الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

ليس كولن قارئًا للتاريخ، ومتأملاً لوقائعه ونواميسه وحسب، ولكن هو-بالإضافة إلى ذلك- مفاعل عضوي، متوغل في تفاصيل الواقع الاجتماعي والثقافي والروحي للأمة، وقائد منخرط بلا هوادة في عملية صوغ راهنها ومستقبلها، يصبح ويمسي على همومها، يهيب بالرأي، ويستجيب بالمقترح، ويسعف بالدعاء، ويدعم بالتعبئة والمدد، يقتدح الزند، ويولد الفكرة التي تسد الثغرة، وتملأ الفراغ، وتشد الأزر، وتنتصب إنجازًا يسهم في تسريع الانطلاقة.

لقد صار بهذا التجند المحض شحنةً من صميم ذرات التيار، تشق المجرى، وتصنع التاريخ، لا مجرد حجرة مغمورة في الأرض يدحرجها السيل، أو يلفظها على الضفة.

يختلف كولن عن دعاة العصر في كونه يتموضع ضمن صفوف الجماهير، وفي الآن نفسه يتموقع طليعة الحداة، بعيدًا عن الأضواء، يعارك في صمت القانتين، ويناجز في صبر المجاهدين، يتساءل غيره من دعاة الماركوتنغ: كيف مرت الحصة المتلفزة، وكم كان عدد مشاهديها، ويسأل هو: كم مسلمًا استفاد من المنشأة؟ وكم فردًا استفاد من المنجز؟ وكم علينا أن نبذل وننشئ وننفذ لنؤدي حق الأمة والإنسانية علينا في هذا الصقع القصي، أو في تلك البقعة المجهولة.. منشؤه في تركيا، هيّأه لأن يكون بهذا الحجم من الإحساس بالتاريخ، والانجذاب إلى قراءة صحائفه، والاتعاظ بعِبَره ووقائعه.

والحقيقة أن تركيا ليست إلا جغرافية وجدانية مفتوحة على التاريخ، تنتصب عبر حواضرها وأرجائها معالم الماضي المجيد، ومفاخر الأمس التليد، شامخة عازمة كأنها توقيعات سلطانية على قرطاس. أضرحة الأولياء، ومساجد الصلاة، ومزارات العُبَّاد، ودُور التكايا والكتاتيب، ومنازل العلماء، ومراسم الصالحين.. آلاف المشاهد والمواقع الناطقة ترسو على السطح، وتتجذر في تربة ذلك الوطن المفتاح.. فلا عجب أن تشتحن روح الداعية كولن بكل هذا الإكبار للتاريخ، ولأهميته في صنع الهوية ووسم الذات.

لا بد أن الاستعداد والقابليات التي هيأته للنبوغ، قد انصقلت بذلك التراث العارم للحضارة الإسلامية، الماثل على أرض تركيا، والمؤثر بقوة سلطانه المعنوي على شخصية الأتراك.. فمادة ذلك الرصيد الفذّ، ظلت بمثابة الصوت القدسي المنبعث من خلف أستار الزمن، يرنُّ في سمع كولن ويملأ جنبات كيانه؛ إنه صوت الرُّفْقة الميامين، رفقة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- المنبثة أضرحتهم في الفضاء من حوله، علامات سُنّية تحيل على زمن النبوة، فحيثما سِرْت في أرجاء الأناضول واجهتك المواقع تترى، ترتل عليك صفحات من الاستبسال والفداء، سطّرها الصحابة ومِن بعدهم التابعون، نشرًا للإسلام وبثًّا لدعوته في الآفاق.

ولقد كان من قَدَر بلاد الأناضول أن تكون الجسر الذي طفقت ترابط عنده الجيوش الإسلامية منذ العهد الأول للدعوة، سواء في توسعاتها نحو مناطق شرقي آسيا وآسيا الوسطى، أو حين راهنت على بلوغ أوروبا، وتخطِّي شواطئ البحر الأسود، متطلعةً إلى تلك البلاد التي ظلت حدودها مصدر تعدٍّ وتهديد للإسلام.

لقد تناثرت مجالي الحضارة وآثارها الرائعة عبر أرجاء تركيا، الأمر الذي جعل للإسلام حضورًا ذا سلطان على نفوس الأتراك؛ بحيث تتابعت الأجيال وشعورهم بالانتماء يتقوى، والرابطة العضوية تتأصل، وهو ما عبَّأَ الروحَ التركية بعقيدة تجاوزت مستوى الانتساب إلى مستوى الوصاية، لا تفتأ علاقة التماهي تتعتق وتتجلى مع القرون؛ إذ قامت المعالم والتُّرَبُ والقبور بدور الذاكرة الحية التي تفتأ تشحن الأجيال بحرارة الإسلام، وتمكن لديها العقيدة.

كما هناك تلك السمة السيميائية المتمثلة في هذه المنظومة من المساجد والجوامع العتيدة التي تشامخت، وتربعت على رُبَى وهِضَاب المدن والحواضر التركية، كتقاطيع حُسْن أصلية ازدادت بها الطلعة بهاءً ورونقًا.


رؤية كولن للتاريخ

يرى كولن أن التاريخ ليس مرآةً ينعكس عليها الواقع المتصرم بتفاصيله وحيثياته المجهرية، ولا هو خشبة تتكرر فوقها حوادث ما جرى بدقائقها وتفاصيلها الذرية، ولكن التاريخ مجال استذكاري، وسِجّل تقييدي يمْثُل على صفحاته ماضيَنا كما صاغه أسلافُنا، ويتشخص في خطوطه العريضة أمسُنا كما لابسه أجدادُنا، فيقرأ فيه الخَلَف العِبَر، ويتلقون الدروس من خلال اتعاظهم بما وقع، والاستفادة من الأحداث التي انقضتْ، فلا يعيدون الأخطاء التي وقع فيها سلفهم، بل يتجنبونها، ويسعون دائمًا لاحتذاء الأفعال والمآثر المشَرِّفة، وذات العائد المفيد لهم ولمَن لهم صلة به على وجه أو آخر.

رؤية كولن للتاريخ برهان على سعة تمرسه بنظريات المعرفة المعاصرة، لاسيما في حقل العلوم الإنسانية، ولقد لمسنا لديه رؤية لقراءة التاريخ، وفهم جدليته، وإدراك فعاليته في رسم سيرة الأمم والجماعات.

لم يجعل كولن من التاريخ محور ارتكاز في خطابه الدعوي فقط، يفتأ يحيل إليه ويحاجج به، كإثبات يقوم في وجه أيديولوجية التغريب وكردِّ فعلٍ عليها، ولكنه -إلى ذلك- ركز على التاريخ؛ لأنه استقرأ في شواهد وتجارب النهضات أن الاعتبار بدروس التاريخ يُعَدُّ من أهم دعائم الاستمرار والعراقة والدوام.

وإذ وضع التاريخ في طليعة عناصر التأسيس، وفي صدارة المحركات[1] التي تُبْنَى عليها الهويةُ ويُرتسَمُ وجهُ الغد، كان يقوم بتصدٍّ نافذ، ومواجهة حاسمة لأيديولوجية القطيعة والقفز على الحقيقة والانبتات عن الأصل، تلك الأيديولوجية التي تقمصها باندفاع أهوج، تيارُ الردة والتغريب؛ إذ راهن أصحاب هذا التيار على اصطناع مستقبل استنساخي، وبناء هوية تركيبة، قِطَع غيارها تُستورد من هناك، من بلاد الغرب موضوع القدوة وأفق الانبهار.


ثقافة كولن القرآنية

والحقيقة أن ثقافة كولن القرآنية قد أمدته بالمنظار الأنسب لفهم فاعلية التحول الذي تعرفه المجتمعات الإنسانية عبر الزمن والعهود، إن الإحالات القرآنية المفتوحة والمتكررة في مواطن لا تُعَدّ من المتن القرآني، إلى الأمم والحضارات والمدنيات السابقة، وإلى المآلات والمصائر التي انتهت إليها، قد تضمن التعريف بالشروط الذاتية والموضوعية التي تتم فيها حركة النشوء والتجدد والأفول؛ حيث تولد الظواهر المدنية، والدورات الحضارية، وتزدهر وتموت.

ومثلما يستمد كولن أُسُس الفقه الصيروري من القرآن والسنة، كذلك يستمدها من قوانين الكون والفطرة والطبيعة والعمران، كما سنرى ذلك بعد قليل.


تأثر كولن بالسيرة النبوية

صلة كولن بالتاريخ، تترجم صلة روحية وفكرية وثقى تربطه بالسيرة النبوية. من هنا كانت له تلك العلاقة الوجدانية بالبقاع المقدسة، وخاصة تلك المواقع التي قُدِّرَ لها أن تكتسب بُعْدَ المرموزية التحنُّفية للرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل غار حراء. فتعلقُ وجدان كولن بحراء أمرٌ لا مراء فيه، بدليل أننا رأيناه يطلق اسم "حراء" على أول مجلة عربية تصدر في تركيا المعاصرة. بل إن لحراء أثرًا سلوكيًّا في روح كولن، فحراء -إذا ما تأملنا موحياتها- كانت هي معتكَف الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وموطن هجرته إبان تهيؤه لاستقبال رسالة الله إلى العالمين.

وسنرى كولن يجسّد -هو كذلك- في سيرته الدعوية تجربة حرائية، فيها بعض ما يتشاكل -اقتداء- مع سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واعتكافه الأزكى بغار حراء. لقد تأبَّى كولن إلا أن يجعل من صحن المسجد مسكنه وموضع إقامته، بل لقد أبى في مستهل أطوار تدرجه في الدعوة، إلا أن يجعل من نافذة أول مسجد تولى الوعظ فيه، مَقرًّا له، ومثوى يؤول إليه آخر النهار، وبذلك الخيار تكون العلاقة الاقتدائية مع خير الخلائق محمد -صلى الله عليه وسلم- قد أخذت طابعًا عمليًّا؛ إذ إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يتهيأ للاضطلاع بالحدث الدعوي، كان قد اتخذ حراء مسكنًا يغشاه، ومستقرًّا يلازمه، ويتفرغ فيه للتبتل وتزكية النفس.


آداب الترقي الروحي

ولا يخفى التشابه أو التقارب بين الموضعين: حراء والنافذة، من حيث الوظيفة والدلالة، فكولن كان يعي أن من آداب الترقي الروحي أن يدشن المرء برنامج العكوف، والاستغراق الروحي، وهو على حال من التريض الجسدي والفكري يزداد معها التيقظ والصحْوُ الوجداني.

من جهة أخرى نرى أن كولن طفق يتوقف في كتاباته مَلِيًّا عند قصة أهل الكهف[2] كما روى تفاصيلها القرآن، وطفق يستخلص منها شرطًا سلوكيًّا يرى -الأستاذ- أن على كل منخرطٍ في المهمة الدعوية أن يتمرس به. إن تجربة التكهف، أي الأخذ بسلوك العزلة والعكوف في الخلوة، وتقييد النفس والروح ببرنامج مكثّف يقوم على التدبر والتأمل في الملكوت والحياة، هو -فعلاً- استكمال لعُدّة الخروج إلى الدعوة، "على الدعاة والمرشدين أن يشحنوا في البداية شحنات روحية مثل أصحاب الكهف، وأن يمروا بمثل هذه المرحلة"[3].

لقد اتخذ كولن من نافذة أول مسجد عُيِّن فيه، حراءه الخاص؛ إذ وجد فيها الصعيد الأمثل للهجرة والاعتصام مما كان يتلاطم الواقع حواليه من عواصف الردة والارتكاس. ولا شك أنه سلوك باعثه العذرية الروحية، والفُتوة، وفورة التوجه الإيماني والقلبي. لقد كانت نافذة المسجد بالنسبة إليه هي سفينة نوح التي اختار أن يلجأ إليها في وقت طمّ فيه المد الإلحادي من حوله، بل لقد كانت نافذة المسجد تمثل له الرحم التي يجد فيها الدفء والمَنَعة، ويسترد صفاء الفطرة الأولى. لقد كان كولن بذلك السلوك وتلك السيرة يتلاقى مع التاريخ، ويعيشه ملابسةً وتقمصًا. لقد كان كولن يجتاز مرحلة تَخَلُّقٍ حاسمة، تستقر بها الرؤية، وتستشرف الأفق الفسيح!

كان كولن يوعز من خلال صنيعه اللجوئي ذاك، أن حماية الأمة تتحقق في مجاورة المسجد والاستنجاد به، بل كان يوعز بحقيقة مفادها أن الأمة بحاجة إلى ولادة جديدة وانبعاثة سوية، تتحقق لها من ذات المثابة الحضارية والعقدية التي سبق لها أن انطلقت منها، من أعطاف مساجدها ومعتكفاتها.

وواضح من كتابات الأستاذ كولن أن هناك عاطفة قوية تربطه بموطن الاشتحان الروحي الذي يمثله كل من غار حراء وكهف الفتية أصحاب الرقيم.

وواضح كذلك أن ما يميز هذين الصعيدين الملاذين من بُعد اعتباري، إنما اكتسباه من الشعيرة التعبدية والتجددية التي تمت على أرضيتهما، فهذه الصلة الوجدانية التي ترجمت عنها كتابات كولن قد أبانت أن الأهمية التي أخذها كل من المَعْلَمَيْن الروحيين في أعماقه، إنما تأَتَّتْ من كونهما رحابين تتزكى فيهما النفس بما يعيشه المرء في كنفهما من أحوال التحلية والتخلية، أو بما يستغرقه في ظلهما من واردات التأمل والقنوت، ما تتهيأ به الروح للتسامي والعروج.

لا ننس أن انطباع مواجد الأستاذ كولن بروحانية المرافق القدسية يندرج ضمن التقدير الكبير الذي طفق يوليه للتاريخ؛ فالتاريخ عنده هو السياق الموضوعي الذي يستوعب منظومةَ الوقائع الاعتبارية والسجالات الحراكية التي تفيد من دراستها الأمةُُ، ويفيد الأفرادُ، من حيث إحكام التخطيط للمستقبل، وتسديد الوجهة، وترشيد المسار.

التاريخ أدوات وميكانزمات وبنى اجتماعية وحراكية، يرسم تفاعلُها مجتمعةً المسيرةَ، ويشق الطريق في الزمان وفي المكان، ويصنع الأشواط ويحدد الهوية.


البنى الفاعلة في الحراك التاريخي

لا ريب أن في مقدمة تلك البنى الفاعلة في الحراك التاريخي، البيت العائلي، ثم المؤسسات التعليمية وأبرزها التكايا، ثم المساجد ودور العبادة.

البيت التقليدي التركي لم يُخترَق رغم انغمار المناخ الثقافي والإعلامي والتعاملي بقِيَم الآخر. فقد حافظت الأسرة المتدينة، بل والأسرة الشعبية بصورة عامة على ثقافتها الروحية المتوارثة. تلك الثقافة التي تأصلت للعثمانية عبر القرون، فتشبثت الجماهير المحافِظة بحصنها من القيم، وصمدت في وجه عوامل الاختراق الروحي والبيئي التي كانت جاريةً على قدم وساق بأيدي الاستيلابيين، للتحول بالمجتمع التركي نحو التغريب.

ولا يعني هذا أن البيت لم يُصَب بضرر التهجين الثقافي والقيمي بتاتًا، بل لقد لحقت الأسرة تشوهات في مقوماتها، لكن الفعل الروحي المقاوم للردة مكَّن البيت التقليدي التركي من الصمود، رغم ما أصابه من أذى اغترابي، وهو ما سجَّله الأستاذ كولن في معرض تقويمه لتجربة الضلال الارتكاسي التي خاضتها النخب المتغربة بالمجتمع التركي، بدعوى تحديثه.

".. نعرف من تاريخنا القريب أن الأسرة والشارع ومؤسسات التعليم وأوساط الفنون قد نفخت في أرواحنا الأفكار الشاذة والموازين الفاسدة، فقلبت كل شيء رأسًا على عقب، من المادة إلى الروح، ومن الفيزياء إلى الميتافيزيقا"[4].

ولذا كان من الطبيعي، بل من الحتمي، أن يتركز الجهد التوجيهي على هذا الجانب، جانب الأسرة، وأن تتكثف التحريضات على وجوب حماية مؤسسات التنشئة، وأن يكفل لها المادة والمحتوى الترشيدي الصحيح، "لقد آن الأوان، بل يكاد يفوت، لكي نحْمِل أعباء مؤسساتنا في كل مجال مثل الدين والعلم، والفن والأخلاق، والاقتصاد والعائلة، ونسمو بها إلى مواقعها الحقيقية في تاريخنا، فنحن أمة تنتظر وتترقب رجال عزم وإرادة وجهد يحملون هذه المسؤولية"[5].


المظاهر المعمارية العتيقة

وللمحيط دور في ربط الفرد بالتاريخ، ذلك أن شواهد العراقة والاسترسال في الزمن تبدو في اللغة والتقاليد والفن، والأخلاق والمناهج الحياتية عامة، وتبدو كذلك في المعمار.. فالمظاهر المعمارية العتيقة وجه بيداغوجي ووجداني يشد الروح والنفسية إلى الماضي، إلى التاريخ، وتعتبر في هذا المجال -بحق- حواضر تركيا سنفونية حافلة بالمعالم المعمارية التي اكتسبت مع الزمن قيمة النص المكتوب، والنصب الإشهاري، والبيان الموثق، لتفاصيل الماضي، والمعبّر على جهة النسب والانتماء.

ولقد شمل العسف والتخريب التغريبي مجالات الحياة عامة في معتقداتها وسجاياها ومُثُلها، وهو ما نبَّه إليه الأستاذ كولن؛ حيث لاحظ قائلاً: "إن ما تعرَّض لشؤم الإبعاد والترك والنسيان في هذا البلد منذ قرنين، ليس الزي والفكر وفلسفة الحياة حصرًا، بل ثقافتنا الملّية المعنوية، وحسّنا التاريخي، ونظامنا الأخلاقي، وفهمنا للفضيلة، وتصوّرنا الفني، وجذورنا المعنوية أيضًا قد تعرضت - وربما مع ضرر أعظم- إلى التآكل"[6].

بل إن سقوط الأمة وفقدانها لما كان لها من شأن إنما كان بسبب ابتعادها عن الدين الحنيف.


لماذا الارتباط العميق بالتاريخ؟

إن الارتباط بالتاريخ هو ارتباط بالإسلام. فتنويه الأستاذ كولن بالتاريخ جاء من هذا الصدد، كون الإسلام هو الهيكل الذي انتسجت عليه لحمة تاريخ الأمة التركية، فالاعتداد بالتاريخ، والحفاوة به، وإعطاؤه الاعتبار والرجاحة من حيث الفاعلية في تحقيق الإنهاض، إنما هي حال ناتجة عن التقدير الذي يعرب عنه الأتراك نحو الإسلام، فهم يعون أن بفضل ارتباطهم بالإسلام، وانصهارهم فيه، كانت لهم تلك الصحائف الذهبية التي سطّروها في سجل تاريخ الإنسانية.

إن الإسلام -كما يقول الأستاذ كولن- هو الذي استوعب في كنفه القبائل التركية البدوية الأولى، وهيَّأها لأن تكون طليعة للأمة المحمدية طيلة مراحل من التاريخ الإسلامي، وجعلها حاملة لراية الشريعة.

ففي وجدان كولن تتحدد انطلاقةُ التاريخ التركي بابتداء عهد البعثة؛ لأن الرسالة المحمدية هي التي مكَّنت لفيفًا من القبائل التركية من أن تتراص في صفّ الأمة، وتسطر ضمن مسيرة الأمة صفحات من حضارة الإسلام. فالترك شأن العرب سواء بسواء من حيث فضل الإسلام عليهم في ابتداء قيام شأنهم، وظهورهم في الحضارة، وحضورهم على مسرح التاريخ.

من هنا كان التاريخ عنوانًا على الاستمرار والحضور، ووصلاً لما انقطع من حبل الحضارة، ومناط حلم رفع راية الارتقاء من جديد، وتَصَدُّر المسيرة وقيادة الأمة؛ إذ الشأن في الماضي أن العثمانية رأت نفسها في بعض أطوار تراجع الحضارة الإسلامية، أنها الحلقة الأقوى في الكيان الملّي، فبادرت إلى استسلام المشعل، وحملت راية الخلافة، ونهضت بالعهدة قرونًا. بل إن التاريخ هو تلك البساتين الوارفة من المآذن المنتصبة، الشامخة، المظلة للحواضر التركية اليوم، المتطلعة إلى الأعالي، وهي بمثابة توقيعات إلهية تحدو الأمة التركية إلى الثبات على العهد والموثق. إن التاريخ كما يعيه كولن هو خارطة الطريق نحو بناء المستقبل الحافل بالإنجازات، والرافل في العزة، والمعصوم من الانزلاقات.

روح التفسير التي يتحلى بها فكر كولن وهو يستقرئ معطيات التاريخ، تحرص دائمًا على أن تومئ إلى الواقع الحي، والوضع الراهن؛ لأنها روح حية، واقعية، مرتبطة ليس فقط بوارد التأمل الذي هو نزعة عقلية ووجدانية تميز كل عاكفٍ، ولكن لأن كولن -وهذا الأصل- مرتبط بمنهج إصلاحي، وبرؤية استنقاذية، وببرنامج بنائي، إحيائي، مصيري، فما يهمه هو معالجة الواقع، وإيمانه قاطع بأنّ تفحص صفائح التاريخ، لاسيما سِيَر الأنبياء والرسل، وفي طليعتهم محمد -صلى الله عليه وسلم-، من شأنها أن تمدنا بكثير من أسباب العلاج لما يواجهنا من أزمات وانسدادات وضغوط.[7]


السمة الفارقة لتنظير كولن

إن كولن عقلية عملية فكرُها مشاريعها، والعكس كذلك.. ربما كانت هذه هي السمة الفارقة لديه؛ إذ اعتدنا أن نرى تجربة نزلاء الصوامع من أهل الانقطاع تُسفِر في الغالب عن محصلة من الأفكار والتنظيرات والرؤى ما أكثر ما كان الطابع المثالي والميتافيزيقي يبتعد بها عن الواقع. بل نستطيع أن نقول: إن كولن تَمازَج في عقله البُعْد التنظيري بالبعد الإنجازي، بحيث لبثت النظرية عنده تصدر متلبسة بثوبها التطبيقي، كما طفق القصد التطبيقي لديه يتمظهر بالمظهر التنظيري؛ لأن حسّ التعمق، ووازع العقلنة، ينحو على الدوام في تفكيره منحى منهجيًّا وعقلانيًّا يُكسِبه هذه الصبغة التنظيرية والتحليلية التي تميز كتاباته.

انظر مثلاً إلى كتابه التلال الزمردية، إنها مدونة سلوك وعرفان، لكن قارءها لا يلبث من أول وهلة أن يكتشف الروح العملية والتطبيقية التي تخرجت فيها تلك المحصلة من المعرفة الروحية الرياضية، والتي طرحها الأستاذ بين أيدينا؛ بحيث أمكننا أن نرى فيها انعكاسًا سافرًا لسيرته هو في مضمار التنسك والارتياض. من هنا وسعنا أن نصنّف هذا المصدر في خانة الدرس التطبيقي وليس التنظيري فحسب.

ومثل ذلك يقال عن كتاب موازين، فمادة هذا الكتاب هي طرح تقعيدي لأفكار الأستاذ في مجال التوجيه والتربية الروحية والمنهجية التي ينهض بها لفائدة الطلاب والمحبين والأتباع، حتى ليبدو هذا المصدر للقارئ أنه توصيف عملي للسيرة الأخلاقية والانضباطية كما عاشها الأستاذ في حياته، فمادة الكتاب -من ثمة- هي خلاصة تقويمية لتجربة الدعوة والحياة كما لابسها الأستاذ كولن، لذا جاء الطرح فيها يتميز بروح من الواقعية رغم كون المجال مجال مُثُلٍ ومقاصد وتنظير.

على أن دراسته النهرية (النور الخالد) كانت بحق النموذج الجلي لرؤيته العملية ووازعه التطبيقي. فلقد قرأ السيرة بحس سَبْري، وتمثَّلها بمنطق استنتاجي يفيد في تسديد العاملين؛ إذ صدرت الدراسة عن روح بيداغوجية تتوخى الاستفادة والتحصيل والفاعلية.


استلهامات كولن من التاريخ

ومن العِبَر التي استلهمها كولن من التاريخ: إيمانُه بأن الذاتية الجمعية عندما تكون معافاة من أمراض الاختراق والهجنة والتفسخ، تتصرف بسلامة وأصالة في صنع مسارها وحَبْك تطورها. فكل مبادرة تُقْدِمُ عليها الذات، وكل فعل تنجزه في ذلك المضمار، إنما تحققه بحسب طبيعتها القح، ووفق وجدانها ومزاجها الأصليين، وحتى حين تتجاوز في الخيارات معاييرها المعبرة عن صميميتها، فإنها لا تتوانى عن إصلاح ذلك التجاوز وتعديله، تفعل ذلك أحيانًا حتى بصورة آلية؛ إذ السلامة الفكرية تجعل التصرف ينبع من الذات، ويترجم عنها في حالات الوعي كما في حالات التلقائية، سواء بسواء.

ولقد تكلم الأستاذ كولن في مواطن عدة من كتاباته عن دور الخزان اللاشعوري في مجال تحقيق المهام الحضارية. فالذات المبرأة من الخلل الاستيلابي، مهيأةٌ لأن تستشعر النشاز في كل خطوة قد تتعدى كُنْهَ طبيعتِها وقُحَّتِها..

على أن الذات المعتلة التي تكون قد تعرضت لعملية تفريغ تدميري، ومُورست عليها أفعال شحن وتعبئة بمحمولات مخالفة لروحها وطبيعتها، فإن فِعالَها وحِراكها يأتي مختلاً، ولا يعبّر عن أصالتها، فهي بسبب حالة المصادرة الاستيلابية التي تتعرض لها، والتمذهبات الأيديولوجية الفاسدة التي تتجشمها، تجد نفسها تسير ضد منازع فطرتها. من هنا كان لزامًا على حركات التاريخ الانبعاثية، أن تعمد أول ما تعمد إلى تصويب الخلل الذي طرأ على معايير الأمة، واستعادة روحيتها الأصل، وإعادة الذات إلى ذاتها حتى تتمكن من أن تسلك طريقها بلا تشوش ولا هجنة.

ويجد كولن في وقائع التاريخ الحقل الحفيل بالشواهد والعِبَر التي تثَبِّته على الطريق، بل إنه لا يفتأ يؤكد لكل داعية أن في الاستعصام بعِبَر التاريخ خير داعم لروحية الجهاد والمقاومة والوقوف في وجه النوازل، ولا يبرح يكرر أن العثمانية في صراعها الجهادي الطويل لم يكن في وسعها أن تصمد وتتجاوز حال الانقهارات والهزائم لو لم تعوّل على استلهام وتوظيف رصيدها من الدروس والتجارب التي سجلتها في ميادين البذل والعطاء.

فلقد خاضت العثمانية معارك كانت ضراوتها تهدد الوجود، مثلما وقع في معركة شنق قلعة، ومثيلاتها من معارك الاستقلال، لكن التسلح بعوامل البأس المعنوي المستمَد من الدين والتاريخ، كان هو المدد الأوحد الذي هيَّأ للعثمانية الثبات، بل وحقق لها النصر.

لقد تبددت سائر مظاهر المقاومة في تلك المعارك، وتبددت الإمكانات، وأُطيح بالخطط، ولاحت غيوم الهزيمة، "ولو لم تلجأ الأمة في النهاية إلى معاني روحها، وإلى جذور عقيدتها في معركة شنق قلعة، وفي حروب الاستقلال لما كانت هذه الأمة قائمة وموجودة اليوم"[8].


أهمية استيعاب الكُنْه التاريخي

إن استيعاب الكُنْه التاريخي (فهم إِوَالِيَةِ الحراك والفعل التاريخيين) عامل مهم في إنجاح عملية الإقلاع الحضاري، وإن معرفة الهوية الأصلية خطوة مهمة وأرضية لا بد منها لإرساء أسس ومقومات هوية الحاضر والمستقبل.

إن تأمين الصلات مع الماضي التاريخي منبع حيوي لاستمداد الطاقة الذاتية المفيدة في عملية استعادة وتعزيز مكانة الأمة حاضرًا ومستقبلاً.

إن الحرص على تصميم الهوية المستقبلية بذات الأسس والمقومات والمرافق التي كانت لها في الماضي، يتبرر بكون الهوية الأصل قد توفرت على عوامل صلبة، سامية، حازت بها الأمة على المجد من أطرافه. إن اطلاعنا على تألق الشأن الحضاري الحاصل في مسيرتنا الماضية، يجعل الهمة تنشط لبعث ذلك الشأن من جديد، وإرسائه ثانية على قواعد أصلب.

ومن الواضح أن المهمة التجددية -على الصعيد المعنوي- هي ليست فقط إعرابًا وجدانيًّا يتيح لنا شيئًا من السلوى والعوض النفسي، ولكنه -إلى ذلك- إنجاز تطبيقي وإخراج لما ينطوي في الذاكرة من صور العظمة؛ إذ إن ما تتعبأ به الذاكرة من تفاصيل عزة وشموخ يتحول إلى أحلام تلحُّ على التجسد في أرض الواقع.. هناك حُمَّى تَتَّقِدُ وراء صور الذاكرة تحدو الفئات المتنورة الواعية إلى أن تعيد السيطرة على نفسها، من خلال إعادة الصلة بمناطات أحلامها، إنها في الحقيقة حُمَّى تترجم إرادة إطلاق الطاقات الكامنة في الكيان والمعطَّلة بسبب فواعل التوقف الحضاري والاعتلال المدني، وجَعْل تلك الطاقات تسترسل بعنفوان ثانية في عملية الخلق. فالذاتية بذلك الانطلاق، تسترد طبيعتها المعطاء، وأريحيتها المبدعة؛ إذ تخرج من حال السكون والموات، إلى حال الحراك والانبعاث.

والتاريخ ليس حراكًا عشوائيًّا أو اندفاعات اعتباطية ترتسم بها وجهةٌ متفلتة من الزمام، متحللة من الذمام، كلا، إن التاريخ مِرَاسات خلق متضافرة، تمتد طولاً وعرضًا في الزمان والمكان، وتتنجّزُ برَوِيَّةٍ ووعي على صعيد الواقع، وتتسدد بمطامح وغايات ملموسة، وتتغذى بحماس وعنادات مرشَّدة، لذا كان الفعل التاريخي جهدًا مناطًا بفواعل تنفيذ لا تنثني، وبقِوًى تمضي به نحو مقاصد تستقطب الجهود القومية، وتتحدى العوائق التي تملأ الطريق، وترجّح طاقة الدفع على طاقة الارتدادات والكبح في أرض المعترك، وصولاً إلى الهدف.

فالعملية التاريخية لا تكون إلا حراكًا جماعيًّا، تضامنيًّا، استمراريًّا، بنَّاءً. وحين يتوقف ذلك الحراك تتوقف الأشواط، وتسود سكونية هي أخت الموت، ولا يسع الزمن عندئذ إلا أن يترقب ظهور الانبعاث والاستئناف على أيدي الأفذاذ كما هو حال الأمة اليوم.

وقد يطول الانتظار فيخيّم الوقت الميت، وقت العطلة والتدهور والارتكاس، فمن لا يتقدم هو في الواقع يتأخر. وفي تلك الاستنامة يظل حتى ما يظهر من أفكار العظماء النافذة نفسها، مجرد طاقة افتراضية، تنتظر المواسم الحيوية التي تجعلها تتحول إلى أحداث تصنع الحراكات، وترسم التحولات. ولذا كان الفعل التاريخي يتوقف على شروط تتضافر، وطرازية قيادية تبادر إلى إنهاض الراقدين.

لا ارتجالية في الحراك التاريخي البنَّاء؛ إذ التاريخية تحتاج إلى النضج الكافي لتجهيز الفواعل المحققة للتحول، "فيلزم أن نصبر ونحتمل سنين علْمُها عند الله.. لأننا نعي ونستشعر الحاجة إلى سنين قد تطول من الانتظار الحي.. ومن الحركة المؤثرة والمنظّمة في حضانة البيض، حتى يتعافى البدن المتضعضع، ويستجمع قوته ليقتدر على تصفية حسابه مع المصير"[9].

إن النهضات تحتاج إلى زاد من التعبئة السجالية التي ترافق المسيرة، وتواجه العوائق، وتتحدى العراقيل، لا مناص من إيجاد شروط ثقافية مؤصلة، صلبة، لها القدرة على المصاحبة والحداء، وتذليل العقبات؛ لأن الرهان التاريخي تواجهه -لاسيما في مراحله الدقيقة- اعتراضات القوى المضادة، ولا بد لمحاورة تلك القوى، ومداورتها، وإفحامها من حجج ألماسية وإثباتات برهانية وهمم وثابة. إنها مغامرة لا ينفك خط السير فيها عن مواجهة الصعاب والمثبطات، وهو ما قد يفتّ في العضد، ويبعث على الوهن، ما لم يَجْرِ التعزيز والتقوية، الأمر الذي يقتضي إدامة الشحذ والتأهيب والتأطير؛ إذ لا يعزز حسّ اليقين في روح الجموع والصفوف والفئات، إلا اقتناعها الثابت بأن فداحة المسار وجسامة المسلك والتضحيات هي وحدها الجسر المفضي إلى النصر.


التاريخ وبناء الهوية

تقر القناعة لدى كولن بحتمية الاسترشاد بالتاريخ في مهمة بناء الهوية، لاسيما حين يكون المنطلق هشًّا، وتكون الصلة مع الماضي مقطوعةً؛ إذ عملية البناء تعني -بالضرورة- وصل الأواصر مع الماضي، وتحيين وقائعه ورموزه وشعاراته وروحيته؛ لأن بهذه المقومات يقع الاستئناس، ويتقوَّى الاستيثاق، وتتصلب العزيمة.

ومن الطبيعي أن تكون عملية الاسترشاد هذه قراءةً معمقة لثنايا الماضي، وتشخيصًا شاملاً لمواطن الضعف والقوة فيه، فما كان سلبيًّا تفاداه المهندسون، وما كان إيجابًا تبنوه، وأعادوا تثميره؛ لأن ذلك يكفل التأصيل في ما يُنجَز، وعدم هدر الإمكانات في الرهان على الهجنة والحسابات المغلوطة.

ولا يقوم بمهمة الاستثمار هذه إلا طرازية من الفاعلين، المتنورين "أطباء المعنويات القادرين على تشخيص بؤسنا الداخلي والخارجي ومداواته، ومرشدين صادقين مشدودين إلى الأخرويات من غير انقطاع.. وسيولد هذا التَّكوُّن الجديد من قيمنا التاريخية وحضارتنا وثقافتنا ورومانسيتنا"[10].


نموذج الفاعل التاريخي

نموذج الفاعل التاريخي -كما يتمثله كولن- هو النبي أو الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فالحراك الذي باشره الأنبياء عليهم السلام كان له هذا الأثر التسديدي الحاسم في المسيرة الإنسانية الكبرى؛ لأنهم تجهزوا لإحداث القطيعة على أكمل أحوال التجهز الروحي والقلبي، واستهدفوا تغيير الأبعاد الحياتية برمتها، فلم يهملوا الجانب المادي، ولم يستغرقهم الجانب الغيبي وحده، وإنما وازنوا في الدعوة -وظلت الدعوة عندهم عملاً وبناءً-، فكان الناتج هذه الاستقامة (والاستفاقة) التي طفقت ترتد إليها البشرية على هدي الدعوات السماوية.. وبذلك ظل الطريق يتمهد نضيدًا، ويتجدد للإنسانية كي تواصل سيرها في كَنَف الأخلاق والهداية السماوية.

ومما لا ريب فيه أن مهمة الدعاة اليوم هي ذاتها مهمة الأنبياء في زمن البعثات؛ إذ خاتم النبيئين أورث العلماء وظيفة النبوة فـ"العلماء ورثة الأنبياء"[11]، ولذا وجب على الداعية أن يتقمص ملء التقمص، روح النبي، ويجسد سُنته وعنفوانه ومكابداته واستناراته.

وعملية تخريج رجل الفعل والتاريخ عملية شاقة، يقتضي الشرط التنشيئي فيها استغراقًا لا مناص منه، ليكون الصقل تامًّا، والتهيئة كاملة؛ ذلك لأن مهمة تشكيل العزيمة أشبه بعملية تشكُّل البلورات المرجانية،[12] تقوم على الصبر المتناهي، والاستغراق المركّز على الذات، من أجل تحقيق عملية التخلق والتصلب والتبلور.

إن التاريخ هو العين التي نرى بها وجه المستقبل، وما نسميه تطورًا ما هو إلا تثمير لسجل المآثر، واستلهام لرصيد المنجزات التي تمت للأمة على مر أطوارها، واستغلال ذلك في بناء الذات وتقرير المصير.

إذ التاريخ مادة نافعة في تحريك الحمية، وهزّ الأريحية، فالجماعات والأقوام -مثل الأفراد تمامًا- يسكنها وازع التحدي، وإثبات الذات، ففي ممارسة التحدي إشباع لحاجة "الأنا" من مشاعر الفخار، وإغناء لحسّ المجد والمآثر في وعيها، وهو ما يحرّك فيها طاقة الفعل والنعرة والإقدام النافذ.

وتكون المضاهاة والتباري مع السلف كما تكون مع الغير، فإذا كان التقصير مسجلاً من جانب السلف، عملت الذات على تعديل المسار، والارتفاع بالمكانة، واستنقاذ الذاتية من عثارها؛ إذ انعكاسات نتائج الانبعاث والتحديث تشمل الماضي مثلما تشمل الحاضر. فإنجازاتنا الراهنة هي مداواة ومعالجة لما تركته نكسات الماضي، وانكسارات التاريخ فينا من رضوض وخذلان، كما أن انهزامات الحاضر هي تدنيات وتسفلات وتَدَنُّسات نرتكبها نحن في حق الأسلاف والأعقاب على السواء، وهي إساءة لأمجادهم المحققة، وتسييب للإرث، وتلغيم للأرضية أمام الأجيال.

ومن التعاسة أن يقتصر استظهارنا للتاريخ أو قراءتنا لصفحاته على تحصيل نوع من التعويض المجاني في مشاعرنا إزاء ما نتخبط فيه من تردٍّ وتَوَحُّلٍ.. أو لمجرد الذبّ السخيف عن الذات، والترويح عنها، وانتشالها الوهمي من رغام الهوان والخسة التي تلاقيها بسبب حال العجز والصَّغَار في عالم غطرسته تتزايد، واستخفافه بالمستضعفين يتصاعد، بل والتنكر لوجودهم ذاته يتأكد.

إن الوعي بالتاريخ وبصحائفه البيضاء، يعد أكبر محفّز على بعث الهمة، واستحداث قابلية التجدد والظهور. فسائر الأمم تستمد من ماضيها عوامل تحقيق المكانة والشأن، فلكأن التاريخ خزّان أرصدة لموازنة العجز، ومُوَلِّدُ طاقة يعطي الحرارة والوقود.


الصدارة واستحقاقاتها

يرى كولن أن الأمم -كما تصنع روحيتَها الأيديولوجيةَ والفلسفية التي تعيش لها وتحيا بها- كذلك الروحية (الدينية) تصنع الأمم، وتهبها قيمتها في الحياة والوجود، والإسلام قضية خالدة صنَع أمةً امتلكت كل مقومات الخلود.

ليست القضية الوجودية -كما جسَّدها الإسلام- إلا اطرادًا روحيًّا وفلسفيًّا يدأب على تفعيل الكون، وتحوير شروطه إلى الأحسن، وتأطيره بالحكمة والعدل، وتطوير مقدراته لصالح الإنسانية، ولما كانت مسارات الأمم عرضةً دائمًا للغفلة والطيش والحيدة، وسوء الخيارات، فقد أناط القَدَر بالأمة المحمدية رسالة عالمية لا تنتهي بأجلٍ، لذلك وجدت نفسها منذ البعثة في موقع مداري كالكوكب لا تستغني الأنظار عن استرشاده.

فلا غرابة أن نرى الأمة اليوم، حتى وهي تعيش مرحلة انحطاط مزرية، لا تتوانى في لفت الضمير العالمي إلى مثل العدالة والخير والسلام، وما كان لها أن تجهر بصوتها -إذ لا صوت لمن لا يمتلك القوة في الحياة- لولا أنها تستمد قوة معنوية من عقيدتها، ومن صميم رسالتها، لذلك تجد نفسها لا تتردد -وهي تحت ركام رماد الانحطاط- عن إرسال النداء تلو النداء، تدعو إلى الحسنى. فهي على يقين من أنها ستنهض من عثارها الشنيع، وستستعيد دورها ومكانتها في ريادة العالمين، كما هيَّأها الإسلام لذلك.

وحين يعتد الدعاة المسلمون، وينادون اليوم بدور أمتهم المفترض في مجال الريادة، والسير في طليعة الأمم، على الرغم مما يرون عليه الأمة من أحوال الضعف والهوان الحضاريين، فليس هذا الاعتداد وهذا النداء وليد بطالة أو جنون عظمة، أو لمجرد أن سبق لسلفهم أن حازوا الصدارة، واحتلوا الصف الأول في عهدٍ ما، حتى يركبهم اليوم الغرور وأحلام اليقظة، فيسترسلون في افتعال مظاهر ذلك العز، والاعتداد بمجدٍ انطوت صفحاته، يلوكون أخباره يتعزون بها، ويتوهمون انبعاثه دون أن يظهر عليهم ما يؤشر لسعيهم الجاد إلى ذلك الانبعاث، كلا، إن طبيعة الرسالة المحمدية الدينامية التي ارتبطوا بها رباط وصاية ومسؤولية -حيث هم أوصياء عليها كما أنها وصية عليهم- هي نفسها التي تثورهم، وتبعث فيهم هذا الطموح إلى النهضة، وتجعلهم لا ينقطعون عن دور تمثيل الحق، حتى وهم على ما هم عليه من ضعف؛ لأن القناعة راسخة لديهم من أنهم سينهضون، وأن نهضتهم ستتولد عن نفس المحركات التي كانت وراء ظهور حضارتهم.

إن الوازع الانبعاثي النابع من صميم الرسالة المحمدية ذاتها، يهيب بهم إلى معاودة اليقظة، واستئناف المسير، طليعة للعالمين.


مقام خيرية الأمة

إن تخلي المسلمين عن الميثاق، وتحللهم من الالتزام بدينهم، هو ما زحزحهم عن مقام الخيرية، وإن تنبههم اليوم إلى مسؤوليتهم الكونية -على رجع الضربات والتهشيمات التي لحقتهم ولا تزال تلحقهم مذ هانوا بين الأمم، وأضحى مصيرهم في يد العالمين- هو الذي جعلهم يثوبون إلى الدين، ويعملون على التواصل معه من جديد؛ إذ أيقنوا أن هوانهم ناتج عن مفارقتهم لتعاليم العقيدة، فحين تحللت عرى الإيمان في القلوب حلَّ الجهل والفقر والتفرق، وسهل على الخصوم أن يبتلعوا الأمة أوطانًا ومقدّرات، وأن يستبقوها في حالة الخزي راسفة.

طبيعة المأمورية المحمدية طبيعة دعوية، ريادية. والريادة لا تتجسد إلا ضمن صلات وأواصر انفتاحية، إنسانية، تمازجية. فالمأمورية الإسلامية من ثمة مسؤولية، وواجب ترشيدي تجاه الآخرين.

ومعلوم أن وظيفة الترشيد لا تسوغ إلا إذا كان الناهض بها راشدًا، من هنا كان العمل المنتظر منا مزدوجًا، فهو موجّه إلى الذات بقصد ترقيتها، وهو موجّه إلى الآخر بهدف تسديده، فبترشيد الذات تتهيأ هذه الذات لتأدية مأمورية الدعوة، وبكمال شمائل تلك الذات، تكتمل القوامة والمسؤولية ويتهيأ الأداء.

ومن المؤكد أن الانخذلات والانقهارات والشناعات التي تعيشها اليوم الأمة المؤتمنة على العُهْدَة، تسيء أكثر إلى الإسلام، على الرغم من أن الإسلام رسالة تامة الأركان، مهيأة دائمًا لأن تغدو منهجًا للحياة لا يبلى، لكن وضع الضعف والشَّوْهِ الذي عليه الأمة المتقهقرة لا يفتأ يتفاقم، ولا تنفك هي -لذلك- ترزح في الانحطاط، وتخسر الأشواط بعد الأشواط، وتلحقها الانكسارات، لا ترفع رأسها، ولا تحظى بأي اعتبار، ولا تزيد بتهلهلها وصغارها إلا في الإساءة إلى الإسلام ذاته. لقد باتت اليوم النعوت الشنيعة التي يتصف بها المسلمون نتيجة التخلف، تُطلق على الإسلام بصورة آلية؛ إذ يتوهم الغرب المعادي أن انحطاط المسلمين الراهن عائد إلى "حطة" دينهم، قياسًا بما مر به الغربيون أنفسهم حين كانوا منغلقين في دهاليز الأكليرجية الكنسية.


فلسفة التبليغ عند كولن

إن هذه الحال الإسقاطية التي تُطابِق بين حقيقة الإسلام وواقع الأمة الشنيع والكسيف، قد وجهت لعملية الدعوة ضربة قاصمة؛ إذ انحبس الجهد التبليغي، وتوقفت مهمة البث والنشر، إلا على صعيد شبه تلقائي أو فردي أو جمعوي محدود، الأمر الذي أضر بالدين الإسلامي باعتباره شِرْعةً للعالمين. وإنَّ توقُّفَ مَدِّهِ عن السريان والجريان بين العالمين هو إخلال بمبدأ جوهري انبنت عليه الدعوة، نقصد مبدأ التبليغ. ومما لا شك فيه أن دور الإعلام المغرض مركزي في تشويه حقيقة الإسلام، وإعاقته عن الانتشار، مضافًا إلى ذلك -بطبيعة الحال- دورنا نحن الغائب.

لقد أناط الأستاذ كولن دور الدعوة أو الخدمة بالجماهير المسلمة، وبالجماعات المتنورة خاصة. فقد أنشأ فلسفة جديدة لمهمة التبليغ، ربطها بروح العصر وبأساليب التعاطي الرائجة بين الأمم.. إذ إن العقلية العالمية اليوم، ونتيجة المسار البراغْماتي، المادي، والليبرالي الذي عرفته الأنظمة -رأسماليها وشيوعيها سابقًا- قد أفرزت العقلية الانتفاعية وذات الوازع العملي الملموس، العقلية التي قد تتأثر بالدعوة من خلال الحوار المتفوق وذي الحجة الصريحة، وقد تتأثر بها كذلك انجذابًا حين يكون المظهر المادي والمستوى المدني وشاهد الحال الحضري لممثلي الدعوة مترقيًا، ولكن التأثر الأوكد والأبلغ بالدعوة يكون عندما تتم بواسطة برامج ذات مردودية اقتصادية واجتماعية وثقافية يفيد منها الآخرون، أي في صورة مشاريع خدمة ينهض بها الدعاة العاملون، ممن تستطيع الرؤية السديدة أن تجيّشهم، وترسم لهم الأفق، وتوجههم إلى الصالحات.

ومن المؤكد أن مادة كتاب "ونحن نقيم صرح الروح" هي من صميم التوجيه الذي يرى الأستاذ كولن أن على منهاج الخدمة الدعوية أن يسلكه في هذا العصر البراغْماتي الذي لم يعد يحتمل كثيرًا من أساليب التواصل القديمة.

ولا ريب أن مهمة الإقلاع شاقة، وهي تقتضي جهدًا مضاعفًا يُبذَل في تقوية الذات، وجهدًا مكثفًا آخر يوجّه إلى الميدان، ويرتقي بمستوى التواصل مع الآخر، وإيصال الدعوة إليه. لذا كان تحصيل أسباب النجاعة القصوى والفاعلية الكبرى أمرًا حتميًا، ولا مناص منه.. ودور النُّخَب المتنورة في هذا الصدد مركزي، واعتماد الفكر والثقافة والإعلام، وتقديم الخدمة الاجتماعية والمدنية، وحسن التدبير، من الشروط الأساسية التي يجب أن يتحلى بها اليوم رجل الدعوة.

وكما أن "القيام بمأمورية التبليغ رهان ووظيفة تعكس مدى قوامتنا ومسؤوليتنا واستحقاقنا لتبوؤ الصدارة، وتأهلنا للجدارة والكفاءة، فكذلك هو مبتغى ومطلب وتوْق وأفق يشحذ فينا روح التجدد والنماء واكتساب شرط الاستحقاق"[13].


قراءة كولن للتاريخ قراءة علمية

يمكن لمتصفح كتابات الأستاذ كولن، لاسيما ما خصصه للتاريخ بوصفه محرك تطوير وعامل بناء، أن يقف فيها على ما يشبه القواعد والمبادئ التي رآها تحكم هذه الفاعلية الحراكية (الصيرورية)، وتشرط ديناميتها وتأثيراتها في عملية التدافع الاجتماعي والتمديني.

ويمكننا في هذا الصدد أن نسجّل بعض هذه القواعد والمبادئ مما أناط الأستاذ به نظريته في التاريخ.

فالحضارة كائن عضوي له كروموزومات وقوانين نمو وزوال مطردة: ويرى كولن أن هناك حتمية تنساق وفقها التطورات، فالحوادث التاريخية تجري في أنماط متشابهة ضمن إطار عام،[14] بحيث إن هناك حتمية بين السبب والنتيجة في التاريخ، "فالشر يلد شرًّا، والظلم ينقلب إلى مظالم تدور حول حلقة مفرغة ودائرة فاسدة"[15]. ومن شأن التراكمات غير المحسوسة أن تفضي إلى النتائج الانقلابية الجذرية، و"قد يكون دبيب تحرك صغير، بداية لكيان كبير بعد سنوات"[16].

إن التاريخ صيرورة مطردة تحكمها شروط، ولها فاعلية صنع الحضارات (وتقويضها كذلك)، وإن الحضارة تنمو وقد حملت صبغيات ونوييات أو منويات هي التي تسم الهوية وتصبغ الحضارة، وكل تهجين لتلك المورثات يتم على حساب أصالة وصميمية الهوية الحضارية.

وإذا أردنا تبسيط الفكرة-القانون، قلنا: هناك قانون فسيولوجي صيروري ينطبق على الحضارات كلها، ويحدد مآلاتها، فنماؤها أشبه بالكائنات الحية، تبدأ جرثومًا ناشئًا، ثم تَتَخَلَّقُ، ثم تولد، وتدرج على المسرح.. إلى أن تنتهي إلى وضع الخمول والانهيار، وقد يكتب لها التجدد بفعل طروء أسباب تُذْكي الجذوةَ فيها تارة أخرى، ولكن هذا التجدد مهما استغرق في الزمن، فإنه آيِلٌ إلى الارتكاس ما أن يحيد عن النهج السوي، سُنة الله في الكون، ولن تجد لسنته تبديلاً؛ ذلك لأن الله جعل الشأن التمدني شأنًا استخلافيًّا أو شبيهًا بذلك (مسؤولية إزاء الكون والعالمين)، وجعل عمر حيازة العهدة يمتد أو يقصر تبعًا لتمسك المستخلفين بالميثاق، ومدى التزامهم بالمبدأ. فإذا ما فرّطوا أو حادوا، انفرط الزمام منهم، وآلت القيادة إلى غيرهم، يجددونها وينهضون بها بنفس الاشتراطات التجندية القويمة، فإذا ما وهنوا أو استرخت الأواصر الروحية والأخلاقية لديهم، هانوا وتخطتهم الحظوة الإلهية إلى غيرهم، وخسروا شرف الائتمان، هكذا سنَّ اللهُ للريادة الأممية أن يتداولها الناس والأقوام بحقها من الإيمان والثبات على الحق والبذل والقسطاسية.

إن قوانين الحضارة ونواميس التاريخ تسري في الأجيال والشعوب، وتورِّثها خصائصها، فهي أشبه بالمنويات الحضارية، "إن البشر والحوادث السالفة في الماضي والتي صارت تاريخًا، هي اليوم شبيهة بالحيوانات المنوية المودعة في حضائن اللقاح أو بالبيوض في بيوت التفقيس... وتعد مصدرًا لإضفاء الصور على الحاضر، وإن الأسباب المنثورة اليوم -من جهة العلّيّة- كالبذور على سفوح التاريخ، هي عوامل تعيّن نتائج الغد"[17].

من هنا "لا يصح في روح الدين وقواعد الشريعة الفطرية إهمال الأسباب، ثم توقع حصول النتائج المتعلقة بالأسباب"[18]. ففي عالم الإنسان كما في عالم الطبيعة، ينهض الفرد والجماعات بما تنهض به دينامية التوارث والتلاقح والتوالد بين الأشياء.

إن الصيرورة التاريخية في نظره إذن، هي اطّراد حتمي؛ لأنها ناموس يقوم على معادلة تتناظر فيها الأسباب والنتائج. والخالق الذي أوجد الكون ووضع الكتاب والميزان، وقيّد الحركة والسكون في زمام محفوظ، قد أرسى الظواهر، وأجرى قانون حصول الوقائع على حكمة أزلية ومنطق أبدي هو منطق العلل، وإن من الدين الأخذ بالأسباب والسنن، «اعقلها وتوكّل»[19].

من هنا يلحّ كولن على قراءة التاريخ في ضوء قوانينه ومشروطياته؛ إذ بتلك القوانين والمشروطيات نفهم "أوليات" الأحداث، وندرك علِّية الاطراد أو الانقطاع الحاصلة في حبل الحوادث والوقائع. ولم تخطئْنا التوفيقاتُ والنجاحات إلا حين أضحينا لا نفقه سنن التاريخ، ولا ندرك حقيقة حراكه.[20]


قانون الاستخلاف

بل إن هناك قانونًا مركزيًّا يستخلصه الأستاذ كولن، يتعلق بمسؤولية الأمة المحمدية، ودورها المستمر في الدعوة إلى الحق والهداية إلى شريعة الإسلام الخالدة.

لقد استخلص الأستاذ كولن من قوله تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)(الأَنْبِيَاء:10) مبدأ الوعد بخلود الأمة وبقائها حية في التاريخ في مقام الشرف والعزة "فإنكم مرشحون بفضل الذكر النازل عليكم للبقاء طوال التاريخ[21]".

ومن إلزامية الدعوة والوعد بوراثة الأرض تقوم فرضية الدور الذي لا ينتهي ولا يُلغَى ولا يتوقف، والذي أناطه الله بنا كأوصياء على الرسالة (الوصاية هنا ليست حصرية بتاتًا، بل هي مشاعة، ينهض بها كل قادر-فردًا كان أو جماعة- ممن ينضم إلى الركب المحمدي)، فالوعد بوراثة الأرض يعني رسو الخيرية والإمامية على المسلمين، ويعني وجوب ارتفاعهم في كل مقوماتهم إلى مرتبة هذه الخيرية وهذه الإمامية؛ لأننا نحن المستضعفون الصالحون الذين هيَّأهم الله لحمل رسالة تناهض الاستعلاء القهري، وتعادي الاستكبار الجبروتي على الدوام، رسالة تنحاز باستمرار إلى صفّ الضعفاء وتناصرهم.

لقد تكرر وعد الاستحلاف للمسلمين فيما عبرت عنه آية توريث الأرض: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأَنْبِيَاء:105)، فوراثة الأرض هي وراثة للتاريخ والتحكم في شروطه، ومعنى وراثة التاريخ "هو وراثة كل ركام الماضي المعروف والمجهول والصغير والكبير، وإنماء هذا الركام، واستحداث مركّبات جديدة منه، ثم نقل ذلك كله إلى الأجيال القادمة: أصحابه الحقيقيين، فإن لم يوفِّ هذا الوارثُ رسالةَ التاريخ المتعلقة باليوم والغد حقها من الاهتمام، فسوف يعتبر مسؤولاً عن خراب اليوم وضياع الغد"[22].

لا يفتأ الأستاذ كولن في كتاباته وتوجيهاته يوصي بوجوب الاستفادة من عِبَر التاريخ، ومما تحويه مقابر التاريخ من جثامين دول طواها الله لحيدتها عن الجادة.[23]

وهو يؤمن أن تحقيق الانبعاث ينعكس عنه رأسًا وضعٌ دعوي إيجابي، بحيث تضحى سبل الدعوة مهيأة والنفوس إليها متفتحة. فاستعادة المجد التاريخي يساعد الأمة على التبليغ المؤثر "أجل عندما تأخذ هذه الأمة مكانها التاريخي اللائق بها، فستتوفر أمامنا فرصة أفضل وأكثر إقناعًا، وأعلى مستوى لتبليغ الخُلق والخُلق القرآني، عند ذلك سترى الإنسانية أن ما بحثت عنه في "المدينة الفاضة" كان قد طُبّق قبل عصور، وستذهل من هذا الاكتشاف"[24].


دور القادة والساسة في الظفر بالرهانات

يجعل كولن من وجود القادة الأفذاذ على رأس الدولة، سببًا من أسباب تسريع عملية نهوضها، وخروجها من التخلف، وكسبها لرهاناتها، فلقد استقرأ من التاريخ تلازم الفتوحات الكبرى والإنجازات العظمى والتدشينات الغراء، بوجود زمام الأمم في يد زعامات باسلة، وقيادات ماضية العزم، لا تنثني عن أهدافها.

فأهمية أن يكون على رأس الأمة ملوك مجندون أهمية حاسمة؛ من حيث ضمان النجاح في مشاريع النهضة، وجعل الأحلام تضحى حقيقة، والمستحيل ممكنًا، "يشهد التاريخ أنه متى كان رأس الدولة المسلمة على رأس الجيش انتصر مثل هذا الجيش في أغلب الأحوال، وحين قعد السلاطين في القصور كما حدث في بعض عهود الدولة العثمانية، بدأ التحلل والتسيب والتراجع"[25].

ولا ريب أن من الأسباب التي تقهقرت بالعالم الإسلامي عن الريادة تفريطه في العقيدة وانبهاره بواردات أيديولوجية أمعنت به في الضلال والتيهان "الصحيح هو أننا ارتكبنا خطأ من أعظم ما لا يغفره التاريخ، ضحينا بالدين في سبيل الدنيا؛ طمعًا في عمارة دنيانا، وتبنينا فهمًا يرجح الدنيا على الدين، فوجدنا أنفسنا مذّاك أسرى في شباك الممتنعات.. وضاع الدين وفرَّت الدنيا، وعاش هذا العالم المجيد-التعيس، مرحلة التفريغ: رفض لميراث مبارك من ألف عام، وتلبيس على الشعب بمبدأ مصطنع، وتركيب الدولة العظيمة وتصميم بنائها على قاعدة هشَّة ومتهاوية، وتعريض التاريخ والقوم والأرومة والثقافة الموروثة إلى الازدراء والتزييف، وإلقاء النفس في أحضان أعداء الألف سنة، ثم دسّ أشد الأفكار إلحادًا بأفحش الألفاظ طرًّا في جسم الوطن، بل شهدنا انهمار الجوائز والمكافآت على من يزخرف هذه الأفكار بالشعر والنثر، بل السعي لإحياء الشيوعية في العواطف والأفكار والأخلاق في عالم المسحوقين والضعفاء والمظلومين"[26].

ومن العلل التي يلحّ عليها كولن في تشخيصه لأسباب تخلّف المسلمين: تفريطهم في الأخذ بشروط التطور، وفي مقدمتها قيم الإسلام وقوانين التاريخ، أو كما يسميها "المحركات": "هذا العالم الإسلامي ابتعد عن المحركات التاريخية والقيم الإسلامية، فوقع في الانحلال الأخلاقي والخرافة والأهواء البدنية والجسمانية، فانحدر إلى مهاوي الظلام والخسران"[27].

وهو يرى أن علاج هذا الراهن غير السوي الذي وصلنا إليه يتم بإزالة مسبباته، ومحو أعراضها، وأن على الجهد المنتظر منا أن يكون شموليًّا وجذريًّا، وأن لا يكتفي أصحابه ببذل القليل، والرضا عن النفس بهذا القليل: "إن إزالة واقعة الانحراف هذه المزمنة، المشهودة في مسلمي القرون الأخيرة، وفي المرشدين المسلمين خاصة، لن يتحقق بافتتاح بضع مدارس، أو عقد بضعة مؤتمرات وندوات، ولا بمواعظ ونصائح مسكينة"[28].

ولا بد أن تترافق عملية الصحوة الروحية والفكرية، بعزيمة إحيائية موازية، تركز على علاج التشوهات التاريخية التي أصابتنا، وعلى جعل المنجزات نابعة من صلب روحيتنا، مصطبغة بصبغتها، فـ"أسلمة" النهضة تعني أسلمة التاريخ، وهو ما يضمن سلامة الانطلاق والاستمرار "لذلك لا مناص من إحياء الفكر الإسلامي والتصور الإسلامي، من أجل الاقتراب من الوجود والحوادث (التاريخ) بسياق إسلامي"[29].

وفي هذا السياق لا بد أن يعوّل الجهد الإحيائي المأمول على استراتيجية توجيه جماهيري، ومن المحتَّم في هذا الصدد التكفل بتجنيد الفرق والكتائب العاملة التي تباشر المجالات الحيوية، لاسيما قطاع الإعلام، باعتبار أن الإعلام هو مدرسة التوعية والترشيد الجماهيري ذات التأثير الجماعي الفعّال، ويكون من مهام الدور الإعلامي أن "يؤنس وحشية الصحف والمجلات والتلفزيون، ووسائل الإعلام القوية، ليجعلها صوتًا ونفسًا للدين والملة من وجهة، ويرشد بها من وجهة أخرى الأحاسيس السوداء والأفكار القاتمة والأصوات المدلهمة إلى سبيل الصيرورة الإنسانية". هذا الفريق ينقذ التربية والتعليم المتغيرة صورة وتوجهًا كل يوم تحت وطأة الضغوط الخارجية والانحرافات الداخلية من وصاية الأفكار الدخيلة، فينظمها بصورة طيعة لمتطلبات الحاضر وحسب السياق التاريخي، ويرفعها لتكون مؤسسة ذات رسالة ببرنامجها وخطتها وأسلوبها"[30].

إن من شأن الاسترشاد بالتاريخ في كل عملٍ ننهض به، أن يفيدنا في ضبط الوجهة، ويجعلنا على إدراك بما كان لنا من شأن مشرف، وفي نفس الوقت يواجهنا بما أصابنا من لطمات، فيتحرك فينا وازع الحمية والتجدد ".. إن أمتنا تمتلك تراكمًا علميًّا يجعلها قادرة على الريادة فيما حولها من التكوينات الجديدة، وزد على ذلك أن قيادتها للأمم آمادًا مديدة تركت فرصًا مكتسبة من القبول الكامن تحت الشعور في الشعوب المنقادة لها منذ الزمن الغابر، وهي مقتدرة على استعمالها اليوم، بل إنها جاهزة تمامًا من وجهة الرمز والتمثيل، لكن عليها أن تستعمل المحركات التاريخية التي تعد دم هذا الماضي العريق ولحمه، استعمالاً سليمًا وصحيحًا"[31].

فما تجرّعناه من غصصٍ، وما تجشّمناه من مكابدات ومحن واستعبادات بعد العز، جعلنا نطوي الصدور على هذه الحرقة إلى الانبعاث "معاناة العهود الماضية، وشعورنا بالعيش تحت الوصاية، وسيرتنا المنحوسة أورثنا اليوم شهقة كشهقة النبي آدم، ونشيجًا كنشيج النبي يونس، وأنينًا كأنين أيوب عليهم السلام، لكننا نحس اليوم بانكماش المسافة، واقترابنا من نقطة الوصول إلى مسافة خطوات بدفع هذا الشعور والعقل، وبإرشاد تجارب التاريخ"[32].

أجل، إن إعادة قراءة التاريخ والاعتبار بدروسه يساهم في تحفيزنا على الوثبة والنهوض، ويتيح لنا أن نقف على روحية بديلة لروحية الضلال التي تسود واقعنا حاليًّا، والتي تسببت في حدوث هذه الفصامية المأساوية التي تعاني منها الأمة؛ نتيجة ما يُمارَس عليها من إكراهات المسخ بدعوى التحرر الزائف والتطوير الخبيث، من هنا بات حتمًا "أن نعيد النظر إلى المحركات التاريخية لألف سنةٍ مضت، وأن نستجوب التغييرات والتحولات المختلفة لمائة وخمسين سنة مضت، هذا ضروري؛ لأن الأحكام والقرارات تقولب في الحاضر حسب مقدسات مصطنعة، والقرارات المنبثقة من تحت ثقل الفهم السائد المعلوم معدومة.. فالمهم بالنسبة للديماغوجيين هو إعداد الحلبة للصدام بين القوات، والخصام بين الأحزاب، والعراك بين الشعوب، والتصارع بين الحشود المنحشرة في شباك غرائز الحرص القاتلة"[33].


مهمة رجل الفكر ونضاله

إن مهمة رجل الفكر ونضاله من أجل ظهور النظام الجديد، وتدشين التاريخية الجديدة التي على أمتنا أن تدشنها، مهمة مركزية، ولا مناص منها، بالنظر إلى ما يؤمَّل منه من تضحيات وعطاءات لفائدة الأمة: "إنسان الفكر والحركية هو رجل الانطلاقة والحملة، الحركي، المخطِّط، الذي يقوم ويقعد على خفقان شدّ العالم بالنظام الجديد، ويمثل حركة إقامة صرح الروح والمعنى من جديد بعدما آل إلى السقوط ومنذ عصور، ويفسر قيمنا التاريخية كرةً أخرى.. فهو في خطّ الحياة الممتد على مدى فصولها من الحس إلى الفكر، ثم إلى الحياة العملية.. وينشغل بحس البناء والإنشاء أبدًا، إنه ولي الحق اللدني الذي يُعِدُّ قادةَ أركانِ الروح ومهندسي العقل وعمال الفكر، بدلاً من استخدام القوة المادية لفتح البلاد ودحر الجيوش، وينفخ بلا كلل نَفَس البناء والإعمار فيمن حوله، ويرشد أعوانه إلى سبيل عمران الخرائب"[34].

إن ما قامت به الدوائر التغريبية على مستوى التضليل والإفساد أمر فظيع، فلقد لبثوا يقترفون من المآثم المخزية ما انجرفت به مجتمعاتنا أو كادت إلى هاوية المسخ، لقد حملوا الأمة على أن تسلك طريقًا غير طريقها؛ ذلك لأنهم كانوا هم أنفسهم مخترقين بعلة الاستيلاب، لقد "خلب أبصارهم بريق رقي الغرب الصوري والمادي، فتكدرت بصائرهم.. فجرّدوا جموع البشر من السجايا الملية، وحرموهم من حسّ التاريخ، وسلبوهم الأخلاق الفاضلة، لهثًا وراء تقليد أعمى وشعارات خداعة.. بدلاً من إمداد أدمغتهم بالعلوم التجريبية وقلوبهم بالحقائق الدينية بلوغًا إلى الغنى المادي والمعنوي"[35].

إن عوامل الانبعاث متوفرة لدينا، ولعل سجلنا التاريخي مليء بالمحفزات المعنوية التي تجعلنا -إذا ما تدارسناها واستحضرنا عبرها وعظاتها- نعقد العزم ونمضي بإصرار وبلا هوادة إلى العمل والانبعاث، "ولا بأس أن نقول: بأن التاريخ التليد المجيد، والشعب المحظوظ الذكي الذي حمى وحفظ قضيته الكبرى منذ ألف عام، فطوّرها وصوّرها حسنًا وشكلاً، يحس بالتهاب جذوتها في الأرواح كرةً أخرى بوازع الحنين المزمن الحاد، فإن كثرة من الجيل الجديد يَبدُون وكأنهم رموز هذه القضية، وممثلو هذه الرسالة بفيض مشاعر الوحدة والتضامن، والعزم على الرقي بشعبهم فوق شعوب العصر، وكأن مآل المستقبل إلى أن يكون سرادقًا أبديًّا لهولاء ما لم تهب عاصفة مضادة لا تبقي ولا تذر"[36]؛ "إذ إن تلك المحركات التاريخية وجذور الشعب المعنوية لا زالت قائمة على قدميها ومتانتها"[37].

إن من واجب الصالحين أن يصنعوا تاريخهم وفق روحيتهم ومرجعياتهم، وأن يباشروا صياغته بعزيمة لا تلين، فكما ينخرط الزائفون في العمل الهدمي، وفي قولبة المجتمع على أسس مشاريعهم الهجينة المستجلبة، يتوجَّب على رجال الدعوة أن يصمموا مشاريع الخير والاستنقاذ والسعادة التي تفيد في بعث الأمة وتحقيق شخصيتها، "ففي كل زمن يوجد المجعجعين والادعائيين والمغالطين، ويوجد إلى جانبهم العاملون ببصيرة، المتثبتون في التسديد، المراهنون على ربح معركة المصير، فهؤلاء موجودون اليوم وسيوجدون غدًا، فالتاريخ هو تاريخ الذين يتشاتمون ويفترسون، وينصبون الفخاخ، ويفترون الكذب، كما هو تاريخ الصالحين والطيبين"[38].

لقد حان الوقت لأهل الصلاح أن لا يبقوا في وضع المتفرج، بل عليهم أن يخوضوا في الجهد الذي لا محالة سيستقطب الدفعات والجيوش، ولا بد أن تتجدد معه حمية البذل والتسابق على الحسنى، وعندئذ "يحق لنا أن نترقب نسيجًا مباركًا بألوان الغد السعيد يحظى باهتمام الإنسانية جمعاء، من هذه النقوش الصغيرة التي تغزلها بمغازل أفكار الخير أجيال محظوظة في الزمن الحاضر"[39].

إن رجال النور يحيكون التاريخ برِقّة ولطافة،[40] لا يتعجلون النتائج، ولا يتركون الفرص تضيع، يسددون ولا يخطئون الرمية، وكل ذلك نهوضًا بالأمة. وليس تحقيق رهان النهضة بالأمل العزيز إذا توسلنا إليها بوسائلها و"إذا قيّمنا الدنيا التي نعيش فيها تقييمًا صحيحًا من وجهة أفق الحكمة الذاتية، ففسَّرنا الأشياء والحوادث تفسيرًا صحيحًا، وشخَّصنا المتطلبات الأساسية لبناء إنساننا الداخلي.. وانشددنا بفكرة التواجد والحضور إلى الأبد، وما الذي يعيق الأجيال البصيرة عن تقدم الصفوف، ما دامت قادرة على تقييم الماضي والحاضر والمستقبل على صعيد واحد، وحامية لأعراف المجتمع وتقاليده وحركيات تاريخه، وماهرة في تفسير تكرر التاريخ باتجاه تجديد الذات؟"[41].

وإذا أردنا استخلاص بعض ما قرأ به الأستاذ كولن فقه التاريخ وقوانين الانبعاث، قلنا: إنه من تجربته الميدانية، ومن خِضَم انغماره في العراك الدعوي، ترصد طبيعة الحراك والقواعد والعوامل والمفعِّلات المترابطة والصانعة للمدنيات أو المهدمة لها، وتبين الحقائق التي لا بد من الأخذ بها في تفعيل المشروع الانبعاثي والحضاري الذي ينشّطه، ولقد بات يعمل ويدعو العاملين المصلحين إلى وجوب مراعاة السنن الحضاري والمحركات التاريخية كما يسميها، والأخذ بها في عملية الإحياء ورسم خطط الإنهاض.

ومثلما تعلّم من علم التاريخ الكيفية التي لبثت المحركات الاجتماعية تعمل بها في بناء المدنية، أدرك أيضًا أن من نجاعة عمل الدعاة والعاملين أن يكونوا على معرفة بالتاريخ ونواميسه؛ إذ لا بد أن يعرفوا كيف يفسّرون قِيَمه كي يتسنى لهم إدماج تلك القيم في برامجهم النهضوية.

"فيلزم لوراثة الأرض السعيُ الجاد في الصالحات ابتداءً، بمعنى معايشة الدين كما هو في القرآن والسنة، وجعل الإسلام إحياءً للحياة، ثم احتواء علوم العصر وفنونه، ولنتذكر دائمًا أن المجتمعات التي لا تلتفت إلى الشريعة الفطرية المتجلية من القدرة والإرادة، وإلى مجموعة القوانين الإلهية الظاهرة من الكلام في الكائنات، وأن الأمم والشعوب التي تتعرض إلى التبدل داخليًّا في حياتها المعنوية، مصيرها إلى الخذلان غدًا، مهما كانت ظاهرة اليوم. هو ذا التاريخ وما أشبهه بمقبرة للأمم المنقرضة، يصرخ عاليًا بصوت الحقيقة: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:11).[42]


البكائية[43]

لم نكن نعرف موضوع الشريط، ولم نتهيأ لمتابعة أي بثٍّ مصور. فمن ذا الذي ينزل إسطنبول وتتطلع نفسه إلى الأشرطة والتسجيلات؟! البهجة والاعتبار والتأمل والوقائع يشاهدها نزيل إسطنبول تجري تحت بصره، وملء سمعه.. وشدتنا الصور الأولى، كان المنظر رحاب صلاة حافل بالأقواس والمصلين، وتابعتِ الكاميرا شخصا يتقدم وعلى رأسه طاقية بيضاء، لا هندام له، يتقدم في انشغال بادٍ، وانتهى الشخص إلى المنبر، عاين الناس، وعلى ملامحه ظلال تَرَدُّدٍ، اشتحان، تأهب مرير، وبلع ريقه مرات، ثم أخذ يتكلم.

بدأ كولن بكائيته هادئا.. مجرد خطاب.. ثم صعّد من الوتيرة والوطأة، ثم طوح به الدمع بعد أن ظلت ملامحه تتربّد وتقاوم شحنة الانفجار، ثم تملكته نوبة نشيج.. وحين استبدت به الغصة تحركت مواجع الاعتلال منه، وبات قصاراه أن يستعيد أنفاسه.. كان يختنق كمن يصعد في السماء.. كانت الحال تشتد به حتى لكأنه يتأهب للموت، للرحيل. وأحست الجموع دقة الموقف، وهبَّتْ ناحيته تعزي نفسها. لوَّحت الاذرع والأكف والأكمام والأردية تروّح على الوجه الذي انغمر في الضعف، وتبارت تطفئ النار المتوهجة حيالها في أعماق الشيخ. تحول الوجه مجمرا متقدا يلفح من بعيد.. مساحةٌ من الزمن ضافية استغرقتها المعاناة.. أشواط من المناضلة كابدتها الروح وهي تستعيد سكينتها.. البحر المتهيج انحسر والأمواج تهادنت والثورة خمدت وأنفاس العاصفة خبت.. الأنامل تقبض على اللجام.. أعادوا البيعة وجددوا الموثق وانحنى الفارس يرد على تلويحات الإكبار، وتأهب لجولة أخرى، ودخول المعترك من جديد بروحية أمضى وعزم أصلب.

الشاشة كلها دمع.. كولن يبكي.. دمع ينذرف من الجنبات والسقف والثريا والهواء، الجدران تبكي.. ساد السكون، لم أكن أدري ما تفاصيل هذا الموقف الجلل، لم هذا النحيب؟ أردت أن أصيح "اشرحوا لنا يرحمكم الله"، لكنني تماسكت، قلت إن الصورة تشرح ذاتها بذاتها، لا يمكن أن أفوت فرصة هذا اللقاء العذري مع المناحة.

كولن جديد يخرج من كولن قديم، وسبحان الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي؟ ومضى الصوت يتكسر بالدموع، ثم يتمالك، ثم تعروه العثرات فيقع، ثم ينهض، ويروح بجهد جلي يَنفُض عنه الوهنَ، ثم يسترسل ليترنح من جديد وليظهر انخذاله.. شحناء من الغصص تمسك بتلابيبه.. كقطيع من إيناث الذئاب أمسكن بخناق فريسة، فطاولنها، وأنشبن الأنياب في نحرها، ولبثن ينتظرنها تتهاوى أرضا ليقمن الوليمة..

وعلى حالٍ تُراوح بين الهزيمة والنصر مضى كولن يرتب صفوفه ويساجل ذاته ويرتكز على عصاه، كطائرة تجتاز ممرات راعدة من الاضطراب الجوي. وشرع يستعرض الأسماء اللامعة من فرسان البعثة والفتح، أرباب السيف وصناع الكرامات، مَن تخلوا عن كل شيء لأجل مناصرة الله ورسوله. استحضر ذكرى استشهاد أبي أيوب الانصاري على مشارف القسطنطينية محققا بذلك الاستشهاد نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- له بأنه سيموت في الغربة.. واستدعى أسماء كواكب آخرين ممن شكلوا مجرة الإسلام في مستهل دعوته..

وتريّث عند اسم خالد بن الوليد السيف المسلول الذي ضرب الله به مُلك الساسان والروم، واستعرض بذات الصوت النازف مآثر هذا الصحابي الفذ ووقائع انتصاراته التي لا تعد، وانتهى إلى الحديث عن واقعة وفاته. فقد خرج من هذه الدنيا لا يملك شيئا.. هو الذي فتح الامبراطوريات.. واستدعى إلى الأذهان حادثة عزله، وكيف أنه سلم القيادة دون أن يكون له شيء أو أن يفكر في أن يكون له شيء من مباذل الدنيا. كان ما في ملكيته يساوي ما في ملكية أي مؤذن عندنا اليوم.

هكذا وبعبرات تشرق صوته مضى كولن يعدد معالم العظمة في حياة خالد.. عاش باسلا، وخاض المعامع الكثيرة، والحاسمة، وهو يبحث عن الشهادة.. وفي فراش الموت كان يتحرق على الشهادة كما يتحرق الأسير في قيده على الانعتاق.. زاره أحد أصحابه، فأراد خالد أن يقوم له فلم يستطع، فبكى، فسأله صاحبه ما يبكيه؟ قال ليس هناك بقعة في جسدي إلا وفيها جرح سيف أو طعنة رمح، ولكني لم أمت فارسا، وها أنا ألقى حتفي كميتة البعير.. ثم أرسل قولته المشهورة "فلا نامت أعينُ الجبناء!".

وهنا انفجر كولن وهو يقول بلسان الحسرة: حبذا لو متنا وبقي هو.. عاش من غير أثقال.. البطل الذي لم يكن له لباس صيفي ولباس شتوي.. مات ولم يترك شيئا..

استرسل كولن ينزف، توقف عند أسماء أخرى من سلسلة الزهر، ذكرهم بمآثرهم الخارقة، وتألم أن لا يكون له مثلهم باع وسيف صوَّال. تفجع أن يكون من المتعثرين في مضمار تسابق فيه الميامين. لكم تمنى أن يضع سيفا فوق قبر خالد، لأن الأبطال يحبون صوت السيوف..

وارتدّ كولن ينعي عجزه وقصوره عن أن يكون في مستوى ظل من ظلال أولئك الأماجد حتى يستطيع أن يمضي بالفتح والدعوة إلى آفاق أخرى: "أشكو إلى الله نفسي، أشكو أفكاري، أمراضي، للأسف لم أكن مثل خالد، لم أكن قدوة لكم، عاشوا في الدنيا وكأنهم يعيشون في فرح الآخرة، لم يفكروا في حق التمتع والاستفادة والكسب. لكن أنا أخذت خلال ربع قرن راتبا من الدولة.. كذبتُ عليكم كنت مرائيا.." وهنا يمسك بالمصحف ويرفعه ويقول مخاطبا إياه: "أعتذر إليك، لقد كذبتُ عليك، كان ينبغي أن يتوقف قلبي عندما أضمك إلى صدري"..

ثم يتوجه إلى المستمعين المنكسين قائلا: "لنستحِ من كلام الله، لنستح من الله، كنتُ أفكر في أن أمسك بأيديكم وأتجول بكم في السفوح التي يتجول فيها حمزة وعلي والصحابة الكرام، كنت أنوي أن أجوب بكم عصر السعادة، وألفت نظركم إلى ما كان يمثل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي من جلال وميمونية، كنت أريد أن أقول يا رسول الله هؤلاء طهر كالزهور، كنت آمل أن أُؤاخي أحدكم وأربطه بعلي، وآخر بعمار، وآخر بـ.. هذا كان حلمي.. أنتم مرشحون إن شاء الله أن تحققوا هذه الأماني، لكن أنا.. الذي عملت واعظا، وبعت القرآن، واستفدت من القرآن، لم أستطع أن أنقل إليكم روح القرآن، وإنما جعلتها وظيفة".

[1] مصطلح مفتاحي في العدة المفاهيمية التي يستخدمها الأستاذ كولن في مقارباته التحليلية.
[2] يسمي هذه السورة نهج السلوك، كما أفادني بعض طلابه.
[3] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:176.
[4] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:41.
[5] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:89.
[6] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:95.
[7] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:204.
[8] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:362.
[9] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:81.
[10] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:62.
[11] «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» (رواه الترمذي، ص:995؛ رواه أبو داود، ص:992).
[12] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:81؛ ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:160؛ الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:17.
[13] من المفيد أن ننبّه القارئ إلى أننا في ما طرحناه ها هنا، لم نزد عن ترجمة بعض أفكار الأستاذ كولن، في بعض ما اطلعنا عليه من كتبه، وهي الكتب التي طفقنا نحيل إليها في التهميش.
[14] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:176.
[15] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:118
[16] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[17] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[18] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[19] رواه الترمذي، 2517؛ وأبو نعيم في الحلية، 8/390؛ والبيهقي في شعب الإيمان، 1212.
[20] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:117.
[21] أضواء قرآنية في سماء الوجدان، فتح الله كولن، ص:202.
[22] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:89.
[23] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:233.
[24] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:331.
[25] النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم-، مفخرة الإنسانية، فتح الله كولن، ص:441.
[26] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:16.
[27] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:10.
[28] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:18.
[29] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:19.
[30] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:28.
[31] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:29.
[32] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:38.
[33] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:41.
[34] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:63.
[35] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:74.
[36] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:104.
[37] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:107
[38] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:106
[39] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:119.
[40] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:122.
[41] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:127.
[42] ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، ص:14.
[43] هذا جزء مما كُتب بعد مشاهدة موعظة الأستاذ كولن التي ألقاها في 24 مارس 1991 بمسجد "حصار" في إزمير/تركيا..

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.