الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

رؤية كولن للتاريخ

يرى كولن أن التاريخ ليس مرآةً ينعكس عليها الواقع المتصرم بتفاصيله وحيثياته المجهرية، ولا هو خشبة تتكرر فوقها حوادث ما جرى بدقائقها وتفاصيلها الذرية، ولكن التاريخ مجال استذكاري، وسِجّل تقييدي يمْثُل على صفحاته ماضيَنا كما صاغه أسلافُنا، ويتشخص في خطوطه العريضة أمسُنا كما لابسه أجدادُنا، فيقرأ فيه الخَلَف العِبَر، ويتلقون الدروس من خلال اتعاظهم بما وقع، والاستفادة من الأحداث التي انقضتْ، فلا يعيدون الأخطاء التي وقع فيها سلفهم، بل يتجنبونها، ويسعون دائمًا لاحتذاء الأفعال والمآثر المشَرِّفة، وذات العائد المفيد لهم ولمَن لهم صلة به على وجه أو آخر.

رؤية كولن للتاريخ برهان على سعة تمرسه بنظريات المعرفة المعاصرة، لاسيما في حقل العلوم الإنسانية، ولقد لمسنا لديه رؤية لقراءة التاريخ، وفهم جدليته، وإدراك فعاليته في رسم سيرة الأمم والجماعات.

لم يجعل كولن من التاريخ محور ارتكاز في خطابه الدعوي فقط، يفتأ يحيل إليه ويحاجج به، كإثبات يقوم في وجه أيديولوجية التغريب وكردِّ فعلٍ عليها، ولكنه -إلى ذلك- ركز على التاريخ؛ لأنه استقرأ في شواهد وتجارب النهضات أن الاعتبار بدروس التاريخ يُعَدُّ من أهم دعائم الاستمرار والعراقة والدوام.

وإذ وضع التاريخ في طليعة عناصر التأسيس، وفي صدارة المحركات[1] التي تُبْنَى عليها الهويةُ ويُرتسَمُ وجهُ الغد، كان يقوم بتصدٍّ نافذ، ومواجهة حاسمة لأيديولوجية القطيعة والقفز على الحقيقة والانبتات عن الأصل، تلك الأيديولوجية التي تقمصها باندفاع أهوج، تيارُ الردة والتغريب؛ إذ راهن أصحاب هذا التيار على اصطناع مستقبل استنساخي، وبناء هوية تركيبة، قِطَع غيارها تُستورد من هناك، من بلاد الغرب موضوع القدوة وأفق الانبهار.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.