماقة أن يظنّ أحد أنّ "شكسبير" كاتب كتب للإنكليز دون العالمين. فمسرحيات شكسبير تقرأ اليوم وستقرأ غدًا في كل أنحاء العالم وبكافة اللغات، وكذلك كتب "توماس كارليل" و"كوتيه" الألماني، و"ديكارت" الفرنسي، فالفكر الإنساني الأصيل والصادق سرعان ما ينتقل من الخاص إلى العام، ويغطّي العالم كله، كما تغطي البروق سماء الكرة الأرضية.

فـ"كولن" ليس بكاتب إسلامي لعالم الإسلام كله فحسب، بل هو كاتب أممي لأنه عالج قضايا "النفس الإنسانية" و"القلب الإنساني" و"النفس الإنسانية" هي واحدة في كل البشر، ومشاكلها ومتاعبها واحدة في كل الأوطان، وكذلك القلب البشري، فإنه واحد في صدر كل إنسان أين كان وبأي لغة تكلم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإنّ "مولانا جلال الدين الرومي" معروف في الغرب ربما أكثر مما يُعرَف اليوم عندنا، و"ابن العربي" أكثر شهرة هناك من شهرته عندنا، فشبهة الإقليمية واللسانية عند "كولن" كما يثيرها البعض تدحضها كتابات هذا الرجل في كل يوم.

إن هذا الفكر يشكل اليوم واحدًا من أهم القضايا الفكرية المطروحة للنظر والنقاش في أوساط المفكرين والمثقفين المعنيين بشؤون الفكر الديني المعاصر، في أنحاء العالم. والمسألة برمّتها تتعلق بالضمير الأسمى لكل مَن يريد أن يتدارس هذا الفكر ويخلص فيه إلى حكم لا يجانب الصواب، وأقدر مَن يستطيع ذلك هم أولئك المتفهمون لآلام الرجل الروحية، وأحزانه الإنسانية التي تركت كتاباته وعليها مسحة من ألم وحزن. إنّ أحزانه وآلامه ليست أحزانًا شخصية، إنما هي أحزان أمة وآلام قرون سود انحسر فيها المدُّ الإسلامي عن النهوض بأمانة التبليغ والدعوة. إنّ الضمائر التي لا تتعذب للمحن التي تمرُّ بها الأمة عاجزة عن إدراك ما ينطوي عليه هذا الفكر التحسسي المرهف من أوجاع وآلام عانتها الأمة من أبنائها المقربين قبل أعدائها المبعدين.

إنّ شعورنا بعظمة الأمة يتناقص يومًا بعد يوم، لكثرة ما أصابنا من انتكاسات وفواجع وآلام، وغدونا في غمار هذه الإحباطات المتتالية نتشكك حتى بأنفسنا، فقلبنا المعادلة الديكارتية التي تقول: "أنا أفكّر، فإذن أنا موجود" إلى "أنا أتوجع فإذن أنا موجود".

فـ"كولن" يعرف هذا كله، ويعيشه مع الأمة لحظةً بلحظة، وانبثاقًا من هذه المعرفة صاغ فكره، وعليها أرساه، ولم يكتفِ بهذا بل حول هذا الفكر إلى أفعال رجائية مجيدة شاخصة للعيان لمن يريد البصر والإبصار. وهو يأمل أن يصبح هذا الفكر الأملَ المرتجى في حومة هذه التيئيسيات التي تكبلنا وتحيط بنا من كل جانب، وشعاره "فإذا كانت السماء لا تبغي القضاء علينا، فهي تدّخرنا لصلاح العالم وارتقائه"[19].

فإحدى أكبر قناعاته التي تحرك منابع فكره هي أنّ فساد العالم يبدأ من فساد القلب البشري، وصلاحه يعود إلى صلاح هذا القلب، وإنَّ سُموّ أعظم الأفكار مدينة إلى سموّ هذا القلب، وإنّ العقل يظلّ سجين قدراته المحدودة ما لم يعره القلب بعض أجنحته لكي يحلّق بها إلى فضاءات أسرار الوجود الإنساني والكوني على حدٍّ سواء.

فتح الله كولن وعبقرية الفكر

1

من الرجال مَن لم تره قطُّ، ولكن شعاعًا من فكره يخترقك من وراء عشرات الحجب المكانية والزمانية. فالجوهر الإنساني إذا كان صافيًا ونقيًّا من الشوائب والأخلاط، فإنه لا يكفّ عن الوَمْض فوق الأرض أو من تحت التراب، كما يومض الذهب الخالص، والماس النقي، فتتلقف وَمَضاته الأنظار، وتهتز له الأفهام، وتهفو إليه الضمائر.. وكما فطر الله تعالى السماوات والأرض، فإنه تعالى فطر الأدمغة الكبيرة في رؤوس العباقرة وادّخرهم لقيادة الأمم والشعوب إلى حيث تريد الأقدار وتستدعي المصائر والمآلات.

فالعباقرة من أصحاب الفكر مغلوبون على أمرهم، لأنهم لا يستطيعون كتمان ما تجيش به عقولهم من أفكار، وإلا قتلتهم أفكارهم إذا حبست في قمقم رؤوسهم، وقضت عليهم وعطّلتْ محركات عقولهم، وشلَّتْ مولدات أفكارهم، فيفضي ذلك بهم إلى العزلة والاكتئاب، والشعور المؤلم "بلا جدوى" كل شيء. وفي تاريخ الفكر كثير من الشواهد على ذلك، فكم من مفكر مزّق أوراقه التي قضى في تحبيرها الليالي الكثار، أو أشعل في كتبه النيران، أو قذف بمخطوطاته إلى الأنهار، أو أهرق المحابر وكسر الأقلام، وهام على وجهه في البراري والقفار، وقد خولط في عقله والتبس عليه أمر نفسه.[20]

2

ولكن عندما ينعتق هؤلاء المفكرون من سجون صمتهم، وتنطلق أصواتهم حرةً إلى كل مكان من الأرض، عندئذ تشرع الجموع بالإصغاء إليهم، والتعلم منهم، والتتلمذ عليهم، وملاحقة أفكارهم، وتبني مقولاتهم، فتتجدّد نفوسهم وتتغير أفكارهم، وتسمو أرواحهم، وتتجوهر الأفكار في دواخلهم، وتصبح جزءًا لا يتجزأ من ذواتهم التي بين جنبيهم. وبأفكار هؤلاء العباقرة يتحرك العالم، وتتقدّم البشرية، وتبدأ مرحلةً جديدةً من مراحل النمو والتطور.

فالعبقرية ليست هي ذكاءً مفرطًا، ولا فهمًا نافذًا، ولا فطنة واعية، ولا بديهية حاضرة.. ليست هي كل هؤلاء فحسب، بل هي مع كل هؤلاء، وفوق كل هؤلاء، براكين حية تقذف بحمم الأفكار بلا انقطاع، ولهب تستعربه الروح، ويشتعل به الفؤاد، وإدراك استباقي للآتي من الأزمان، واستيعابي للنسبي والمطلق من الأشياء، واستكشافي لمنطويات الأمة، وجيشاناتها الروحية والفكرية.. مع آلام صارخة، وهموم ناصبة، وعذابات حارقة، وأشجان كاوية، هي ضريبة العبقرية وزكاتها التي لا مناص من أن يؤديها العبقري وهو في حومة نضاله الفكري.

3

والعبقرية الدينية لا تتنـزّل إلا على أرواح عظماء النفوس الممتلئين رثاءً للجنس البشري على ما يعانيه من مآسي الابتعاد عن منهج الله في شؤونه كلها. أما الشعور بعدم القدرة على فعل شيء في سبيل التخفيف من عذاب الإنسانية، فهو شعور محبط لا يليق بذوي الهمم العالية والإرادات الفولاذية من أصحاب العبقريات الدينية المكرسة وجودها لجلائل الأعمال، وعظائم الإنجازات والفتوحات في الأفراد والجماعات.

ففي أجواء الفكر الإسلامي الموَّاج بشتى الاتجاهات والاجتهادات، ينجم بيننا اليوم فكر ديني جديد كان قد بدأ حياته بنوع من التوترات الداخلية القهرية، لما كان يراه من الأمراض الروحية التي يعاني منها البشر عمومًا، وتعاني منها أمته بشكل خاص، وصاحب هذا الفكر هو الأستاذ "فتح الله كولن" الذي ينظر إلى البشرية كوحدة واحدة، يربطها ببعضها روح واحدة وقلب واحد، ورغبة بالخلاص واحدة.

ومن أجل شعوره بالواجب الأدبي والأخلاقي والانتمائي تجاه الأمة وتجاه الإنسانية جمعاء، فإنه يسعى إلى إرساء قواعد "فكر" يمكن أن يؤدي إلى إصلاح عقل العالم، وإيقاف تدهوره الروحي والإنساني، وانهزاماته أمام تحديات التكثيفات المادية التي تكاد تسحق روح الإنسانية وعقلها تحت أرجلها الغليظة. ففكره قوي الإيماض، شديد الانصهار، واسع الاحتواء، فوجوده إنما هي إرادته التي لا تقهر. إن له من سعة الروح ما يستطيع معها أن يحتضن العالم كلَّه، ويطويه تحت جناح فكره الإنساني العالمي السلامي الاطمئناني.

وهو وإنْ كان يعطي لذات أمته المكان المرموق في أي عمل نهضوي مرتقب، ويرى أن هذه الذات منجم لكل ما تجوهر من قيم الحياة الدينية الصافية التي عاشتها الأمة في عصورها الأولى، غير أنه يرى كذلك أن جوهر هذه الذات وعقلها الاستيعابي، يمكن أن يلتقي في أي وقت وفي أي مكان مع أي فكر سام في توجهه الديني والأخلاقي.

4

ولكي ندلف إلى هذا الفكر على ضوء ودراية، يحسن أن نستعرض في البداية تحفظات "كولن" على ما يتعرض له الفكر الديني عمومًا من إسقاطات شخصية وإنسانية من لدن البعض من المعنيين به، فهو يرى أن أي احتباس للفكر في مضائق المحدودات يفضي إلى احتجاب الحقائق الروحية، ويحدّ من قدرات المؤمن الانطلاقية في الفكر والوجدان، واستيعابه لمختلف الصور التي يتشكل بها الفكر الديني.

فلئن كانت الحقيقة الدينية في أصولها الأولى واحدة لا تتجزأ غير أنها قد تتخذ صورًا شتى، فتبدو لعين الناظر لأول وهلة وكأنها فاقدة للثبات، الأمر الذي يدفعه إلى مجافاة حقائق الدين برمتها، وعدم الوقوف عندها بشبهة ما يبدو عليها من الشتات واختلاف الآراء والأفكار والمذاهب. وحرصًا من "كولن" على قارئه من الوقوع في هذه الشبهة، جاءت أفكاره على درجة عالية من الوضوح والشفافية وسرعة التلقي والتفهم وسرعة الانتقال بها من معانيها القائمة في الذهن إلى موجوديتها على أرض الواقع.[21]

5

فـ"كولن" هو اليوم من أكثر مفكري العصر الإسلاميين تجاوبًا مع الجانب التفاهمي والسلمي والتحاوري مع الآخرين، ليس كرد فعل على الحملات التي يشنها أعداء الإسلام على الإسلام واتهامه بالإرهاب والدموية، بل إحياءً لهذا الجانب "الجهادي"، وأُشَدِّد على كلمة "الجهادي" الذي كاد يهمل ويختفي في كتابات الإسلاميين وأدبياتهم، علمًا بأنه الجانب الأهم من جواب الإسلام، لأن مفهوم الجهاد عند "كولن" بل في معطى الإسلام نفسه ليس سيفًا ودمًا، ومعركة وحربًا، وقاتلاً ومقتولاً فحسب، بل هو كذلك "قلمًا" و"كلمةً" و"كتابًا و"مدرسة" و"سلوكًا" و"خلُقًا" و"سلامًا" و"أسوة حسنة" و"ذوقًا" و"أدبًا" و"معرفة" و"حكمة" و"موعظة" و"حضارة" و"تسامحًا" و"قبولاً للآخرين" وإشفاقًا عليهم، ورحمة بهم، والعمل على إنقاذهم من انحرافاتهم إنْ وجدت. فهذا النوع الجهادي الذي هو من صميم الإسلام، من ألزم ما يلزم المسلمين اليوم لكي يعرفهم الآخرون على حقيقتهم، ولكي يعرفوا دينهم على حقيقته كذلك.[22]

فالتحديات والإشكاليات التي تواجه الفكر الديني المعاصر، لا يجدي معالجتها بحلول سطحية مؤقتة لا تستأصل الارتيابية من جذورها، وهي تتطلب من المسلم أن يعمل على تطوير نموه الفكري والروحي وألا يقف عند حدّ في هذا التطوير المفتوح على كل الاتجاهات، وأن يكون إلى جانب ذلك على اطلاع وافٍ عما يجري في العالم من توجهات فكرية وحضارية وعلمية، وإلا وقف عاجزًا عن الإجابة عما يطرح عليه من أسئلة هذا العصر الشكوكي المرتاب. وقد حاول "كولن" الإجابة الوافية والمقنعة على أمهات المسائل التي شغلت وتشغل أذهان الجيل الحاضر من المسلمين وربما الأجيال الآتية.[23]

6

لقد تخلص "كولن" من أسر المحدوديات المكانية والزمانية، وقفز قفزة نوعية إلى خارج وطنه التركي إلى جهات العالم العربي، بل وإلى كل جهات العالم شرقيه وغربيه، منطلقًا من قناعته بأممية الإسلام وبعالميته، وبقدراته الفائقة على التعايش والمجاورة مع كل الأقوام والأوطان.

فالإسلام في نظر "كولن" لا يتنفس الحياة بكل أبعادها ما لم يخرج من حبوس الوطنيات والإقليميات والذهنيات الضيقة، ويستنشق أهوية العالم المختلفة، ويتعرف على أجوائه ويزاحم أفكاره وأيدلوجياته ومذهبياته، ويعرِّف نفسه، ويجلب الانتباه إليه... فكلما اتسع سريانه في مزيد من أرجاء العالم زاد اهتمام العالم به، وزاد من معرفته به، والتعرف على عقيدته وثقافته وتاريخه.

ومن هذه القناعة التي تشكل واحدة من أساطين فكره، وقف بكل ثقله وراء تلك المؤسسات الثقافية التي تنشئ المدارس في أنحاء العالم من أجل أن يكون طلاب هذه المدارس طلائع البعث الإسلامي العالمي المرتجى.

و"كولن" لا يبتدع هذه الأممية ابتداعًا، بل هو يجري في هذا على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، حين أرسل برسائل دعوية إلى أباطرة العالم وملوكه في عصره، داعيًا لهم إلى الإسلام وهو بعدُ في الأعوام الأولى من دعوته عليه السلام.

أما في هذا العصر، فإن هذه المدارس هي بعوث الإسلام إلى كل أنحاء العالم، وعِدَّتُها في ذلك، قلم يكتب، وكتاب يُقرأ، وعلم يُتَعَلَّمُ، وفكر يُنَشَّأ، وبصر ينفتح، وبصيرة تتعمَّق.

7

فرجل الفكر العظيم يظل أسير عظمته، لا يتصرف في شؤونه كلها إلا بوحي منها، فلا يستطيع أن يحيد عنها قيد أنملة، كما أنه في حالة تصاعد فكري لا يقف عند حد، لذلك تأتي أفكاره عظيمة كعظمة نفسه، وقوية كقوة شكيمته، وصادقة كصدق سريرته، وهو يتنفس أفكاره ويقتات عليها ثم يرسلها مع رياح التغيير والتجديد، فتستقبلها الأذهان بترحاب، وتغنى بها الأفكار، وتتحرك بها بؤر الجمود والخمود في الأفراد والجماعات، وتبدأ مسيرة التحول نحو الحياة الأفضل والأرقى، معتمدًا "المفكر" في ذلك على طبيعة الحياة نفسها وتفجُّر قواها الدافعة نحو الانخلاع من ألبسة العتاقة، والتحرر من أوقار سني التخلف والتعفن.

فلا يمكن لمفكر جادّ كـ"فتح الله كولن" أن يجد أماكن يلجأ فيها إلى الراحة ويخلد فيها إلى النوم وهو يرى الظلم الواقع على الأمة التي أفرغتها سنوات القحط الفكري من مضامين وجودها كأمة رسالية، فتعيش اليوم على مستويات هابطة وفاترة بانشغالها بما تفرزه الحضارة القائمة من فتات وتفاهات وهي تظنها شيئًا تحرص عليه وهو لا يزيد عن كونه مضيعة للوقت وقتلاً للطموح والآمال... فلم يعرف "كولن" هدوء النفس، ولا اعتدال المزاج، ولا صفاء العيش، ولا غبطة الحياة وإن بدا لمن ينظر إلى ظاهره أنه كذلك.

فالشخصية العبقرية شخصية مقاتلة بطبيعتها، تقاتل نفسها، وتحرق ضعفها، وتهشم أوثانها، وتعتلي فوق أشلاء موتاها، وتجتاز جسور الأخطار، وتلاحق بروق الأفكار، وتتسمع لجوعى الروح، وتبكي لنواح الساقطين في القاع، وترثي للمنهزمين المحبطين، وتمدُّ يد العون للساقطين في هوة الجاحدين.

8

ومنذ بدأت جذوة الإيمان في روح الأمة الخفوت في قرونها السالفة القريبة وهي تعاني شللا رهيبا في حوافز التقدم والتجديد، وتعطلا في طاقات النهوض، وانحسارا بالرغبات والطموحات، وعزوفا عن معرفة الذات، وعن تتبع امتداداتها التاريخية والحضارية وباتت قانعة بضعفها وهوانها وتجد في حطام الدنيا من شدة الحرمان شيئا تتسلّى به. وتنشغل به عن معالي الأمور، وهو أقل القليل، متناسية هدف وجودها الرسالي بين الأمم، والعقلي لجنون العصور، والاعتدالي بين الموازين الجانحة، وأنها مقدرة لتكون أمة الخلود والأبد والداعية إليهما. فلا ينبغي لغيرهما أن تسعى، ولا عنهما بديلا ترتضي، وأن الدنيا ليست سوى قاعدة انطلاق إلى الآفاق، وتصعيد إلى الأعالي.

ومن أجل ذلك كان "كولن" جوهريًّا في كل شيء ينحي الأصداف جانبًا، ويلقي بالفضول والقشور عن الماهيات والهويات، فتأتي كتاباته عميقة نافذة مخترقة للعالم المرئي المخادع الذي يخفي وراءه حقائق الأشياء التي تجعل صاحب رؤياها منتشيًا بما يرى إلى حد الذهول. إنه يرقى في تفكيره إلى ما فوق الحواس، وما وراء ظواهر الأشياء. فيكتشف شكلاً من أشكال الوجود كان غائبًا عن العقل والشعور، بدافع استغراقي بمحبة الله. المفتاح الذي يستخدمه "كولن" في فتح كل مغلق من الأشياء والأفكار، والأزمنة والأمكنة. إنه فيلسوف الإرادة التي لا تقهر، وأستاذ الخبرة في تغيير النفوس، وتزكية الأرواح، ورائد الانبعاث التفكري والفكري لهذه الأمة، والمحذر من الأخطار التي تحيق بروح الأمة، والتنبه لها، والبحث عن وسائل تجنيبها عنها.

9

فـ"كولن" يريدنا أن نظلَّ قائمين فوق قمة العبقرية الإيمانية، ونحاذر أن نتزحزح عنها أبدا مهما كانت إغراءات الهبوط، وسهولة الانحدار. فإننا إن فعلنا ذلك فقدنا السرَّ الإلهي الذي يحفظ علينا شرف إنسانيتنا.

 فهو بقوة فكره، وبحرارة هذا الفكر يريد أن يصهرنا من جديد كما تصهر النار الحديد ثم يشكل منّا بعد ذلك نماذج إيمانية حية ومبهرة ويخلي بيننا وبين العالم دون أن يقلق علينا أو يساوره الشك بقدرتنا على شق طريقنا بين الجموع كرسل إيمان ومحبة وسلام.

 فالفكر مهما كانت عظمة أفكاره لا يبلغ درجة العبقرية إذا كان باردا رغم عظمته. وإذا لم يصحب هذا الفكر قوة روحية هائلة تحافظ على تألقه وإبقاء لهبه مضيئا ومشعًّا، فالحياة تظل محتملة ومقبولة ما بقى الفكر ملازما لها، وإلا غدت مسئمة ومضجرة وحتى مقرفة لذلك يؤكد " كولن" في كتاباته أن أي محاولة للفصل بين الفكر الإيماني والحياة إنما هو حشر للمسلمين في زاوية ضيقة خارج الحياة وخارج التاريخ.

ويرى "كولن" كذلك أن التوترات الذهنية والروحية التي هزت أعماق الأمة ولا زالت تهزها والتي تفصح عنها كتابات الإسلاميين بوضوح إيما هي دليل على بدايات صحوة عامة تتطلب من الأمة أن تقف مليا لتعيد حساباتها وتناقش مواقفها الإيمانية والفكرية مما يحدث في العالم المعاصر، فتدخل ساحة النـزال كطرف مهم في الصراع الفكري والروحي الذي تخوضه الأمم والشعوب بعضها مع البعض الأخر، متمثلا هذا الصراع بالرغبة الملحة على تأكيد كل طرف منها على الذات التي تخصها واستنهاض خباياها كأولى مراحل النهوض المرتقب.

وبناء على ذلك -يقول كولن-: "فإن أمتنا أولا وبالذات، ثم الإنسانية جمعاء، بحاجة ماسة إلى فكر سامٍ يقوى إرادتنا، ويشحذ هممنا، وينور أعيننا، ويبعث الأمل في قلوبنا ولا يعرضنا للخيبة مرة أخرى"[24] فالعالم في طريقه إلى التغير ومراكز القوى في طريقها إلى التحول "إننا نشهد مرحلة يتغير فيها مركز العوالم الفكرية في الأرض، وبدأ الناس يتوجهون بشكل أساسي ودائمي إلى الأفكار بدلا من الأشخاص"[25] فإذا ما توضع الهدف وحشدت الأمة من ورائه قواها، وقادتها إلى الطريق إرادة لا تقهر ثم "توجيه مختلف دورات الطاقات إلى نقطة واحدة معينة ويعني ذلك تستخير التراكم العلمي والتجريبي والطاقة الكامنة لأمر ذلك الهدف السامي والغاية المنشودة"[26].

لقد مضت عقود كثيرة من السنين كان المسلم فيها يكثر من الهروب من سجن شخصيته وهويته والالتحاق بسجون شخصيات غيره، ظنا منه أن هذه هي طريق الخلاص من جميع إحباطاته، ومن آلام أحاسيسه بضعفه ووحدته، وأن إذابة ذاته في ذوات الأقوياء من ذوي النفوذ الحضاري العالمي يكسبه بعد ضعفه قوة، وبعد تأخره تقدما، وبعد فراغ عقله امتلاءً ولم يكن يدري أن جحيمه الذي يتلظى في وسطه إنما هو جحيم روحي بالأساس. وأن خلاصه من تأزمه النفسي والفكري يكمن في تطوير قواه الذاتية وشحذ هممها لتزيد من رصيدها الإبداعي والتفوقي. ومن إدراكاتها السامية، ثم تستخدم كل ذلك كما يقول كولن – في بناء كيانها المستقل والمتفرد، ويزيد "كولن" فيقول:

"ونحن الآن في مواجهة سلسلة من الأزمات... وحالنا يوحي بأمكان انفلات الذات وإرسالها، والوقوع في تبعثر وتشتت يؤدي بنا إلى الانحلال والذوبان... وحتى نجنِّب أمّتنا من الفظائع والفواجع التي لا مفر منها في حال سقوطنا، فمن الضروري والمحتم أن ننسلخ ونتزحزح تماما عن التيه في انعدام الهدف، وقابلية الانصياع للاستعمار والاستغلال، ونفسية العيش تحت الوصاية، وهي الحالات الملازمة لدول العالم الثالث.. ثم نركز على كينونتنا الذاتية ونتعقب أهدافنا وعاياتنا السامية"[27].

10

لا زالت قضية الحيرة الذهنية التي يعاني منها "عقل العالم" اليوم تشكل خطرا مرعبا على عقل المسلم، إذ يمكن أن تنتقل هذه الحيرة بطريق العدوى إليه ما لم يتحصن هذا العقل بالحصانات التي تقيه الإصابة، وتمنعه من أن يُدَاء بالداء نفسه.

 وإن مما يسهل الإصابة بهذه العدوي فقدان الشعور لدى المسلم بكينونته الذاتية والتاريخية، ونسيانه الوظيفة العظيمة التي أناطها الله تعالى به كشاهد على البشرية. وكمَعْلَمٍ من معالم الهداية لها، والمسؤولية الأدبية والأخلاقية عنها. كما يشير "كولن" إلى ذلك في كتاباته. فكتاباه القيمان "ونحن نبني حضارتنا" و "ونحن نقيم صرح الروح" مليئان بالاشارات إلى هذا المعنى الآنف الذكر. وإلى حين توافر عوامل الإصلاح النهائي لهذا العقل المتردد الشكَّاك. فإن الخطر يبقى يتهددنا كأفراد وكأمم. لأن هذا العقل قاصر عن إدراك أن الحرية إنما هي معنى روحي وديني قبل أن يكون معنى من المعاني الذي اكتشفه الفكر الاجتماعي والحضاري قبل عدة قرون. فهذا العقل الجمعي سيظل يتعبنا إلى زمن ليس بالقصير ما ظل سجين نفسه، وما ظل عاجزا عن إدراك الحرية بأبعادها الروحية اللانهائية.

فإذا ما كان للعقل حياة -وبديهي أن يكون له حياة- فإن هذه الحياة درجت إليه من مكان خارج العقل. وتنـزلت عليه من مصدر علوي لكي يتعرف من خلالها على نفسه وعلى العالم من حوله. وكذلك ليكون في مكان وسط بين الكائن البشري والجلال الإلهي. ولكي يدرك كذلك أن هناك قوة أعلى من الإنسان. وأعظم من الكون. وأن العقل يبلغ أسمى أهدافه إذا ما كرَّس حياته كلها في خدمة هذه القوة الجلالية المتجلية بالجلال والعظمة على العقل نفسه. وعلى كل شيء في هذا الوجود.

فنحن البشر إنما موجودون بالله ولله. فإنْ التبس على الإنسان الأمر، وشَطَّت به الظنون الهوجاء بعيدا إلى غيره تعالى. شبّت على الفور نيران الجحيم في قلبه وعقله ومضى يخبط في الحياة خبطَ عشواء، والجحيم في داخله يشوي وجوده ويحرق فؤاده فلا يقرُّ له قرار، ولا يهدأ له بال، فيعيش في رعب وخوف من كل شيء حتى إنه ليخاف ذاته ويرتعب من وجوده، وينكر إنسانيته، فيبقى عائما ولكن في الخواء، ويظل فزعا ولكن من الفراغ المجهول.

إن عقل العالم -كما يشير كولن في غير موضع من كتبه- تلزمه يقظة ذهنية جادة تهزُّ أخفى خلايا دماغه، وتفتح كل ما أغلقه على نفسه من أبواب المعرفة غير المتناهية. وإن كان سيعاني في أعقاب هذه اليقظة آلام الانتباه المبرحة لكنها تهون بإزاء النشوة التي ستغشاه وهو يلامس الحقيقة. ويتعرف على أصوله الإلهية. واستشرافاته الماورائية، مرتفعا بذلك إلى مستويات عالية من التفكير يلامس من خلالها أبعادا وراء أبعاد من الأفكار التي لم يعهدها فيه من قبل. فالعقل إذا سكن واستنام إلى ما عنده من علوم ومعارف، وظن ما عنده منتهى كل عقل، ونهاية كل فكر، فسد هواؤه وتعفّن، وأفسد عالمه، وعفّن أجواءه، ولم تعد البشرية تستمد منه المعرفة بل تستمدها من العذاب والمعاناة والشقاء، حيث تنقدح من خلالها أحيانا أقباس معرفية يمكن أن تقتات عليها إلى زمن محدود.

فنصف الوعي، أو إن شئت نصف الجنون الذي يتلبس كيان حضارة اليوم إنما هو من إفرازات عقل العالم ومن انعكاساته عليها. لقد جنى هذا العقل على الحضارة وجعلها تعيش في أضيق مديات الذهن. فتدانت ورخصت مما حدا بكثير من المفكرين بوسمها بميسم الرخاصة والتفاهة وبالعجز والمرض لفقدانها الصحة الروحية والمعافاة الفكرية، الأمر الذي دفع أصحاب النفوس الانفعالية الارتدادية الضيقة إلى الجنوح إلى التطرف الفكري. والسلوك الهمجي وكأنهم بذلك يعبرون عن نقمتهم وعن انتقامهم من هذه الحضارة العاجزة عن تلبية حاجاتهم الروحية والوجدانية.

التحول الكبير

1

إذا لم تقم قيامة العالم في غضون العقود الخمسة القادمة، فذلك يعني أن البشرية قد أُتيح لها مزيدًا من الوقت لمواصلة مسيرها في طريق التحول الكبير من دائرة الفكر المادي أساس حضارة اليوم والدخول في دائرة الفكر الروحي كما قد تنبأ بهذا التحول الأستاذ فتح الله كولن.[28]

و"كولن" مفكر عملي وواقعي بإجماع معظم المتتبعين لأفكاره وكتاباته، وهو إذ يتنبأ بهذا التحول الفكري فإنما يفعل ذلك من منظلق مشاهداته واستقراءاته لمسارات الفكر العالمي، ومن تيقّنه من أن الفكر الروحي إذا غاب في دورة حضارية معينة فإنه لا بد من عودته في دورة تالية، ومما يعزز هذا الرأي لدى "كولن" رؤيته لأعمدة الفكر المادي وهي تشرع بالتصدع والتهاوي عمودًا بعد عمود ويومًا بعد يوم.[29]

فقد شرع أساطين هذا الفكر بهدم مرتكزاته بأنفسهم، فقاموا يهدمون ما كانوا قد بنوه وبمعاول العلم نفسه الذي شيدوه به. فنسبية "آنشتاين" المدوية قلبت الأسس الفيزيائية والرياضية رأسًا على عقب، وحملت رجالات العلم على مراجعة يقينياتهم ومسلّماتهم... وأما انشطار "الذرة" اللبنة الأولى في صرح المادية وتحولها إلى شعاع وضياء وكهارب، فقد غيرت الكثير من أفكارنا عن المادة والمادية... وأما "الداروينية" و"الفرودية" و"الماركسية" فقد غدت اليوم من أوهام العقل البشري... وكذا قل عن نظرية "التفسير المادي للتاريخ" التي أبطلها للأبد فيلسوف التاريخ الشهير "توينبي" الذي توصل من خلال أبحاثه المضنية في تاريخ العالم وحضاراته إلى نظرية مفادها أن التاريخ البشري برمته ليس بأكثر من عملية نضالية لاستكشاف انعكاسات الألوهية من خلال أحداث التاريخ وحضارات الإنسان.

2

وليس من عادة "كولن" ولا من طبيعة تكوينه الفكري والاستشرافي أن ينأى بنفسه عمَّا يحدث في العالم من تقلبات وتحولات في بنية الحضارة وفي تحولات عقلها من النقيض إلى النقيض، فيظلُّ يتطلع من برجه العالي إلى هذه الأحداث ولا ينزل إلى الميدان ليسهم بأفكاره وآرائه في دفع العمل التحولي والمفصلي في تاريخ البشرية إلى الأمام، ولَمّا كانت أمة الإسلام هي الجزء الأهم من مجموع البشرية، والأكثر استجابة لهذه التحولات لما تملكه من رصيد روحاني عظيم، يمكن أن تفيد منه البشرية قاطبة في عملية التحول المنتظر، لذا كان خطابه موجهًا إليها بالذات ومن خلالها إلى البشرية جمعاء. ولكي يتمَّ التعرف على هذا الرصيد الروحي العظيم للأمة لا بد من أجواء تفاهمية وحوارية وكلامية بين مشارق الأرض ومغاربها، وهذا كله لا يتمّ ما لم يُظِلَّ السلام والأمان العالم الإنساني، وهذا هو دافع "كولن" ليصبح اليوم واحدًا من أميز رواد السلام والحوار وتبادل الأفكار بين شعوب الأرض وأممها.[30]

وكما يصبح الحوار بين الإنسان والإنسان المغاير أمرًأ مطلوبًا للتمهيد لعملية التحول الكبير، كذلك يصبح الحوار مع ذاكرة التاريخ الخزين الأكبر لأزمنة البشرية وعصورها وتقلباتها بين أحقاب مادية الصبغة وأحقاب روحية الصبغة أمرًا لازمًا كذلك. فهذه الذاكرة تحتفظ للأجيال الحاضرة ولكل الأجيال بأزمنة الوثبات الروحية العالية التي وجد فيها التاريخ المتنفس والمنطلق، ووجدت فيها البشرية ذاتها على حقيقتها وفطرتها الأولى التي فطرها الله تعالى عليها. فالجيل الحاضر سيجد في هذه الوثبات الروحية أمثلة حية ونابضة بالحياة لكي يستهدي بها وتكون وثباته على منوالها.

3

وفي التمهيد لعملية "التحول الكبير" ينبغي أن نحشد كُلَّ الأزمنة ذات الصبغة الروحية التي عرفها التاريخ، لتساعدنا وتقف إلى جانبنا، ونحشد معها كل الأمكنة ذات الطابع الروحي كذلك، وإذا كان للزمن روح متحرك وسجل حياة، فللأمكنة كذلك روحها وسجل حياتها -كما يرى كولن-، ولها كلام وهمس يسمعه رهاف السمع (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ)(سَبَأ:10). وبعض الأمكنة لقدسية ما يناط بها من مهام روحية وتعبّدية، يتدخل القدر من فوق سبع سماوات في الدعوة إلى إنشائها ورسم خارطتها، كـ"الكعبة الشريفة" مثلا، حتى أن بعض الأمكنة إذا شاهدناها يذهب بنا الروع إلى أنها نزلت هكذا من السماء، أو انشقت هكذا عنها الأرض كـ"المسجد النبوي الشريف"، وكـ"المسجد الأقصى المبارك" وفي إسطنبول صرحان عظيمان متقابلان يتبادلان نوعًا من الهمس الروحي وهما "جامع السلطان أحمد" و"كنيسة جامع أياصوفيا" اللذان يمثلان توحدًا روحيًّا في حضارتين مختلفتين، فيدفعان باتجاه حقبة حضارية جديدة روحية الأبعاد"[31].

4

إنّ "كولن" يدعو طلبته والمتتلمذين على أفكاره إلى مزاحمة أولئك الرجال العظام العاملين من أجل قيام حضارة روحية جديدة على أنقاض هذه الحضارة القائمة اليوم، والعمل معهم يدًا بيد وكتفًا إلى كتف.. وعدَّ ذلك من أوجب واجباتهم، ومن أعظم مهماتهم الرسالية إلى هذا العالم، كطلائع روحية تشكل حزامًا تتحزَّم بهم الكرة الأرضة، وتتحصَّن بحصونهم من أي خروقات فكرية مناهضة للتحول الكبير نحو حضارة الروح القادمة.. وفي هذا الصدد يقول "كولن": "إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغمًا عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء"[32]. ويمضي فيقول: "إنّ أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي هو: أن يكون وجودُنا ذاتَنا، وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته. (...) ومَن لا يرتبط باعتبار عالمه الخاص بعموم الوجود، ولا يحسُّ بعلاقاته مع الكائنات، وينكفئ في روابط مطالبه الفردية والجزئية عن مواجهة الحقائق الشاملة للعالم، فإنه يقطع أواصر ذاته عن الوجود كله، ويجردها، ويسقطها في حبوس الأنانية القاتل. (...) إن روح الإنسان يلتف ويتآلف مع العالم بالفكر وفي ظل الفكر"[33].

وعن العمل الرسالي من أجل هذا التحول الكبير، وعن تباشير الآمال التي تحيط به، يقول "كولن": "إن تحقيق هذه الرسالة الحيوية مرتبط قبل كل شيء بتحريك دبيب الأرواح الصدئة في هذه الأرضية الصدئة. ويبدو أن المجهود الدؤوب منذ خمسين أو ستين سنة قد نجح في زحزحة الصعاب. فيمكننا أن نئن مع الشاعر الْمُعذَّب، إذ يقول: "اضْربْ بالمعول يا فرهاد، قد مضى الكثير وبقي القليل"... التحرك الأول هو تحرك الروح، وهو يلقي السلام علينا اليوم أينما مضينا كأقواس الترحيب المقامة من أكاليل السماء النورانية، بنعومة السكينة ودفء غيمة الربيع. فلقد اقترب موعد احتضانه لوطن المظلومين والمغبونين والمقهورين كله، وصب وابل حنينه الرحيم زخًّا زخًّا"[34].

لقد زرع "كولن" في طلبته حبَّ النوع الإنساني، والاهتمام بعذاباته، والوقوف معه على عتبات الوثبات النوعية باتجاه بناء حضاري روحي العماد، وجعلهم يشعرون بمسؤوليتهم إزاء سقطات الإنسان وانحداره نحو المهاوي التي تملأ عينيه ظلامًا، ونفسه كآبة وعفونة، وأن ينثوا حنانًا عند كل مصروع، ويبكوا كل مفجوع، ويئنّوا مع الذين يئنّون، ويجففوا دموع الباكين، ويأخذوا بأيدي الساقطين، وأن يعطوا ولا يأخذوا، ويبذلوا ولا يبخلوا، ويصبروا ولا يفزعوا، ويتحمّلوا ولا يضجروا، ويتحركوا ولا يسكنوا، وينشطوا ولا يكسلوا، ويعملوا ولا يتكلّموا، ويحيوا ولا يموتوا..!

فإذا ما اندلعت شعلة هذه المعاني في أذهانهم، واستقرّت في أرواحهم، توجهت إليهم الأنظار، وحوَّمتْ حولهم القلوب والأفكار، وغدوا منبع إلهام وعطاء، واختارتهم الأرض لإحياء مواتها، وتجديد حضارتها، وبناء فكرها، وشفاء روحها، وتنظيف مداركها، ونشر السلام والأمان في ربوعها. وهذه الصفات والأخلاقيات هي التي ينبغي أن يتعلمها المؤمن ويحياها ويتنفس بها فكرًا وسلوكًا، لأنها أخلاق علوية المصدر، ربانية الأصول، روحانية التنزيل.. فأصحاب هذه الصفات والسلوكيات قادرون على تغيير مسار الحضارات أو على الأقل حلّ مشاكلها، وتعديل مساراتها.. ومن دونهم تعمُّ الفوضى، ويختفي الحق، وتسقط العدالة، ويأكل الناس بعضهم بعضًا...

 


[1]     النوم هنا يتراوح بين الحقيقة والمجاز.

 [2]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:119.

 [3]     ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:10.

 [4]     ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:11.

 [5]     ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:31.

 [6]     ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:31.

 [7]     ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:32.

 [8]     ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:32.

 [9]     "عن أبي ذرّ -رضي الله عنه- قال: دخلتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد، فقلتُ: يا رسول الله، كم النّبِيّون؟ قَالَ: «مِائَةُ أَلْفِ نَبِىٍّ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفِ نَبِىٍّ»، قلتُ: كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ؟ قال: «ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ» (رواه البيهقي في السنن الكبرى).

 [10]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:5.

 [11]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:5.

 [12]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:5.

 [13]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:17.

 14]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:100.

 [15]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:181.

 [16]    النور الخالد، فتح الله كولن، ص:181.

 [17]    ونحن بني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:106.

 [18]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:30.

 [19]   الألوان والظلال، فتح الله كولن، 1/73.

 [20]    كثيرًا ما كان يشاهد "كولن" وهو يهم بتمزيق بعض كتاباته، ويعود الفضل في الحفاظ على هذه الممزقات إلى بعض تلامذته. (انظر: مقدّمة الخابية المشقوقة، الجزء الأول، بمناسبة تأليفه لمقال "الواحدية والأحديّة" في كتاب "التلال الزمرّدية").

 [21]    نلفت الانتباه إلى فعلي "نبني" و"نقيم" في كتابيه القيمين "ونحن نبني حضارتنا" و"ونحن نقيم صرح الروح".

 [22]    انظر: روح الجهاد وحقيقته في الإسلام، فتح الله كولن.

 [23]    انظر: أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن.

 [24]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:37.

 [25]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:37.

 [26]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:39.

 [27]    ونحن نبني حضارتنا، فتح الله كولن، ص:40-41.

 [28]    الألوان والظلال، فتح الله كولن، 1/73.

 [29]    يمكن رؤية جذور هذه الأفكار في كتابيه الشهيرين "ونحن نقيم صر الروح" و "ونحن نبني حضارتنا" للأستاذ فتح الله كولن.

 [30]    انظر أصول هذا الكلام في كتابيه القيمين "ونحن نقيم صرح الروح" و "نحن نبني حضارتنا".

 [31]    انظر: ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن.

 [32]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:57.

 [33]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:58.

 [34]    ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:62.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.